Салах ад-Дин Айюби
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Жанры
وقد كان من الممكن أن نمر على هذا الموقف مرورا سريعا، فليس به ما يستحق أن نقف عنده لعبرة أو مناقشة، ولكن حرصنا على إظهار حقيقة نفس صلاح الدين كما هي يجعلنا نسائل النفس: هل هناك في عمله بشأن شاور ما يؤخذ عليه؟ لقد قبض على الرجل وقيده حتى جاء أمر الخليفة العاضد بقتله، ولعله كان ذا يد في إنفاذ أمر العاضد، أو لعله - على الأقل - حبذ ذلك الأمر وسر له.
ألم يكن ذلك غدرا من صلاح الدين في أوله وقسوة في آخره؟ إنا لا نستطيع أن ننسى شخص شاور إذا أردنا مناقشة هذا الرأي؛ فقد كان صلاح الدين يحمل في نفسه عنه رأيا سيئا منذ الحملتين الأولى والثانية؛ إذ عرف لين ملمسه وخبث نيته وضعف نفسه الذي يغطي عليه بمكره، وقد انكشف له جشعه الذي كان يحاول إقناعه مضحيا بالدماء الغزيرة من أصحابه ومنافسيه على السواء، فهل عجيب مع ذلك أن يكره صلاح الدين مثل هذا الرجل ويسعى في تطهير مصر منه؟ أليس من الطبيعي أن تخزه تلك البسمات التي كان يراها على وجهه المخادع وهو يعلم ما انطوى تحتها؟ وإذا هو رأى مماطلته ومداهنته أليس من المتوقع أن تثور نفسه الحرة الصريحة التي غذاها هواء الجبال والصحراء ولم تعرف إلا الحقيقة الجاهمة في ميادين الموت التي كان يخوضها؟ وإذا هو سمع الإشاعات عن نية ذلك الرجل الغدر بعمه أسد الدين، أما كان واجبه أن يتخذ الحيطة منه وهو من يعرف عنه الخبث والغدر؟ حقا لقد احتقر شيركوه أن يؤاخذ شاور بما يشاع عنه، وتكبر أن يأبه بالخطر الذي كان يهدده من ناحيته، فكان في ذلك مثله مثل من يرى الحية تريد أن تنهشه فلا يرضى لها إلا عقب نعله يدفع به عن نفسه أمامها، ولكن شجاعة شيركوه وكبره شيء وعدالة موقف صلاح الدين شيء آخر؛ فقد أخذته الحفيظة فعزم على أن يوقف ذلك المرائي عند حده، فأسره مع جماعة من إخوانه ولكنه لم يقتله، فإذا كان قتله ذنبا فالذنب إذن على الخليفة العاضد الذي ألح في قتله وأمر به غير مرة . على أن صلاح الدين لو قتله لما كان آثما ولا معتديا؛ فإن شاور رجل قل أن تجد في التاريخ من استحق القتل مثله، ولا من يكون قاتله أشد رضاء عن نفسه وأسلم من تأنيب الضمير والندم؛ فهو رجل أثار حربا من أجل الوزارة بمصر، وبعد أن نصره جيش قتل من قتل من رجاله وأبطاله رجع يغدر به ويستنصر عليه بعدوه. وقد كان من الممكن أن يرضى الإنسان عن خطة شاور لو أنه اتخذ لنفسه جانبا وسار مخلصا فيه إلى غايته، ولكنه كان مثل اللاعب فوق الحبل يميل تارة ههنا وتارة ههنا يحاول أن يحفظ نفسه فوق مكانه الدقيق، فإذا نحن أردنا الحكم عليه وعلى خطته كان لا بد لنا أن نقر له بالمهارة في الانتفاع بمن حوله ومقدرته على التقلب مع الظروف والأحوال، ولكن ذلك كل ما يمكننا أن نقوله معه؛ فقد كان مثلا للسوء في تعامله وتعهده ونيته، ولقد كان صلاح الدين - باشتراكه في أسره - آلة من آلات العدالة الإلهية.
وقد اختار الخليفة العاضد - بعد قتل شاور - أسد الدين شيركوه ليكون وزيرا محله، وبالغ في إكرامه وخلع عليه وسماه الملك المنصور، وجعله قائد قواده وأمير جيوشه، غير أن الأجل لم يمهله ليتمتع بفقاعة مجد الدنيا أكثر من شهرين وخمسة أيام، وقد كان جديرا بمصر وملكها؛ لأنه في الواقع أكبر من دفع على غزوها وإليه أكبر الفضل في فتحها. وقد قيل: مات من الخناق من وراء تخمة؛ إذ كان كثير الأكل، وهو أقرب الآراء إلى التصديق. وقيل: مات من حلة مسمومة، وما أحرانا أن نلحق ذلك القول الأخير بأمثاله في أقاصيص الشرق، فما زال الخيال الشرقي ميالا إلى أن يحيط أبطاله بالأسرار والخفايا.
وعند موت شيركوه كان في الجيش جماعة من كبار الأمراء، وكان المتوقع أن يختار أحدهم وزيرا بعد شيركوه؛ فما كان من الممكن أن يتجاهل الخليفة العاضد وجود ذلك الجيش المحتل في بلاده. وكانت المظاهر كلها تدل على أن خليفة مصر ورجاله يحبون الإبقاء على مساعدة جيش نور الدين خوفا من تدخل الصليبيين؛ فقد كانوا يرون أنه إذا كان لا بد من احتلال أجنبي فليكن ذلك الجيش من المسلمين؛ ولهذا كان المنتظر أن يختار العاضد وزيرا له من كبار أمراء الجيش النوري، ولكن حدث ما لم يكن منتظرا؛ فإن السياسة المصرية إذ ذاك كانت لا تنسى أن تلجأ إلى الدهاء في مقابلة المصاعب الكثيرة التي كانت غير قادرة على حلها في ميدان الصراحة والقوة؛ ولهذا عمد الخليفة العاضد إلى حيلة يحسبها تضمن له مساعدة جيش نور الدين مع أمن شره واتقاء استبداده، فجرى على عادة المصريين في تفضيل الأصاغر لكي يكونوا أسهل قيادا، فتخطى الأمراء الكبار في الجيش واختار للوزارة ذلك الشاب الذي كان مظنة اللين والسهولة وهو صلاح الدين؛ فقد رأى الخليفة فيه ما ظنه ضعفا واستكانة؛ لما كان عليه من الحياء والاعتزال وقلة التظاهر، ولو كان الخليفة ورجاله أنفذ نظرا وأعمق فكرا لعرفوا أن تلك المظاهر إنما تخفي نفسا كبيرة تواقة؛ إذ إنه لم يكن سوى ذلك الجندي الذي أبلى بلاءه في موقعة البابين، وذلك القائد القادر الذي دافع عن الإسكندرية دفاعه المجيد مع حداثة سنه وشدة الظروف التي حوله. على أن الأمور جرت بقدر، وكان خطأ الخليفة العاضد ورجاله من حسن حظ مصر والإسلام، فأصبح صلاح الدين وزيرا لمصر وأميرا لجيوشها. (3) وزارة صلاح الدين
لم تكن بصلاح الدين رغبة في الوزارة؛ فقد كان يرى حرج موقفه فيها، ويعلم أنه لا بد يلقى فيها متاعب ومصاعب، فدونه أمور سياسة الدولة، وأي دولة! إنها مصر التي يتطاحن عليها جماعة من المستوزرين من الداخل يريدون السلطة، وجماعة من الصليبيين من الخارج لا يدعونها سالمة، وكان كذلك يستشف كراهة الأمراء الكبار لتوليته، ولم تكن نفسه من تلك النفوس الجشعة التي إذا لوح لها بالمجد طارت إليه طائشة، بل لعله كان يرى من نفسه غنى عن ذلك المجد بما يشعر به في نفسه من عظمة.
ولهذا نعلم أنه تردد كثيرا حتى رضي - بعد لأي - أن يكون عند اختيار الخليفة، فذهب إلى القصر وخلعت عليه الوزارة «من جبة وعمامة وغيرهما» ولقب بالملك الناصر.
ولسنا نجد غرابة في أنه قبل الوزارة بعد امتناع؛ فإنه فكر في نفسه وفي من حوله فلم يشعر بما يجعله يظن في غيره قوة ليست عنده، ورأى أمورا معوجة طمع أن يكون له فضل إصلاحها، ولعل آمالا أشرقت في نفسه عندما رأى صغر نفوس رجال الدولة التي أمامه، فأقدم وهو يشعر بثقل الأمانة وصعوبة المرتقى.
كان اختياره مغضبا لكبار الأمراء كما توقع؛ فلم يأبهوا به واعتزلوه، حتى سعى بينه وبينهم رجل من رجال الدين والسيف معا؛ وهو البطل الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري، فأقنعهم بأن يظلوا على الولاء له، حتى قبلوا جميعا إلا جماعة؛ أكبرهم عين الدولة الياروقي؛ فإنه خالف وعاد مع جماعته إلى الشام. وبقي صلاح الدين بمصر ليقابل أمورها واحدا فواحدا، ولسنا نسمع بعد ذلك عن خلاف بينه وبين الأمراء الذين رضوا بالخضوع له، فلم يظن أحد منهم أنه خضع لغير شريف، أو أذل في ذلك الخضوع، وقد رضي نور الدين عن ذلك الاختيار وفرح به، وصار يرسل إليه في مخاطباته: «إلى الأمير الأسفهسلار»؛ وذلك لقب معناه «الأمير الحاكم» كان يطلق في ذلك الوقت على كبار القواد.
ولكن إذا كان صلاح الدين قد أمن جانب من معه من الأمراء فإنه لم يأمن جانب الياروقي ومن معه في الشام وهم يرقبون منافسهم الفتى عن بعد.
غير صلاح الدين من نفسه بعد أن صارت له الوزارة، فامتنع عن اللهو والخمر واستشعر الجد في كل أعماله، وأخذ جوهره يظهر صافيا خالصا، وكان من أكبر الصفات التي ظهرت فيه كرمه في البذل لمن معه وتعففه عن أن ينال لنفسه شيئا.
Неизвестная страница