بَيْنَ يَدَي السُّوَرَة: هذه السورة الكريمة مكية وآياتها سبعٌ بالإجماع، وتسمى «الفاتحة» لافتتاح الكتاب العزيز بها حيث إنها أول القرآن في الترتيب لا في النزول، وهي - على قصرها ووجازتها - قد حوت معاني القرآن العظيم، واشتملت على مقاصده الأساسية بالإجمال، فهي تتناول أصول الدين وفروعه، تتناول العقيدة، والعبادة، والتشريع، والاعتقاد باليوم الآخر، والإيمان بصفات الله الحسنى، وإفراده بالعبادة والاستعانة والدعاء، والتوجه إليه جلَّ وعلا بطلب الهداية إلى الدين الحق والصراط المستقيم، والتضرع إليه بالتثبيت على الإيمان ونهج سبيل الصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم والضالين، وفيها الاخبار عن قصص الأمم السابقين، والاطلاع على معارج السعداء ومنازل الأشقياء، وفيها التعبد بأمر الله سبحانه ونهيه، إلى غير ما هنالك من مقاصد وأغراض وأهداف، فهي كالأم بالنسبة لبقية السور الكريمة ولهذا تسمّى «أم الكتاب» لأنها جمعت مقاصدة الأساسية.
فضْلَهَا «أ - روى الإمام أحمد في المسند أن» أبيَّ بن كعب «قرأ على النبي ﷺ َ أم القرآن فقال رسول الله ﷺ َ:» والذي نفسي بيده ما أُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، وهي السبع المثاني والقرآن العظيمُ الذي أوتيتهُ «فهذا الحديث الشريف يشير إلى قوله تعالى في سورة الحجر ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ المثاني والقرآن العظيم﴾ [الآية: ٨٧] .
ب - وفي صحيح البخاري أن النبي ﷺ َ قال لأبي سعيد بن المعلَّى:» لأعلمنَّك سورة هي أعظم السور في القرآن: الحمد لله رب العالمين، هي السبعُ المثاني والقُرآن العظيم الذي أوتيتُه «.
التسِميَة: تسمى» الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والشافية، والوافية، والكافية، والأساس، والحمد «وقد عدّدها العلامة القرطبي وذكر أن لهذه السورة اثني عشر إسمًا.
اللغة: ﴿الحمد﴾ الثناء بالجميل على جهة التعظيم، والتبجيل مقرونًا بالمحبة وهو نقيض الذم وأعمُّ من الشكر، لأن الشكر يكون مقابل النعمة بخلاف ﴿اللَّهِ﴾ اسم علم للذات المقدسة لا
1 / 18
يشاركه فيه غيره، قال القرطبي: هذا الاسم ﴿الله﴾ أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها، وهو اسم للموجود الحق، الجامع لصفات الإلهية، المنعوت بنعوت الربوبية، المنفرد بالوجود الحقيقي لا إله إلا هو سبحانه ﴿رَبِّ﴾ الربّ: مشتق من التربية وهي إصلاح شئون الغير ورعاية أمره قال الهروي:» يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربَّه ومنه الربانيون لقيامهم بالكتب «والربُّ يطلق على عدة معان وهي» المالك، والمصلح، والمعبود، والسيد المطاع «﴿العالمين﴾ العالم: اسم جنس لا واحد له من لفظه كالرهط، وهو يشمل: الإنس والجن والملائكة والشياطين كذا قال الفراء، وهو مشتق من العلامة لأن العالم علامة على وجود الخالق جل وعلا ﴿الرحمن الرحيم﴾ صفتان مشتقتان من الرحمة.
وقد روعي في كل من ﴿الرحمن﴾ و﴿الرحيم﴾ معنى لم يراع في الآخر فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة لأن «فَعْلان» صيغة مبالغة في كثرة الشيء وعظمته ولا يلزم منه الدوام كغضبان وسكران، والرحيم بمعنى دائم الرحمة لأن صيغة فعيل تستعمل في الصفات الدائمة ككريم وظريف فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائم الإِحسان.
قال الخطابي: الرحمن ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم وعمَّت المؤمن والكافر، والرحيم خاص بالمؤمن كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٤٣]، ﴿الدين﴾ الجزاء ومنه الحديث (كما تدين تُدان) أي كما تفعل تُجزى ﴿نَعْبُدُ﴾ قال الزمخشري: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل ولذلك لم تستعمل إلا في الخضوع لله تعالى لأنه مولي أعظم النعم فكان حقيقًا بأقصى الخضوع ﴿الصراط﴾ الطريق وأصله بالسين من الاستراط بمعنى الاتبلاع كأن الطريق يبتلع السالك قال الشاعر:
شحنّا أرضهم بالخيل حتى ... تركناهم أَذلَّ من الصّراط
﴿المستقيم﴾ الذي لا عوج فيه ولا انحراف ﴿آمين﴾ أي استجب دعاءنا وهي ليست من القرآن الكريم إجماعًا.
التفِسير: علمنا الباري جلّ وعلا كيف ينبغي أن نحمده ونقدسه ونثني عليه بما هو أهله فقال ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي قولوا يا عبادي إذا أردتم شكري وثنائي الحمدلله، اشكروني على إِِحساني وجميلي إِليكم، فأنا الله ذو العكمة والمد والسؤدد، المتفرد بالخلق والإِيجاد، رب الإِنس والجن والملائكة، ورب السماوات والأرضين، فالثناء والشكر لله رب العالمين دون ما يُعبد من دونه ﴿الرحمن الرحيم﴾ أي الذي وسعت رحمته كل شيء، وعمَّ فضله جميع الأنام، بما أنعم على عباده من الخلق والرزق والهداية إلى سعادة الدارين، فهو الرب الجليل عظيم الرحمة دائم الإِحسان ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ أي هو سبحانه المالك للجزاء والحساب، المتصرف في يوم الدين تصرّف المالك في ملكه ﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩] ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ أي نخصَّك يا ألله بالعبادة، ونخصك بطلب شيئًا الإعانة، فلا نعبد أحدًا سواك، لك وحدك نذلُّ ونخضع ونستكين ونخشع، وإيَّاك ربنا نستعين على طاعتك ومرضاتك، فإِنك المستحق لكل إِجلال وتعظيم،
1 / 19
ولا يملك القدرة على عون أحدٌ سواك ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾ أي دلنا وأرشدنا يا رب إِلى طريقك الحق ودينك المستقيم، وثبتنا على الإِسلام الذي بعثت به أنبياءك ورسلك، وأرسلت به خاتم المرسلين، واجعلنا ممن سلك طريق المقربين ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ أي طريق من تفضّلت عليهم بالجود والإنعام، من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وَحَسُنَ أولئك رفيقًا ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين﴾ أي لا تجعلنا يا ألله من زمرة أعدائك الحائدين عن الصراط المستقيم، السالكين غير المنهج القويم، من اليهود المغضوب عليهم أو النصارى الضالين، الذين ضلوا عن شريعتك القدسية، فاستحقوا الغضب واللعنة الأبدية.
اللهم آمين.
البَلاَغَة: ١ - ﴿الحمد للَّهِ﴾ الجملة خبرية لفظًا إنشائية معنىً أي قولوا «الحمدلله» وهي مفيدة لقصر الحمد عليه تعالى كقولهم: الكرم في العرب.
٢ - ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فيه إلتفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى الكلام على الأصل لقال: إيّاه نعبد، وتقديم المفعول يفيد القصر أي لا نعبد سواك كما في قوله: ﴿فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠] .
٣ - قال في البحر المحيط: وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع:
الأول: حسن الافتتاح وبراعة المطلع.
الثاني: المبالغة في الثناء لإِفادة «أل» الاستغراق.
الثالث: تلوين الخطاب إذ صيغته الخبر ومعناه الأمر أي قولوا الحمد لله.
الرابع: الاختصاص في قوله ﴿للَّهِ﴾
الخامس: الحذف كحذف صراط من قوله ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾ تقديره غير صراط المغضوب عليهم وغير صراط الضالين.
السادس: التقديم والتأخير في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ .
السابع: التصريح بعد الإبهام ﴿الصراط المستقيم﴾ ثم فسره بقوله: ﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ .
الثامن: الالتفات في ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ .
التاسع: طلب الشيء والمراد به دوامه واستمراره في ﴿اهدنا الصراط﴾ أي ثبتنا عليه.
العاشر: السجع المتوازي في قوله: ﴿١٦٤٩;لرحمن الرحيم ... اهدنا الصراط المستقيم﴾ وقوله ﴿نَسْتَعِينُ ... الضآلين﴾ .
الفوَائِد: الأولى: الفرق بين ﴿الله﴾ و﴿الإله﴾ أن الأول اسم علم للذات المقدسة ذات الباري
1 / 20
جل وعلا ومعناه المعبود بحق والثاني معناه المعبود بحقٍ أو باطل فهو اسم يطلق على الله تعالى وعلى غيره.
الثانية: وردت الصيغة بلفظ الجمع «نعبد ونستعين» ولم يقل «إياك أعبد وإياك أستعين» بصيغة المفرد وذلك للإعتراف بقصور العبد عن الوقوف في باب ملك الملوك فكأنه يقول: أنا يا رب العبد الحقير الذليل، لا يليق بي أن أقف هذا الموقف في مناجاتك بمفردي، بل أنضم إلى سلك المؤمنين الموحّدين فتقبل دعائي في زمرتهم فنحن جميعًا نعبدك ونستعين بك.
الثالثة: نسبَ النعمة إلى الله ﷿ ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ولم ينسب إليه الإضلال والغضب فلم يقل: غضبتَ عليهم أو الذين أضللتَهم وذلك لتعليم العباد الأدب مع الله تعالى، فالشر لا ينسب إلى الله تعالى أدبًا وإن كان منه تقديرًا «الخير كله بيديك والشر لا ينسب إليك» .
1 / 21
خاتمة في بَيَان الأسَرار القُدْسِيّة في فاتِحَة الكِتاب العَزِيز
يقول شهيد الإسلام الشيخ حسن البنا في رسالته القيمة «مقدمة في التفسير» ما نصه: «لا شك أن من تدبَّر الفاتحة الكريمة رأى من غزارة المعاني وجمالها، وروعة التناسب وجلاله ما يأخذ بلبه، ويضيء جوانب قلبه، فهو يبتدئ ذاكرًا تاليًا متيمنًا باسم الله، الموصوف بالرحمة التي تظهر آثار رحمته متجددة في كل شيء، فإِذا استشعر هذا المعنى ووقر في نفسه انطلق لسانه بحمد هذا الإله ﴿الرحمن الرحيم﴾ وذكّره الحمد بعظيم نعمه وكريم فضله، وجميل آلائه البادية في تربيته للعوالم جميعًا، فأجال بصيرته في هذا المحيط الذي لا ساحل له، ثمّ تذكر من جديد أن هذه النعم الجزيلة والتربية الجليلة، ليست عن رغبةٍ ولا رهبة، ولكنها عن تفضل ورحمة، فنطق لسانه مرة ثانية ب ﴿الرحمن الرحيم﴾ ومن كمال هذا الإله العظيم أن يقرن الرحمن ب» العدل «ويذكّر بالحساب بعد الفضل فهو مع رحمته السابغة المتجددة سيدين عباده ويحاسب خلقه يوم الدين
﴿يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩] فتربيته لخلقه قائمة على الترغيب بالرحمة، والترهيب بالعدالة والحساب ﴿مالك يَوْمِ الدين﴾ وإذا كان الأمر كذلك فقد أصبح العبد مكلفًا بتحري الخير، والبحث عن وسائل النجاة، وهو في هذا أشد ما يكون حاجة إلى من يهديه سواء السبيل، ويرشده إلى الصراط المستقيم، وليس أولى به في ذلك من خالقه ومولاه فليلجأ إِليه وليعتمد عليه وليخاطبه بقوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ وليسأله الهداية من فضله إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم بمعرفة الحق واتباعه، غير المغضوب عليهم بالسلب بعد العطاء، والنكوص بعد الاهتداء، وغير الضالين التائهين، الذين يضلون عن الحق أو يريدون الوصول فلا يوقفون للعثور عليه، آمين. ولا جرم أن «آمين» براعة مقطع في غاية الجمال والحسن، وأي شيء أولى بهذه البراعة من فاتحة الكتاب، والتوجه إلى الله بالدعاء؟ فهل رأيت تناسقًا أدق، أو ارتباطًا أوثق، مما تراه، بين معاني هذه الآية الكريمة، وتذكر وأنت تهيم في أودية هذا الجمال ما يرويه رسول الله ﷺ َ عن ربه في الحديث القدسي «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. .» الحديث وآدم هذا التدبير والإنعام، واجتهد أن تقرأ في الصلاة وغيرها على مكث وتمهّل، وخشوع وتذلّل، وأن تقف على رؤوس الآيات، وتعطى التلاوة حقها من التجويد أو النغمات، من غير تكلف ولا تطريب، واشتغال بالألفاظ عن المعاني، فإن ذلك يعين على الفهم، ويثير ما غاض من شآبيب الدمع، وما نفع القلب شيء أفضل من تلاوة في تدبرٍ وخشوع.
1 / 22
التفسير: ابتدأت السورة الكريمة بذكر أوصاف المتقين، وابتداء السورة بالحروف العظيمة ﴿الم﴾ وتصديرها بهذه الحروف الهجائية يجذب أنظار المعرضين عن هذا القرآن، إِذ يطرق أسماعهم لأول وهلة ألفاظ غير مألوفة في تخاطبهم، فينتبهوا إِلى ما يُلقى إليهم من آياتٍ بينات، وفي هذه الحروف وأمثالها تنبيهٌ على «إعجاز القرآن» فإِن هذا الكتاب منظومٌ من عين ما ينظمون منه كلامهم، فإِذا عجزوا عن الإِتيان بمثله، فذلك أعظم برهان على إِعجاز القرآن. يقول العلامة ابن كثير ﵀: إِنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور بيانًا لإِعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وهو قول جمع من المحققين، وقد قرره الزمخشري في تفسيره الكشاف ونصره أتم نصر، وإِليه ذهب الإِمام «ابن تيمية» ثم قال: ولهذا كلُّ سورة افتتحت بالحروف، فلا بدَّ أن يذكر فيها الانتصار للقرآن، وبيانُ إعجازه وعظمته مثل ﴿الم ذَلِكَ الكتاب﴾ ﴿المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١ - ٢] ﴿الم تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم﴾ [لقمان: ١ - ٢] ﴿حم والكتاب المبين إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ
1 / 25
إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان: ١ - ٣] وغير ذلك من الآيات الدالة على إعجاز القرآن. ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ هذا القرآن المنزل عليك يا محمد هو الكتابُ الذي لا يدانيه كتاب ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي لا شك في أنه من عند الله لمن تفكر وتدبر، أو ألقى السمع وهو شهيد ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي هادٍ للمؤمنين المتقين، الذين يتقون سخط الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويدفعون عذابه بطاعته، قال ابن عباس: المتقون هم الذين يتقون الشرك، ويعملون بطاعة الله، وقال الحسن البصري: اتقوا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوْا ما افتُرض عليهم. . ثم بيَّن تعالى صفات هؤلاء المتقين فقال ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ أي يصدقون بما غاب عنهم ولم تدركه حواسهم من البعث، والجنة، والنار، والصراط، والحساب، وغير ذلك من كل ما أخبر عنه القرآن أو النبي ﵊ ُ ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاوة﴾ أي يؤدونها على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها، وخشوعها وآدابها قال ابن عباس: إقامتُها: إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ أي ومن الذي أعطيناهم من الأموال ينفقون ويتصدقون في وجوه البر والإِحسان، والآية عامة تشمل الزكاة، والصدقة، وسائر النفقات، وهذا اختيار ابن جرير، وروي عن ابن عباس أن المراد بها زكاة الأموال، قال ابن كثير: كثيرًا ما يقرن تعالى بين الصلاة والإِنفاق من الأموال، لأن الصلاة حقُّ الله وهي مشتملة على توحيده وتمجيده والثناء عليه، والإِنْفاقُ هو الإِحسان إلى المخلوقين وهو حق العبد، فكلٌ من النفقات الواجبة، والزكاة المفروضة داخل في الآية الكريمة ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أي يصدقونه بكل ما جئت به عن الله تعالى ﴿وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ أي وبما جاءت به الرسل من قبلك، لا يفرّقون بين كتب الله ولا بين رسله ﴿وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أي ويعتقدون اعتقادًا جازمًا لا يلابسه شك أو ارتياب بالدار الآخرة التي تتلو الدنيا، بما فيها من بعثٍ وجزاءٍ، وجنةٍ، ونار، وحساب، وميزان، وإِنما سميت الدار الآخرة لأنها بعد الدنيا ﴿أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ أي أولئك المتصفون بما تقدم من الصفات الجليلة، على نور وبيان وبصيرة من الله ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي وأولئك هم الفائزون بالدرجات العالية في جنات النعيم.
البَلاَغة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهًا من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - المجاز العقلي ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أسند الهداية للقرآن وهو من الإِسناد للسبب، والهادي في الحقيقة هو الله ربُّ العالمين ففيه مجاز عقلي.
٢ - الإِشارة بالبعيد عن القريب ﴿ذَلِكَ الكتاب﴾ للإِيذان بعلو شأنه، وبعد مرتبته في الكمال، فنُزِّل بُعْد المرتبة منزلة البعد الحسي.
٣ - تكرير الإِشارة ﴿أولئك على هُدًى﴾ ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ للعناية بشأن المتقين، وجيء بالضمير ﴿هُمُ﴾ ليفيد الحصر كأنه قال: هم المفلحون لا غيرهم.
٤ - التيئيس من إيمان الكفار ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فالجملة سيقت للتنبيه على غلوهم في الكفر والطغيان، وعدم استعدادهم للإِيمان، ففيها تيئيس وإِقناط من إِيمانهم.
1 / 26
٥ - الاستعارة التصريحية اللطيفة ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ شبَّه قلوبهم لتأبّيها عن الحق، واسماعهم وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغشَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، واستعار لفظ الختم والغشاوة لذلك بطريق الاستعارة التصريحية.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى صفاتِ المؤمنين في الآيات السابقة، أعقبها بذكر صفات الكافرين، ليظهر الفارق الواضح بين الصنفين، على طريقة القرآن الكريم في المقارنة بين الأبرار والفجار، والتمييز بينَ أهل السعادة وأهل الشقاوة «وبضدها تتميز الأشياء» . التفسِير: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ أي إن الذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسالة محمد ﷺ َ ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي يتساوى عندهم ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ أي سواءٌ أَحذرتهم يا محمد بن عذاب الله وخوفتهم منه أم لم تحذرهم ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لا يصدقون بما جئتهم به، فلا تطمع في إيمانهم، ولا تذهب نفسك تذهب نفسك عليهم حسرات، وفي هذا تسلية للنبي ﷺ َ عن تكذيب قوله له ... ثم بيَّن تعالى العلة في سبب عدم الإيمان فقال ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ أي طبع على قلوبهم فلا يدخل فيها نور، ولا يشرق فيها إيمان قال المفسرون: الختمُ التغطيةُ والطبعُ، وذلك أن القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طمست نور البصيرة فيها، فلا يكون للإِيمان إِليها مسلكٌ، ولا للكفر عنها مخلص كما قال تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥] ﴿وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ أي وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم غطاء، فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون، لأن أسماعهم وأبصارهم كأنها مغطَّاة بحجب كثيفة، لذلك يرون الحقَّ فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه قال أبو حيان: شبَّه تعالى قلوبهم لتأبيها عن الحقِّ، وأسماعهم لإِضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغطَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، وذلك لأنها كانت - مع صحتها وقوة إدراكها - ممنوعة عن قبول الخير وسماعه، وتلمح نوره، وهذا بطريق الاستعارة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ أي ولهم في الآخِرة عذاب شديدٌ لا ينقطع، بسبب كفرهم وإجرامهم وتكذيبهم بآيات الله.
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى صفاتِ المؤمنين في الآيات السابقة، أعقبها بذكر صفات الكافرين، ليظهر الفارق الواضح بين الصنفين، على طريقة القرآن الكريم في المقارنة بين الأبرار والفجار، والتمييز بينَ أهل السعادة وأهل الشقاوة «وبضدها تتميز الأشياء» . التفسِير: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ أي إن الذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسالة محمد ﷺ َ ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ﴾ أي يتساوى عندهم ﴿أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ أي سواءٌ أَحذرتهم يا محمد بن عذاب الله وخوفتهم منه أم لم تحذرهم ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ أي لا يصدقون بما جئتهم به، فلا تطمع في إيمانهم، ولا تذهب نفسك تذهب نفسك عليهم حسرات، وفي هذا تسلية للنبي ﷺ َ عن تكذيب قوله له ... ثم بيَّن تعالى العلة في سبب عدم الإيمان فقال ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ أي طبع على قلوبهم فلا يدخل فيها نور، ولا يشرق فيها إيمان قال المفسرون: الختمُ التغطيةُ والطبعُ، وذلك أن القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طمست نور البصيرة فيها، فلا يكون للإِيمان إِليها مسلكٌ، ولا للكفر عنها مخلص كما قال تعالى: ﴿بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥] ﴿وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ أي وعلى أسماعهم وعلى أبصارهم غطاء، فلا يبصرون هدى، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون، لأن أسماعهم وأبصارهم كأنها مغطَّاة بحجب كثيفة، لذلك يرون الحقَّ فلا يتبعونه، ويسمعونه فلا يعونه قال أبو حيان: شبَّه تعالى قلوبهم لتأبيها عن الحقِّ، وأسماعهم لإِضرابها عن سماع داعي الفلاح، وأبصارهم لامتناعها عن تلمح نور الهداية، بالوعاء المختوم عليه، المسدود منافذه، المغطَّى بغشاء يمنع أن يصله ما يصلحه، وذلك لأنها كانت - مع صحتها وقوة إدراكها - ممنوعة عن قبول الخير وسماعه، وتلمح نوره، وهذا بطريق الاستعارة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ أي ولهم في الآخِرة عذاب شديدٌ لا ينقطع، بسبب كفرهم وإجرامهم وتكذيبهم بآيات الله.
1 / 27
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى في أول السورة صفات المؤمنين، وأعقبها بذكر صفات الكافرين، ذكر هنا «المنافقين» وهم الصنف الثالث، الذين يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر، وأطنب بذكرهم في ثلاث عشرة آية لينبه إِلى عظيم خطرهم، وكبير ضررهم، ثم عقَّب ذلك بضرب مثلين زيادة في الكشف والبيان، وتوضيحًا لما تنطوي عليه نفوسهم من ظلمة الضلال والنفاق، وما يئول إليه حالهم من الهلاك والدمار.
اللغَة: ﴿يُخَادِعُونَ﴾ الخِداع: المكر والاحتيال وإِظهار خلاف الباطن، وأصله الإِخفاء ومنه سُمي الدهرُ خادعًا لما يخفي من غوائله، وسُمي المِخْدع مِخْدعًا لتستر أصحاب المنزل فيه ﴿مَّرَضٌ﴾ المرض: السُّقْم وهو ضد الصحة وقد يكون حسيًا كمرض الجسم، أو معنويًا كمرض النفاق ومرض الحسد والرياء، قال ابن فارس: المرضُ كلُّ ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علةٍ، أو نفاق: أو تقصير في أمر ﴿تُفْسِدُواْ﴾ الفساد: العدول عن الاستقامة وهو ضد الصلاح ﴿السفهآء﴾ جمع سفيه وهو الجاهل، الضعيف الرأي، القليل المعرفة، بمواضع المنافع والمضار، وأصل السَّفه، الخِفَّة، والسفيه: الخيف العقل قال علماء اللغة: السَّفه خفةٌ وسخافة رأى يقتضيان نقصان العقل، والحِلْمُ يقابله ﴿طُغْيَانِهِمْ﴾ الطغيان: مجاوزة الحد في كل شيء ومنه ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء﴾ [الحاقة: ١١] أي ارتفع وعلا وجاوز حده، والطاغية: الجبار العنيد ﴿يَعْمَهُونَ﴾ العَمَة: التحير والتردُّد في الشيء يقال: عَمِه يَعْمَه فهو عَمِه قال رؤبة: «أعمى الهدى بالحائرين العُمَّه» قال الفخر الرازي: العَمَهُ مثل العمى، إِلا أَن العَمَى عام في البصر والرأي، والعَمَه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه ﴿اشتروا﴾ حقيقة الاشتراء: الاستبدال، وأصله بذل الثمن لتحصيل الشيء المطلوب، والعرب تقول لمن استبدل شيئًا بشيء اشتراه قال الشاعر:
فإِن تزعميني كنتُ أجهلُ فيكم ... فإِني اشتريتُ الحلمَ بعدِك بالجهل
1 / 28
﴿صُمٌّ﴾ جمع أصم وهو الذي لا يسمع ﴿بُكْمٌ﴾ جمع أبكم وهو الأخرس الذي لا ينطق ﴿عُمْيٌ﴾ جمع أعمى وهو الذي فقد بصره ﴿صَيِّبٍ﴾ الصَيّبُ: المطر الغزير مأخوذ من الصوَّبْ وهو النزول بشدة قال الشاعر «سقتكِ روايا المُزْن حيثُ تصوب» ﴿الصواعق﴾ جمع صاعقة وهي نارٌ محرقة لا تمر بشيء إِلا أتت عليه، مشتقة من الصَّعْق وهو شدة الصوت ﴿السمآء﴾ السماء في اللغة: كلُّ علاكَ فأظلَّك، ومنه قيل لسقف البيت سماء، ويسمى المطر سماءً لنزوله من السماء قال الشاعر:
إِذا سقط السماء بأرضِ قومٍ ... رعيناه وإِن كانوا غِضابا
﴿يَخْطَفُ﴾ الخَطْفُ: الأخذ بسرعة ومنه ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة﴾ [الصافات: ١٠] وسُمِي الطير خَطّافًا لسرعته، والخاطف الذي يأخذ الشيء بسرعة شديدة.
سَبَبُ النّزول: قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في منافقي أهل الكتاب منهم «عبد الله بن أُبي ابن سلول، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس» كانوا إِذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق ويقولون: إنّا لنجد في كتابنا نعته وصفته.
التفسير: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله﴾ أي ومن الناس فريق يقولون بألسنتهم صدَّقنا بالله وبما أنزل على رسوله من الآيات البينات ﴿وباليوم الآخر﴾ أي وصدَّقنا بالبعث والنشور ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي وما هم على الحقيقة بمصدقين ولا مؤمنين، لأنهم يقولون ذلك قولًا دون اعتقاد، وكلامًا دون تصديق قال البيضاوي: هذا هو القسم الثالث المذبذب بين القسمين، وهم الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وهم أخبث الكفرة وأبغضهم إلى الله، لأنّهم موَّهوا الكفر وخلطوا به خداعًا واستهزاء، ولذلك أطال في بيان خبثهم وجهلهم، واستهزأ بهم وتهكَّم بأفعالهم، وسجَّل عليهم الضلال والطغيان، وضرب لهم الأمثال ﴿يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا﴾ أي يعملون عمل المخادِع بإِظهار ما أظهروه من الإِيمان مع إِصرارهم على الكفر، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين، وما عملوا أن الله لا يُخدع لأنه لا تخفى عليه خافية قال ابن كثير: النفاق هو إظهار الخير، وإِسرارُ الشر وهو أنواع: اعتقادي وهو الذي يخلّد صاحبه في النار، وعملي وهو من أكبر الذنوب والأوزار، لأن المنافق يخالف قولُه فعلَه، وسرُّه علانيته، وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لأن مكة لم يكن بها نفاق بل كان خلافه ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم﴾ أي وما يخدعون في الحقيقة إِلا أنفسهم لأن وبال فعلهم راجع عليهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي ولا يُحسّون بذلك ولا يفطنون إِليه، لتمادي غفلتهم، وتكامل حماقتهم ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا﴾ أي في قلوبهم شك ونفاق فزادهم الله رجسًا فوق رجسهم، وضلالًا فوق ضلالهم، والجملةُ دعائية قال ابن أسلم: هذا مرضٌ في الدين، وليس مرضًا في الجسد، وهو الشك الذي دخلهم في الإِسلام فزادهم الله رجسًا وشكًا ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ أي ولهم عذابٌ مؤلمٌ بسبب كذبهم في دعوى الإيمان، واستهزائهم بآيات الرحمن. . ثم شرع تعالى في بيان قبائحهم، وأحوالهم الشنيعة فقال ﴿وَإِذَا قِيلَ
1 / 29
لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض﴾ أي وإِذا قال لهم بعض المؤمنين: لا تسعوا في الأرض بالإِفساد بإِثارة الفتن، والكفر والصَدِّ عن سبيل الله قال ابن مسعود: الفسادُ في الأرض هو الكفرُ، والعملُ بالمعصية، فمن عصى الله فقد أفسد في الأرض ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ أي ليس شأننا الإِفسادُ أبدًا، وإنما نحن أناسٌ مصلحون، نسعى للخير والصلاح فلا يصح مخاطبتنا بذلك قال البيضاوي: تصوُّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض فكانوا كمن قال الله فيهم ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا﴾ [فاطر: ٨] ولذلك ردَّ الله عليهم أبلغ ردٍّ بتصدير الجملة بحرفيْ التأكيد ﴿أَلا﴾ المنبهة و﴿إنَّ﴾ المقررة، وتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، والاستدراك بعدم الشعور فقال ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ أي أَلاَ فانتبهوا أيها الناس، إِنهم هم المفسدون حقًا لا غيرهم، ولكنْ لا يفطنون ولا يحُسون، لانطماسِ نور الإِيمان في قلوبهم ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس﴾ أي وإِذا قيل للمنافقين: آمنوا إِيمانًا صادقًا لا يشوبه نفاقٌ ولا رياء، كما آمن أصحاب النبي ﵊ ُ، وأخلصوا في إيمانكم وطاعتكم لله ﴿قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء﴾ الهمزة للإِنكار مع السخرية والاستهزاء أي قالوا أنؤمن كإِيمان هؤلاء الجهلة أمثال «صهيب، وعمار، وبلال» ناقصي العقل والتفكير؟! قال البيضاوي: وإِنما سفَّهوهم لاعتقادهم فسادَ رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإِن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي كصهيب وبلال ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ أي ألا إِنهم هم السفهاء حقًا، لأن من ركب متن الباطل كان سفيهًا بلا امتراء، ولكن لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أبلغ في العمى، والبعد عن الهدى.
أكَّد وَنبَّه وحصر السفاهة فيهم، ثم قال تعالى منبهًا إلى مصانعتهم ونفاقهم ﴿وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا﴾ أي وإِذا رأوا المؤمنين وصادفوهم أظهروا لهم الإِيمان والموالاة نفاقًا ومصانعة ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ﴾ أي وإِذا انفردوا ورجعوا إِلى رؤسائهم وكبرائهم، أهلِ الضلالِ والنفاق ﴿قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ أي قالوا لهم نحن على دينكم وعلى مثل ما أنتم عليه من الاعتقاد، وإِنما نستهزئ بالقوم ونسخر منهم بإِظهار الإِيمان، قال تعالى ردًا عليهم ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ أي الله يجازيهم على استهزائهم بالإِمهال ثم بالنكال قال ابن عباس: يسخر بهم للنقمة منهم ويُملي لهم كقوله ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣] قال ابن كثير: هذا إِخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء، ومعاقبهم عقوبة الخداع، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه، فاللفظ متفق والمعنى مختلف، وإِليه وجهوا كل ما في القرآن من نظائر مثل ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] ومثل ﴿فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤] فالأول ظلم والثاني عدل ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي ويزيدهم - بطريق الإِمهال والترك - في ضلالهم وكفرهم يتخبطون ويتردّدون حيارى، لا يجدون إِلى ويزيدهم - منه سبيلًا لأن الله طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم، فلا يبصرون رشدًا ولا يهتدون سبيلًا ﴿أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى﴾ أي استبدلوا الكفر بالإيمان، وأخذوا الضلالة ودفعوا ثمنها
1 / 30
الهدى ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ﴾ أي ما ربحت صفقتُهم في هذه المعارضةِ والبيع ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ أي وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك، لأنهم خسروا سعادة الدارين، ثم ضرب تعالى مثلين وضَّح فيهما خسارتهم الفادحة فقال ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَارًا﴾ أي مثالهم في نفاقهم وحالهم العجيبة فيه كحال شخص أوقد نارًا ليستدفئ بها ويستضيء، فما اتقدت حتى انطفأت، وتركته ظلام دامس وخوفٍ شديد ﴿فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ أي فلما أنارتْ المكان الذي حوله فأبصر وأمِن، واستأنس بتلك النار المشعة المضيئة ذهب الله بنورهم أي أطفأهم الله بالكلية، فتلاشت النار وعُدم النور ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ﴾ أي وأبقارهم في ظلماتٍ كثيفة وخوف شديد، يتخبطون فلا يهتدون قال ابن كثير: ضرب الله للمنافقين هذا المثل، فشبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى، بمن استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله.
. فبينا هو كذلك إِذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالةً على أنهم آمنوا ثم كفروا، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل خير، ولا يعرفون طريق النجاة ﴿صُمٌّ﴾ أي هم كالصم لا يسمعون خيرًا ﴿بُكْمٌ﴾ أي كالخرص لا يتكلمون بما ينفعهم ﴿عُمْيٌ﴾ أي كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله ﴿فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ أي لا يرجعون عما هم فيه من الغي والضلال، ثم ثنَّى تعالى بتمثيل آخر لهم زيادة في الكشف والإِيضاح فقال ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء﴾ أي أو مثلهم في حيرتهم وترددهم كمثل قومٍ أصابهم مطر شديد، أظلمت له الأرض، وأرعدت له السماء، مصحوبٍ بالبرق والرعد والصواعق ﴿فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ أي في ذلك السحاب ظلماتٌ داجية، ورعدٌ قاصف، وبرقٌ خاطف ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق﴾ أي يضعون رءوس أصابعهم في آذانهم لدفع خطر الصواعق، وذلك من فرط الدهشة والفزع كأنهم يظنون أن ذلك ينجيهم ﴿حَذَرَ الموت﴾ أي خشية الموت من تلك الصواعق المدمرة ﴿والله مُحِيطٌ بالكافرين﴾ جملة اعتراضية أي والله تعالى محيط بهم بقدرته، وهم تحت إرادته ومشيئته لا يفوتونه، كما لا يفوتُ من أحاط به الأعداء من كل جانب ﴿يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ أي يقارب البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة ﴿كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ﴾ أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه ﴿وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ﴾ أي وإذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن السير وثبتوا في مكانهم. . وفي هذا تصوير لما هم فيه من غاية التحير والجهل، فإِذا صادفوا من البرق لمعة - مع خوفهم أن يخطف أبصارهم - انتهزوها فرصة فَخَطَوْا خطواتٍ يسيرة وإِذا خفي وفتر لمعانة وقفوا عن السير، وثبتوا في أماكنهم خشية التردي في حفرة ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ﴾ أي لو أراد الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم وذهب بأسماعهم، وفي ضوء البرق فأعمارهم وذهب بأبصارهم ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي إِنه تعالى قادر على كل شيء، لا يعجزه أحدٌ في الأرض ولا في السماء قال ابن جرير: إنما
1 / 31
وصف تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع، لأنه حذَّر المنافقين بأسه وسطوته، وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إِذهاب أسماعهم وأبصارهم قادر.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهًا من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
أولًا: المبالغة في التكذيب لهم ﴿وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ كان الأصل أن يقول: «وما آمنوا» ليطابق قوله من يقول «آمنا» ولكنه عدل عن الفعل إلى الاسم لإِخراج ذواتهم من عداد المؤمنين وأكده بالباء للمبالغة في نفي الإِيمان عنهم.
ثانيًا: الاستعارة التمثيلية ﴿يُخَادِعُونَ الله﴾ شبَّه حالهم مع ربهم في إِظهار الإِيمان وإِخفاء الكفر بحال رعيةٍ تخادع سلطانهم واستعير اسم المشبَّه به للمشبه بطريق الاستعارة.
ثالثًا: صيغة القصر ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ وهذا من نوع «قصر الموصوف على الصفة» أي نحن مصلحون ليس إِلاَّ.
رابعًا: الكناية اللطيفة ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ المرضُ في الأجسام حقيقة وقد كنى به عن النفاق لأن المرض فسادٌ للبدن، والنفاق فساد للقلب.
خامسًا: تنويع التأكيد ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون﴾ جاءت الجملة مؤكدة بأربع تأكيدات ﴿ألا﴾ التي تفيد التنبيه، و﴿إِنَّ﴾ التي هي للتأكيد، وضمير الفصل ﴿هُمُ﴾ ثم تعريف الخبر ﴿المفسدون﴾ ومثلها في التأكيد ﴿ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء﴾ وهذا ردٌّ من الله تعالى عليهم بأبلغ ردٌّ وأحكمه.
سادسًا: المشاكلة ﴿الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ سمَّى الجزاء على الاستهزاء استهزاءً بطريق المشاكلة وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى.
سابعًا: الاستعارة التصريحية ﴿اشتروا الضلالة بالهدى﴾ المراد استبدلوا الغيَّ بالرشاد، والكفر بالإِيمان فخسرت صفقتهم ولم تربح تجارتهم فاستعار لفظ الشراء للاستبدال ثم زاده توضيحًا بقوله ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ﴾ وهذا هو الترشيح الذي يبلغ بالاستعارة الذروة العليا.
ثامنا: التشبيه التمثيلي ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَارًا﴾ وكذلك ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء فِيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ شبه في المثال الأول المنافق بالمستوقد للنار، وإِظهاره الإِيمان بالإِضاءة، وانقطاع انتفاعه بانطفاء النار، وفي المثال الثاني شبَّه الإِسلام بالمطر لأن القلوب تحيا به كحياة الأرض بالماء، وشبَّه شبهات الكفار بالظلمات، وما في القرآن من الوعد والوعيد والبرق. . الخ.
1 / 32
تاسعًا: التشبيه البليغ ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ أي هم كالصم والبكم العمي في عدم الاستفادة من هذه الحواس حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه فأصبح بليغًا.
عاشرًا: المجار المرسل ﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم﴾ وهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء أي رؤوس أصابعهم لأن دخول الأصبع كلها في الأذن لا يمكن.
الحادي عشر: توافق الفواصل مراعاة لرءوس الآيات، وهذا له وقع في الأذن حسن، وأثر في النفس رائع مثل ﴿وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ﴿وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ الخ وهو من المحسنات البديعية.
الفوَائِد: الأولى: الغاية من ضرب المثل: تقريب البعيد، وتوضيح الغامض حتى يصبح كالأمر المشاهد المحسوس، وللأمثال تأثير عجيب في النفس
﴿وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ [العنكبوت: ٤٣] .
الثانية: وصف تعالى المنافقين في هذه الآيات بعشرة أوصاف كلها شنيعة وقبيحة تدل على رسوخهم في الضلال وهي (الكذب، الخداع، المكر، السَّفه، الاستهزاء الإِفساد في الأرض، الجهل، الضلال، التذبذب، السخرية بالمؤمنين) أعاذنا الله من صفات المنافقين.
الثالثة: حكمة كفه ﵊ ُ عن قتل المنافقين مع أنهم كفار وعلمه ﷺ َ بأعيان بعضهم ما أخرجه البخاري أن النبي ﷺ َ قال لعمر: «أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه)» .
لطيفَة: قال العلامة ابن القيم: تأمل قوله تعالى ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل: «ذهب الله بنارهم» مع أنه مقتضى السياق ليطابق أول الآية ﴿استوقد نَارًا﴾ فإِن النار فيها إشراق وإحراق، فذهب الله بما فيها من الإِشراق وهو «النور» وأبقى ما فيها من الإِحراق وهو «النارية» ! ﴿وتأمل كيف قال ﴿بِنُورِهِمْ﴾ ولم يقل بضوئهم، لأن الضوء زيادةٌ في النور، فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل﴾ ! وتأمل كيف قال ﴿ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ﴾ فوحَّد النور ثم قال ﴿وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ﴾ فجمعها، فإِن الحقَّ واحد هو صراط الله المستقيم، الذي لا صراط يوصل سواه، بخلاف طُرُق الباطل فإِنها متعددة ومتشعبة، ولهذا أفرد سبحانه «الحقَ» وجمع «الباطل» في آيات عديدة مثل قوله تعالى ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور﴾ [المائدة: ١٦] وقوله ﴿وَجَعَلَ الظلمات والنور﴾ [الأنعام: ١] وقوله ﴿وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣] فجمع سبل الباطل ووحَّد سبيل الحق.
1 / 33
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى الأصناف الثلاثة «المؤمنين، والكافرين، والمنافقين» وذكر ما تميزوا به من سعادة أو شقاوة، أو إيمان أو نفاق، وضرب الأمثال ووضَّح طرق الضلال أعقبه هنا بذكر الأدلة والبراهين على وحدانية ربِّ العالمين، وعَرَّف الناس بنعمة ليشكروه عليها، وأقبل عليهم بالخطاب ﴿يَاأَيُّهَا الناس﴾ وهو خطاب لجميع الفئات ممتنًا عليهم بما خلق ورزق، وأبرز لهم «معجزة القرآن» بأنصع بيان وأوضح برهان ليقتلع من القلوب جذور الشك والارتياب.
اللغَة: ﴿خَلَقَكُمْ﴾ الخلق: الإِيجاد والاختراع بلا مثال، وأصله في اللغة التقدير يقال: خَلَق النعل إذا قدَّرها وسوَّاها بالمقياس، وخلق الأديمَ للسقاء إذا قدَّره قال الحجاج ما خلقتُ إِلا فريتُ، ولا وعدتُ إِلا وفيتُ «أي ما قدرت شيئًا إِلا أمضيته، ولا وعدت بشيء إِلا وفيت به. ﴿فِرَاشًا﴾ الفراش: الوطاءُ والمهاد الذي يقعد عليه الإِنسان وينام ﴿بِنَآءً﴾ البناء: ما يُبنى من قبةٍ أو خباءٍ أو بيت ﴿أَندَادًا﴾ جمع نِدّ وهو الكفء والمثيل والنظير ومنه قول علماء التوحيد» ليس للهِ نِدٌّ ولا ضِدّ «قال حسان:
أتهجوه ولستَ له بندٍّ ... فشرُّكهما لخيركما الفِداء
وقال الزمخشري:» النِدُّ: المثل ولا يقال إلا للمخالف المناوئ قال جرير: أتمًا تجعلون إلىَّ ندًا؟ ﴿وَقُودُهَا﴾ الوَقْود: الحطب الذي توقد به النار قال القرطبي: الوَقود بالفتح الحطب، وبالضم مصدر بمعنى التوقد ﴿أُعِدَّتْ﴾ هيئت، وأعددنا هيأنا قال البيضاوي: ﴿أُعِدَّتْ﴾ هُيَئت لهم وجُعلت عُدَّة لعذابهم ﴿وَبَشِّرِ﴾ البشارة: الخبر السارُّ الذي يتغير به بشرة الوجه من السرور، وإِذا استعمل في الشر فهو تهكم مثل ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الانشقاق: ٢٤] ﴿أَزْوَاجٌ﴾ جمع زوج ويطلق على الذكر والأنثى ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ﴾ [البقرة: ٣٥] فالمرأة زوج الرجل، والرجل زوج المرأة قال الأصمعي: لا تكاد العرب تقول زوجة ﴿خَالِدُونَ﴾ باقون دائمون.
التفِسير: يقول تعالى منبهًا العبادَ إِلى دلائل القدرة والوحدانية ﴿يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ أي يا معشر بني آدم اذكروا نِعَم الله الجليلة عليكم، واعبدوا الله ربكم الذي ربَّاكم وأنشأكم بعد أن لم
1 / 34
تكونوا شيئًا، اعبدوه بتوحيده، وشكره، وطاعته ﴿الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ أي الذي أوجدكم بقدرته من العدم، وخلق من قبلكم من الأمم ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي لتكونوا في زمرة المتقين، الفائزين بالهدى والفلاح قال البيضاوي: لما عدَّد تعالى فِرَق المكلفين، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، هزًا للسامع، وتنشيطًا له، واهتمامًا بأمر العبادة وتفخيمًا لشأنها، وإِنما كثر النداء في القرآن ب ﴿يَاأَيُّهَا﴾ لاستقلاله بأوجهٍ من التأكيد، وكل ما نادى الله له عباده من حيث إِنها أمور عظام من حقها أن يتفطنوا لها، ويقبلوا بقلوبهم عليها وأكثرهم عنها غافلون حقيقٌ بأن يُنادى له بالآكد الأبلغ، ثمَّ عدَّد تعالى نِعَمه عليهم فقال: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا﴾ أي جعلها مهادًا وقرارًا، تستقرون عليها وتفترشونها كالبساط المفروش مع كرويتها، وإلا ما أمكنكم العيش والاستقرار عليها قال البيضاوي: جعله مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط، وذلك لا يستدعي كونها مسطَّحة لأن كروية شكلها مع عظم حجمها لا يأبى الافتراش عليها ﴿والسماء بِنَآءً﴾ أي وسقفًا للأرض مرفوعًا فوقها كهيئة القبة ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ أي مطرًا عذبًا فراتًا أنزله بقدرته من السحاب ﴿فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقًا لَّكُمْ﴾ أي فأخرج بذلك المطر أنواع الثمار والفواكه والخضار غذاءً لكم ﴿فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي فلا تتخذوا معه شركاء من الأصنام والبشر تشركونهم مع الله في العبادة، وأنتم تعلمون أنها لا تَخْلُق شيئًا ولا تَرْزق، وأنَّ الله هو الخالق الرازق وحده، ذو القوة المتين قال ابن كثير: شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيدة بإِخراجهم من العدم، وإِسباغة عليهم النِّعَم، والمرادُ بالسَّماء هنا السحاب، فهو تعالى الذي أنزل المطر من السحاب في وقته عند احتياجهم إِليه، فأخرج لهم به أنواع الزروع والثمار ورزقًا لهم ولأنعامهم، ومضمونه أنه الخالق الرازق مالكُ الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يُعبد وحده ولا يُشرك به غيره.
ثم ذكر تعالى بعد أدلة التوحيد الحجة على النبوة، وأقام البرهان على إِعجاز القرآن فقال ﴿وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا﴾ أي وإِذا كنتم أيها الناس في شك وارتياب من صدق هذا القرآن، المعجز في بيانه، وتشريعه، ونظمه، الذي أنزلناه على عبدنا ورسولنا محمد ﷺ َ ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ أي فأتوا بسورةٍ واحدةٍ من مثل هذا القرآن، في البلاغة والفصاحة والبيان ﴿وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله﴾ أي وادعوا أعوانكم وأنصاركم الذين يساعدونكم على معارضة القرآن غير الله سبحانه، والمراد استعينوا بمن شئتم غيره تعالى قال البيضاوي: المعنى أدعوا للمعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إِنسكم وجِنكم وآلهتكم غيرَ اللهِ ﷾، فإِنه لا يقدر أن يأتي بمثله إِلا الله ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي أنه مختلق وأنه من كلام البشر، وجوابُه محذوف دلَّ عليه ما قبله ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ﴾ أي فإِن لم تقدروا على الإِتيان بمثل سورةٍ من سوره، وعجزتم في الماضي عن الإِتيان بما يساويه أو يدانيه، مع استعانتكم بالفصحاء والعباقرة والبلغاء ﴿
1 / 35
وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ أي ولن تقدروا في المستقبل أيضًا على الإِتيان بمثله، والجملة اعتراضية للإِشارة إلى عجز البشر في الحاضر والمستقبل كقوله: ﴿لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨] أي معينًا قال ابن كثير: تحداهم القرآن وهم أفصح الأمم ومع هذا عجزوا، و﴿لَن﴾ لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبدًا، وهذه أيضًا معجزة أخرى وهو أنه أخبر خبرًا جازمًا قاطعًا، غير خائفٍ ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يُعارضُ بمثله أبد الآبدين ودهر الداهرين، وكذلك وقع الأمر لم يُعارض من لدنه إلى زماننا هذا، ومن تدبّر القرآن وجد فيه من وجه الإِعجاز فنونًا طاهرة وخفية، من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، والقرآنُ جميعه فصيح في غاية نهايات الفصاحة والبيان عند من يعرف كلام العرب، ويفهم تصاريف الكلام ﴿فاتقوا النار﴾ أي فخافوا عذاب الله، واحذروا نار الجحيم التي جعلها الله جزاء المكذبين ﴿وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ أي اتقوا النار التي مادتُها التي تُشعل بها وتُضرم لإِيقادها هي الكفار والأصنام التي عبدوها من دون الله كقوله تعالى:
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] قال مجاهد: حجارةٌ من كبريت أنتن من الجيفة يعذبون بها مع النار ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي هُيّئت تلك النارُ وأُرصدت للكافرين الجاحدين، ينالون فيها ألوان العذاب المهين.
ثم لما ذكر ما أعدَّه لأعدائه، عطف عليه بذكر ما أعدَّه لأوليائه، على طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، للمقارنة بين حال الأبرار والفجار فقال ﴿وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي وبَشِّرْ يا محمد المؤمنين المتقين، الذين كانوا في الدنيا محسنين، والذين جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح ﴿أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي بأن لهم حدائق وبساتين ذاتِ أشجار ومساكن، تجري من تحت قصورها ومساكنها أنهار الجنة ﴿كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا﴾ أي كلما أعطوا عطاءً ورُزقوا رزقًا من ثمار الجنة ﴿قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ﴾ أي هذا مثلُ الطعام الي قُدِّم إلينا قبل هذه المرة قال المفسرون: إِن أهل الجنة يُرزقون من ثمارها، تأتيهم به الملائكة، فإِذا قُدّم لهم مرة ثانية قالوا: هذا الذي أتيتمونا به من قبل فتقول الملائكة: كلْ يا عبد الله فاللونٌ واحدٌ والطعم مختلف قال تعالى: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ أي متشابهًا في الشكل والمنظر، لا في الطعم والمَخْبر قال ابن جرير: يعني في اللون والمرأة وليس يشبهه في الطعم قال ابن عباس: لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إِلا في الأسماء ﴿وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ﴾ أي ولهم في الجنة زوجاتٌ من الحور العين مطهَّرات من الأقذار والأدناس الحسية والمعنوية قال ابن عباس: مطهَّرة من القذر والأذى وقال مجاهد: مطهَّرة من الحيض والنفاس، والغائط والبول والنخام، وورد أن نساء الدنيا المؤمنات يكنَّ يوم القيامة أجمل من الحور العين كما قال تعالى: ﴿إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ [الواقعة: ٣٥ - ٣٧] ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي دائمون، وهذا هو تمام السعادة، فإِنهم مع هذا النعيم في مقام أمين، يعيشون مع زوجاتهم في هناءٍ خالد لا يعتريه انقطاع.
1 / 36
البَلاَغَة: ١ - ذكر الربوبية ﴿اعبدوا رَبَّكُمُ﴾ مع إضافته إِلى المخاطبين للتفخيم والتعظيم.
٢ - الإِضافة ﴿على عَبْدِنَا﴾ للتشريف والتخصيص، وهذا أشرف وصفٍ لرسول الله ﷺ َ.
٣ - التعجيز ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ﴾ خرج الأمر عن صيغته إِلى معنى التعجيز، وتنكيرُ السور لإِرادة العموم والشمول.
٤ - المقابلة اللطيفة ﴿جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا والسماء بِنَآءً﴾ فقد قابل بين الأرض والسماء، والفراش والبناء، وهذا من المحسنات البديعية.
٥ - الجملة الاعتراضية ﴿وَلَن تَفْعَلُواْ﴾ لبيان التحدي في الماضي والمستقبل وبيان العجز التام في جميع العصور والأزمان.
٦ - الإيجاز البديع بذكر الكناية ﴿فاتقوا النار﴾ أي فإن عجزتم فخافوا نار جهنم بتصديقكم بالقرآن.
المنَاسَبَة: لّما بينّ تعالى بالدليل الساطع، والبرهان القاطع، أن القرآن كلام الله لا يتطرأ إِليه شك، وإِنه كتاب معجز أنزله على خاتم المرسلين، وتحداهم أن يأتوا بمثل سورةٍ من أقصر سوره، وذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه وهي أنه جاء في القرآن ذكر (النحل، والذباب، والعنكبوت، والنمل) الخ وهذه الأمور لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فضلًا عن كلام ربّ الأرباب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة، وردَّ عليهم بأنَّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإِعجازه، إِذا كان ذكر المثل مشتملًا على حِكَمٍ بالغة. اللغَةَ: ﴿لاَ يَسْتَحْى﴾ الحياء: تغير وانكسار يعتري الإِنسان من خوف ما يعاب به ويذم، والمراد به هنا لازمه وهو الترك، قال الزمخشري: أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي
المنَاسَبَة: لّما بينّ تعالى بالدليل الساطع، والبرهان القاطع، أن القرآن كلام الله لا يتطرأ إِليه شك، وإِنه كتاب معجز أنزله على خاتم المرسلين، وتحداهم أن يأتوا بمثل سورةٍ من أقصر سوره، وذكر هنا شبهة أوردها الكفار للقدح فيه وهي أنه جاء في القرآن ذكر (النحل، والذباب، والعنكبوت، والنمل) الخ وهذه الأمور لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فضلًا عن كلام ربّ الأرباب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة، وردَّ عليهم بأنَّ صغر هذه الأشياء لا يقدح في فصاحة القرآن وإِعجازه، إِذا كان ذكر المثل مشتملًا على حِكَمٍ بالغة. اللغَةَ: ﴿لاَ يَسْتَحْى﴾ الحياء: تغير وانكسار يعتري الإِنسان من خوف ما يعاب به ويذم، والمراد به هنا لازمه وهو الترك، قال الزمخشري: أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي
1 / 37
من ذكرها لحقارتها ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ فما دونها في الصغر ﴿الفاسقين﴾ أصل الفسق في كلام العرب: الخروج عن الشيء، والمنافق فاسق لخروجه عن طاعة ربه، قال الفراء: الفاسق مأخوذ من قولهم فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت، ويسمى الفاسق فاسقًا لخروجه عن طاعة الله، وتسمى الفأرة فويسقه لخروجها لأجل المضرة. ﴿يَنقُضُونَ﴾ النقض: فسخ التركيب وإِفساد ما أبرمته من بناءٍ، أو حبلٍ، أو عهد قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ [النحل: ٩٢] وقال ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٥] أي فبنقضهم الميثاق ﴿عَهْدَ﴾ العهد: المَوْثق الذي يعطيه الإِنسان لغيره ويقال عهد إِليه أي أوصاه ﴿الميثاق﴾ [الرعد: ٢٠] العهد المؤكد باليمين وهو أبلغ من العهد. ﴿استوى﴾ الاستواء في الأصل: الاعتدال والاستقامة يقال: استوى العود إِذا قام واعتدل، واستوى إِليه كالسهم إِذا قصده قصدًا مستويًا، وقال ثعلب: الاستواء: الإِقبال على الشيء. ﴿فَسَوَّاهُنَّ﴾ خلقهن وأتقنهن وقيل معناه: صيّرهن.
سَبَبُ النزّول: لما ذكر الله تعالى الذباب والعنكبوت في كتابه، وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، وما أراد بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ فأنزل الله الآية.
التفسِير: يقول تعالى في الرد على مزاعم اليهود والمنافقين ﴿إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا﴾ أي إن الله لا يستنكف ولا يمتنع عن أن يضرب أيُّ مثلٍ كان، بأي شيءٍ كان، صغيرًا كان أو كبيرًا ﴿بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ أي سواء كان هذا المثل بالبعوضة أو بما هو دونها في الحقارة والصغر، فكما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف عن ضرب المثل بها ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ أما المؤمنون فيعلمون أن الله حق، لا يقول غير الحق، وأن هذا المثل من عند الله ﴿وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلًا﴾؟ وأما الذين كفروا فيتعجبون ويقولون: ماذا أراد الله من ضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء الحقيرة؟ قال تعالى في الرد عليهم ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا﴾ أي يضل بهذا المثل كثيرًا من الكافرين لكفرهم به، ويهدي به كثيرًا من المؤمنين لتصديقهم به، فيزيد أولئك ضلالة، وهؤلاء هدىً ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين﴾ أي ما يضل بهذا المثل أو بهذا القرآن إِلا الخارجين عن طاعة الله، الجاحدين بآياته، ثم عدّد تعالى أوصاف هؤلاء الفاسقين فقال ﴿الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ أي ينقضون ما عهده إِليهم في الكتب السماوية، من الإِيمان بمحمد ﷺ َ من بعد توكيده عليهم، أو ينقضون كل عهد وميثاق من الإِيمان بالله، والتصديق بالرسل، والعمل بالشرائع ﴿وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ من صلة الأرحام والقرابات، واللفظ عام في كل قطيعة لا يرضاها الله كقطع الصلة بين الأنبياء، وقطع الأرحام، وترك موالاة المؤمنين ﴿ويفسدون في الأرض﴾ بالمعاصي، والفتن، والمنع عن الإيمان، وإثارة الشبهات
1 / 38
حول القرآن ﴿أولئك هُمُ الخاسرون﴾ أي أولئك المذكورون، الموصوفون بتك الأوصاف القبيحة هم الخاسرون لأنهم استبدلوا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فصاروا إِلى النار المؤبدة ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ استفهام للتوبيخ والإِنكار والمعنى كيف تجحدون الخالق، وتنكرون الصانع ﴿وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا﴾ أي وقد كنتم في العدم نُطفًا في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات ﴿فَأَحْيَاكُمْ﴾ أي أخرجكم إِلى الدنيا ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء الآجال ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بالبعث من القبور ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ للحساب والجزاء يوم النشور.
ثم ذكر تعالى برهانًا على البعث فقال ﴿هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا﴾ أي خلق لكم الأرض وما فيها لتنتفعوا بكل ما فيها، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق ﴿ثُمَّ استوى إِلَى السمآء﴾ أي ثم وجّه إرادته إلى السماء ﴿فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات﴾ أي صيّرهن وقضاهن سبع سماوات محكمة البناء وذلك دليل القدرة الباهرة ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي وهو عالم بكل ما خلق وذرأ، أفلا تعتبرون بأن القادر على خلق ذلك - وهي أعظم منكم - قادر على إعادتكم؟! بلى إنه على كل شيء قدير.
البَلاَغَة: ١ - قوله ﴿لاَ يَسْتَحْى﴾ مجاز من باب إِطلاق الملزوم وإِرادة اللازم، والمعنى: لا يترك فعبّر بالحياء عن الترك، لأن الترك من ثمرات الحياء، ومن استحيا من فعل شيء تركه.
٢ - قوله ﴿يَنقُضُونَ عَهْدَ الله﴾ فيه (استعارة مكنية) حيث شبه العهد بالحبل، وحذف المشبه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو النقض على سبيل الاستعارة المكنية.
٣ - قوله ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ هو من باب (الالتفات) للتوبيخ والتقريع، فقد كان الكلام بصيغة الغيبة ثم التفت فخاطبهم بصيغة الحضور، وهو ضرب من ضروب البديع.
٤ - قوله ﴿عَلِيمٌ﴾ من صيغ المبالغة، ومعناه الواسع العلم الذي أحاط علمه بجميع الأشياء، قال أبو حيان: وصف تعالى نفسه ب (عالم وعليم وعلام) وهذان للمبالغة، وقد أدخلت العرب الهاء لتأكيد المبالغة في (علامة) ولا يجوز وصفه به تعالى.
الفوَائِد: الأولى: قال الزمخشري: التمثيل إِنما يصار إِليه لما فيه من كشف المعنى، ورفع الحجاب عن الغرض المطلوب، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إِلا أمرًا تستدعيه حال المتمثل له، ألا ترى إِلى الحق لما كان أبلج واضحًا جليًا، كيف تمثَّل له بالضياء والنور؟ وإِلى الباطل لما كان بضد صفته كيف تمثّل له بالظلمة؟ ولما كان حال الآلهة التي جعلها الكفار أندادًا لله تعالى ليس أحقر منها وأقل، لذلك ضرب لها المثل ببيت العنكبوت في الضعف والوهن ﴿كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتًا﴾ [العنكبوت: ٤١] وجعلت أقل من الذباب وأخسَّ قدرًا ﴿لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ [الحج: ٧٣] والعجبُ منهم كيف أنكروا ذلك وما زال الناس يضربون الأمثال بالبهائم والطيور، والحشرات والهوام، وهذه أمثال العرب بين أيديهم سائرة في حواضرهم وبواديهم.
1 / 39