كانت العوالم التي عانت من هوس الإمبريالية الدينية تسعى إلى السفر بين النجوم قبل أن ترغمها الضرورة الاقتصادية عليه بفترة طويلة. أما العوالم التي تتمتع بروح أكثر تعقلا، فغالبا ما كانت تكتشف عاجلا أو آجلا، مرحلة لم يكن من الضروري بعدها تحقيق زيادة في التطور المادي أو عدد السكان من أجل استخدام قدراتهم الراقية. وكانت هذه العوالم تكتفي بالبقاء داخل أنظمتها الكوكبية الأصلية في حالة من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي؛ ومن ثم فقد أتيح لها أن تمنح القدر الأكبر من ذكائها العملي إلى الاستكشاف التخاطري للكون. كان الاتصال التخاطري بين العوالم يغدو الآن أكثر دقة وموثوقية، وخرجت المجرة من حالتها البدائية التي كان يمكن لأي عالم فيها أن يظل منعزلا ويقضي حياته بأكملها في عزلة تامة. في واقع الأمر، مثلما أن النوع البشري يختبر الآن «تضاؤل» الأرض إلى حجم بلد، كانت المجرة بأكملها في تلك الفترة الدقيقة من حياتها «تتضاءل» إلى حجم عالم. كانت تلك الأرواح العالمية التي حققت النجاح الأكبر في الاستكشاف التخاطري قد صممت الآن «خريطة ذهنية» للمجرة بأكملها، وقد كانت دقيقة إلى حد كبير بالرغم من وجود عدد من العوالم الشاذة التي لم تكن نجحت في تحقيق اتصال مستمر معها بعد. وقد كان هناك أيضا نظام فائق التقدم من العوالم كان قد «تلاشى» تماما على نحو غير مفهوم من الاتصال التخاطري. وسوف أذكر المزيد عن هذا الأمر في تتمة هذا الكتاب.
كانت القدرة التخاطرية للعوالم والأنظمة المجنونة قد تقلصت الآن بدرجة كبيرة. وبالرغم من أنها كانت تخضع عادة للملاحظة التخاطرية التي تقوم بها العوالم ذات الأرواح الأكثر نضجا بل وتأثرت بها أيضا إلى حد ما، كانت قد بلغت الآن درجة كبيرة للغاية من الاعتزاز بالذات حتى إنها لم تعد تعبأ باستكشاف الحياة الذهنية للمجرة. كان السفر المادي والقدرة الإمبريالية المقدسة سبيلين كافيين بالنسبة إليها للتواصل مع الكون المحيط.
وبمرور الوقت ظهرت عدة إمبراطوريات متنافسة كبيرة من العوالم المجنونة، كل منها يزعم الاضطلاع بمهمة إلهية ما لتوحيد المجرة بأكملها وإيقاظها. لم يكن هناك سوى فارق ضئيل بين الأيديولوجيات التي تتبناها هذه الإمبراطوريات، غير أن كلا منها كان يعارض الإمبراطوريات الأخرى بحمية دينية. ولما كانت هذه الإمبراطوريات قد نبتت في مناطق بعيدة بعضها عن بعض، فقد تمكنت بسهولة من السيطرة على جميع العوالم دون الطوباوية التي استطاعت الوصول إليها. وبهذه الطريقة قد انتشرت من نظام كوكبي إلى آخر حتى تواصلت كل إمبراطورية بالأخرى في نهاية المطاف.
تلت ذلك حروب لم يحدث مثلها في تاريخ مجرتنا. أساطيل من العوالم الطبيعية والاصطناعية راحت تدخل في مناورات فيما بين النجوم ليتفوق كل منها على الآخر، ويدمر كل منها الآخر بالطائرات النفاثة البعيدة المدى التي تستخدم الطاقة دون الذرية. وبينما راحت تيارات المعركة تجتاح الفضاء هنا وهناك، هلكت أنظمة كوكبية بأكملها. ولاقت العديد من أرواح العوالم نهاية مباغتة. وقتلت العديد من السلالات الأدنى التي لم يكن لها أي دور في الصراع في الحروب المقدسة التي نشبت حولها. غير أن المجرة شاسعة للغاية حتى إن هذه الحروب التي نشبت بين العوالم كان يمكن أن تعد في بادئ الأمر رغم فظاعتها حوادث نادرة أو محض فترات بائسة في مسيرة الحضارة الظافرة. لكن الداء قد انتشر، وراح المزيد والمزيد من العوالم العاقلة تعيد تنظيم أنفسها للدفاع العسكري بعد تعرضها لهجوم العوالم المجنونة. لقد كانوا محقين في اعتقادهم بأن الطرق السلمية وحدها لا يمكن أن تحل هذا الموقف؛ إذ إن العدو كان مختلفا عن أي جماعة بشرية في أنه كان مجردا تماما من «الإنسانية» ليكون عرضة للتعاطف. غير أنهم كانوا مخطئين في رجائهم بأن الجيوش يمكن أن تنقذهم. وبالرغم من أنه كان من الممكن للمدافعين أن ينالوا النصر في الحرب الناجمة، فكان الصراع نفسه طويلا للغاية وفتاكا في معظم الأحيان، حتى إن المنتصرين أنفسهم كانوا يتعرضون لتلف في الروح لا شفاء منه.
في مرحلة لاحقة قد تكون هي الأكثر فظاعة في حياة مجرتنا، ذكرت رغما عني حالة الحيرة والقلق التي تركتها خلفي على الأرض. وقليلا قليلا، كانت المجرة بأكملها التي تمتد مساحة ما يقرب من تسعين ألف سنة ضوئية، وتضم ما يزيد على ثلاثين ألف مليون نجم وعلى ما يزيد عن مائة ألف نظام كوكبي (بحلول هذا التاريخ) والآلاف من السلالات الذكية، قد شلها الخوف من الحرب وذاقت عذاب اندلاعها على نحو متكرر.
بالرغم من ذلك، فقد كان وضع المجرة أشد بؤسا مما كان عليه وضع عالمنا الصغير اليوم في أمر واحد، وهو أن أيا من أممنا ليس بفرد فائق يقظ. وحتى تلك الشعوب التي تعاني من هوس مجد القطيع تتألف من أشخاص يتسمون بالتعقل في حياتهم الخاصة. وقد يدفع تغير الأحوال هؤلاء الأشخاص إلى مزاج أقل جنونا، أو ربما تؤدي الدعاية الماهرة لفكرة وحدة البشرية إلى قلب الموازين. أما في هذا العصر القاتم من عصور المجرة، كانت العوالم المجنونة مصابة بالجنون حتى أعمق جذور تكوينها. لقد كان كل منها فردا فائقا، قد أعيد تنظيم تكوينه بالكامل ماديا وذهنيا بما في ذلك وحدة أجساد أفراده وعقولهم، من أجل هدف مجنون. بدا أنه من غير الممكن إقناع هذه الكائنات المجنونة بأن تثور على هذا الهدف المقدس المجنون الذي تتبناه سلالتها، بأكثر مما يمكن حث خلايا الدماغ لدى فرد مهووس بتأييد اللين. إن العيش في تلك الأيام على أحد هذه العوالم المتعقلة اليقظة وإن لم تكن في المرتبة الأعلى والنظام الأكثر استقرارا، كان يعني أن تشعر أن مأزق المجرة هو أمر ملح للغاية. وقد نظمت هذه العوالم المتعقلة المتوسطة نفسها في رابطة لمقاومة العداء، لكن لأنها كانت أقل تطورا من العوالم المجنونة في التنظيم العسكري، وأقل منها أيضا في النزعة إلى فرض الاستبداد العسكري على أفرادها؛ فقد كانت في موقف ضعيف للغاية.
إضافة إلى ذلك، صار العدو الآن متحدا؛ فقد تمكنت إحدى الإمبراطوريات من فرض سيادتها الكاملة على الإمبراطوريات الأخرى وألهمت العوالم المجنونة كلها بعاطفة مماثلة من الإمبريالية الدينية. وبالرغم من أن «الإمبراطوريات المتحدة» للعوالم المجنونة لم تكن تضم سوى أقلية من عوالم المجرة، لم يكن لدى العوالم المتعقلة أي أمل في تحقيق نصر سريع؛ إذ كانت مفككة وغير بارعة في الحرب. وفي هذه الأثناء، كانت الحرب تقوض الحياة الذهنية لأفراد الرابطة نفسها. كانت الضرورات الملحة والفجائع قد بدأت في طمس جميع القدرات الدقيقة والمتطورة من عقولهم. وراحوا يصيرون أقل قدرة على أداء أنشطة كالاتصال الشخصي والمغامرة الثقافية والتي كانوا ما يزالون يدركون بتعاسة أنها الطريقة الصحيحة للحياة. لما وجدت الغالبية العظمى من عوالم الرابطة أنها قد وقعت في شرك بدا أن لا فكاك منه، بدأت تشعر بيأس أن الروح التي كانوا يعتقدون بأنها إلهية، الروح التي تسعى للترابط الحقيقي واليقظة الحقيقية، لم يكن مقدرا لها الانتصار بالرغم من كل شيء؛ ومن ثم فهي ليست روح الكون الجوهرية. سرت الإشاعات بأن الصدفة العمياء تحكم كل شيء، أو ربما ذكاء شيطاني. بدأ البعض يعتقدون أن صانع النجوم لم يخلق إلا لشهوة التحطيم. وإذ أضعفهم هذا الظن الفظيع، سقطوا هم أنفسهم في هوة الجنون. وبهلع تخيلوا أن العدو كان، مثلما يزعم بالفعل، أداة لغضب الإله، وهو يعاقبهم على رغبتهم الدنيئة في تحويل المجرة بأكملها، بل الكون بأكمله إلى فردوس من الكائنات الكريمة التامة اليقظة. وتحت تأثير هذا الشعور المتزايد بالقوة الشيطانية المطلقة، وحتى الشعور الأكثر تدميرا المتمثل في الشك في صواب مبادئهم، أصيب أفراد الرابطة بالقنوط. استسلم بعضهم للعدو، واستسلم بعضهم للشقاق الداخلي ففقدوا وحدتهم الذهنية. بدا أن حرب العوالم ستنتهي على الأرجح بفوز المجانين. وقد كان ذلك سيحدث بالفعل لولا تدخل نظام العوالم البعيد البارع الذي قد ذكرت من قبل أنه قد انسحب منذ زمن بعيد من الاتصال التخاطري مع بقية المجرة. لقد كان هذا هو نظام العوالم الذي تأسس في ربيع المجرة على يد السلالة التكافلية من السمكيات والعنكبوتيات. (3) أزمة في تاريخ المجرة
على مدار هذه الفترة من التوسع الإمبريالي، تمكن عدد قليل من أنظمة العوالم التي بلغت مرتبة عالية للغاية وإن كانت أقل يقظة من السلالات التكافلية في المجرة الفرعية، من مراقبة الأحداث تخاطريا من بعيد. وقد رأت حدود الإمبراطورية تتقدم نحوها بثبات، وعرفت أنها سوف تتورط قريبا. كانت تمتلك المعرفة والقدرة على هزيمة العدو في الحرب، وقد تلقت نداءات ملحة للمساعدة غير أنها لم تفعل شيئا. لقد كان تنظيم هذه العوالم بأكمله من أجل السلام والأنشطة الملائمة لعالم يقظ، وكانت تعرف أنها إذا اختارت أن تعيد صياغة هيكلها الاجتماعي بأكمله وإعادة توجيه عقولها؛ فقد تضمن النصر العسكري. وكانت تعرف أيضا أنها بهذه الطريقة سوف تنقذ العديد من العوالم من الغزو والاستبداد والدمار المحتمل لأفضل ما فيها. غير أنها كانت تعرف أيضا أنها بإعادة بناء تنظيمها من أجل حرب مستميتة، وبإهمال جميع الأنشطة التي كانت ملائمة لها من أجل عصر كامل من الصراع، فإنها سوف تدمر أفضل ما فيها يقينا، أكثر مما سيدمره العدو فيها بالاستبداد. وكانت تعرف أيضا أنها بتدمير ذلك، فإنها تقتل ما تعتقد أنه البذرة الأكثر أهمية في المجرة؛ ومن ثم فقد تعهدت بنبذ الإجراءات العسكرية.
وحين واجه أحد هذه الأنظمة العالمية الأكثر تطورا في النهاية أصحاب الهوس الديني من العوالم المجنونة، رحب السكان الأصليون بالغزاة، وأعادوا تكييف مداراتهم الكوكبية بأكملها لاستيعاب الكواكب الواردة، وحثوا القوة الأجنبية على توطين جزء من جماعتها السكانية في كواكبهم الأصلية الخاصة التي توفر ظروفا مناخية مناسبة، وعملوا في السر تدريجيا على إخضاع السلالة المجنونة بأكملها عبر النظام الشمسي المشترك إلى دورة من التنويم الإيحائي التخاطري والتي كانت فعالة للغاية حتى إن عقلها المشترك قد تفكك تماما. وأصبح الغزاة محض أفراد غير منظمين مثلما نعرفه على الأرض؛ ومن ثم فقد أصبحوا مرتبكين قصيري النظر تمزقهم الخلافات ولا يتأسس حكمهم على غاية عليا، وصاروا مهووسين بالنفس بدلا من المجتمع. وقد كان يرجى أنه عند إبادة العقل المشترك المجنون، فسرعان ما سيفتح أفراد السلالة الغازية عيونهم وقلوبهم لمبادئ أكثر نبلا. من سوء الحظ أن المهارة التخاطرية التي كانت تتمتع بها السلالة الفائقة لم تكن تكفي للغوص في الأعماق إلى شرنقة الروح التي طمرت لفترة طويلة داخل هذه الكائنات، ومنحها الهواء والدفء والنور. ولأن الطبيعة الفردانية لهؤلاء الأفراد البائسين كانت هي نفسها نتاج عالم مجنون، فقد ثبت أنهم غير قادرين على الخلاص ولا على التواصل المتعقل؛ لذا فقد أبعدوا ليحددوا مصيرهم التعس في عصور من الصراعات القبلية والانهيار الثقافي لينتهي بهم الأمر إلى الانقراض، والذي يحل بالكائنات التي تفشل في التكيف على الظروف الجديدة.
بعد مراوغة العديد من بعثات الغزو بهذه الطريقة، شاع في عوالم الإمبراطوريات المتحدة المجنونة ما يفيد بأن بعض العوالم التي يبدو أنها مسالمة هي في حقيقة الأمر أشد خطرا من جميع الأعداء الآخرين؛ إذ من الجلي أنها تتمتع بقدرة غريبة على «تسميم الروح». وقد عزم الإمبرياليون على إبادة هؤلاء الأعداد الأشداء، وصدرت التعليمات إلى قوات الهجوم بتجنب جميع المداولات التخاطرية وتفجير العدو من على مدى بعيد. وقد رأوا أن الطريقة الأنسب لتنفيذ ذلك هو تفجير شمس النظام المحكوم عليه بالهلاك؛ فعند تحفيز ذرات الغلاف الضوئي بشعاع فعال، سيبدأ في التفكك وسرعان ما سيؤدي اللهب المنتشر إلى إلقاء النجم في حالة «النجم المستعر» مما يؤدي إلى حرق جميع كواكبه.
Неизвестная страница