Салах ад-Дин Айюби
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Жанры
بعد ذلك عبر جيش الفرنج والمصريين إلى الغرب على غرة من شيركوه، فاضطر هذا أن يتقهقر إلى الجنوب حتى بلغ «البابين» في جنوب المنيا، وهناك على حافة السهل الغربية من قبل الصحراء وقف شيركوه بأصحابه واستعد للحرب رغم نصح بعض قواده ألا يفعل، وبدأت الموقعة العظيمة في 18 أبريل سنة 1167م، وكانت خطة شيركوه أن يجعل صلاح الدين في القلب، فيظن أعداؤه أنه هو شيركوه الذي في القلب حسب العادة المتبعة؛ إذ كان القلب عادة يوضع تحت قيادة رئيس الجيش، وتوقع شيركوه بذلك أن يكون القلب أول ما يتعرض لهجوم العدو. وأما هو فقد اختار جماعة من أبطاله المجربين وجعل منهم الجناح الأيمن، وأمر صلاح الدين إذا هو هوجم أن يتقهقر في نظام ولا يثبت ثبوتا جديا حتى يغتر الفرنج ويتبعوه وهكذا كان ما توقع؛ فإن كتلة جيش مصر والفرنج صدمت القلب صدمة قوية فتقهقر صلاح الدين بنظام وثبات، فتبعه الفرنج، وعند ذلك هبط شيركوه بالجناح الأيمن على جيش المصريين فحطمه حتى إذا ما عاد الفرنج من تتبع القلب وجدوا حلفاءهم منهزمين فاتبعوهم منهزمين كذلك. على أن شيركوه لم يتبع أعداءه؛ ولعل ذلك راجع إلى قلة عدد جيشه، فآثر أن يذهب إلى الإسكندرية، وقد تمكن من أخذها بمساعدة أهلها، وترك بها صلاح الدين بنصف الجيش، وعاد هو إلى الصعيد يجبي أمواله.
صورة لموقعة البابين.
وهناك في الإسكندرية ظهر غناء صلاح الدين وتكشفت مواهبه في الحرب وكيدها، وبدا منه ذلك الثبات وذلك السلطان على النفوس وتلك القوة التي ميزت خلقه في حياته المقبلة.
عاد المصريون والفرنج - بعد أن جمعوا أمرهم وأصلحوا ما أفسدته الهزيمة - إلى الإسكندرية فحاصروها من جهة البر، على حين كان أسطول الصليبيين يهاجم المدينة من جهة البحر، وقد استمر الحصار نحو شهرين ونصف شهر ونفدت الأقوات، ولم يكن بالناس من اطمئنان على تلك الحال من الحصار، وكان صلاح الدين في قلة من الجنود لا يستطيع غير أن يبث ما في نفسه من ثبات في قلوب من في المدينة من تجار وصناع وعامة؛ فكان حينا يعدهم بقدوم شيركوه بالزاد والثروة، وحينا يخيفهم إيقاع الإفرنج وقسوتهم، وحينا يرغبهم بالصبر والثبات في سبيل نصر الدين على أعداء ملة محمد، وكان في الوقت نفسه ينفذ الرسل إلى عمه يشكو إليه ما هو فيه من مشقة وعناء من أعدائه وأصحابه على السواء، وأخيرا جاءت البشرى بقدوم أسد الدين من الصعيد إلى القاهرة وحصاره لها. وعند ذلك رأى «أمري» أن النصر غير ممكن فاتفق مع شيركوه على أن تخلى الإسكندرية وأن يخرج الجيشان جميعا من مصر، وأن يأخذ شيركوه كل ما استولى عليه من الأموال ويزيد عليه خمسين ألف دينار. وهكذا انتهى دور الحرب الثاني على بقاء مصر خالصة لشاور، ولعله تبسم إذ ذاك وفرك يديه مهنئا نفسه عندما رأى نجاح لعبه بالقوتين العظيمتين؛ قوة الصليبيين وقوة الأتراك، وبقائه سالما بين تنافسهما، ولكن مثل هذا السلاح - سلاح الخداع والحيلة - قد يرتد على من يستعمله فيقتله، ولا شك أن صلاح الدين حمل لشاور في تلك المرة كثيرا من الكره ممزوجا بالاحتقار إذ أدرك حقيقته.
لم يقم الفرنج بما تعهدوا به؛ فأبقوا منهم حراسا على أبواب القاهرة، وضربوا على مصر جزية نحو مائة ألف دينار كل عام، وكانوا يطمعون في أكثر من هذا؛ أي إنهم كانوا لا يرضون بأقل من ملك مصر بعد أن عرفوا من ضعفها أكثر مما عرفه شيركوه.
وقد عادت جيوشهم بعد نحو عام من معاهدتهم لغزو مصر، وكان عزمهم هذه المرة عزم من لا يريد هوادة، غير أن شاور أظهر من المقاومة ما لم يكن منتظرا منه؛ فأحرق الفسطاط حتى لا تكون غنيمة لأعدائه الذين كانوا حلفاءه بالأمس، ومنذ ذاك الوقت ذهبت أول عاصمة إسلامية لمصر ولم يرجع إليها بعد ذلك شيء من روائها القديم؛ إذ ظلت النيران تأكلها أكثر من خمسين يوما.
وكان جماعة من المصريين - الذين حول الخليفة العاضد والذين كانوا أعداء شاور - يراسلون نور الدين لكي يأتي لمساعدة مصر على أعدائها، وكان نور الدين يميل إلى التدخل بطبيعة الأمر، فما هو إلا أن أرسل إليه العاضد يستنجد به حتى أخذ يعد جيشا لغزو مصر، وكانت الشروط التي وعد بها العاضد شروطا لا تبررها إلا الضرورة القصوى التي كانت بها مصر؛ فقد وعد نور الدين بثلث أرض مصر وإبقاء جيش احتلال مع شيركوه فيها، وأن يقطع الجنود أرضا خارجة عن ثلث البلاد الموعود به لنور الدين.
أما شاور فإنه لم ينس أن يلجأ إلى الحيلة منذ رأى نفسه بين عدوين لا حظ له مع أيهما، فأحب أن يعمل على صرف الفرنج عن البلاد بالمال، فجعل يفاوضهم حتى اتفق معهم على ألف ألف دينار يعطيها لهم ليرحلوا عنه، وعجل لهم منها مائة ألف، ولكنه لم يستطع أن يحمل إليهم سائر المال.
وبينما هو كذلك إزاء أعدائه الفرنج كان نور الدين وشيركوه يسرعان في الاستعداد حتى أتماه، وسار جيش من ستة آلاف بينهم كثيرون من الأمراء النابهين وفيهم صلاح الدين الذي سار مع الجيش على كره بعد إلحاح عمه وتكرر طلب نور الدين، ويظهر أن صلاح الدين كان غير راض عن الاشتراك في غزو هذه المرة؛ لما شهده في الحرب الماضية من الشدة لا سيما في الإسكندرية، ولكنه على أي حال، سار مع الجيش. وكان الجميع في مصر في أوائل يناير سنة 1169م/564ه، وكان «أمري» ملك الفرنج عند وصول جيش نور الدين واقفا يستنجز شاور وعده في المال المتفق عليه، فلما أتى جيش نور الدين ورأى «أمري» موقفه الحرج وهو بين شاور من جهة والجيش الإسلامي المغير من جهة أخرى لم يستطع البقاء، فعاد إلى الشام بغير أن يصطدم بالجيش القادم، وبقي شيركوه وحده بمصر، وكان الخليفة العاضد ظاهر الفرح به، فأكرمه وخلع عليه. وأما شاور فلم يكن راضيا عن وجود ذلك الجيش القوي على كثب منه، غير أنه بلع غيظه العظيم، ولم يظهر شيئا منه خوفا وعجزا، وجعل يماطل في إنفاذ الشروط التي اتفق عليها العاضد ونور الدين، وجعل يظهر اللين لكي يخلص من عبء ذلك التعهد الثقيل، وكان يريد أن يستميل شيركوه بالملق والمداهنة، بل لعله كان يفكر في أن يوقع به لولا مقاومة ابنه لذلك الرأي.
رأى شيركوه مماطلته، ويلوح أنه كان يميل إلى التساهل قليلا، ولكن كان هناك من يكره ذلك الرجل المخادع ويحتقره ويستشف الخيانة من وراء لين ظاهره؛ وذلك هو صلاح الدين. ففاتح عمه في القبض على ذلك الثعبان فلم يرض شيركوه، فعزم هو على أن يأخذ الأمر في يده. وفي ذات يوم خرج شاور على عادته إلى معسكر الجيش التركي خارج القاهرة فلم يجد شيركوه. وقيل له: إنه خرج لزيارة قبر الإمام الشافعي، فرأى شاور أن يذهب إليه هناك، وفي أثناء سيره قرب منه صلاح الدين ومعه عز الدين جورديك - أحد أمراء الجند - وقبضا عليه فأنزلاه إلى الأرض وقيداه، وانهزم أصحابه عنه ووضع في خيمة وحده، وما هو إلا أن بلغ نبأ القبض عليه لخليفته العاضد حتى أرسل يلح في طلب رأسه، فأطيع أمر الخليفة. وهكذا ذهب رجل كان يلعب بأمر مصر نيفا وست سنين، وانتهى كل مكره الذي كان يدل به بدخول جيش نور الدين واستيلائه على البلاد.
Неизвестная страница