تقديم
1 - الأرض
2 - السفر بين النجوم
3 - الأرض الأخرى
4 - السفر مجددا
5 - عوالم لا حصر لها
6 - إشارات صانع النجوم
7 - المزيد من العوالم
8 - نظرة على المستكشفين
9 - اتحاد العوالم
Неизвестная страница
10 - رؤية المجرة
11 - نجوم وأوبئة
12 - روح كونية ناقصة
13 - البداية والنهاية
14 - أسطورة الخلق
15 - الصانع وأعماله
16 - خاتمة: العودة إلى الأرض
تقديم
1 - الأرض
2 - السفر بين النجوم
Неизвестная страница
3 - الأرض الأخرى
4 - السفر مجددا
5 - عوالم لا حصر لها
6 - إشارات صانع النجوم
7 - المزيد من العوالم
8 - نظرة على المستكشفين
9 - اتحاد العوالم
10 - رؤية المجرة
11 - نجوم وأوبئة
12 - روح كونية ناقصة
Неизвестная страница
13 - البداية والنهاية
14 - أسطورة الخلق
15 - الصانع وأعماله
16 - خاتمة: العودة إلى الأرض
صانع النجوم
صانع النجوم
تأليف
أولاف ستيبلدون
ترجمة
الزهراء سامي
Неизвестная страница
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
تقديم
في وقت تكون فيه أوروبا في خطر كارثة أسوأ من كارثة عام 1914، قد يدان كتاب كهذا باعتباره مصدر تشتيت عن الحاجة العاجلة للدفاع عن الحضارة ضد الهمجية الحديثة.
عاما بعد عام وشهرا بعد شهر، تصبح أزمة حضارتنا المتشرذمة المتزعزعة أكثر خطورة. إن الفاشية بالخارج تزداد ضراوة ووحشية في مشاريعها الخارجية، وتزداد في طغيانها على مواطنيها، وتزداد همجية في امتهانها لحياة العقل. وحتى في بلدنا نجد أن لدينا ما يدفع إلى الخوف من الميل نحو العسكرة وتحجيم الحرية المدنية. وعلاوة على هذا، مع مرور العقود نجد أنه ما من خطوة حازمة قد أخذت لتخفيف الظلم الواقع في نظامنا الاجتماعي. إن نظامنا الاقتصادي البالي يودي بالملايين إلى اليأس.
في هذه الظروف يصعب على الكتاب أن يؤدوا رسالتهم بشجاعة وبرأي متزن في الوقت ذاته. البعض لا يفعل شيئا سوى أن يهزوا أكتافهم وينسحبوا من الصراع الأساسي في عصرنا. وهؤلاء الذين يحولون أذهانهم عن القضايا الأهم في العالم ينتهي بهم الأمر ليس إلى إنتاج أعمال تفتقر إلى العمق والأهمية بالنسبة إلى معاصريهم فحسب، بل تفتقر أيضا إلى الصدق؛ ذلك أن هؤلاء الكتاب سيحاولون إقناع أنفسهم إما شعوريا وإما لا شعوريا بأن الأزمة التي يواجهها البشر لا وجود لها، أو أنها أقل أهمية من أعمالهم، أو أنها لا تخصهم في شيء على أي حال. غير أن هذه الأزمة موجودة بالفعل، وهي ذات أهمية فائقة، وهي تخصنا جميعا. فهل يمكن لأي شخص يتمتع بأي قدر من الذكاء والوعي أن يرى العكس دون خداع للذات؟
بالرغم من ذلك، فأنا أكن تعاطفا شديدا مع بعض أولئك «المفكرين» الذين يصرحون بأنهم لا يملكون مساهمة نافعة يشاركون بها في هذا الصراع، ولهذا فهم يفضلون ألا يخوضوا فيه. وأنا في حقيقة الأمر واحد منهم. وما يمكنني أن أقوله في دفاعنا عن أنفسنا هو أنه بالرغم من غياب نشاطنا المباشر أو فعاليتنا في دعم القضية، فنحن لا نتجاهلها. وهي بالتأكيد تحوز على انتباهنا باستمرار وبصورة مفرطة، غير أننا قد اقتنعنا بعد طول عهد من المحاولة والخطأ أن أكثر ما يمكن أن نقدمه لخدمة القضية هو العمل بطريقة غير مباشرة. والأمر يختلف لدى بعض الكتاب؛ إذ يخوضون ببسالة في الصراع ويستخدمون قدراتهم في الدعاية للقضية، أو حتى يحملون السلاح دفاعا عنها. وإذا كانوا يتمتعون بالقدرات المناسبة، وكان النضال المحدد الذي يشاركون فيه هو في حقيقة الأمر جزء من المشروع العظيم المتمثل في الدفاع عن الحضارة (أو بنائها)، فقد يساهمون بعمل قيم بالتأكيد. ثم إنهم قد يجنون حظا واسعا من الخبرة والتعاطف الإنساني، مما يعزز كثيرا من قدراتهم الأدبية. غير أن تلهفهم على خدمة القضية قد يؤدي في حد ذاته إلى تعميتهم عن أهمية امتلاك وتعزيز ما يمكن تسميته مجازيا، حتى في زمن الأزمة هذا، ب «الوعي بالذات الذاتي النقد للنوع البشري» أو محاولة النظر إلى حياة الإنسان ككل وعلاقتها ببقية الأشياء. وينطوي هذا على الرغبة في النظر في جميع الشئون والمثل والنظريات البشرية بأقل درجة ممكنة من التحيز البشري. وهؤلاء الذين يكونون في خضم الصراع ينزعون في نهاية المطاف إلى التحزب، حتى إن كان ذلك في قضية عظيمة وعادلة. إنهم بنبل يغفلون جزءا من تلك الموضوعية، تلك القوة المتمثلة في التقييم العقلاني، والتي هي في نهاية الأمر من أثمن القدرات البشرية. وربما يكون ذلك هو المطلوب في حالتهم؛ فالنضال المستميت يتطلب من الموضوعية أقل مما يتطلبه من الإخلاص. بالرغم من ذلك، ينبغي على بعض من يؤمنون بالقضية أن يخدموها بأن يسعوا إلى التحلي بروح أكثر هدوءا مع التحلي بالولاء الإنساني. وربما نجد أن محاولة رؤية عالمنا المضطرب على خلفية من النجوم تزيد في نهاية المطاف من أهمية الأزمة البشرية الحالية، لا تقلل منها. وربما تعزز أيضا من إحسان بعضنا تجاه بعض.
انطلاقا من هذا الاعتقاد حاولت أن أبني تصورا خياليا للكيان الكلي المهيب والحيوي أيضا للأشياء. وأنا أعرف جيدا أنه تصور غير واف بدرجة مثيرة للسخرية وطفولي في بعض الجوانب، حتى عند النظر إليه من زاوية الخبرة البشرية المعاصرة. وفي عصر أهدأ وأكثر حكمة، قد يبدو جنونيا. بالرغم من ذلك، ورغم طبيعة هذا التصور الأولية المبسطة، وما يتسم به من بعد، فربما لا يكون غير ذي صلة تماما.
وبالرغم من احتمالية إثارة القلاقل مع كلا التوجهين؛ اليميني واليساري؛ فقد استخدمت في بعض الأحيان أفكارا وكلمات محددة مشتقة من الدين، وحاولت تأويلها في ضوء الاحتياجات الحديثة. لقد استخدمت مثلا الكلمتين السيئتي السمعة بشدة بالرغم من قيمتهما الثمينة: «روحاني» و«عبادة» اللتين قد أصبحتا بذيئتين لدى التوجه اليساري مثلما كانت الكلمات الجنسية القديمة الجيدة بذيئة لدى التوجه اليميني، غير أنني قد استخدمتهما للتعبير عن تجربة ينزع اليمين إلى إفسادها واليسار إلى إساءة فهمها. يمكنني القول إن هذه التجربة تنطوي على التجرد من جميع الغايات الخاصة والاجتماعية والعرقية، وليس ذلك بالمعنى الذي يدفع الإنسان إلى رفضها، بل تجعله يقدرها بطريقة جديدة. إن «الحياة الروحانية» تبدو في جوهرها محاولة لاستكشاف التوجه الملائم لخبرتنا ككل ثم تبنيه، مثلما نشعر أن الإعجاب هو الاستجابة الملائمة تجاه كائن بشري قد حسن نموه. وهذه المبادرة يمكن أن تؤدي إلى زيادة صفاء الوعي وتحسينه؛ ومن ثم فقد يكون لها تأثير عظيم ونافع على السلوك. ومما لا شك فيه أن هذه الخبرة الإنسانية الفائقة إذا لم تولد الإرادة الحازمة لخدمة إنسانيتنا التي تستفيق من غفلتها، مع شيء من الإذعان للقدر، فلن تكون إلا فخا وخدعة.
قبل أن أختم هذا التقديم لا بد لي أن أعبر عن امتناني للبروفيسور إل سي مارتن والسيد إل إتش مايرز والسيد إي في ريو لما قدموه من نقد نافع ومتعاطف والذي بناء عليه قد أعدت كتابة العديد من الفصول. وحتى الآن أجد أنني لا أزال مترددا في إلحاق أسمائهم بعمل كهذا، والذي إذا قيم بمعايير الرواية فسيكون سيئا للغاية. وهو في حقيقة الأمر ليس رواية على الإطلاق.
Неизвестная страница
وقد استوحيت بعض الأفكار المتعلقة بالكواكب الاصطناعية من الكتاب الرائع الصغير «العالم والجسد والشيطان» للسيد جيه دي برنال. وأرجو ألا يستهجن بشدة معالجتي لهذه الأفكار.
أما زوجتي فيجب أن أشكرها على عملها في مراجعة البروفات ولعفويتها وإخلاصها لي.
أولاف ستيبلدون
مارس 1937
الفصل الأول
الأرض
(1) نقطة البدء
ذات ليلة حين شعرت بالمرارة، خرجت ذاهبا إلى التل. أبطأ الخلنج المعتم من حركة قدمي. في الأسفل، امتدت مصابيح الضاحية. والنوافذ ذات الستائر المسدلة كانت عيونا مغلقة تشاهد داخليا حياة الأحلام. وبعد الظلام الممتد على مستوى البحر، كان ثمة منارة تومض. وفي الأعلى كان هناك ظلام. ميزت منزلنا، جزيرتنا الصغيرة في تيارات العالم المضطربة والمريرة. هناك، على مدار عقد ونصف من الزمان، أنا وزوجتي، اللذان نختلف للغاية في سماتنا الأساسية، قد نضجنا ونما أحدنا في الآخر لما كان بيننا من دعم وتغذية مشتركة، في نظام تكافلي معقد. هناك خططنا مهامنا العديدة كل يوم، وروينا غرائب اليوم ومضايقاته. هناك تراكمت خطابات يجب الرد عليها، وجوارب يجب رتقها. هناك ولد الأطفال؛ تلك الحيوات المفاجئة الجديدة. وهناك، تحت ذلك السقف، كانت حياتانا، نحن الاثنين - اللتان كانتا تعاند أحيانا كل منهما الأخرى - حياة واحدة طوال الوقت لحسن الحظ؛ حياة أكبر وأكثر وعيا من حياة أي منا بمفرده.
كل ذلك كان جيدا بالتأكيد. بالرغم من ذلك، كان هناك شعور بالمرارة. وتلك المرارة لم تغزنا من العالم الخارجي فحسب، بل نمت داخل دائرتنا السحرية أيضا؛ ولهذا فالرعب من لا جدوانا ومن انعدام واقعيتنا، لا من هذيان العالم فحسب، قد دفعني للخروج والذهاب إلى التل .
كنا نسرع دائما من مهمة صغيرة عاجلة إلى أخرى، غير أن المحصلة كانت واهية. أيمكن أن نكون قد أخطأنا فهم وجودنا بأكمله؟ أيمكن أننا كنا بطريقة ما، نعيش انطلاقا من فرضيات خاطئة؟ وهذه الشراكة القائمة بيننا على وجه التحديد، هذه الدعامة التي تبدو رائعة التأسيس للتحرك في هذا العالم، ألم تكن في نهاية المطاف سوى دوامة صغيرة من الحياة المنزلية الراضخة المنعزلة، التي تدور على سطح الفيض العظيم دون جدوى، وهي ذاتها لا تحمل عمقا ولا أهمية؟ أيمكن أن نكون بالرغم من كل شيء قد خدعنا أنفسنا؟ هل نكون كالكثيرين من غيرنا لم نعش في حقيقة الأمر خلف تلك النوافذ السارحة الفكر سوى حلم؟ في عالم مريض، حتى المعافى يكون مريضا. ونحن الاثنان؛ إذ كنا ندور في حياتنا الصغيرة دون تفكير في معظم الأحيان، ونادرا بوعي صاف أو عزم قوي، كنا نتاج عالم مريض.
Неизвестная страница
غير أن حياتنا تلك لم تكن كلها محض خيال تام وعقيم. ألم تكن مغزولة من ألياف الواقع الفعلية والتي جمعناها في جميع مرات ذهابنا وإيابنا عبر بابنا، وجميع معاملاتنا مع الضاحية والمدينة والمدن الأبعد وكذلك أطراف الأرض؟ ألم نكن نحن نغزل معا تعبيرا أصيلا عن طبيعتنا؟ ألم تنتج حياتنا كل يوم خيوطا متينة إلى حد ما من العيش النشط، والتي قد تداخلت في الشبكة النامية؛ نمط الإنسانية المعقد الدائم التكاثر؟
كنت أنظر إلى «علاقتنا» بحماس هادئ ونوع من الرهبة المبتهجة. كيف يمكنني أن أصف علاقتنا حتى لنفسي دون ازدرائها أو إهانتها بزخرف النزعة العاطفية المبهرج؟ ذلك أن توازننا الدقيق من الاعتمادية والاستقلالية، ذلك الاتصال المشترك الناقد بعقلانية والساخر بدهاء والمحب مع ذلك، كان بالتأكيد عينة مصغرة للرفقة الحقيقية، وكان في أسلوبه البسيط بالرغم من كل شيء مثالا فعليا وحيا على الهدف السامي الذي يسعى إليه العالم.
العالم بأكمله؟ الكون بأكمله؟ في الأعلى كشف الظلام عن نجمة. شعاع واحد مرتعش من الضوء قد انبعث من آلاف الأعوام قد أتعب الآن أعصابي بالرؤية وقلبي بالخوف. ففي كون مثل هذا الكون أي أهمية قد تكون لرفقتنا الواهية، الوليدة الصدفة، السريعة الزوال؟
لكن الآن قد استغرقت بصورة غير عقلانية في نوع غريب من العبادة. لم يكن ذلك التقديس تجاه النجمة بالتأكيد؛ فهي محض أتون لم يمنحه تلك القداسة الزائفة سوى بعده، بل كان تجاه شيء آخر، أبرزه للقلب التناقض الشديد بيننا وبين النجمة، لكن ما ذاك الذي قد يمثل أهمية على هذا النحو؟ إن الفكر حين أمعن النظر فيما يكمن وراء النجمة لم يكتشف أي «صانع نجوم»؛ لم يكن هناك سوى العتمة؛ لم يكن ثمة حب ولا حتى قدرة، فقط عدم. بالرغم من ذلك، سبح القلب.
بنفاد صبر دفعت عني هذه الحماقة، وارتددت من الملغز إلى المعروف والملموس. منحيا العبادة بعيدا وكذلك الخوف والمرارة، قررت أن أفحص «علاقتنا» الغريبة تلك بقدر أكبر من الموضوعية، تلك الحقيقة المثيرة للإعجاب على نحو مدهش، والتي ظلت بالنسبة إلينا أساسية للكون، بالرغم من أنها بدت أمرا تافها للغاية بالنسبة إلى النجوم.
حتى عند التفكير في الأمر دون التطرق إلى خلفيتنا الكونية المهينة، فنحن في نهاية المطاف تافهان وربما حتى سخيفان. لم نكن سوى حدث عادي، مبتذل للغاية ومحترم للغاية. لقد كنا زوجين فحسب، نتدبر أمرنا كي نعيش معا دون أعباء لا داعي لها. كان الزواج في عصرنا مريبا. وقد كان زواجنا، بأصله الرومانسي التافه، مريبا على نحو مضاعف.
التقينا للمرة الأولى حين كانت زوجتي طفلة. تلاقت عيوننا. نظرت إلي للحظة بانتباه هادئ؛ حتى إنني تخيلت برومانسية أن تلك النظرة ربما كانت تحمل إدراكا غامضا عميقا. على أي حال، رأيت أنا في تلك النظرة قدري، أو هكذا أقنعت نفسي في حمى سن المراهقة. أجل! كم بدا اتحادنا مقدرا! أما الآن، فعند النظر في الماضي، كم يبدو تصادفيا! صحيح أننا كنا متلائمين في علاقة زواجنا التي امتدت لفترة طويلة، كشجرتين قريبتين إحداهما من الأخرى قد نما جذع كل منهما إلى الأعلى معا في جذع واحد، بحيث كل منهما يشوه شكل الآخر، وفي نفس الوقت يدعمه. الآن قيمت زوجتي بموضوعية على أنها محض إضافة مفيدة لحياتي الشخصية، لكنها مدعاة للغضب في معظم الأحيان. لقد كنا في المجمل رفيقين رشيدين. وقد ترك أحدنا للآخر قدرا من الحرية؛ فاستطعنا أن نتحمل قربنا المتواصل معا.
تلك كانت علاقتنا. وعند ذكرها بهذه الطريقة، لم تبد مهمة للغاية في فهم الكون. غير أنني كنت أعرف في قرارة نفسي أنها كذلك. حتى النجوم الباردة، وحتى الكون بأكمله بجميع أبعاده الهائلة العقيمة لم يستطع أن يقنعني بأن هذه الذرة الثمينة التي تمثل رفقتنا - بالرغم من افتقارها إلى المثالية، وبالرغم من قصر أجلها كما لا بد لها أن تكون - ليست بالمهمة.
لكن أيمكن فعلا أن يكون لاتحادنا الذي يتعذر وصفه أي أهمية تتجاوز وجوده هو ذاته؟ هل أثبت مثلا أن الطبيعة الجوهرية للبشر هي الحب لا الكره والخوف؟ أكان برهانا على أن جميع الرجال والنساء في شتى أنحاء العالم قادرون على دعم مجتمع نسيجه الحب، بالرغم من أن الظروف قد تمنعهم من ذلك؟ وهل أثبت مثلا، وهو نفسه من نتاج الكون، أن الحب أساسي للكون بطريقة ما؟ وهل قدم، من خلال تميزه الجوهري، ضمانا ما بأننا، نحن الاثنين، داعماه الواهيان، لا بد أننا نتمتع بطريقة ما بحياة أبدية؟ هل أثبت فعلا أن الحب هو الرب وأن الرب ينتظرنا في السماء؟
كلا! إن رفقة روحينا البسيطة الودودة المثيرة للغضب والمثيرة للضحك، والثمينة رغم خلوها من الزخرفة، لم تثبت أيا من هذه الأشياء، ولم تكن ضمانا محددا على أي شيء سوى صحتها غير المثالية؛ لم تكن سوى تمثيل ضئيل وساطع للغاية لاحتمال واحد من بين الكثير من احتمالات الوجود. تذكرت حشود النجوم التي لا ترى. تذكرت اضطراب الكراهية والخوف والمرارة في عالم الإنسان. تذكرت أيضا خلافنا المتكرر. وذكرت نفسي بأننا يجب أن نختفي سريعا مثلما تختفي الموجات الصغيرة التي يشكلها النسيم على المياه الساكنة.
Неизвестная страница
مرة أخرى رحت أفكر في التقابل الغريب بيننا وبين النجوم. إن قدرة الكون التي لا يمكن حسابها قد عززت على نحو غريب من أهمية تلك الومضة الخاطفة المتمثلة في رفقتنا، ومن مغامرة البشرية الخاطفة غير الأكيدة. وهاتان بدورهما، قد أسرعتا من حركة الكون.
جلست على الخلنج. العتمة من فوقي تتراجع الآن بالكامل. وفي مؤخرتها، بدأ شعب السماء المحرر الظهور من الاختباء، نجمة تلو النجمة.
على جميع الجوانب، امتدت التلال المبهمة، أو ما خمنت أنه البحر الرتيب، إلى ما وراء مدى البصر. غير أن الخيال الطائر طيران الصقر قد تبعها في انحنائها إلى الأسفل تحت الأفق. تخيلت أنني كنت على حبة صغيرة من الصخر والمعدن قد غلفتها المياه والهواء، وأنها تدور في ضوء الشمس والظلام. وعلى القشرة الخارجية من تلك الحبة الصغيرة، كانت حشود البشر تعيش جيلا بعد جيل في شقاء وعمى، مع دفقات متقطعة من البهجة وصفاء الروح. وكل تاريخهم بما فيه من ارتحال، وإمبراطوريات وفلسفات وعلوم شامخة، وثورات اجتماعية، وشغف متزايد للرفقة، لم يكن سوى ومضة في يوم واحد من حياة النجوم.
لو كان للمرء أن يعرف ما إذا كانت تلك المجموعات المتلألئة تضم حبات أخرى من الصخر والمعدن تسكنها الروح، وما إذا كان بحث البشر المتخبط عن الحكمة والحب هو محض اختلاجة تافهة، أم جزء من حركة كونية! (2) الأرض بين النجوم
في الأعلى، زالت العتمة. امتدت النجوم في السماء دون انقطاع من الأفق إلى الأفق. ظهر كوكبان دون أن يومضا. كانت المجموعات النجمية الأكثر بروزا تؤكد فرديتهما. مجموعة «الجبار» بكتفيها وقدميها الشامخة، وحزامها وسيفها، ومجموعة «بنات نعش الكبرى»، ومجموعة «ذات الكرسي» المتعرجة، ومجموعة «الثريا» التي تعكس الحميمية، كلها تشكلت مثلما ينبغي لها تماما في الظلام. وامتدت مجموعة «درب التبانة» عبر السماء كطوق مبهم من الضوء.
أكمل الخيال ما عجز البصر وحده عن بلوغه. حين نظرت إلى الأسفل، بدا أنني أستطيع أن أرى عبر كوكب شفاف، عبر الخلنج والصخر الصلب، وعبر مقابر الأنواع المندثرة، وعبر البازلت المنصهر المتدفق في الأسفل وصولا إلى لب الأرض من الحديد، ثم مرة أخرى يبدو أني كنت ما أزال أنظر في الأسفل، عبر الطبقات الجنوبية وصولا إلى المحيط الجنوبي والأراضي الجنوبية، وعبر جذور أشجار الصمغ وأقدام سكان الجانب الآخر من العالم المعكوسة أوضاعها، وعبر مظلاتهم الزرقاء التي ثقبتها الشمس، وصولا إلى الليل الأبدي حيث توجد الشمس والنجوم معا. وهناك في الأسفل على مسافة بعيدة للغاية بدرجة تبعث على الدوار، كانت تقبع المجموعات النجمية تحت الأرضية، كأنها أسماك في أعماق بحيرة. قبتا السماء قد امتزجتا في كرة جوفاء واحدة، سكانها من النجوم، وسوداء حتى بجوار الشمس الساطعة. القمر الصغير كان خطا منحنيا متوهجا. الطوق الكامل الخاص بدرب التبانة كان يحيط بالكون. في حالة غريبة من الدوار، نظرت إلى نوافذ بيتنا الصغيرة المتوهجة طلبا للاطمئنان. كانت ما تزال هناك، وكذلك الضاحية بأكملها والتلال. غير أن النجوم كانت تضيء عبرها كلها. بدا الأمر وكأن جميع الأشياء الأرضية قد صنعت من الزجاج أو من مادة بلورية أكثر شفافية ونقاء. بصوت خافت، دقت ساعة الكنيسة معلنة حلول منتصف الليل. قرعت الضربة الأولى وراحت تتلاشى إلى صوت خافت.
كان الخيال الآن قد حفز إلى نمط جديد غريب من الإدراك. عندما أخذت أنظر من نجمة إلى نجمة، لم أعد أرى السماء سقفا وأرضا مرصعين بالجواهر، بل عمقا يتجاوز عمق الشموس البراقة. وبالرغم من أن معظم الأضواء العظيمة والمألوفة في السماء قد سطعت وكأنها جيراننا القريبة، فقد بدت بعض النجوم اللامعة في حقيقة الأمر بعيدة وكبيرة، بينما كانت بعض المصابيح الخافتة ظاهرة فقط بسبب قربها الشديد. في كل جانب، كانت المسافة الواقعة في المنتصف محتشدة بجموع وتيارات من النجوم، لكن حتى هذه النجوم قد بدت الآن قريبة؛ إذ إن درب التبانة قد تراجعت إلى مسافة عظيمة للغاية. ومن بين الفجوات في أجزائها الأقرب، ظهر ممر تلو الممر من الضباب اللامع، وآفاق عميقة من التجمعات النجمية.
الكون الذي وضعني فيه القدر لم يكن غرفة لامعة، بل دوامة مدركة من تيارات النجوم. كلا! لقد كان أكثر من ذلك. حين حدقت بين النجوم في الظلمة الخارجية، رأيت أيضا دوامات أخرى من نفس النوع والتي بدت كمحض نقاط وبقع من الضوء؛ تلك المجرات التي تناثرت عن بعد في الفراغ إلى أعماق سحيقة لا يمكن سبر غورها، وامتدت إلى مسافات بعيدة للغاية حتى إن عين الخيال لم تجد حدا للمجرة الكونية الشاملة التي تضم جميع المجرات. بدا الكون لي الآن فراغا تطفو فيه رقاقات نادرة من الثلج، وكل منها يمثل كونا.
عند التحديق في أبعد وأخفت كون في سرب الأكوان، بدا أنني أراه بالخيال ذي القوة التلسكوبية الفائقة على أنه مجموعة من الشموس، وبالقرب من إحدى هذه الشموس، كان ثمة كوكب، وعلى الجانب المظلم من هذا الكوكب، كان ثمة تل، وقد كنت أنا على هذا التل. إن علماء الفضاء يؤكدون لنا أنه في هذا الكيان المتناهي الذي لا حدود له، والذي ندعوه بالكون، لا تؤدي خطوط الضوء المستقيمة إلى اللانهاية، وإنما إلى مصدرها. تذكرت بعد ذلك أنه إذا كان بصري يعتمد على الضوء المادي لا ضوء الخيال، فالأشعة التي تأتي إلي «من حول» الكون لا تظهرني، بل تظهر أحداثا قد توقفت منذ وقت طويل قبل تشكل الأرض، أو ربما حتى قبل تشكل الشمس.
متجاهلا الآن ثانية هذه الأبعاد الهائلة، رحت أبحث مرة أخرى عن النوافذ ذات الستائر المنسدلة لمنزلنا، والذي، بالرغم من أن النجوم كانت قد تخللته، بدا لي أكثر واقعية من كل المجرات. غير أن بيتنا كان قد اختفى مع الضاحية بأكملها والتلال أيضا وكذلك البحر. الأرض التي كنت أجلس عليها نفسها، كانت قد اختفت. وبدلا منها، كان يكمن تحتي بعيدا ظلام رقيق. أنا نفسي كنت على ما يبدو قد تحررت من جسدي؛ إذ لم أستطع أن أرى جسدي ولا أن ألمسه. وحين أردت تحريك أطرافي، لم يحدث شيء. لم يكن لدي أطراف. الإحساس الداخلي المألوف بجسدي، والصداع الذي كان قد تملكني منذ الصباح، قد حل محلهما خفة وابتهاج غامضان.
Неизвестная страница
حين أدركت بالكامل التغير الذي حل بي، تساءلت عما إذا كنت قد مت ودخلت إلى وجود جديد غير متوقع على الإطلاق. أزعجني بشدة هذا الاحتمال في البداية. وبذعر مفاجئ ، أدركت أنني إذا كنت قد مت بالفعل فلن أعود إلى ذرتي الثمينة المتجسدة في الاتحاد. صدمني عنف انزعاجي، غير أنني سرعان ما رحت أطمئن نفسي بفكرة أنني لست ميتا على الأرجح بالرغم من كل شيء، بل في نوع ما من الإغماء وقد أفيق منه في أي لحظة؛ ولهذا فقد قررت ألا أنزعج بهذا التغير العجيب دونما داع، وأن أراقب، على نحو علمي، كل ما سيحدث لي.
لاحظت أن الظلام الذي قد حل محل الأرض كان يتضاءل ويتكثف. لم تعد النجوم تحت الأرضية ظاهرة من خلاله. وسرعان ما أصبحت الأرض من تحتي كسطح طاولة ضخم مستدير؛ قرص واسع من الظلام تحيط به النجوم. كنت على ما يبدو أحلق مبتعدا عن كوكبي الأصلي بسرعة مذهلة. الشمس التي كانت تظهر للخيال قبل ذلك في السماء السفلية، قد كسفتها الأرض مرة أخرى على نحو مادي أكثر. وبالرغم من أنني كنت الآن على ارتفاع مئات الأميال من الأرض بالتأكيد، فلم أكن أواجه أي مشكلة بسبب غياب الأكسجين والضغط الجوي. لم أكن أشعر بشيء سوى انتشاء متزايد وحالة مبهجة من جيشان الأفكار. اللمعان الاستثنائي للنجوم قد أثارني. وسواء بفعل غياب الأجواء المعتمة أو بفعل حساسيتي المتزايدة أو كلا الأمرين، فقد اتخذت السماء سمة غير معتادة. بدا أن النجوم جميعها قد توهجت بقدر أكبر من اللمعان. توهجت السماء. كانت النجوم الكبيرة كمصابيح سيارة بعيدة. لم تعد درب التبانة مغرقة بالظلام، بل نهرا مطوقا من حبيبات الضوء.
الآن، على امتداد الطرف الشرقي للكوكب والذي قد صار الآن بعيدا تحتي، ظهر هناك خط خافت من الضياء، والذي صار، وأنا أستمر في الارتفاع، يزداد حيوية ويتحول إلى اللونين البرتقالي والأحمر. يبدو أنني لم أكن أتحرك باتجاه الأعلى فحسب، بل باتجاه الشرق أيضا، وكنت أدور بسرعة في ذلك الوقت. سرعان ما ظهرت الشمس في الأفق وأخذت تلتهم هلال الفجر الضخم بسطوعها. غير أنه حين زادت سرعتي، رأيت الشمس والكوكب يبتعد أحدهما عن الآخر، بينما راح خط الفجر يزداد سمكا ويتحول إلى مساحة عريضة غبشاء من ضوء الشمس. ازدادت هذه المساحة كقمر تراه وهو يزداد، إلى أن أصبح نصف الكوكب مضيئا. بين منطقتي الليل والنهار، كان ثمة حزام من الظل ذي لون دافئ، وعرضه كعرض شبه قارة، والذي أصبح الآن يحدد منطقة الفجر. وإذ واصلت الارتقاء والسفر باتجاه الشرق، رأيت اليابسة تتأرجح باتجاه الغرب مع حركة اليوم، إلى أن حلقت فوق المحيط الهادي وقت الظهيرة. بدا كوكب الأرض الآن كأنه فلك عظيم ساطع أكبر بمئات المرات من البدر. وفي مركزه كانت هناك بقعة براقة من الضوء التي هي صورة الشمس منعكسة في المحيط. كان محيط الكوكب مساحة لا متناهية من الضياء الأغبش الذي يتلاشى في ظلام الفضاء المحيط. وكان الجزء الأكبر من نصف الأرض الشمالي، والذي كان يميل بعض الشيء باتجاهي، امتدادا فسيحا من الثلج وقمم السحب. استطعت أن أرى أجزاء من حدود اليابان والصين، والتي تحد بلونيها البني والأخضر الغامضين المحيط بلونيه الأزرق والرمادي الغامضين. باتجاه خط الاستواء حيث الهواء أنقى، كان المحيط داكنا. ثم كانت ثمة دوامة صغيرة من الغيوم الساطعة كانت على الأرجح السطح العلوي لإعصار. بعدها ظهرت الفلبين وغينيا الجديدة بدقة شديدة. واختفت أستراليا في الطرف الجنوبي المبهم المعالم.
كان المشهد من أمامي مثيرا على نحو غريب. القلق الشخصي قد طمسته مشاعر الدهشة والإعجاب؛ فما يتمتع به كوكبنا من جمال خالص قد أدهشني. لقد كان لؤلؤة عظيمة في سواد لامع. كان مثل درة أو حجر الأوبال الكريم. كلا، لقد كان أجمل بكثير من أي جوهرة. لقد كانت ألوانه أكثر روعة وأكثر أثيرية. وكان يعبر عن الرقة والبراعة والتعقيد والتناغم الموجودة في الكائن الحي. غريب أنني في بعدي هذا قد بدا لي أنني كنت أشعر، كما لم أشعر من قبل، بالحضور الحيوي للأرض ككائن حي لكنه مغيب ويتوق على نحو مبهم للاستيقاظ.
فكرت أن أيا من المعالم الظاهرة في هذه الجوهرة السماوية الحيوية لا يكشف عن وجود الإنسان. بعض المراكز الأكثر ازدحاما بالبشر كانت تتجلى أمامي، حتى وإن لم تكن ظاهرة. وأسفل مني، كانت تقبع مناطق صناعية ضخمة تسود الهواء بالدخان. بالرغم من ذلك، فكل هذه الحياة المكتظة، والمشروعات البشرية الضخمة، لم تترك أي أثر على ملامح الكوكب. فمن هذه الإطلالة المرتفعة من خارج الأرض، لم يكن شيء ليبدو مختلفا عما كانت عليه الأرض قبل فجر الإنسانية. ما من ملاك زائر أو مستكشف من كوكب آخر كان سيخمن أن هذا الفلك اللطيف ممتلئ بالآفات والأوبئة، وبوحوش ملائكية بشكل أولي، تعذب أنفسها وتسود العالم.
الفصل الثاني
السفر بين النجوم
بينما رحت أتأمل كوكبي الأصلي على تلك الحال، واصلت التحليق لأعلى في الفضاء. ظهرت الأرض وهي تتضاءل على مسافة بعيدة، وبينما أسرعت باتجاه الشرق بدا أنها تدور تحتي. جميع معالمها تحركت باتجاه الغرب، إلى أن ظهر الغروب وإقليم الأطلسي الأوسط بعدها بوقت قصير على طرفها الشرقي، ثم ظهر الليل. وفي غضون دقائق قليلة، كما بدا لي، تحول الكوكب إلى نصف بدر هائل، وسرعان ما تحول إلى هلال ضبابي متضائل يقع بجوار الهلال الضئيل الحاد لقمره.
بدهشة أدركت أنني حتما أسافر بسرعة مذهلة وتكاد تكون مستحيلة. كان تقدمي سريعا للغاية حتى إنه بدا أنني أمر بوابل مستمر من الشهب. لم تكن مرئية إلى أن صارت تواكبني تقريبا؛ إذ إنها لم تكن تضيء إلا من خلال ضوء الشمس المنعكس، وقد ظهرت للحظة فحسب كأنها بقع من الضوء أو مصابيح ترى من قطار سريع. التقيت بالكثير منها في تصادم وجها لوجه، لكنها لم تؤثر في. كتلة صخرية ضخمة غير منتظمة الشكل، بحجم منزل، هي التي أخافتني للغاية. تضخمت الكتلة المضيئة أمام بصري، وظهر منها على مدار كسر من الثانية سطح خشن ومتكتل، ثم غطتني. بل الأحرى أنني أستنتج أنها لا بد أن تكون قد غطتني، غير أن مروري كان سريعا للغاية حتى إنني سرعان ما وجدت نفسي أخلفها بالفعل فور أن رأيتها في المسافة الواقعة في المنتصف.
سريعا أصبحت الأرض محض نجم. وأنا أقول سريعا غير أن إحساسي بمرور الوقت قد أصبح الآن مشوشا للغاية؛ فالدقائق والساعات وربما حتى الأيام بل الأسابيع أيضا قد أصبحت الآن متماثلة.
Неизвестная страница
بينما كنت لا أزال أحاول جمع شتات نفسي، اكتشفت أنني تخطيت مدار المريخ بالفعل وكنت أندفع عبر طريق من الكويكبات. بعض هذه الكواكب الضئيلة قد أصبحت الآن قريبة للغاية حتى إنها بدت كنجوم عظيمة تتدفق بين المجموعات النجمية. ظهر واحد أو اثنان منها بشكل محدودب، ثم اتخذت الشكل الهلالي قبل أن تختفي خلفي.
كان المشتري الذي يقع على مسافة بعيدة أمامي يزداد سطوعا بالفعل، وقد غير موقعه بين النجوم الثابتة. بدت الكرة العظيمة الآن كالقرص الذي سرعان ما أصبح أكبر من الشمس المتضائلة. وكانت أقماره الأربعة الكبرى لآلئ صغيرة تطفو بجانبه. الآن بدا سطح الكوكب كاللحم المقدد المقلم بفعل مناطق الغيوم التي توجد فيه. عتمت الغيوم على محيطه بأكمله. صرت الآن موازيا له ومررت به. ونظرا لما يتسم به غلافه الجوي من عمق هائل، فقد امتزج الليل والنهار كل منهما في الآخر دون حد يمكن تمييزه. وفي مناطق متفرقة من نصفه الشرقي غير المضيء، رأيت مساحات مبهمة من الضوء المحمر، لعلها هي الوهج الذي يرتفع إلى الأعلى عبر الغيوم الكثيفة بفعل الثورانات البركانية.
في غضون بضع دقائق، أو ربما سنوات، أصبح المشتري نجما من جديد ثم اختفى في بريق الشمس التي كانت لا تزال متوهجة، رغم تضاؤلها. لم يكن هناك أي من الكواكب الخارجية الأخرى بالقرب من مساري، غير أنني سرعان ما أدركت أنني قد قطعت بالفعل مسافة بعيدة للغاية حتى إنني قد تجاوزت مدار بلوتو. لم تعد الشمس الآن سوى أكثر النجوم سطوعا فحسب، وراحت تخبو خلفي.
وأخيرا صار لدي وقت للقلق. لم يعد هناك من شيء ظاهر سوى السماء المرصعة بالنجوم. كانت كوكبات «بنات نعش الكبرى» و«ذات الكرسي» و«الجبار» و«الثريا» تهزأ مني بألفتها وبعدها. أصبحت الشمس الآن محض نجم بين النجوم الساطعة الأخرى. لم يتغير شيء. أكان مصيري أن أبقى على تلك الحال إلى الأبد في الفضاء، وعي دون جسد؟ هل مت ؟ أكان ذلك عقابي على عيشي لحياة عقيمة للغاية؟ أكانت تلك عقوبة الرغبة العنيدة في الانعزال عن جميع الشئون والأهواء والانحيازات البشرية؟
في الخيال، رحت أكافح للعودة إلى قمة التل في ضاحيتي. رأيت منزلنا. فتح الباب. خرجت امرأة إلى الحديقة التي يضيئها ضوء البهو. ووقفت للحظة تتفحص الطريق، ثم عادت إلى المنزل. غير أن ذلك كله كان محض خيال، أما في الواقع، فلم يكن هناك شيء سوى النجوم.
بعد برهة لاحظت أن الشمس وجميع النجوم الموجودة بجوارها قد اصطبغت بالحمرة. أما النجوم الموجودة على القطب الآخر للسماء، فقد اصطبغت باللون الأزرق الثلجي. تجلى لذهني تفسير هذه الظاهرة العجيبة. كنت لا أزال أتحرك بسرعة كبيرة حتى إن الضوء نفسه لم يكن عديم التأثير بالكامل على مساري. التموجات التي كانت خلفي كانت تستغرق وقتا طويلا كي تلحق بي؛ ولهذا فقد كانت تؤثر علي كذبذبات أبطأ مما كانت عليه عادة؛ لذا فقد بدت لي حمراء اللون. أما تلك التي التقت بي في مساري الرأسي فقد كانت مكتظة وقصيرة وبدت لي زرقاء اللون.
بعد برهة قصيرة، اكتست السماء بحلة استثنائية؛ إذ أصبحت جميع النجوم التي تقع خلفي مباشرة باللون الأحمر القاني، وتلك التي تقع أمامي مباشرة باللون البنفسجي. الياقوتات من خلفي وأحجار الجمشت من أمامي. وحول الكوكبات الياقوتية، امتدت منطقة من النجوم التوبازية، وحول الكوكبات الجمشتية، امتدت منطقة من النجوم التي تشبه الياقوت الأزرق. بجوار مساري على جميع الجوانب، خبت الألوان إلى الأبيض المعتاد في ماسات السماء المألوفة. ولأنني كنت أتحرك في مستوى المجرة تقريبا، فقد كان طوق درب التبانة أبيض على كلا الجانبين، وبنفسجيا أمامي وأحمر من خلفي. وبعد وقت قصير، خبت النجوم التي أمامي وخلفي مباشرة، ثم اختفت، مخلفة في السماء ثقبين خاليين من النجوم، يحيط بكل منهما منطقة من النجوم الملونة. كانت سرعتي لا تزال تزداد على ما يبدو. وكان الضوء من النجوم الأمامية والخلفية يصلني الآن بأشكال تتجاوز نطاق رؤيتي البشرية.
بينما زادت سرعتي، ظلت البقعتان عديمتا النجوم من أمامي ومن خلفي، كل بطوقها الملون، تغزوان المنطقة المتوسطة ذات النجوم المعتادة والتي كانت توجد بمحاذاتي على الجانبين. بين هذه النجوم شعرت بوجود حركة. بفعل تأثير مساري، بدا أن النجوم الأقرب تنجرف ببطء على خلفية النجوم الأبعد. ظل هذا الانجراف يتسارع إلى أن صارت السماء المرئية بأكملها للحظة مخططة بنجوم طائرة. بعد ذلك تلاشى كل شيء. أعتقد أن سرعتي كانت عظيمة للغاية مقارنة بسرعة النجوم لدرجة أنه لم يكن لضوء أي منها تأثيره المعتاد علي.
بالرغم من أنني ربما كنت أحلق الآن بسرعة أكبر من سرعة الضوء نفسه، فقد بدا الأمر وكأنني أطفو في قاع بئر عميقة راكدة. أرعبني الظلام البهيم، والفقدان التام للإحساس، هذا إذا كان بإمكاني أن أطلق لفظ «الرعب» على الاشمئزاز وتوجس الشر الذي كنت أشعر به الآن دون الشعور بأي من المرافقات الجسدية له من الشعور بالارتجاف أو التعرق أو اللهاث أو خفقان القلب. بيأس ورثاء للذات، تقت إلى البيت، تقت مرة أخرى إلى الوجه الذي كان مألوفا لي بشدة. كنت أستطيع رؤيتها الآن بعين عقلي، وهي تجلس بجوار النار وتحيك، وقد ارتسمت تقطيبة صغيرة من القلق بين حاجبيها. تساءلت هل كان جسدي يرقد الآن ميتا على الخلنج؟ أيجدونه هناك في الصباح؟ كيف ستواجه هذا التغير العظيم في حياتها؟ ستتلقاه بوجه شجاع بكل تأكيد، لكنها ستعاني.
لكن بينما كنت أقاوم بشدة فكرة تفكك ذرة رفقتنا الثمينة، كنت أدرك أن ثمة شيئا بداخلي، روحي الجوهرية، كان يرغب بشدة في ألا يتراجع عن هذه الرحلة المذهلة، بل أن يستمر فيها. لم يكن الأمر أن رغبتي في المغامرة يمكن أن تفوق ولو للحظة اشتياقي إلى عالم البشر المألوف. لقد كنت من النوع المحب بشدة للبقاء في البيت؛ بحيث ما كان من شيمي السعي إلى المخاطر والتعب لرغبة محضة فيهما، لكن الخوف من المغامرة غلبها إدراك الفرصة التي منحها لي القدر، ليس لاستكشاف أغوار الكون المادي فحسب، بل أيضا لاستكشاف الدور الفعلي للحياة والعقل بين النجوم. تملكني الآن نهم شديد، لا للمغامرة وإنما للتفكر في قيمة الإنسان، أو أي كائنات أخرى شبيهة به في الكون. وكنزنا البيتي الثمين هذا، هذا الأقحوان الكريم الذي يصنع الربيع بجوار طريق الحياة الحديثة القاحل، قد حثني على قبول مغامرتي الغريبة بسرور؛ إذ أليس من الممكن أن أكتشف أن الكون بأكمله ليس مكانا من الغبار والرماد فحسب مع ملامح من الحياة غير المكتملة هنا وهناك، وإنما يكمن بالفعل خلف تلك الأرض البوار العطشى، عالم من الزهور؟
Неизвестная страница
أكان الإنسان بالفعل هو نقطة نمو الروح الكونية، مثلما كان يرغب في أن يكون في بعض الأحيان، وإن كان ذلك من الناحية الزمنية على الأقل؟ أم هو نقطة واحدة فقط من ملايين نقاط النمو؟ أم أن البشرية لا تمثل في الرؤية الكونية أي أهمية بأكثر مما تمثله الفئران في كاتدرائية؟ وهل كانت غاية الإنسان الحقيقية هي السلطة أم الحكمة أم الحب أم العبادة أم ذلك كله؟ أم أن فكرة الغاية ليس لها أي جدوى في سياق الكون؟ هذه الأسئلة العويصة سوف أجيب عنها. ثم إنني يجب أن أتعلم أن أرى بوضوح أكبر بعض الشيء، وأن أواجه على نحو أكثر صوابا بعض الشيء (هكذا قد صغت الأمر لنفسي) ما يدفعنا إلى العبادة حين نتلقى منه أي نفحة على الإطلاق.
لم أكن أبدو الآن لذاتي ذاتية الأهمية أنني فرد منعزل يشتهي التعظيم، وإنما مبعوث من البشرية، كلا، بل عضو استكشاف، مجس قد قذفه العالم البشري الحي كي يتواصل مع رفاقي في الفضاء. مهما يكن من أمر، فلا بد لي من الاستمرار، حتى وإن كانت حياتي الأرضية التافهة ستنتهي قبل أوانها، وتعيش زوجتي وأطفالي بدوني. لا بد لي من الاستمرار، وحتما سوف أعود بطريقة ما ذات يوم، ولو بعد قرون من السفر بين النجوم.
الآن وقد عدت إلى الأرض بالفعل بعد مغامرات هي الأكثر إدهاشا، حين أعيد النظر في تلك المرحلة من الشعور بالتمجيد، يفزعني التناقض بين الكنز الروحاني الذي كنت أطمح إلى تقديمه لرفاقي من البشر، وبين شح ما قدمته بالفعل. وربما يعود هذا الفشل إلى حقيقة أنه بالرغم من أنني قد قبلت تحدي المغامرة بالفعل، فأنا لم أقبله إلا بتحفظات بيني وبين نفسي. الآن أدرك أن الخوف والتلهف على الراحة قد عتما من سطوع إرادتي. قراري الذي اتخذته بشجاعة كبيرة، قد ثبت أنه واه بالرغم من كل شيء. فكثيرا ما أفسحت شجاعتي المتزعزعة المجال للحنين إلى كوكبي الأصلي. وكثيرا ما كنت أشعر في مسار أسفاري بأن طبيعتي العادية الهيابة قد جعلتني أغفل عن أبرز جوانب الأحداث.
من بين جميع ما اختبرته في أسفاري، لم يكن مفهوما لي بوضوح سوى قدر ضئيل حتى وقت حدوثه، وحينها، مثلما سأذكر لاحقا، كانت قد عززت من قدراتي الأصلية كائنات تتمتع بتطور جبار يفوق القدرات البشرية. أما الآن وقد عدت مرة أخرى إلى كوكبي الأصلي، ولم تعد تلك التعزيزات متوفرة، فأنا لا أستطيع حتى أن أستعيد الكثير من الرؤى العميقة التي توصلت إليها من قبل؛ ولهذا فقد اتضح أن روايتي التي تحكي عن الاستكشاف البشري الأوسع نطاقا على الإطلاق، في نهاية الأمر لا يمكن التعويل عليها بأكثر مما يمكننا التعويل على ترهات أي عقل قد جن إذ اختبر ما لا يقدر على استيعابه.
لأعود الآن إلى قصتي. لست أدري كم من الوقت قد قضيت في الجدال مع نفسي، لكن بعد أن اتخذت قراري، سرعان ما اخترقت النجوم مجددا العتمة التامة. كنت على ما يبدو في حالة سكون؛ إذ كنت أرى النجوم في كل اتجاه بلونها المعتاد.
غير أن تغيرا عجيبا قد حل بي؛ فسرعان ما اكتشفت أنني أستطيع التحرك نحو أي نجم بمجرد رغبتي في الاقتراب منه، وبسرعة لا بد أنها كانت أكبر كثيرا من سرعة الضوء المعتادة. وقد كنت أعرف أن هذا محال من الناحية الفيزيائية. لقد أكد لي العلماء أن الحركة بسرعة أكبر من الضوء عبث لا معنى له. ولهذا، فقد استنتجت أن حركتي لا بد أنها كانت ظاهرة ذهنية على نحو ما وليست مادية، مما جعلني أستطيع أن أشغل نقاطا متتالية دون وسيلة تنقل مادي. وبدا لي من الجلي أيضا أن ضوء النجوم التي كنت أراها الآن، لم يكن ضوءا معتادا وماديا؛ إذ إنني لاحظت أن وسيلة سفري الجديدة والحثيثة لم يكن لها أي أثر على الألوان المرئية للنجوم. ومهما بلغت سرعتي، فقد ظلت النجوم على ألوانها الماسية، غير أنها كانت أكثر سطوعا ووضوحا مما كانت عليه في الرؤية المعتادة.
فور أن تيقنت من قدرتي الجديدة على التنقل، رحت أستخدمها بحماس شديد. قلت لنفسي إنني أقدم على رحلة من البحث الميتافيزيقي والفلكي، لكن اشتياقي للأرض كان يخل بهدفي؛ فقد حول انتباهي دونما داع إلى البحث عن الكواكب، ولا سيما الكواكب من النوع الأرضي.
بصورة عشوائية وجهت مساري إلى إحدى النجوم القريبة الأكثر سطوعا. كان تقدمي سريعا للغاية حتى إن بعض الأجرام السماوية الأصغر والتي كانت أقرب إلي، راحت تتدفق بمحاذاتي كالشهب. تحركت بالقرب من الشمس العظيمة دون شعور بحرارتها. على سطحها المبرقش، كنت أستطيع أن أرى ببصري الخارق، بالرغم من البريق السائد، مجموعة من البقع الشمسية الضخمة الداكنة، وكل منها حفرة كان يمكن أن تلقى فيها عشرات من كواكب الأرض. حول حافة النجم بدت البروزات في الغلاف اللوني كأنها ريش ووحوش بدائية وأشجار متقدة، كلها تقف في ترقب أو مهابة، على كرة أصغر جدا من أن تكفيها. وفيما وراء ذلك، نشرت الهالة الشاحبة لهيبها في الظلام. وبينما رحت أدور حول النجم في مسار زائدي المقطع، رحت أبحث بتوتر عن كواكب، لكنني لم أجد أيا منها. بحثت مجددا بدقة، ورحت أتقدم إلى الأمام وأنحرف قريبا وبعيدا. في المدارات العريضة، قد يكون من السهل جدا أن تغفل عن جسم صغير مثل الأرض. لم أجد شيئا سوى الشهب والقليل من المذنبات الواهية. وقد كان ذلك هو الأكثر إحباطا؛ إذ إن النجم قد بدا من النوع نفسه الذي تنتمي إليه الشمس المألوفة. كنت آمل بيني وبين نفسي ألا أعثر على كواكب فحسب، بل أن أعثر على الأرض بالتحديد.
مرة أخرى انطلقت في محيط الفضاء متوجها إلى نجم آخر قريب. ومرة أخرى شعرت بخيبة الأمل. لم أقترب إلا من أتون آخر موحش. هذا النجم أيضا لم يكن يضم تلك الحبات الدقيقة التي تأوي الحياة.
الآن كنت أسرع من نجم إلى آخر، ككلب ضال يبحث عن سيده. اندفعت هنا وهناك عازما على إيجاد شمس تدور حولها كواكب، والتي من بينها يوجد موطني. فتشت نجمة تلو النجمة، وقد تجاوزت عددا كبيرا منها بنفاد صبر قبل أن أدرك أنها كبيرة وهشة وصغيرة السن للغاية لأن تكون شمس الأرض. كان بعضها نجوما عملاقة محمرة غير واضحة المعالم عرضها أكبر من مدار المشتري، وبعضها أصغر وأكثر وضوحا ولها سطوع ألف شمس، وكان لونها أزرق. كنت قد تعلمت أن شمسنا من النوع المتوسط، غير أنني وجدت الآن من الشموس الضخمة الصغيرة السن عددا أكبر بكثير من الشموس الصغيرة المصفرة المتوسطة السن. من الواضح أنني كنت أمكث في منطقة متكدسة بالنجوم الحديثة.
Неизвестная страница
رحت أراقب سحبا ضخمة من الغبار لا لشيء إلا لكي أتجنبها، كانت في ضخامة الكوكبات تخفي تيارات النجوم؛ وكذلك رقعا ممتدة من الغاز المتوهج الشاحب التي تضيء في بعض الأحيان بفعل ضوئها وأحيانا بفعل الضوء المنعكس من النجوم. كثيرا ما كانت هذه القارات المتكونة من السحب اللؤلؤية اللون تنتج بداخلها عددا من لآلئ الضوء الباهتة التي هي أجنة النجوم المستقبلية. نظرت دونما اهتمام إلى العديد من مجموعات النجوم التي تشكلت مثنى وثلاث ورباع، والتي كان بها عدد متساو تقريبا من الشركاء الذين يتراقصون في اتحاد وثيق. وذات مرة، مرة واحدة فقط، وجدت واحدا من هذه الثنائيات النادرة التي لم يكن أحد الشريكين فيها بأكبر من الأرض، لكنه كان ضخما كنجم عظيم ولامعا للغاية. كنت أجد في أرجاء هذه المنطقة من المجرة، نجما محتضرا هنا أو هناك يخمد معتما، ورأيت في بعض الأنحاء أيضا النجوم المنطفئة الميتة المغلفة بقشرة. لم أستطع رؤية هذه النجوم إلا بعد أن وصلت إليها، وحتى حينها لم أرها إلا بشكل خافت بفعل الضوء المنعكس للسماء بأكملها. لم أحاول قط الاقتراب منها أكثر؛ إذ إنها لم تكن بذات أهمية لدي في تلهفي المحموم للأرض. ثم إنها كانت تبعث في الرهبة؛ إذ تنذر بموت الكون، لكن ما طمأنني أنني لم أجد منها إلا عددا قليلا للغاية.
لم أعثر على أي كوكب. كنت أعرف جيدا أن ميلاد الكواكب يحدث بفعل الاقتراب الشديد لنجمين أو أكثر وأن مثل تلك الحوادث لا تحدث إلا نادرا. ذكرت نفسي أن وجود نجوم لها كواكب في المجرة هو حتما حدث نادر كوجود الأحجار الكريمة بين حبات الرمال على شاطئ البحر. فماذا كان احتمال أن أعثر على أحدها؟ بدأت عزيمتي تخور. الصحراء المروعة للعتمة والنار العقيمة، والفراغ العظيم الذي لا يخترقه الوميض إلا قليلا، وما في الكون بأكمله من عبث هائل، كل ذلك قد أثقل قلبي بصورة مريعة. والآن قد أضيف إلى ذلك كله مصدر جديد للكدر؛ إذ بدأت قدرتي على التنقل تخور. لم أكن أستطيع القيام بأي حركة على الإطلاق بين النجوم إلا بجهد عظيم وببطء شديد، ثم ازداد هذا البطء بدرجة عظيمة. سرعان ما سأجد نفسي مثبتا في الفضاء كحشرة طائرة في إحدى المجموعات، لكنني سأكون وحيدا تماما وللأبد. أجل، كان ذلك بالتأكيد جحيمي الخاص.
جمعت شتات نفسي. ذكرت نفسي أنه حتى إذا كان هذا سيكون هو قدري، فما هو بأمر خطير. ستظل الأرض على خير حال بدوني، وحتى إذا لم يكن هناك أي عالم آخر آهل بالحياة في أي مكان آخر بالكون، فالأرض نفسها لا تزال عامرة بالحياة، وقد تنبثق منها حياة أوسع وأكثر اكتمالا. وبالرغم من أنني قد فقدت كوكبي الأصلي، فذلك العالم المحبوب لا يزال حقيقيا. ثم إن مغامرتي بأكملها كانت معجزة؛ أوليس من الممكن أن تستمر المعجزة وأتعثر في طريقي بأرض أخرى؟ تذكرت أنني انطلقت في رحلة حج علوية، وأنني مبعوث البشرية إلى النجوم.
ومع استعادتي للشجاعة، عادت إلي قدرتي على التنقل. من الجلي أنها كانت تتوقف على وجود إطار ذهني من النشاط والانفصال عن الذات؛ لذا فقد أخمدها ما انتابني من رثاء للذات والتوق إلى الأرض.
عازما على استكشاف منطقة أخرى من المجرة حيث قد يوجد عدد أكبر من النجوم الأقدم؛ ومن ثم أمل أعظم في وجود كواكب، انطلقت في اتجاه عنقود بعيد ومليء بالنجوم. ونظرا لشحوب أفراد هذه الكرة المرقطة من الضوء وغير واضحة المعالم، فقد خمنت أنها تقع حتما على مسافة بعيدة للغاية. سافرت أكثر فأكثر في الظلام. وبالرغم من أنني لم أنحرف قط عن طريقي للبحث، فلم يأخذني مساري عبر محيط الفضاء بالقرب من أي نجم بالدرجة التي تكفي لأن أراه قرصا. كانت أضواء السماء تتدفق بعيدا عني كأنها أضواء سفن بعيدة. وبعد رحلة فقدت خلالها كل حساب للزمن، وجدت نفسي في صحراء شاسعة خالية من النجوم، كانت فجوة بين تيارين من النجوم، وصدعا في المجرة. كان درب التبانة يحيط بي، وفي كل اتجاه ينتشر غبار النجوم البعيدة المعتاد، غير أنه لم يكن هناك من أضواء واضحة سوى زغب الضوء الصادر من العنقود البعيد الذي كان هدفي.
أزعجتني تلك السماء غير المألوفة بما ولدته من شعور بازدياد انفصالي عن موطني. لقد كان مما يبعث على الطمأنينة بعض الشيء أن أرى، فيما وراء أبعد نجوم مجرتنا، تلك البقع المتناهية الصغر والتي هي مجرات غريبة أبعد كثيرا من أبعد الخبايا المنعزلة في درب التبانة، وأن أتذكر أنه بالرغم من سفري السريع والإعجازي، ما أزال داخل حدود مجرتي الأم، داخل تلك الخلية الصغيرة من الكون نفسها التي لا تزال تعيش فيها رفيقة حياتي. بالمناسبة، كنت مندهشا من أن العديد من المجرات الغريبة كانت تبدو للعين المجردة، ومن أن أكبرها كان علامة ضبابية شاحبة أكبر من القمر في السماء الأرضية.
على النقيض من المجرات البعيدة والتي لم تؤثر كل تلك المسافة التي قطعتها في مظهرها، كان عنقود النجوم أمامي يتمدد الآن في مجال البصر. وبعد أن عبرت الفراغ الشاسع بين تياري النجوم، سرعان ما واجهني العنقود كغيمة ضخمة من حبات الماس. الآن كنت أمر بمنطقة أكثر ازدحاما، ثم انفرج العنقود نفسه أمامي مغطيا السماء الأمامية بأكملها بأضوائه الغفيرة. ومثلما تقابل سفينة تقترب من الميناء غيرها من السفن والقوارب، اقتربت ومررت بنجم تلو النجم. حين تخللت إلى قلب العنقود، أصبحت في منطقة أكثر ازدحاما من أي منطقة قد استكشفتها. كانت السماء تتوهج من كل جانب بالشموس التي بدا العديد منها ألمع من كوكب الزهرة في سماء الأرض. شعرت بابتهاج مسافر يدخل ميناء ليلا بعد أن عبر المحيط، ليجد نفسه محاطا بأضواء مدينة كبيرة. في تلك المنطقة المكتظة، أخبرت نفسي بأنه لا بد أن العديد من حوادث الاقتراب الشديد قد وقعت بين النجوم، وتشكلت العديد من الأنظمة الكوكبية. ومرة أخرى رحت أبحث عن نجوم متوسطة العمر من نوع الشمس الخاصة بالأرض. كل ما مررت به حتى الآن كانت نجوما عملاقة صغيرة السن، ضخمة في حجم النظام الشمسي بأكمله. وبعد المزيد من البحث، عثرت على بضعة نجوم من المحتمل أن تطابق ما أبحث عنه، لكن أيا منها لم يضم أي كوكب. وعثرت أيضا على العديد من النجوم المزدوجة والثلاثية، التي تدور في مداراتها التي لا تحصى، والقارات العظيمة من الغاز حيث تتكثف النجوم الجديدة. وفي النهاية، عثرت أخيرا على أحد الأنظمة الكوكبية. وبقدر لا يحتمل من الأمل، درت فيما بين هذه العوالم، لكن جميعها كان أكبر من المشتري، وكانت جميعها منصهرة. ومن جديد، رحت أسرع من نجم إلى آخر. لا بد أنني قد زرت الآلاف، لكن ذلك كله كان دون جدوى. مغتما ووحيدا، هربت خارجا من العنقود، والذي تضاءل خلفي إلى كرة من الزغب الأبيض الذي تتلألأ بقطرات الندى. من أمامي، حجبت بقعة عظيمة من الظلام جزءا من درب التبانة والمناطق المجاورة الآهلة بالنجوم، خلا القليل من الأضواء القريبة التي كانت تقع بيني وبين الظلمة المعتمة. لاحت الحواف المتلاطمة لتلك الغيمة الضخمة من الغاز أو الغبار بفعل الأشعة الساقطة من النجوم الساطعة خلفها. أثار ذلك المشهد في مشاعر الرثاء للذات على العديد من الليالي التي قضيتها في البيت ورأيت فيها حواف الغيوم المعتمة وقد أضفى عليها ضوء القمر لونا فضيا مثل تلك الغيوم. غير أن الغيوم التي كانت تقع قبالتي الآن لم تكن لتبتلع عوالم بأكملها أو عددا لا يحصى من الأنظمة الكوكبية فحسب، بل مجموعات نجمية بأكملها.
خذلتني شجاعتي مرة أخرى. ومبتئسا حاولت أن أتجاهل تلك الأبعاد الهائلة بإغلاق عيني، غير أنه لم تكن لي عينان ولا جفنان. كنت قد خرجت من جسدي، ولست سوى وعي متجول. حاولت أن أستحضر في ذهني الجزء الداخلي من منزلي الصغير حيث الستائر منسدلة والنيران تتراقص. حاولت أن أقنع نفسي بأن كل هذا الرعب والظلام والمسافة والوهج العقيم كان حلما، وأنني كنت أغفو بجوار النار وقد أستيقظ في أي لحظة، وأنها سوف تطل علي في أثناء حياكتها وتلمسني وتبتسم، لكنني كنت ما أزال سجين النجوم.
بالرغم من قواي الخائرة، شرعت في بحثي مرة أخرى. وبعد أن كنت قد تجولت من نجم إلى نجم لفترة قد تكون أياما أو سنوات أو دهور، وجهني الحظ أو ربما روح حارسة إلى نجم معين شبيه بالشمس، وحين نظرت إلى الخارج من هذا المركز، رأيت نقطة صغيرة من الضوء تتحرك مع حركتي على السماء المرسومة. وحين وثبت باتجاهها، رأيت غيرها وغيرها. كان هذا بالفعل نظاما كوكبيا يشبه كثيرا ذلك الذي أنتمي إليه. كم كنت مهووسا بالمعايير البشرية حتى إنني اتجهت على الفور إلى الأشبه من هذه العوالم بالأرض! ومن المثير للدهشة أنه قد بدا شبيها بالأرض فعلا إذ راح قرصه يتضخم من أمامي أو من تحتي. كان غلافه الجوي أقل كثافة من غلافنا الجوي بالتأكيد؛ إذ كانت أشكال القارات والمحيطات غير المألوفة ظاهرة بوضوح.
مثلما يحدث على الأرض، انعكست صورة الشمس ساطعة على البحر المظلم. وامتدت رقع من الغيوم هنا وهناك فوق البحار واليابسة، والتي كانت مرقطة باللونين الأخضر والبني مثلما هي الحال على كوكبي. بالرغم من ذلك، فحتى من على هذا الارتفاع، رأيت أن المناطق الخضراء أكثر زهوا وزرقة من نظيرتها الأرضية. لاحظت أيضا أن مساحة المحيطات على هذا الكوكب أقل من مساحة اليابسة، وأن مراكز القارات العظيمة تتشكل بصورة أساسية من الصحاري اللامعة ذات اللون الأبيض القشدي.
Неизвестная страница
الفصل الثالث
الأرض الأخرى
(1) على الأرض الأخرى
حين هبطت ببطء باتجاه سطح الكوكب الصغير، وجدت نفسي أبحث عن أرض كانت تبشر بأنها ستكون شبيهة بإنجلترا. غير أنني فور أن أدركت ما كنت أفعله، ذكرت نفسي بأن الظروف هنا ستكون مختلفة تماما عن الظروف الأرضية وأنه من غير المحتمل على الإطلاق أن أجد كائنات ذكية هنا. وإن كانت مثل هذه الكائنات موجودة، فلن أستطيع فهمها على الأرجح. ربما ستكون عناكب ضخمة أو كائنات هلامية زاحفة. فكيف يمكن أن أرجو أن أتواصل على الإطلاق مع مثل تلك الكائنات المخيفة؟
بعد أن طفت بصورة عشوائية لبعض الوقت فوق السحب الخفيفة والغابات والسهول والمروج الملونة وتلك البقاع الصحراوية اللامعة، اخترت بلدة بحرية تقع في المنطقة المعتدلة؛ شبه جزيرة زاهية الخضرة. حين كدت أهبط إلى الأرض، أذهلني اخضرار الريف. هنا كان يوجد بكل تأكيد نباتات تشبه نباتاتنا في طبيعتها الجوهرية، غير أنها كانت مختلفة بعض الشيء في التفاصيل. ذكرتني الأوراق السمينة أو حتى البصلية، بنبتاتنا الصحراوية، غير أن الأغصان هنا كانت رفيعة وسلكية. ربما كانت السمة الأبرز في هذه النباتات هي لونها الفاقع الذي يجمع بين الأزرق والأخضر، كلون الكروم التي أضيفت لها أملاح النحاس. كنت سأكتشف لاحقا أن هذه النباتات قد تعلمت بالفعل حماية نفسها من الميكروبات والآفات الشبيهة بالحشرات والتي قد خربت في الماضي هذا الكوكب الذي يميل إلى الجفاف، باستخدام كبريتات النحاس.
رحت أنساب فوق سهل لامع قد تناثرت عليه شجيرات باللون الأزرق البروسي. السماء أيضا قد اصطبغت بدرجة داكنة من الأزرق لا ترى بها على الأرض إلا من الارتفاعات الشاهقة. رأيت بعضا من السحب المنخفضة الرقيقة، والتي كنت أعزو طبيعتها الخفيفة إلى رقة الغلاف الجوي. وقد دعم من هذا التفسير حقيقة أنه بالرغم من هبوطي على الكوكب في ضحى يوم صيفي، فقد وجدت أن نجوما عدة قد تمكنت من اختراق السماء الشبيهة بسماء الليل. جميع الأسطح الظاهرة كانت شديدة الإضاءة، وظلال الشجيرات القريبة كانت سوداء تقريبا. وبعض الأجسام البعيدة الشبيهة بالمباني، غير أنها لم تكن على الأرجح سوى محض صخور، قد بدت وكأنها منحوتة بالأبنوس والثلج. كان المنظر بأكمله يتسم بجمال استثنائي مدهش.
كنت أحلق دون جناحين على سطح الكوكب عبر فسحات الغابات، وعلى بقاع من الصخور المتكسرة، وعلى ضفاف الجداول. كنت قد وصلت الآن إلى منطقة واسعة تغطيها صفوف أنيقة متوازية من نباتات شبيهة بالسرخس تحمل كميات كبيرة من الجوز على السطح السفلي لأوراقها. كان من المستحيل تقريبا أن أصدق أن هذا النظام الدقيق للنباتات لم يخضع لتخطيط ينم عن ذكاء. أم يكون هذا في النهاية محض ظاهرة طبيعية غير معروفة على كوكبي؟ كانت دهشتي شديدة لدرجة أن قدرتي على التنقل، والتي كانت خاضعة على الدوام للتدخل العاطفي، قد بدأت تخور الآن. ترنحت في الهواء كرجل مخمور. محاولا التماسك، رحت أسير متعثرا على المحاصيل المصفوفة باتجاه جسم كبير بعض الشيء كان يقع على مسافة مني بجوار شريط من الأرض الجرداء. وسرعان ما دهشت وذهلت إذ اتضح أن هذا الجسم ما هو إلا محراث. لقد كان آلة غريبة بعض الشيء، غير أنه لم يكن هناك من سبيل للخطأ في شكل النصل، والذي كان صدئا ومن الواضح أنه مصنوع من الحديد. كان به مقبضان حديديان، وسلاسل لربط دابة الحمل. كان من الصعب أن أصدق أنني أبعد عن إنجلترا بالكثير من السنين الضوئية. حين نظرت حولي، رأيت طريقا ترابيا لا لبس فيه، وقطعة من القماش الرث القذر معلقة على شجيرة. بالرغم من ذلك؛ ففي الأعلى كانت السماء غير السماء الأرضية تسطع بها النجوم في الظهيرة.
تبعت الطريق الذي كان يمتد عبر غابة صغيرة من الشجيرات الغريبة التي كانت أوراقها السمينة المتدلية تحمل ثمارا شبيهة بالكرز على امتداد حوافها. وفجأة بالقرب من منعطف على الطريق، التقيت برجل. أو هكذا قد بدا في البداية لبصري المذهول والمتعب من رؤية النجوم. لم أكن سأندهش للغاية من السمت البشري الغريب لهذا الكائن إن كنت قد فهمت في هذه المرحلة المبكرة من مغامرتي تلك القوى التي كانت تتحكم بها. لقد قادتني بعض التأثيرات التي سأصفها فيما بعد إلى أن أكتشف أولا تلك العوالم الأكثر شبها بعالمي. وفي هذه الأثناء، يمكن للقارئ أن يتخيل دهشتي إزاء هذا اللقاء العجيب. لقد كنت أفترض دوما أن الإنسان كائن فريد من نوعه. لقد أنتجته مجموعة متشابكة من الظروف المعقدة بدرجة لا يمكن تصورها، ولم يكن من المفترض أن مثل تلك الظروف ستتكرر في أي مكان آخر بالكون. بالرغم من ذلك، فهنا على أول عالم أستكشفه على الإطلاق، التقيت بأحد المزارعين. حين اقتربت منه، رأيت أنه لا يشبه الرجل الأرضي بتلك الدرجة التي بدا عليها من بعيد، غير أنه كان إنسانا على أي حال. أيكون الرب قد أسكن الكون بأكمله بنوعنا؟ أيكون قد خلقنا حقا على صورته؟ كان ذلك أمرا لا يصدق. إن طرح مثل هذه الأسئلة أثبت أنني قد فقدت توازني العقلي.
ولأنني كنت محض وعي بلا جسد، فقد كنت أستطيع أن أرى دون أن أرى. رحت أحلق بالقرب منه بينما راح يخطو على الطريق. كان منتصبا يسير على قدمين وكان بصورة عامة يشبه البشر بكل تأكيد. لم تكن لدي وسيلة لقياس طوله، لكن طول قامته كان في النطاق الأرضي المعتاد تقريبا، فلم يكن أصغر من قزم أو أكبر من عملاق على الأقل. كان ممشوق القوام، وساقاه رفيعتين كساقي طائر ويحيط بهما سروال خشن ضيق. كان عاريا فيما فوق الخصر، فظهر صدره الذي كان كبيرا على نحو غير ملائم، وأشعث بشعر يميل إلى الاخضرار. كان له ذراعان قصيرتان لكنهما قويتان، وعضلات كتفين ضخمة. كانت بشرته داكنة وتميل إلى الاحمرار، ويغطيها الكثير من الزغب الأخضر الفاقع. ملامحه بأكملها كانت غليظة؛ إذ كانت تفاصيل عضلاته وأوتاره ومفاصله مختلفة شديدة الاختلاف عما هي عليه لدينا. رقبته كانت طويلة ومرنة على نحو غريب. أما رأسه، فأفضل ما يمكنني وصفه به هو أن الجزء الأكبر من الجمجمة والذي كان يغطيه شعر كثيف بدا أنه قد انزلق إلى الخلف وإلى الأسفل على القفا. عيناه البشريتان للغاية كانتا تحدقان من تحت إطار شعره. فمه البارز على نحو غريب، والذي كان شبيها بالفوهة، قد جعله يبدو وكأنما كان يصفر. بين العينين بل أعلاهما على الأدق، كان هناك منخاران كبيران شبيهان بمنخاري الخيل، وقد كانا يتحركان باستمرار. أما جسر الأنف، فقد كان يمثله ارتفاع في الشعر الكثيف والذي يصل من المنخارين في الخلف إلى أعلى الرأس. لم تكن هناك من أذنين ظاهرتين، وقد اكتشفت لاحقا أن أعضاء السمع تنفتح على المنخارين.
من الواضح أنه بالرغم من أن التطور على هذا الكوكب الشبيه بالأرض قد اتخذ في المجمل مسارا شديد الشبه بالمسار الذي أدى إلى ظهور نوعي، فلا بد أيضا من وجود العديد من الاختلافات.
Неизвестная страница
لم يكن الرجل يرتدي حذاء فحسب، بل قفازين أيضا بدا أنهما كانا مصنوعين من جلد خشن. كان حذاؤه قصيرا للغاية. وقد اكتشفت بعد ذلك أن أقدام هذه السلالة أو «البشر الآخرين» مثلما سميتهم، كانت أشبه بأقدام النعام أو الجمال. كان مشط القدم يتكون من ثلاثة أصابع كبيرة تنمو معا. وبدلا من الكعب، كان هناك إصبع آخر عريض وقصير وممتلئ. كانت اليدان بلا راحتين، كل منهما تتألف من ثلاثة أصابع غضروفية، وإصبع إبهام.
ليس الهدف من هذا الكتاب أن أروي مغامراتي، بل أن أقدم فكرة عن العوالم التي زرتها؛ ولهذا فلن أروي بالتفصيل كيف استقر بي الحال بين البشر الآخرين؛ فالحديث عن نفسي تكفيه بضع كلمات. حين درست هذا المزارع لبعض الوقت، بدأت حقيقة عدم إدراكه الكامل لوجودي تتملك مني على نحو غريب. وبوضوح مؤلم، أدركت أن الهدف من رحلة حجي ليس هو الملاحظة العلمية فحسب، بل أيضا الحاجة إلى إجراء تبادل ذهني وروحاني من نوع ما مع عوالم أخرى للانتفاع بالثراء والتواصل المشترك. كيف عساي أن أتمكن من تحقيق هذه الغاية ما لم أستطع إيجاد طريقة ما للتواصل؟ فقط بعد أن تبعت رفيقي إلى منزله وقضيت أياما عديدة في ذلك المنزل الحجري الدائري الصغير ذي السقف المصنوع من الخوص المغطى بالطين، اكتشفت القدرة على الدخول إلى عقله، ورؤية الأشياء من خلال عينيه، والإحساس من خلال أعضائه الحسية جميعها، وإدراك عالمه مثلما يدركه هو، وكذلك متابعة الكثير من أفكاره وحياته العاطفية. وبعدها بوقت طويل حين «سكنت» العديد من أفراد هذه السلالة على نحو سلبي، اكتشفت كيف أعلن عن وجودي وحتى أن أتحدث داخليا مع مضيفي.
ذلك الاتصال «التخاطري» الداخلي والذي كان سينفعني في جميع رحلاتي، كان في البداية صعبا وغير فعال ومؤلما. غير أنني قد تمكنت مع الوقت من أن أعايش تجارب مضيفي بحيوية ودقة، مع الحفاظ على فرديتي، وذكائي النقدي ورغباتي ومخاوفي. فقط حين كان الطرف الآخر يدرك حضوري بداخله، كان يستطيع بفعل خاص من إرادته أن يبقي بعض الأفكار سرا عني.
من المنطقي جدا أنني قد وجدت هذه العقول الغريبة غير مفهومة في بادئ الأمر؛ فإدراكاتها الحسية كانت تختلف عن نظيراتها المألوفة لي في جوانب مهمة. كانت أفكارها وجميع مشاعرها وأحاسيسها غريبة بالنسبة إلي. إن الأساس التقليدي لهذه العقول؛ أي، المفاهيم الأكثر شيوعا فيها، كان يستند إلى تاريخ غريب ويعبر عنه في لغات يجدها العقل الأرضي مضللة بعض الشيء.
قضيت على «الأرض الأخرى» العديد من «السنوات الأخرى» متجولا من عقل إلى عقل ومن بلد إلى بلد، غير أنني لم أكتسب أي فهم واضح لنفسية البشر الآخرين ودلالة تاريخهم إلى أن التقيت بأحد فلاسفتهم، وهو رجل عجوز لكنه كان لا يزال يتمتع بعنفوان الشباب، وكانت آراؤه الغريبة وغير المستساغة قد حالت دون أن ينال التقدير والمكانة. القدر الأكبر من مضيفي حين كانوا يدركون وجودي، كانوا إما أن يظنوا أنني روح شريرة أو رسول إلهي. أما الأكثر تثقيفا منهم، فقد افترضوا أنني محض مرض أو عرض من أعراض الجنون؛ ولهذا فقد ذهبوا على الفور إلى «مسئول الصحة العقلية» المحلي. وبعد أن قضيت حسب التقويم المحلي قرابة عام من الوحدة المريرة بين عقول رفضت أن تعاملني على أنني بشر، حالفني الحظ إذ لاحظ الفيلسوف وجودي. أحد مضيفي الذي كان يشكو من أنه يعاني من سماع «أصوات» ورؤية رؤى من «عالم آخر» قد توجه إلى العجوز طلبا للمساعدة. بفالتو، كان هذا هو اسم الفيلسوف على وجه التقريب، قد «عالجه» بأن دعاني إلى قبول الضيافة في عقله حيث قال إنه سيسعده بشدة أن يستضيفني. وببالغ السرور قد تواصلت أخيرا مع كائن أدرك طبيعتي البشرية. (2) عالم منشغل
ثمة الكثير من السمات المهمة في مجتمع هذا العالم التي يجب أن توصف؛ لذلك، لا أستطيع أن أقضي الكثير من الوقت في وصف ملامح الكوكب الواضحة وسلالته. كانت الحضارة قد بلغت من النمو مرحلة شبيهة جدا بما بلغته لدينا. كنت دائم الاندهاش بمزيج التشابه والاختلاف. من خلال الترحال في أرجاء الكوكب، وجدت أن الزراعة قد انتشرت في معظم المناطق المناسبة، وأن الصناعة كانت أكثر تقدما بالفعل في الكثير من البلدان. على المروج، كانت هناك قطعان ضخمة من كائنات شبيهة بالثدييات ترعى وتعدو. أما الثدييات الأكبر، أو أنصاف الثدييات، فكانت تربى في أفضل المراعي من أجل لحمها وجلدها. وأنا أصفها بأنها «أنصاف ثدييات»؛ لأن هذه الكائنات لم تكن ترضع صغارها بالرغم من أنها كانت تلد. بدلا من ذلك، فقد كانت الأم تبصق الطعام الممضوغ المجتر والمعالج كيميائيا في معدتها، في فم الصغار كنفثة من سائل مهضوم مسبقا. وقد كانت تلك أيضا هي الطريقة التي تطعم بها أمهات البشر صغارها.
كانت وسيلة التنقل الأهم في الأرض الأخرى هي القطارات البخارية، غير أن القطارات في هذا العالم كانت ضخمة للغاية حتى إنها كانت تبدو كصفوف كاملة من المنازل وهي تتحرك. كان هذا التقدم الملحوظ في السكك الحديدية يعود على الأرجح إلى الرحلات العديدة التي تقطع عبر الصحاري وطولها الكبير. كنت أسافر في بعض الأحيان على السفن البخارية في المحيطات القليلة والصغيرة، غير أن وسائل المواصلات البحرية كانت بوجه عام متأخرة. لم تكن الدافعة المروحية معروفة في هذا العالم، وكانت عجلات التجديف تستخدم بدلا منها. وكانت محركات الاحتراق الداخلي تستخدم في الانتقال على الطرق والصحاري. لم يتمكنوا من الطيران بسبب الغلاف الجوي الرقيق، لكن الدفع الصاروخي كان مستخدما بالفعل في نقل البريد لمسافات بعيدة، والقصف البعيد المدى في الحروب، وقد يستخدم في الملاحة الجوية يوما ما.
كانت زيارتي الأولى لعاصمة إحدى الإمبراطوريات العظيمة في الأرض الأخرى تجربة رائعة. كل شيء كان غريبا للغاية ومألوفا للغاية في الوقت ذاته. كانت هناك الشوارع والمتاجر والمكاتب المتعددة النوافذ. في هذه المدينة القديمة، كانت الشوارع ضيقة وحركة السيارات مكتظة للغاية حتى إن الأماكن المخصصة للمشاة قد شيدت لها طرق مرتفعة خاصة قد تدلت بجوار نوافذ الطابق الأول وبامتداد الشوارع.
الحشود التي تدفقت على طرق المشاة تلك قد تنوعت مثلما هي الحال لدينا. كان الرجال يرتدون سترات طويلة من القماش وسراويل، من المدهش أنها كانت تشبه سراويل أوروبا، غير أن الطية التي تميز سراويل ذوي الشأن كانت على جانب الساق. كانت النساء بلا أثداء ومرتفعات المنخارين كالرجال، غير أن ما كان يميزهن هو شفاههن الأنبوبية والتي كانت وظيفتها البيولوجية هي توصيل الغذاء للطفل الرضيع. وبدلا من التنانير، كن ترتدين سراويل ضيقة حريرية ذات لون أخضر لامع، وألبسة داخلية صغيرة مبهرجة. وقد كان تأثير ذلك على بصري الذي لم يعتد على هذه المناظر بذيئا بدرجة لا توصف. في الصيف، كان أفراد كلا الجنسين غالبا ما يسيرون في الشوارع عراة حتى الخصر، لكنهم كانوا يرتدون القفازات على الدوام.
إذن، هنا جمع من الأفراد الذين بالرغم من غرابتهم، كانوا يتسمون بالجوهر الإنساني بقدر ما يتسم به سكان لندن. كانوا يباشرون شئونهم الخاصة بثقة تامة، دون دراية بأن ثمة مشاهدا من عالم آخر كان يرى أنهم جميعا منفرون بافتقارهم إلى الجبين، وبمناخيرهم الكبيرة المرتفعة المرتعشة، وعيونهم الشديدة الشبه بالعيون البشرية وأفواههم الشبيهة بالفوهة. ها هم كانوا هناك، أحياء منشغلين، يتسوقون ويحدقون ويتحدثون. الأطفال كانت تجرجرهم أيدي أمهاتهم، والعجائز بوجوههم التي يغطيها الشعر الأبيض انحنوا على عصي السير. وراح الشباب يحدقون في الفتيات. وكان من اليسير تمييز الأثرياء من الفقراء عن طريق ملابسهم الأحدث والأغنى، وكذلك وضعيتهم الواثقة، المتغطرسة في بعض الأحيان.
Неизвестная страница
كيف يمكنني أن أصف في بضع صفحات الطابع المميز لعالم غفير وعظيم يختلف عن عالمي أشد الاختلاف ويشبهه أشد الشبه في الوقت ذاته؟ فهنا، يولد الأطفال كل ساعة مثلما يحدث على كوكبي. وهنا أيضا كهناك، كانوا يطالبون بالغذاء، وقريبا جدا سيطالبون بالصحبة. لقد اكتشفوا ماهية الألم والخوف والوحدة والحب. لقد كبروا وقد شكلتهم ضغوطات من أقرانهم إما قاسية أو هينة، فإما أن يصبحوا جيدي التربية، كرماء، متزنين، أو معاقين ذهنيا حانقين وانتقاميين عن غير قصد. وجميعهم دون استثناء كانوا يتلهفون باستماتة على نعيم الرفقة الحقيقية، وقليلون جدا هنا، ربما حتى أقل من نظرائهم في عالمي، هم من وجدوا ما هو أكثر من نكهته المتلاشية. كانوا يعوون مع القطيع ويصيدون مع القطيع. ومن سغبهم المادي والعاطفي، كانوا يتشاجرون على الصيد ويقطع كل منهما الآخر إربا؛ إذ جنوا من الجوع ماديا أو ذهنيا. أحيانا كان بعضهم يتوقف ويتساءل عن الغاية من كل هذا؛ ومن ثم تتبع ذلك معركة من الكلمات، وما من إجابة واضحة. فجأة يصيبهم الهرم وينتهون، ولأن الفترة الممتدة من الميلاد إلى الوفاة محض لحظة لا تحس في الزمن الكوني، فقد كانوا يتلاشون.
ولأن هذا الكوكب من النوع الأرضي في جوهره، فقد أنتج سلالة بشرية في جوهرها، أو بشرية من نوع مختلف عن النوع الأرضي، إذا صح التعبير. كانت هذه القارات متنوعة كقارتنا، وكانت تسكنها سلالة متنوعة كالسلالة البشرية. جميع ما يظهر في تاريخنا من أنماط الحياة الروحانية وسماتها كان له ما يكافئه في تاريخ البشر الآخرين. ومثلما هو الحال لدينا، فقد كانت هناك عصور مظلمة وعصور تنوير، مراحل من التقدم وأخرى من التأخر، ثقافات تسود فيها النزعة المادية، وأخرى يغلب عليها الطابع الفكري أو الجمالي أو الروحاني. وقد كانت هناك أعراق «شرقية» وأخرى «غربية». كانت هناك إمبراطوريات وجمهوريات وديكتاتوريات. غير أن كل ذلك كان مختلفا عما يوجد على الأرض. العديد من الاختلافات كان سطحيا بالطبع، غير أن بعضها كان جوهريا وعميقا واستغرق مني فهمها وقتا طويلا، ولكني لن أصفها الآن. لا بد لي أن أبدأ بالحديث عن التركيب البيولوجي للبشر الآخرين. لقد كانت الطبيعة الحيوانية تكمن في صميمهم مثلنا إلى حد كبير. كانوا يستجيبون بالغضب والخوف والكراهية والرقة والفضول وغير ذلك مثلما نستجيب. لم يكونوا يختلفون عنا في الحواس سوى أنهم كانوا أقل حساسية لرؤية الألوان وأكثر حساسية لرؤية الأشكال مقارنة بنا. لقد بدت لي الألوان الفاقعة في الأرض الأخرى عبر عيون سكانها الأصليين باهتة للغاية. وقد كانوا ضعاف السمع أيضا بعض الشيء؛ فبالرغم من أن أعضاءهم السمعية كانت حساسة للأصوات الخافتة بقدر حساسيتنا لها، لم تكن تحسن التمييز. إن الموسيقى التي نعرفها لم تتطور قط في هذا العالم.
عوضا عن ذلك، تطورت حاستا الشم والتذوق لديهم على نحو مذهل. لم تكن هذه الكائنات تتذوق بأفواهها فحسب، وإنما بأيديها التي كانت رطبة وسوداء حينذاك، وبأقدامها أيضا؛ ومن ثم فقد وهبوا تجربة ثرية وحميمية للغاية مع كوكبهم. لقد كانت مذاقات المعادن والأخشاب والأراضي الحامضية والحلوة والعديد من الصخور وذلك العدد الضخم من النكهات القوية أو الخفيفة للنباتات تتهشم تحت أقدامهم العارية المسرعة، مما شكل عالما بأكمله لا يعرف البشر الأرضيون عنه شيئا.
الأجهزة التناسلية كانت هي أيضا مزودة بأعضاء للتذوق. كانت هناك العديد من أنماط السمات الكيميائية المميزة لكل من الذكور والإناث، وكل منها يثير جاذبية الجنس الآخر بشدة. كان يمكن تذوق هذه السمات على نحو خافت من خلال لمس الأيدي أو الأقدام بأي جزء من أجزاء الجسد، ويكون تذوقها بشدة مذهلة في الجماع.
إن هذا الثراء المدهش في الخبرة التذوقية قد جعل من الدخول إلى أفكار البشر الآخرين بشكل كامل أمرا شديد الصعوبة بالنسبة إلي. فقد كان التذوق يمثل جزءا مهما للغاية في خيالهم وإدراكهم، بقدر ما كانت حاسة البصر مهمة بالنسبة إلينا. العديد من الأفكار التي كان الإنسان الأرضي يتوصل إليها عن طريق البصر، والتي لا تزال تحمل بعض آثار أصلها البصري حتى في أكثر أشكالها تجردا، كان البشر الآخرون يتصورونها من خلال التذوق. فكلمة «لامع» التي نستخدمها لوصف الأشخاص والأفكار، يترجمونها بكلمة معناها الحرفي هو «لذيذ». وبدلا من كلمة «صاف» يستخدمون مصطلحا كان الصيادون في العصور البدائية يستخدمونه للإشارة إلى مطاردات الصيد بالتذوق التي تؤخذ جريا. أما «الإشراق الإلهي» فقد كانوا يعبرون عنها بمصطلح «تذوق مروج السماء». العديد من مفاهيمنا غير البصرية كانوا يعبرون عنها من خلال التذوق أيضا. كانوا يشيرون إلى «التعقيد» بمصطلح «متعدد النكهات» وهو مصطلح كان يستخدم في الأساس للتعبير عن تشوش المذاق حول بركة شرب تتردد عليها العديد من أنواع الحيوانات. أما كلمة «التنافر» فقد كانوا يعبرون عنها بكلمة مشتقة من كلمة تعني الاشمئزاز الذي كان يشعر به بعض أنواع البشر بعضهم تجاه بعض بسبب نكهاتهم.
الاختلافات بين الأعراق، والتي كانت تتجسد في عالمنا في المظهر الجسماني بصورة أساسية، كان جميعها تقريبا يتمثل لدى البشر الآخرين في المذاق والرائحة. ولأن أعراق البشر الآخرين كانت أقل تمركزا بكثير في مواقع محددة مقارنة بأعراقنا، فقد شكل الصراع بين الجماعات التي كانت نكهاتها بغيضة بعضها لبعض دورا عظيما في التاريخ. فقد نزع كل عرق إلى الاعتقاد بأن نكهته هي التي تمثل جميع الصفات الذهنية الراقية، وأنها علامة يمكن الاعتماد عليها بالتأكيد للدلالة على القيمة الروحانية. وقد كانت الاختلافات في المذاق والرائحة في العصور السابقة علامات حقيقية على الاختلافات بين الأعراق بكل تأكيد، أما في العصور الحديثة، وفي المناطق الأكثر تطورا، فقد حدثت تغيرات كبيرة. ليس الأمر أن الأعراق ما عادت تتمركز في أماكن محددة فحسب، بل تسببت أيضا الحضارة الصناعية في حدوث مجموعة من التغيرات الجينية لم تترك للفروقات العرقية القديمة أي جدوى. وبالرغم من أن هذه النكهات القديمة لم تعد تحمل الآن أي دلالة عرقية على الإطلاق، والواقع أن أفراد العائلة الواحدة قد يحملون نكهات يجدونها كريهة على نحو متبادل، فقد ظلت تنتج الآثار العاطفية التقليدية. في كل بلد كانت هناك نكهة محددة تعد هي السمة المميزة للعرق السائد في ذلك البلد، ويعد ما سواها من النكهات بغيضا إن لم يكن بالفعل مستهجنا.
في البلد الذي ألممت بأكبر قدر من المعرفة عنه، كانت النكهة العرقية القويمة نوعا من الملوحة لا يمكن للإنسان الأرضي أن يتصورها. كان مضيفي ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم ملح الأرض نفسه، لكن الحقيقة أن أول ريفي «سكنته» كان هو الرجل الملحي الوحيد الأصلي الخالص الذي ينتمي إلى النوعية القويمة ممن قابلتهم. أما الغالبية العظمى من مواطني هذا البلد فقد كانوا يكتسبون المذاق والرائحة الصحيحين بسبل صناعية. وأولئك الملحيون بعض الشيء على الأقل وينتمون إلى إحدى النوعيات الملحية وإن لم تكن المثالية، كانوا دائما ما يفضحون خداع جيرانهم من ذوي اللذوعة أو الحلاوة أو المرارة. من سوء الحظ أنه بالرغم من إمكانية إخفاء مذاق الأطراف بدرجة مناسبة، لم يكن من الممكن تغيير نكهة الجماع؛ ولهذا فقد كان حديثو الزواج عرضة لأن يكتشفوا بشأن أحدهم الآخر الاكتشافات الأكثر تدميرا في ليلة الزفاف. ونظرا لأنه في الغالبية العظمى من الزيجات لم يكن لدى أي من الطرفين النكهة القويمة؛ فقد كان كلاها مستعدا لأن يتظاهر أمام العالم بأكمله بأن كل شيء على ما يرام، غير أن ذلك غالبا ما كان يتحول إلى تنافر مقزز بين نوعي المذاق. تفشت الاضطرابات العصبية في الجماعة السكانية بأكملها نتيجة لتلك الزيجات المأساوية السرية. وفي بعض الأحيان، حين يكون أحد الطرفين ينتمي إلى النكهة القويمة بدرجة ما، فإن هذا الشريك الملحي الأصلي يندد ساخطا بالطرف المحتال، وعندئذ تشترك المحاكم والنشرات الإخبارية والجمهور في احتجاجات يقوم بها من يظنون أنهم الأقوم أخلاقيا.
بعض النكهات «العرقية» كانت جلية للغاية فلم يكن يفلح إخفاؤها. إحداها على وجه التحديد، وقد كانت تشبه الحلاوة المرة، كانت تعرض مالكها للاضطهاد المفرط في جميع البلدان خلا أكثرها تسامحا. في الماضي، جنى العرق الحلو المر سمعة من المكر والانتهازية، وقد كان أفراده يتعرضون للذبح بين الحين والآخر على أيدي جيرانهم الأقل ذكاء. بالرغم من ذلك، ففي الاضطراب البيولوجي العام في العصور الحديثة، قد تظهر النكهة الحلوة المرة في أي عائلة. والويل حينها يكون للطفل الملعون ولجميع أقربائه! كان الاضطهاد حتميا إلا أن تكون العائلة ثرية بالدرجة الكافية لأن تبتاع من الدولة «تمليحا فخريا» (أو «تحلية فخرية» في الدولة المجاورة)، وذلك هو ما كان يزيل وصمة العار.
في البلاد الأكثر استنارة، كان أمر الخرافة العرقية بأكمله قد بدأ يصبح مثيرا للريبة؛ فنشأت حركة بين النخبة المثقفة لتكييف الأطفال على تقبل جميع أنواع النكهات البشرية، والتخلي عن مزيلات الروائح والمذاق، والتخلي حتى عن الأحذية والقفازات، والتي فرضها العرف الحضاري.
من سوء الحظ أن حركة التسامح هذه قد أعاقتها إحدى نتائج المجتمع الصناعي. في المراكز الصناعية المكتظة وغير الصحية، ظهر نوع جديد من الرائحة والمذاق يبدو أنه كان طفرة بيولوجية. وفي غضون أجيال قليلة، سادت هذه النكهة الحامضية اللاذعة والتي لا يمكن إخفاؤها في جميع أحياء الطبقة العاملة الأكثر حقارة. وقد كانت هذه النكهة بالنسبة إلى حاسة التذوق شديدة الحساسية لدى الموسرين تعد مثيرة للاشمئزاز بدرجة طاغية. لقد أصبحت في واقع الأمر، رمزا غير واع بالنسبة إليهم يحرك جميع المشاعر الدفينة بالذنب والخوف والكراهية والتي كان المضطهدون يشعرون بها تجاه المضطهدين.
Неизвестная страница
في هذا العالم، مثلما في عالمنا، كانت نسبة ضئيلة من السكان هي التي تتحكم في الغالبية العظمى من سبل الإنتاج الأساسية من الأرض والمناجم والمصانع والسكك الحديدية والسفن، لمنفعتها الخاصة. وهؤلاء الأفراد من ذوي الحظوة قادرين على إرغام سواد الناس على العمل لحسابهم تحت طائلة الجوع. كانت المهزلة المأساوية الكامنة في مثل ذلك النظام تقترب بالفعل. الملاك كانوا يوجهون طاقة العمال على نحو متزايد إلى إنتاج المزيد من سبل الإنتاج بدلا من إشباع احتياجات الحياة الفردية. فالآلات قد تجلب الربح إلى الملاك، أما الخبز فلا يجلبه. ومع ازياد منافسة الآلة مع الآلة، تضاءل الربح؛ ومن ثم الأجور، وعلى إثرهما تضاءل الطلب الفعلي على السلع. دمرت السلع التي لم تجد لها سوقا، بالرغم من أن البطون كانت خاوية والظهور عارية. تزايدت البطالة والفوضى والقمع الصارم، مع تفكك النظام الاقتصادي. يا لها من قصة مألوفة !
ومع تدهور الأوضاع، وانخفاض قدرة الحركات الخيرية والمؤسسات الخيرية التابعة للدولة على مواجهة الكتلة المتزايدة من البطالة والفقر أكثر فأكثر، زاد ما يوفره العرق الجديد المنبوذ من منفعة نفسية لاحتياجات الكراهية لدى الأعراق المقدسة والتي لا تزال مزدهرة وذات نفوذ. وقد انتشرت نظرية مفادها أن هؤلاء الكائنات البائسة قد ظهرت نتيجة لتلوث عرقي منهجي سري قد حدث بسبب المهاجرين الرعاع وأنهم لا يستحقون أي اهتمام من أي نوع؛ ولهذا فلم يكن مسموحا لهم بالعمل إلا في أكثر الأشغال انحطاطا وظروف العمل الأكثر قسوة. وحين أصبحت البطالة مشكلة اجتماعية خطيرة، أصبحت الغالبية العظمى من أفراد العرق المنبوذ دون عمل يعانون من الفقر المدقع. وقد كان من السهل الاعتقاد بالطبع بأن البطالة لم تحدث بسبب انهيار الرأسمالية، وإنما بسبب افتقار هؤلاء المنبوذين إلى أي قيمة أو جدارة.
في وقت زيارتي، كانت الطبقة العاملة قد أصبحت موصومة تماما بأنها الطبقة المنبوذة، وقد كانت هناك حركة قوية تسير على قدم وساق بين طبقات الأثرياء والمسئولين داعية إلى تأسيس العبودية للمنبوذين وأنصاف المنبوذين حتى يمكن معاملتهم علنا كالماشية والتي كانت تمثل حقيقتهم في واقع الأمر. وفي ضوء خطر استمرار التلوث العرقي، حث بعض السياسيين على ذبح المنبوذين جميعا، أو إجراء تعقيم شامل لهم على الأقل. أما البعض الآخر فقد أوضح أنه نظرا لأن إمدادات العمالة الرخيصة أمر ضروري للمجتمع، فسوف يكون الخيار الأكثر حكمة هو تقليل أعدادهم فحسب وذلك من خلال قيادتهم إلى الموت المبكر بالعمل في وظائف لن يقبل بها أفراد «العرق النقي». ويجب أن يحدث هذا على أي حال في أوقات الرخاء، أما في أوقات الانتكاس، فمن الممكن ترك الفائض من السكان للموت جوعا، أو استخدامهم في المختبرات الفيسيولوجية.
الأشخاص الذين جرءوا على اقتراح هذه السياسة في بادئ الأمر، تعرضوا للجلد بسياط السخط الشعبي الشديد، غير أن سياستهم قد طبقت في واقع الأمر. لم يحدث ذلك بصورة مباشرة، وإنما بالموافقة الضمنية، وبغياب أي خطة أخرى بناءة بدرجة أكبر.
في المرة الأولى التي أخذت فيها إلى أفقر مناطق المدينة، دهشت حين رأيت أنه بالرغم من وجود مساحات كبيرة من المناطق العشوائية الفقيرة والتي كانت أقذر من أي شيء في إنجلترا، فقد كان فيها أيضا العديد من البنايات العظيمة النظيفة التي تليق بأن تكون جزءا من فيينا. كانت هذه المباني محاطة بالحدائق، والتي كانت مزدحمة بالخيام والأكواخ الوضيعة. كان العشب باليا والشجيرات محطمة والورود مداسة. وكان الرجال والنساء والأطفال يتسكعون في كل مكان متسخين ومهترئي الثياب.
عرفت أن هذه البنايات الراقية قد بناها قبل الأزمة الاقتصادية العالمية (عبارة مألوفة، أليس كذلك؟!) أحد أصحاب الملايين، والذي كان قد جنى ثروته عن طريق التجارة في عقار يشبه الأفيون. قدم المباني إلى مجلس المدينة، وقد مات واستقبلته السماء من طريق النبلاء. الأكثر استحقاقا والأقل بغضا من الفقراء قد أسكنوا في هذه البنايات كما ينبغي لهم، غير أن بعض الاحتياطات قد اتخذت بتعيين إيجار مرتفع بالدرجة التي تكفي لاستبعاد العرق المنبوذ. بعد ذلك حلت الأزمة. وواحدا تلو الآخر، تعذر على المستأجرين الدفع وطردوا. وفي غضون عام، كانت البنايات خالية تقريبا.
تلا ذلك سلسلة عجيبة للغاية من الأحداث، ومثلما كنت سأكتشف، كان أحدها من السمات المميزة لهذا العالم الغريب. بالرغم من أن الرأي العام الموقر كان انتقاميا تجاه العاطلين، فقد كان عطوفا للغاية تجاه المرضى. حين كان المرء يصاب بمرض، يكتسب حرمة خاصة، وتكون له أحقية على جميع الأصحاء؛ ولهذا ففور أن كان أي من هؤلاء المخيمين التعساء يرزح تحت وطأة مرض خطير، كان ينقل كي يتلقى الرعاية المناسبة بجميع موارد العلوم الطبية. وسرعان ما اكتشف الفقراء المعدمون كيفية سير الأمور، وفعلوا كل ما في وسعهم كي يمرضوا. وقد نجحوا نجاحا عظيما فامتلأت المستشفيات بهم سريعا؛ ولهذا فقد جهزت هذه البنايات سريعا لاستقبال ذلك الفيضان المتزايد من المرضى.
عند مشاهدة هذه الأحداث الهزلية وغيرها، تذكرت نوعي. غير أنه بالرغم من تشابه البشر الآخرين معنا في جوانب عديدة، فقد شككت بدرجة كبيرة في أن ثمة عاملا لا يزال غامضا علي قد حكم عليهم بإخفاق لن يخشاه نوعي الأرقى أبدا. الآليات النفسية والتي كانت الفطنة والحس الأخلاقي في حالتنا يخففان من حدتها، قد برزت في هذا العالم بإفراط باهظ. غير أنه ليس من الصحيح أن البشر الآخرين كانوا أقل ذكاء أو فضيلة من البشر من نوعي. لقد كانوا في التفكير المجرد والابتكار العملي أندادا لنا على أقل تقدير. إن العديد مما توصلوا إليه من أوجه التقدم الحديثة في الفيزياء والفلك قد تجاوز حدود إنجازاتنا الحالية. بالرغم من ذلك، فقد لاحظت أن الجانب النفسي كان أكثر فوضوية مما هي الحال لدينا، وكان التفكير الاجتماعي مشوها على نحو غريب.
في مجال الإذاعة والتلفزيون، على سبيل المثال، كان البشر الآخرون يتفوقون علينا بدرجة كبيرة في الجانب التقني، غير أن استخدامهم لاختراعاتهم المذهلة كان مفجعا. في البلاد المتحضرة، كان الجميع فيما عدا الطائفة المنبوذة يحملون جهاز استقبال للجيب. ولأن البشر الآخرين لم يعرفوا الموسيقى، فقد بدا هذا أمرا غريبا، لكن لأنهم كانوا يفتقرون إلى وجود الصحف؛ فقد كانت الإذاعة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن لرجل الشارع أن يعرف بها نتائج اليانصيب والألعاب الرياضية، والتي كانت قوام غذائه العقلي. وعلاوة على ذلك، فقد احتلت مكانة الموسيقى ثيمات شمية وذوقية كانت تترجم إلى أنماط من الموجات الأثيرية التي تبثها جميع المحطات الوطنية الكبيرة، ثم تستعيد صيغتها الأصلية في أجهزة الاستقبال الجيبية وبطاريات التذوق التي يمتلكها السكان. كانت هذه الآلات تقدم محفزات معقدة لأعضاء التذوق والشم في اليد. وقد كان هذا النوع من الترفيه فعالا للغاية حتى إن المرء كان غالبا ما يرى الرجال والنساء على حد سواء يجلسون وقد وضعوا يدا في جيبهم. وقد كان ثمة طول موجي محدد مخصص لتهدئة الأطفال الصغار.
طرح جهاز استقبال جنسي في السوق، وكانت البرامج تذاع له في العديد من البلاد لكن ليس فيها كلها. كان هذا الاختراع الاستثنائي توليفة من الإذاعة واللمس والتذوق والرائحة والصوت. لم يكن يعمل عن طريق أعضاء الحس، بل من خلال التحفيز المباشر لمراكز الدماغ الملائمة. كان المستقبل يرتدي قبعة رأس قد صممت خصيصى لتنقل إليه من استوديو بعيد عناقات امرأة مثيرة ومتجاوبة، مثلما كان يختبرها آنذاك بالفعل «مذيع للحب»، أو تكون قد سجلت كهرومغناطيسيا على شريط فولاذي في مناسبة سابقة. ظهرت خلافات بشأن أخلاقية البث الجنسي. سمحت بعض البلدان ببث البرامج للذكور دونا عن الإناث، رغبة في الحفاظ على براءة الجنس الأطهر. وفي بلدن أخرى، نجح رجال الدين في القضاء على المشروع بأكمله على أساس أن البث الجنسي، حتى وإن كان للرجال فقط، سيكون بديلا شيطانيا لتجربة دينية منشودة يحرسونها بغيرة وتسمى الاتحاد العفيف، والتي سوف أتحدث عنها في تتمة هذا الكتاب. لقد أدرك رجال الدين جيدا أن سلطتهم تتوقف بدرجة كبيرة على قدرتهم على توليد تلك النشوة المغرية في رعيتهم عن طريق الطقوس وغيرها من الأساليب النفسية.
Неизвестная страница
أصحاب النزعة العسكرية أيضا كانوا يعارضون الاختراع الجديد بشدة؛ إذ إنهم رأوا في الإنتاج الرخيص الفعال للقاءات الجنسية الوهمية خطرا أشد من موانع الحمل، وهو أن إمدادات الجنود الذين يعدون طعاما للمدافع سوف تتضاءل.
ونظرا لأن البث في البلاد الأكثر احتراما كان يخضع لتحكم الجنود المتقاعدين أو الصالحين من رجال الكنيسة، فقد استخدم الجهاز الجديد في بادئ الأمر في الولايات التي تتسم بالنزعة التجارية وسوء السمعة بدرجة أكبر. ومن محطات البث في هذه الأماكن، كانت لقاءات «نجوم إذاعة الحب» المشهورين، وحتى لقاءات الأرستقراطيين المفلسين، تبث مع إعلانات الأدوية المسجلة ببراءة اختراع التي تباع دون وصفة طبية والقفازات المضادة للمذاق ونتائج اليانصيب والنكهات ومزيلات المذاق.
بعد فترة قصيرة، طبق مبدأ تحفيز الدماغ عن طريق موجات الراديو على نطاق أوسع؛ فأذيعت برامج الخبرات الأكثر إثارة أو خطورة في جميع البلاد، وكان يمكن التقاطها عن طريق أجهزة الاستقبال البسيطة التي كانت في متناول الجميع خلا العرق المنبوذ؛ ومن ثم فحتى العامل باليومية وعامل المصانع كان يستطيع الاستمتاع بملذات الولائم دون تحمل النفقات أو ما يليها من تخمة؛ ومباهج الرقص المتقن دون مشقة تعلم فن الرقص؛ وإثارة سباقات السيارات دون التعرض للخطر . في منزل شمالي محاط بالثلج، كان يستطيع التنعم بالشمس على الشواطئ الاستوائية ويمكن أن ينغمس في الألعاب الرياضية الشتوية في المناطق الاستوائية. سرعان ما اكتشفت الحكومات أن الاختراع الجديد قد منحها نوعا رخيصا وفعالا من السلطة يتحكمون به في رعاياهم. فأحوال العشوائيات يمكن أن تحتمل إذا كان هناك إمداد لا ينضب من الرفاهية الوهمية، والإصلاحات التي تبغضها السلطات يمكن أن تنحى جانبا إذا صورت على أنها معادية لنظام الإذاعة الوطني. الإضرابات وأعمال الشغب يمكن أن تفض في أغلب الأحوال بمجرد التهديد بإغلاق استوديوهات البث، أو من خلال غمر الأثير في لحظة حاسمة بنوع مبتكر من الحلاوة والعذوبة.
إن حقيقة أن «جناح اليسار» السياسي كان يعارض التوسع في تطوير الترفيه الإذاعي قد جعلت الحكومات والطبقات المالكة للأراضي أكثر استعدادا لقبوله. أما الشيوعيون - إذ أدت جدلية التاريخ على هذا الكوكب الشبيه بالأرض على نحو غريب إلى إنتاج جماعة جديرة بذلك الاسم - فقد أدانوا المشروع بشدة. لقد كان في رأيهم مخدرا رأسماليا قد أعد للحول دون منح الحكم الديكتاتوري والحتمي للطبقة العاملة بدلا من الحكومات.
وقد أتاحت المعارضة المتزايدة من جانب الشيوعيين الفرصة في رشوة معارضة أعدائهم الطبيعيين وهم رجال الدين والجنود. وقد جرى الاتفاق على أن تشغل الشعائر الدينية في المستقبل حصة أكبر من وقت البث، وأن تخصص قيمة العشر من رسوم الترخيص لصالح الكنائس. بالرغم من ذلك، فقد رفض رجال الدين عرض تجربة الاتحاد العفيف. وكتنازل إضافي، جرى الاتفاق على أن جميع الأفراد المتزوجين من أطقم العمل في هيئات البث، يجب أن يثبتوا، تحت طائلة الفصل من العمل، أنهم لم يقضوا ليلة واحدة بعيدا عن زوجاتهم (أو أزواجهم). وجرى الاتفاق أيضا على اقتلاع جميع هؤلاء الموظفين الحاصلين على درجة الليسانس والذين كان يشتبه في تعاطفهم مع تلك المبادئ السيئة السمعة مثل السلمية وحرية التعبير. وقد أرضي الجنود أيضا بإعانة من الدولة للأمومة، وفرض ضريبة على العزوبية، وبث منتظم للدعاية العسكرية.
خلال أيامي الأخيرة على الأرض الأخرى، ابتكر نظام يمكن للمرء من خلاله أن يتقاعد على السرير مدى الحياة ويقضي وقته بأكمله في استقبال البرامج الإذاعية، مع تعيين فريق من الأطباء من طرف هيئة البث يشرفون على تغذيته وكل وظائفه الجسدية، وعوضا عن التمرينات يتلقى خدمات التدليك بصفة دورية. كانت المشاركة في المشروع رفاهية باهظة الثمن في البداية، غير أن مبتكريه كانوا يأملون في أن يجعلوه متاحا للجميع في وقت غير بعيد، بل كان من المتوقع أيضا أن يصبح مشرفو الرعاية الطبية والخدمية غير ضروريين بمرور الوقت. وسوف يتم توفير نظام ضخم من الإنتاج الأوتوماتيكي للغذاء وتوزيعه غذاء سائلا في أنابيب تؤدي إلى أفواه المشاركين الراقدين، مع توفير نظام صرف صحي معقد. ويمكن استخدام التدليك الكهربائي حسب الرغبة من خلال الضغط على زر ما. وسيتم الاستغناء عن الإشراف الطبي ويحل محله نظام تعويض غددي أوتوماتيكي سيمكن حالة دم المريض من تنظيم نفسها أوتوماتيكيا من خلال سحب أي مواد كيميائية لازمة لتحقيق التوازن الفيسيولوجي الصحيح، من أنابيب العقاقير المشتركة.
حتى في حالة البث نفسه لن يكون العنصر البشري مطلوبا عما قريب؛ إذ ستكون الخبرات الممكنة بأكملها قد سجلت بالفعل من الأمثلة الحية الأكثر إبهارا. وسوف تبث هذه التجارب باستمرار في عدد كبير من البرامج البديلة.
ربما تظل هناك حاجة إلى وجود عدد قليل من الفنيين والمنظمين للإشراف على النظام، لكن عند توزيعهم بالشكل الملائم، لن ينطوي عمل أي فرد من أفراد طاقم عمل «الهيئة العالمية للبث» إلا على بضع ساعات من النشاط الممتع كل أسبوع.
وإذا دعت الحاجة إلى وجود أجيال مستقبلية، فسوف ينتج الأطفال عن طريق التوالد الخارجي. سيكون على «المدير العالمي للبث» أن يقدم مواصفات نفسية وفيسيولوجية ل «سلالة الاستماع» المثالية. وسيتلقى الأطفال المنتجون وفقا لهذا النمط التعليم عن طريق برامج إذاعية خاصة تعدهم لحياة البلوغ الإذاعية. إنهم لن يغادروا مهودهم أبدا إلا في مرورهم بالأحجام المختلفة من الأسرة وصولا إلى الأسرة ذات الحجم الكامل في مرحلة النضوج. في الجزء الأخير من الحياة، إذا لم تكن العلوم الطبية قد نجحت في التحايل على الكهولة والموت، فسوف يمكن للفرد على الأقل أن يضمن نهاية دون ألم من خلال الضغط على زر مناسب.
انتشر الحماس لهذا المشروع المذهل في جميع البلاد المتحضرة بسرعة، غير أن بعض القوى الرجعية كانت تعارضه بشدة. لقد أكدت فئة المتدينين التقليديين وكذلك فئة القوميين أصحاب النزعة العسكرية أن عظمة الإنسان في أن يكون نشطا. ورأى المتدينون أن الروح لا يمكن أن تكون مهيأة للحياة الأبدية إلا من خلال ضبط النفس واحتقار الجسد والصلاة المستمرة. وصرح القوميون من كل بلد أن أتباعهم قد منحوا أمانة مقدسة لحكم الأنواع الأدنى، وأن المناقب العسكرية فقط هي التي يمكن في كل الأحوال أن تضمن ذهاب الأرواح إلى «فالهالا».
Неизвестная страница
وبالرغم من أن العديد من كبار رجال الاقتصاد قد أيدوا وجود نعيم الإذاعة في بادئ الأمر باعتدال باعتباره مسكنا للعمال الساخطين، فقد انقلبوا الآن ضده. كانت شهوتهم هي السلطة، ولكي يحظوا بالسلطة كانوا يحتاجون إلى عبيد يسيطرون على كدحهم من أجل مغامراتهم الصناعية العظيمة؛ ولهذا فقد اخترعوا آلة تكون مسكنا ومحفزا في الوقت ذاته. فقد سعوا من خلال وسائل الدعاية جميعها إلى أن يثيروا الولع بالقومية والكراهية العرقية. لقد ابتكروا «الفاشية الأخرى» في واقع الأمر، بكامل أكاذيبها، وهوسها العجيب بالسلالة والدولة، واحتقارها للعقل وتمجيدها للسيادة الوحشية، وجاذبيتها لدوافع الصغار المضللين: الخسيسة منها والطيبة في الوقت ذاته.
كان ثمة جماعة صغيرة ومرتبكة في كل بلد، والتي تعارض كل معارضي نعيم الإذاعة هؤلاء وتعارض على نحو متساو نعيم الإذاعة نفسه، تؤكد أن الهدف الحقيقي من النشاط الإنساني هو خلق مجتمع عالمي من الأشخاص اليقظين الذين يتسمون بالذكاء الإبداعي وتجمع بينهم روابط البصيرة والاحترام، والمهمة المشتركة في تحقيق إمكانيات الروح البشرية على الأرض. كان القدر الأكبر من تعاليمهم هو إعادة تأكيد لتعاليم عرافين دينيين من ماض راق بعيد، لكنها قد تأثرت أيضا بالعلوم المعاصرة على نحو عميق. بالرغم من ذلك، فقد أساء العلماء فهم هذه الجماعة، ولعنها رجال الدين، وسخر منها ذوو النزعة العسكرية، وتجاهلها مؤيدو نعيم الإذاعة.
الآن في هذا الوقت، كان التخبط الاقتصادي يدفع الإمبراطوريات التجارية العظيمة في الأرض الأخرى إلى منافسة أكثر استماتة على الأسواق. وقد اجتمعت هذه المنافسات الاقتصادية مع العواطف القبلية القديمة المتمثلة في الخوف والكراهية والفخر لتتسبب في سلسلة لا تنتهي من أشباح الحرب كان كل منها يهدد بموقعة هرمجدون عالمية.
وفي هذا الظرف أوضح المتحمسون لمشروع الإذاعة أن الحرب لن تحدث أبدا إذا قبلت سياستهم، أما إذا اندلعت الحرب العالمية، فسوف تؤجل سياستهم إلى أجل غير مسمى. لقد اختلقوا حركة عالمية داعية للسلام، وكان التأييد لنعيم الإذاعة قويا للغاية حتى إن المطالبة بالسلام قد اكتسحت جميع البلدان. وأخيرا تأسست «هيئة عالمية للبث» للترويج لإنجيل الإذاعة، وإيجاد الاختلافات بين الإمبراطوريات، والاستيلاء على سيادة العالم في نهاية المطاف.
وفي هذه الأثناء، كان «المتدينون» المتحمسون وكذلك ذوو النزعة العسكرية المخلصون يشعرون بالقلق عن وجه حق من وضاعة الدوافع الكامنة خلف النزعة العالمية الجديدة، غير أنهم كانوا مخطئين بالدرجة نفسها في سلوكهم؛ إذ عزموا على إنقاذ «البشر الآخرين» رغما عنهم من خلال تحريض الشعوب على الحرب؛ فجميع قوى الدعاية والفساد المالي قد سخرت على نحو ملحمي من أجل إثارة عواطف القومية. بالرغم من ذلك، فقد أصبح الطمع لنعيم الإذاعة شاملا وقويا للغاية بحلول ذلك الوقت، حتى إن حزب الحرب لم يكن لينجح لولا ثروة كبار مصنعي الأسلحة وخبرتهم في تأجيج الصراع.
اندلعت المشاكل بنجاح بين إحدى الإمبراطوريات التجارية القديمة وبين دولة أخرى كانت قد بدأت حديثا في تبني أسس الحضارة الآلية، غير أنها قد أصبحت قوة عظمى بالفعل، وقد كانت قوة في أمس الحاجة إلى الأسواق. الإذاعة، التي كانت من قبل هي القوة الأساسية الدافعة إلى التوجه الكوني، قد أصبحت فجأة هي المحفز الأساسي للقومية في جميع البلاد. صباحا وظهرا ومساء، كان كل شعب من الشعوب المتحضرة يتلقى التأكيدات بأن الأعداء، والذين هم بالطبع ذوو نكهات كريهة ودونية، يخططون لتدميرهم. مخاوف التسلح وقصص الجواسيس وروايات السلوكيات الوحشية والسادية لدى الشعوب المجاورة، قد خلقت في جميع البلدان الكراهية والشك غير الناقد مما يعني أن الحرب قد أصبحت حتمية. نشأ خلاف حول السيطرة على أحد الأقاليم الحدودية. وفي تلك الأيام الحاسمة، تصادف وجودي أنا وبفالتو في مدينة حدودية كبيرة. لن أنسى أبدا كيف أن الجماهير قد انغمست في كراهية تكاد تكون جنونية. جميع الأفكار المتعلقة بالأخوة الإنسانية وحتى تلك المتعلقة بالأمان الشخصي، قد اكتسحها التعطش الشديد الوحشي للدماء. الحكومات التي أصابها الهلع قد بدأت في قذف قنابل صاروخية طويلة المدى على جيرانها الخطرين. وفي غضون بضعة أسابيع كان العديد من عواصم الأرض الأخرى قد دمرت من الهواء. الشعوب جميعها قد بدأت الآن في بذل كل ما في وسعها لكي تحدث من الضرر أكثر مما تتلقاه.
أما عن أهوال هذه الحرب، ودمار مدينة تلو المدينة، والمضيفين الذين أصابهم الهلع وراحوا يتضورون جوعا واندفعوا حشودا إلى الريف المفتوح ينهبون ويقتلون، والمجاعة والمرض، وتدهور الخدمات الاجتماعية، وظهور الديكتاتوريات العسكرية العديمة الرحمة، والتدهور المستمر بل الكارثي للثقافة وجميع مظاهر التهذيب والعطف في العلاقات الشخصية؛ فما من حاجة للحديث بالتفصيل عن كل ذلك.
وعوضا عن ذلك، سوف أحاول أن أفسر حتمية المصيبة التي حلت بالبشر الآخرين. إن نوعي البشري لم يكن ليسمح لنفسه بالطبع إذا تعرض لظروف مشابهة بأن يكتسح بالكامل هكذا. لا شك أننا نواجه احتمالية وقوع حرب تكاد لا تقل دمارا عن تلك الحرب، لكن مهما كانت الفاجعة التي تنتظرنا، لا بد أننا سنتعافى منها بالتأكيد. ربما نكون حمقى، لكننا دائما ما نتمكن من تفادي السقوط في هاوية الجنون الشامل. ففي اللحظة الأخيرة، يفرض التعقل ذاته من جديد مترددا، غير أن الأمر ليس كذلك في حالة البشر الآخرين. (3) مستقبل السلالة
كلما طالت المدة التي قضيتها على الأرض الأخرى، زاد شكي في أنه لا بد من وجود اختلاف كامن هام بين السلالة البشرية هذه وبين السلالة البشرية التي أنتمي إليها. ومن الواضح أن هذا الاختلاف كان يتمثل بطريقة ما في التوازن. لقد كانت سلالتنا تتسم بوجه عام بدرجة أفضل من التكامل، وقدر أكبر من هبة المنطق السليم، مع نزعة أقل للانغماس في المغالاة من خلال الانفصام الذهني.
وربما يكون المثال الأبرز على المغالاة لدى البشر الآخرين هو ذلك الدور الذي كان يشغله الدين في مجتمعاتهم الأكثر تقدما. لقد كان للدين سلطة أكبر بكثير من تلك التي كانت له على كوكبي، وقد كانت تعاليم الأنبياء القدماء قادرة على أن تشعل الحماسة حتى في قلبي الغريب فاتر الهمة. غير أن الدين، الذي كنت ألاحظه حولي في المجتمع المعاصر، كان بعيدا كل البعد عن التنوير.
Неизвестная страница
يجب أن أبدأ بتوضيح أن حاسة التذوق قد أدت دورا عظيما في تطور الدين على الأرض الأخرى. وقد حظيت الآلهة القبلية بالطبع بسمات المذاق الأكثر تأثيرا في أفراد القبائل. وحين ظهرت عقائد التوحيد بعد ذلك، ارتبطت صفات الإله في القوة والحكمة والعدل والإحسان بوصف مذاقه. وفي الأدبيات الصوفية، غالبا ما كان الإله يشبه بالنبيذ القديم المعتق، وقد اقترحت بعض الروايات عن التجارب الدينية أن تلك النشوة المتعلقة بالتذوق تشبه، من نواحي عديدة، تلك المتعة الموقرة التي يجدها متذوقو النبيذ لدينا في تذوق بعض النبيذ النادر العتيق.
ومن سوء الحظ أنه نظرا إلى تعدد أنواع المذاق البشرية، فلم يكن هناك أي اتفاق واسع النطاق فيما يتعلق بمذاق الإله. شنت الحروب الدينية من أجل تحديد ما إذا كان مذاق الإله في فئة الحلو أم المالح، أو ما إذا كانت نكهته السائدة هي واحدة من العديد من السمات الذوقية التي لا يستطيع نوعي تصورها. أصر بعض المعلمين على أنه لا يمكن تذوقه إلا بالقدمين، بينما أصر آخرون على أنه لا يمكن تذوقه إلا باليدين أو الفم، وأصر غيرهم على أنه لا يمكن تذوقه إلا من خلال تلك التوليفة المعقدة اللطيفة من النكهات الذوقية والتي تعرف باسم الاتحاد العفيف، وهي نشوة حسية، جنسية الطابع في الأساس، يجري تحفيزها من خلال تأمل الاتصال مع الإله.
وأوضح معلمون آخرون أنه بالرغم من أنه يمكن تذوق الإله بالفعل، فإن جوهره لا يتجلى لأي أعضاء جسدية على الإطلاق، بل للروح المجردة فقط. وأوضحوا أيضا أن نكهته أكثر لطفا من نكهة المحبوب وأشهى منها؛ إذ إنها تتضمن أعطر النكهات البشرية وأكثرها روحانية، وما هو أكثر من ذلك دون نهاية.
وقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك كثيرا فصرحوا أنه لا ينبغي تصور الإله على أنه شخص على الإطلاق، بل على أنه بالفعل هذه النكهة. كان بفالتو يقول: «إما أن الإله هو الكون، أو أنه نكهة الإبداع التي تتخلل كل شيء.»
قبل ذلك بعشرة أو خمسة عشر قرنا، حين كان الدين، وفقا لمعلوماتي، يمثل أهمية كبرى، لم يكن هناك كنائس ولا كهنوت، غير أن الأفكار الدينية كانت تسيطر على حياة الناس بدرجة أجد أنها لا تصدق. بعد ذلك ظهرت الكنائس والكهنوت لتؤدي دورا هاما في الحفاظ على ما كان يبدو الآن أنه وعي ديني متضائل. وبعد فترة لاحقة سبقت الثورة الصناعية بقرون قليلة، سيطر الدين المؤسسي على معظم الشعوب المتحضرة، حتى إنها كانت تنفق ثلاثة أرباع الدخل الكلي على صيانة المؤسسات الدينية. وبالطبع كانت الطبقات العاملة، التي استعبدها الملاك في مقابل مبلغ زهيد، تعطي الجزء الأكبر من أجورها الهزيلة لرجال الدين وتعيش في بؤس مهين ما من مبرر له.
أحدث العلم والصناعة إحدى تلك الثورات الفكرية المفاجئة والمتطرفة والتي كانت من السمات المميزة للبشر الآخرين. حطمت الكنائس جميعها تقريبا أو حولت إلى مصانع مؤقتة أو متاحف صناعية. الإلحاد، الذي كان سببا للاضطهاد قبل وقت قريب، قد أصبح أمرا شائعا، وتحولت أفضل العقول إلى اللاأدرية. بالرغم من ذلك، فبعد فترة بدأت معظم الشعوب الصناعية تعود مرة أخرى إلى الدين، وقد كان ذلك على ما يبدو لمواجهة رعب الثقافة المادية والتي كانت أكثر سوادوية وتماديا مما كانت عليه لدينا بدرجة كبيرة. وتأسست العلوم الطبيعية على أساس روحاني. وأصبحت الكنائس القديمة مقدسة مرة أخرى، وتأسست العديد من الأنظمة الدينية الجديدة حتى إنها سرعان ما أصبحت في عدد دور السينما على كوكبنا. وقد استوعبت الكنائس الجديدة فن السينما بالطبع، وقدمت أفلاما متواصلة قد مزجت ببراعة بين الانغماس في الملذات الحسية والدعاية الكنسية.
في وقت زيارتي كانت الكنائس قد استعادت سلطتها الضائعة بأكملها. كانت الإذاعة تنافسها في وقت ما بالفعل، لكن الكنائس قد نجحت في استيعابها. كانت ما تزال على موقفها من رفض بث تجربة الاتحاد العفيف التي كانت قد اكتسبت حظوة جديدة بسبب الاعتقاد الشائع بأنها روحانية للغاية بما لا يتيح نقلها عبر الأثير. غير أن رجال الدين الأكثر تقدما قد اتفقوا على أنه إذا تأسس نظام «نعيم الإذاعة» العالمي ذات يوم، فقد يمكن التغلب على هذه الصعوبة. وفي هذه الأثناء، ظلت الشيوعية على عرفها اللاديني. بالرغم من ذلك، ففي البلدين الشيوعيين العظيمين، كانت «اللادينية» التي تنظم بصورة رسمية، تصير دينا في كل شيء خلا الاسم؛ فقد صارت لها مؤسساتها وكهنوتها وطقوسها ومبادئها الأخلاقية ونظام الغفران الخاص بها ومعتقداتها الميتافيزيقية والتي لم تكن أقل في الطابع الخرافي بالرغم من طبيعتها المادية الخالصة. أما نكهة الإله فقد استبدل بها نكهة الطبقة العاملة.
لقد كان الدين إذن قوة حقيقية للغاية في حياة هذه الشعوب جميعها. بالرغم من ذلك، فقد كان ثمة شيء محير في ورعهم. لقد كان صادقا من جانب ما، بل نافعا أيضا؛ ففي الإغراءات الشخصية القليلة والاختيارات الأخلاقية النمطية والواضحة للغاية، كان البشر الآخرون يلتزمون بما يمليه الضمير عليهم أكثر مما يلتزم به نوعي بدرجة كبيرة. غير أنني قد اكتشفت أن الإنسان الآخر النموذجي المعاصر لا يلتزم بما يمليه عليه ضميره إلا في المواقف التقليدية، أما في المواقف التي تعكس الحس الأخلاقي الأصيل؛ فقد كان يفتقر إلى الضمير على نحو غريب؛ ولهذا فبالرغم من أن السخاء العملي والرفقة السطحية كانا أكثر من المعتاد لدينا، فإن أكثر أشكال الاضطهاد العقلي شيطانية كانت تقترف دون أي تأنيب للضمير. كان على الأفراد الأكثر حساسية أن يأخذوا حذرهم على الدوام، وكانت الأنواع الأعمق من الحميمية والاعتماد المشترك غير مستقرة ونادرة. في هذا العالم الشغوف بالاجتماعية، كانت الوحدة تلاحق الروح. لقد كان البشر «يجتمعون معا» باستمرار، لكنهم لم يجتمعوا حقا قط. كان الجميع مرتعبين من الاختلاء بأنفسهم، ومع ذلك، فبالرغم من الاعتقاد العالمي بأهمية الرفقة، ظلت هذه الكائنات الغريبة بعيدة بعضها عن بعض، كالنجوم، حتى عندما يكونون معا؛ فكل منهم كان يبحث في عيني جاره عن صورة نفسه، ولم ير أي شيء غيرها قط، وإن رأى غيرها، ارتعب وغضب غضبا شديدا.
من الحقائق المحيرة أيضا بشأن الحياة الدينية لدى البشر الآخرين في وقت زيارتي، هي أنه بالرغم من أن الجميع كانوا مؤمنين وكان الكفر يلقى بالرعب، فقد كان التوجه العام نحو الإله تجاريا يوحي بالازدراء. لقد افترض البشر أنهم يستطيعون شراء نكهة الإله إلى الأبد بالمال أو بالطقوس. وعلاوة على ذلك، فالإله الذي كانوا يعبدونه باللغة الرائعة المتأملة التي تنتمي إلى عصر سابق، أصبح يصور الآن على أنه صاحب عمل عادل لكنه غيور أو والد متساهل أو حتى كمحض طاقة مادية. أما الوقاحة الأكبر فقد تمثلت في الاعتقاد بأن الدين لم يكن على هذه الدرجة من الانتشار والاستنارة في أي عصر سابق. لقد ساد اعتقاد حظي باتفاق العالم بأكمله تقريبا بأن فهم التعاليم العميقة التي تعود إلى عصر النبوة بمعانيها الأصلية التي قصدها الأنبياء أنفسهم، لم يبدأ سوى الآن. فقد زعم الكتاب والمذيعون المعاصرون بأنهم يعيدون تأويل النصوص الدينية لتناسب الاحتياجات الدينية المستنيرة في عصر كان يسمي نفسه ب «عصر الدين العلمي.» والآن بعد الاستسلام الذي كان يميز حضارة البشر الآخرين قبل اندلاع الحرب، كنت أشعر عادة بوجود تململ وقلق غامضين فيما بينهم. لا شك أن الناس في معظم الأحوال راحوا يباشرون أمورهم بالاهتمام المستغرق القانع ذاته مثلما هي الحال على كوكبي. لقد كانوا منشغلين للغاية بكسب الرزق والزواج وإقامة الأسرة ومحاولة استغلال كل منهم للآخر، بما لا يترك وقتا للتشكك الواعي بشأن الهدف من الحياة. بالرغم من ذلك، فكثيرا ما كانت تبدو عليهم تصرفات من نسي شيئا مهما للغاية وهو يحاول تذكره ببالغ الجهد، أو من كان واعظا مسنا يستخدم العبارات المؤثرة القديمة دون إدراك واضح لدلالتها. صرت أشك على نحو متزايد بأن هذه السلالة، بالرغم من انتصاراتها، كانت تعيش الآن على أفكار ماضيها العظيمة، وتتفوه بأفكار لم تعد تتمتع بالإحساس اللازم لفهمها، وتشيد بلسانها بمثل لم يعد من الممكن أن ترغب فيها بإخلاص، وتتصرف في إطار نظام من المؤسسات التي لم تكن لينجح معظمها إلا بواسطة عقول لها طابع أرقى بعض الشيء. وقد كنت أشتبه في أن هذه المؤسسات قد تأسست على يد سلالة لا تتمتع بقدر أكبر من الذكاء فحسب، بل بقدرة أقوى وأكثر شمولا على التعاون مما كان ممكنا في ذلك الوقت على الأرض الأخرى. لقد بدا أنها كانت تتأسس على افتراض أن البشر عطوفون في المجمل ومنطقيون ويتمتعون بالقدرة على ضبط النفس.
كثيرا ما سألت بفالتو عن هذا الموضوع، لكنه كان يتجنب سؤالي على الدوام. ويجب أن أذكر أنه بالرغم من قدرتي على الوصول إلى جميع أفكاره ما دام لم يرغب قطعا في حجبها، فقد كان يستطيع دوما أن يفكر على انفراد إذا بذل مجهودا خاصا. طالما شككت بأنه يخفي شيئا عني إلى أن أخبرني أخيرا بالحقائق الغريبة والمأساوية.
Неизвестная страница
كان ذلك بعد أيام قليلة من قصف عاصمة بلده. رأيت نتائج ذلك القصف عبر عيني بفالتو والنظارات الواقية في قناع الغاز الذي كان يرتديه. لم نشهد الحادث المرعب نفسه، لكننا حاولنا الرجوع إلى المدينة للمشاركة في أعمال الإنقاذ. لم يكن هناك سوى قدر ضئيل يمكن القيام به. كانت الحرارة التي ما تزال تشع من قلب المدينة المتوهج عظيمة للغاية حتى إننا لم نستطع أن نخترق ما وراء الضاحية الأولى. وحتى هناك كانت الشوارع مدمرة تغص بالمباني المنهارة. وظهرت الأجساد البشرية مسحوقة ومحترقة هنا وهناك بين كتل حجارة البناء الساقطة. اختفت الغالبية العظمى من السكان تحت الأنقاض، ورقد العديد منهم في المساحات المفتوحة مختنقين بالغاز. تجولت فرق الإنقاذ دون جدوى، وبين سحب الدخان، كانت الشمس الأخرى تظهر بين الحين والآخر مع نجم نهاري.
بعد التسلق بين الأطلال لبعض الوقت، ساعيا إلى تقديم المساعدة دون جدوى، جلس بفالتو. بدا أن الخراب المحيط بنا قد «فك عقدة لسانه»، إذا جاز لي أن أستخدم هذه العبارة للتعبير عن الصراحة المفاجئة في الإفصاح لي عن تفكيره. كنت قد قلت شيئا مفاده أن العصور المستقبلية سوف تنظر إلى كل هذا الجنون والدمار في الماضي بدهشة. تنهد الرجل عبر قناع الغاز الذي كان يرتديه وقال: «الأرجح أن سلالتي التعيسة قد أهلكت الآن نفسها إلى الأبد دون رجعة.» اعترضت على قوله؛ ذلك أنه بالرغم من أن مدينتنا هي الأربعون من المدن التي دمرت، فلا بد أن الانتعاش سيأتي ذات يوم، وستكون هذه السلالة قد تجاوزت هذه الأزمة أخيرا، وتخطو إلى الأمام وهي تزداد قوة على قوة. حينها أخبرني بفالتو بالأمور الغريبة التي قال إنه قد هم بإخباري بها مرات عديدة لكنه كان يمتنع دائما عن ذلك. وبالرغم من أن العديد من العلماء والطلاب في المجتمع العالمي المعاصر قد كان يساورهم شك غامض بشأن الحقيقة، فلم يكن يعرفها بوضوح سواه مع قلة آخرين.
قال: إن النوع كان يخضع على ما يبدو لتقلبات طبيعية غريبة وطويلة الأمد، تقلبات قد استمرت إلى ما يقرب من عشرين ألف عام. بدا أن جميع السلالات في جميع أنواع المناخ تتمتع بهذا الإيقاع الشاسع للروح وتعاني منه في الوقت ذاته. كان السبب مجهولا، ورغم أنه بدا أنه يعود لقوة تؤثر في الكوكب بأكمله في الوقت ذاته، ربما كان ينبع في حقيقة الأمر من نقطة انطلاق واحدة لكنه ينتشر بسرعة في جميع البلاد. منذ وقت قريب للغاية، اقترح أحد العلماء المتقدمين أن السبب قد يعود إلى اختلافات في شدة «الأشعة الكونية». وقد أثبتت الأدلة الجيولوجية أن تلك التقلبات في الإشعاع الكوني قد حدثت بالفعل، وربما كان السبب فيها هو حدوث اختلاف في عنقود مجاور من النجوم الصغيرة السن. كان لا يزال من غير المؤكد ما إذا كان هذا الإيقاع النفسي قد تصادف مع هذا الإيقاع الفلكي أم لا، لكن العديد من الحقائق كانت تؤدي إلى الاستنتاج بأن الروح البشرية تتدهور مع زيادة درجة العنف في هذه الأشعة.
لم يكن بفالتو مقتنعا بهذه القصة. لقد كان يميل بصفة عامة إلى الرأي القائل بأن التفاوت في عقلية البشر كان يعود إلى أسباب داخلية عميقة. وأيا كان التفسير الحقيقي، فمن شبه المؤكد أن درجة عالية من الحضارة قد تحققت مرات عديدة في الماضي، وأن ثمة تأثيرا قويا قد أضعف من النشاط العقلي للنوع البشري مرارا وتكرارا. وفي حضيض هذه الموجات الضخمة، كان البشر الآخرون يهوون إلى حالة من البلادة العقلية والروحانية هي أكثر انحطاطا من أي شيء قد عرفته سلالتي البشرية منذ أن ظهرت من الأنواع الأدنى من البشر. بالرغم من ذلك، ففي ذروة الموجة، يبدو أن القدرات الفكرية للبشر، ونزاهتهم الأخلاقية وكذلك بصيرتهم الروحانية كانت تسمو إلى درجة يجب أن نعترف بأنها تفوق قدرات البشر.
مرة تلو الأخرى، كانت السلالة تنبثق من الوحشية، وتجتاز مرحلة الثقافة الهمجية لتدخل في مرحلة من البراعة والقدرة على الإحساس على مستوى العالم. شعوب بأكملها كانت تتمتع في الوقت ذاته بقدرة متزايدة باستمرار على الكرم ومعرفة الذات وضبطها وكذلك على التفكير المتبصر المحايد، والمشاعر الدينية النقية.
ونتيجة لذلك، كان العالم يزدهر بأكمله في غضون قرون قليلة بمجتمعات حرة وسعيدة. كان البشر العاديون يتمتعون بصفاء ذهني منقطع النظير، ومن خلال العمل الجماعي، يتخلصون من جميع أشكال الظلم الاجتماعي الفادح، وأعمال القسوة الفردية. الأجيال اللاحقة التي تتمتع بالتعقل الأصيل وتنعم ببيئة مواتية، كانت تخلق عالما طوباويا تسكنه كائنات يقظة.
بعد فترة قصيرة، ينقض الغزل شيئا فشيئا، ويتبع العصر الذهبي بعصر فضي. بعد العيش على إنجازات الماضي، يفقد قادة الفكر أنفسهم في غابة من الإبهام، أو يسقطون منهكين إلى الركاكة. في الوقت نفسه، يتراجع الحس الأخلاقي. يصبح البشر في المجمل أقل صدقا وأقل اهتماما بشأن بالبحث عن الذات، وأقل حساسية لاحتياجات الآخرين، أي أنهم يصبحون في واقع الأمر أقل قدرة على الشعور بالاتحاد مع الآخرين. النظام الاجتماعي الذي كان يعمل بكفاءة ما دام المواطنون يتمتعون بمستوى معين من الإنسانية يقتلعه الظلم والفساد. يبدأ الطغاة ونظم حكم الأقلية الاستبدادية في تحطيم الحرية، وتمنحهم الطبقات المتشبعة بالكراهية إلى حد الجنون عذرا جيدا لذلك. وشيئا فشيئا، بالرغم من أن المنافع المادية للحضارة قد تبقى متقدة على مدار قرون، سيخبو لهيب الروح إلى محض ومضة في قلة من الأفراد المتفرقين. ثم تأتي من بعد ذلك الهمجية المحضة، ويتبعها حضيض الوحشية الحيواني.
بدا في المجمل أن قمم الموجات الأحدث قد حققت إنجازات أكبر من سابقاتها في الماضي «الجيولوجي،» أو هذا ما أقنع به بعض العلماء في مجال علم الإنسان أنفسهم على الأقل. لقد اعتقدوا بيقين أن ما وصلت إليه الحضارة الحالية من ذروة هي الأكثر براعة على الإطلاق، وأن أفضل ما فيها لم يأت بعد، وأن معرفتها العلمية الفريدة ستكتشف كيفية الحفاظ على عقلية السلالة من تكرار التدهور.
لا شك بأن الوضع الحالي الذي قد وصل إليه النوع كان استثنائيا؛ فلم يذكر أن العلم أو الميكنة قد تقدما إلى مثل هذه الدرجة في أي من الدورات السابقة. إن ما يمكن استنتاجه من الأطلال المبعثرة للدورة السابقة أن الاختراعات الميكانيكية لم تتجاوز قط تلك الميكنة البدائية التي عرفناها نحن في منتصف القرن التاسع عشر. أما الدورات الأسبق، فقد كان من المعتقد أن ثوراتها الصناعية قد توقفت عند مراحل أكثر بدائية.
والآن، فبالرغم من أن الدوائر الفكرية كانت تفترض بصفة عامة أن الأفضل لم يأت بعد، فقد كان بفالتو وأصدقاؤه مقتنعين بأن أوج الموجة قد حدث بالفعل قبل قرون عديدة. كانت الغالبية العظمى من البشر الآخرين ترى بالطبع أن العقد السابق على الحرب هو الأفضل والأكثر تحضرا من أي عصر مضى؛ فقد كانوا يرون أن الحضارة والميكنة هما الشيء نفسه، ولم تحدث مثل هذه الدرجة من التفوق في الميكنة من قبل. كانت مزايا الحضارة العلمية جلية واضحة. لقد نالت الطبقة المحظوظة قدرا أكبر من الراحة، ونعمت بصحة أفضل، ومكانة أرفع، وفترة أطول من الشباب، ونظام شاسع ومعقد من المعرفة التقنية لا يستطيع أي فرد أن يعرف منه سوى الصورة العامة أو جزء ضئيل للغاية من تفاصيله. وعلاوة على ذلك، فزيادة وسائل الاتصال قد جعلت البشر جميعا على اتصال. كانت الخصائص المحلية للجماعات تختفي قبل الإذاعة والسينما والجراموفون. ومقارنة بهذه العلامات المبشرة، كان من السهل إغفال حقيقة أنه بالرغم من أن تحسين الظروف قد عزز من البنية البشرية، فإنه قد جعل جوهرها أقل استقرارا مما كان عليه في السابق؛ فقد كانت بعض الأمراض التحللية تزداد ببطء لكن على نحو أكيد. أمراض الجهاز العصبي على وجه التحديد قد أصبحت أكثر انتشارا وأكثر فتكا. كان الساخرون يقولون إن أعداد المستشفيات العقلية ستتخطى أعداد الكنائس، لكن الساخرين هم محض مهرجين. وقد كان العالم بأكمله يتفق تقريبا على أن كل شيء قد أصبح على ما يرام الآن، بالرغم من الحروب والمشكلات الاقتصادية والثورات الاجتماعية، وأن المستقبل سيكون أفضل.
Неизвестная страница