فقال الحراني - وكان فكها: سيقولون زار الحراني عدن سنة الحر، فعاجله النيلي، وقال: وسيقولون سرق خرج النيلي سنة الحر؛ فضحك القوم، والتفت إليه ابن مهدي وقال: أسرق منك خرج حقا؟؟ - لا أدري ... أسرق؟! ... أم ابتلعته الأرض؟! ... أم تخطفته السماء؟! ...
وصلت القافلة من زبيد عند باب المدينة الذي يسمونه هنا (باب الصدقات)، أو هو باب السرقات على الأرجح، وحط رحلي، ووضع ما عليه من متاع وأثقال، وأنا أنظر إليه لا تكاد عيني تذهب عنه، وكان الخرج بين المتاع، وقد ازدحم حول السفار جماعات من الحمالين والمجتدين، وبينهم امرأة هزيلة شاحبة في أسمال - أو فيما كانت أسمالا - لا تكاد تستر جسمها، وكان وجهها يحكي وهو صامت حكاية مؤلمة للسغب، والفاقة، ومرارة الحاجة، وقد حملت بين يديها طفلا أو جعلا، تركه الجوع عظاما في جلد، أو جلدا على عظام، وأخذت تمد ذراعيها به في وجهي، فراعني سوء حالهما، وبحثت في جيبي عن درهم أمسك به رمقهما، وما كدت أمد يدي به إليهما، وأعود بعيني إلى أمتعتي حتى وجدت مكان الخرج خاليا!!
فقال الحراني: هذه هي اللعبة يا سيدي التي لم تدرسها في الكتب، ولم تجد لها مثيلا في كتاب الحيل الفقهية للخصاف، وكأنما كان أبو نواس اللئيم يشير إليك بسبابته حين يقول:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
هذه المرأة يا مولانا تعمل مع اللصوص والشطار، وهي آلتهم التي بها يصلون إلى غاياتهم، هي الطعم الذي يقذفون به إلى السمك لاصطياده، هي الحب الذي ينثر حول الفخ ليقع عليه الطائر الغر، هي البؤس المزوق الذي جاء يستلب مالك اضطرارا لما عجز البؤس المحقق عن أخذه منك اختيارا، هذه المرأة وأمثالها يرسلها العيارون إلى من ينكب بهم؛ ليثير منظرها المؤلم نفسه، فيصرفه عن النظر إلى ما حوله، وقد يكون مقدار ذهوله لحظة أو دونها، وهذه اللحيظة كافية لأن يسلبوه ما يشاءون.
فقال النيلي - وقد ظهرت في وجهه آلام من يشعر بالتفريط، أو من يتوقع أنه سيوصم بالغلفة والبلاهة: حقا إنهم شياطين!!
وهنا سأله ابن مهدي في شيء من الاستنكار: ألم تذهب إلى والي المدينة، وتقص عليه قصتك؟ فلعله يجد سبيلا إلى الوصول إلى ما سرق منك!! - ذهبت إلى داره، وهي تقع في محلة الحدادين إلى الجانب الشرقي من المدينة، فوصلت إليها بعد لأي وجهد، فلما طرقت الباب خرج لي أحد غلمانه، فلما سألته عنه، قال: إنه مريض منذ يومين، أكل لحم جزور زهمة فأصيب بالزحار.
فسألته عن وكيله، وأين مكانه؟ فقال: إنه أعرس بالأمس، وإنه نازل عند أصهاره «بذي جبلة»، وإن المسافة بين عدن وبينها سبعة عشر فرسخا؛ فحوقلت ورجعت، وقلت لنفسي: ضاع خرجك يا أبا الحسن بين معاناة الزحار، ومناغاة الأبكار!!
فضحك القوم، وأغرقوا في الضحك، ثم قال ابن مهدي في مواربة ودهاء: خل عن المزاح الآن أبا الحسن ... كيف حال الدعوة الفاطمية بزبيد؟؟ ... لقد جاءت رسالة من الخليفة الفائز إلى محمد بن سبأ ينعي عليه فيها التهاون في نشر الدعوة، ويستحثه على أخذ كل من نكل عنها بالبطش وقوة السلطان.
Неизвестная страница