فأجاب الحراني: إن الدعوة الفاطمية بزبيد على خير ما يتمنى لها من القوة والانتشار، فإن الملك فاتكا لا يفتأ ناشرا لها، عاملا على بثها في كل نفس، ونائب داعي الدعاة هناك، ونقباءه، ونوابه لا يتركون سنيا حتى يضموه إلى حظيرتهم، فقال ابن مهدي: ذاك كلام أبا كاظم، فإن ما لدينا من الأخبار يجبه ما تقول، ولعل حبك لفاتك هو الذي دفعك إلى الذود عنه!
فأسرع الحراني قائلا: لقد صدقتك يا سيدي، وإذا كان لا بد من الحق الصريح الذي لا يخالطه استثناء، فإنني أوكد لك واثقا أن زبيد كلها فاطمية، إلا أسرة زيدان، وأسرة المثيب، وهما أعمام عمارة بن زيدان وأخواله.
فانبري له الحضرمي - وكان صديق عمارة الوفي - قائلا: ما لك أبا كاظم وعمارة؟! إنك في النيل منه والكيد له جد متهم ... وإن كنت لا أعرف أسباب نقمتك منه وحقدك عليه؟!
وهنا صاح ابن مهدي، وقد رأى الشر يتصاعد شرره: مه أيها الأخوان ... فإننا اجتمعنا للمحادثة والمحاضرة، لا للتنابذ والمهاترة ... أعلمتم أن عمارة بن زيدان، قدم منذ أيام وافدا على محمد بن سبأ صاحب عدن؟ أتعرفون سبب هذه الوفادة؟ فأسرع الحراني قائلا: إنه قناص سديد الرماية، فلعله اشتم هنا رائحة صيد جديد، ثم قال النيلي: إن عمارة اليوم يا سيدي غيره بالأمس، فقد كنا نعرفه بالمدرسة العصامية بزبيد فقيرا مملقا، يعيش عيشة طلاب العلم في عسر وشقاء، ولكنه بعد أن اتصل بأمير زبيد ومدحه أغدق عليه، فأصبح صاحب الحول والطول، وصار موضع الشفاعات، وقاضي الحاجات، ثم إنه تاجر فراجت تجارته، وسارت سفنه بين زبيد وعدن وجدة، لا تكاد تنقطع في ليل أو نهار، حتى لقد قال له يوما أبو عبد الله الحفائلي - وهو رأس العلم والأدب بزبيد: ته علينا أبا محمد، فقد أصبحت ولا مثل لك في الجاه والعلم والثراء! وليته بعد أن أسبغ الله عليه هذه النعمة الطارئة شكر الله عليها بقليل من التواضع، أو أدى زكاتها بشيء من اللطف والمجاملة! ولكنه صلف متكبر مغرور - وإن كره الحضرمي،. فأسرع الحضرمي وقال: كفى كفى أبا الحسن؛ لقد أكلتم لحم أخيكم ميتا، ومزقتم من الرجل وهو غائب ما تخرس دونه ألسنتكم وهو حاضر، إن عمارة لم يكن دعيا في جاهه، ولم يكن محدثا في نعمته، إن عمه علي بن زيدان أكرم من نثر مالا، وأشجع من جرد سيفا، وخاله محمد بن المثيب أشرف قومه، وسيد قبيلته، ولولا الجدب المحرق الذي أصاب «مرطان» سنة تسع وعشرين وخمسمائة، فأهلك الحرث والنسل - ما احتاج عمارة إلى السعي في الرزق، والتنقل في طلب المال، وما سمعنا مثل أبي الحسن النيلي يلمزه اليوم بأن نعمته طارئة، وثروته محدثة. فقال ابن مهدي: إن عمارة رجل يجمع كل صفات الرجولة، وقد حادثته بالأمس في دار ابن سبأ، فرأيت فيه علما وأدبا ودهاء، والذي قرأته في وجهه، واستنبطته من خلال حديثه: أنه رجل عظيم الآمال، كبير النفس، طموح بعيد المدى، وهو يذكرني بالمتنبي شاعر كافور، وأرجو ألا تكون له مثل خاتمته.
ثم مدت مائدة الطعام، وقام الغلمان بالخدمة، وقدمت الألوان الشهية، وأنواع التوابل الهندية، فأكل القوم وشربوا، وهم يتنادرون ويتسامرون، ثم استراح الضيوف بعد الأكل قليلا، حتى إذا قاربت الشمس المغيب، ودعوا رب المثوى وانصرفوا.
الفصل الثاني
خرج الحراني والنيلي والحقد يأكل قلبيهما، لما سمعاه من إطراء ابن مهدي صفات عمارة، وهما يعلمان ما لابن مهدي من عظيم التأثير والكلمة المسموعة عند محمد بن سبأ، وأنه إذا ظفر عمارة بمودتهما، بعد أن فاز عند أمير زبيد بعظم المكانة لم يأمنا شره.
وأسفا على أن طعناه، ونالا منه أمام صديقه الحضرمي، الذي سينقل إليه صورة ما دار بالمجلس كاملة وافية، إن لم يزد عليها كثيرا من ألوان التحسين والتزويق.
بدأ الحراني الحديث قائلا: ما العمل أبا الحسن؟! فقد زلق لساني، وتجاوزت حد الحزم في ثلب عمارة، وتمزيق عرضه؟!
إن عمارة اللئيم الداهية استطاع أن يحافظ على مذهبه السني، وأن يجتذب هؤلاء الفاطميين من ناحية، ورؤساء زبيد من ناحية أخرى. حقا إن أمر هذا الرجل لعجيب! إن له في التأثير في الكبراء ما يشبه السحر، حتى كأنه بقوة روحه أنسى دعاة الفاطمية التشدد في إلزامه مذهبهم، وكأنهم يرونه خلقا عظيما فوق المذاهب والعقائد؟
Неизвестная страница