الهدى ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ﴾ أي ما ربحت صفقتُهم في هذه المعارضةِ والبيع ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ أي وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك، لأنهم خسروا سعادة الدارين، ثم ضرب تعالى مثلين وضَّح فيهما خسارتهم الفادحة فقال ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَارًا﴾ أي مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة فيه كحال شخص أوقد نارًا ليستدفئ بها ويستضيء، فما اتقدت حتى انطفأت، وتركته ظلام دامس وخوفٍ شديد ﴿فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ أي فلما أنارتْ المكان الذي حوله فأبصر وأمِن، واستأنس بتلك النار المشعة المضيئة ذهب الله بنورهم أي أطفأهم الله بالكلية، فتلاشت النار وعُدم النور ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ أي وأبقارهم في ظلماتٍ كثيفة وخوف شديد، يتخبطون فلا يهتدون قال ابن كثير: ضرب الله للمنافقين هذا المثل، فشبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى، بمن استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله.
. فبينا هو كذلك إِذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالةً على أنهم آمنوا ثم كفروا، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل خير، ولا يعرفون طريق النجاة ﴿صُمٌّ﴾ أي هم كالصم لا يسمعون خيرًا ﴿بُكْمٌ﴾ أي كالخرص لا يتكلمون بما ينفعهم ﴿عُمْيٌ﴾ أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي لا يرجعون عما هم فيه من الغي والضلال، ثم ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادة في الكشف والإِيضاح فقال ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء﴾ أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد، أظلمت له الأرض، وأرعدت له السماء، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية، ورعدٌ قاصف، وبرقٌ خاطف ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق﴾ أي يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم يظنون أن ذلك ينجيهم ﴿حَذَرَ الموت﴾ أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة ﴿والله مُحِيطٌ بالكافرين﴾ جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم بقدرته، وهم تحت إرادته ومشيئته لا يفوتونه، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من كل جانب ﴿يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ أي يقارب البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾ أي وإذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن السير وثبتوا في مكانهم. . وفي هذا تصوير لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإِذا صادفوا من البرق لمعة - مع خوفهم أن يخطف أبصارهم - انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ يسيرة وإِذا خفي وفتر لمعانة وقفوا عن السير، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في حفرة ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ أي لو أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم، وفي ضوء البرق فأعمارهم وذهب بأبصارهم ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي إِنه تعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء قال ابن جرير: إنما
1 / 31