أجل ... وإني أعيد ما قالته لأختي بالحرف الواحد: كنت أنتظر أخاك عامين أو ثلاثة لو كان جادا، لكنه كان يلهو، كذب علي ورفض أن يصحح موقفه، لم يكن عيبا أن يصارحني بظروفه، لكن العيب أن يخدعني ويصر على الخداع، لقد خطبني ابن عمي، ورحبت بزواجه والحمد لله ...
أجل ... بهذه الصراحة لا يوجد في العالم إلا فتاة واحدة، وهي «ر».
كانت تستطيع من باب الزهو أن تقول: إنها لم تكن تهتم بي، لكنها مع ذلك كانت تفضل أن تنتظرني عامين أو ثلاثة، إن المرأة لا تنتظر إلا رجلا واحدا، الرجل الذي تحبه، ما أشد حزني على ما حدث! وما أشد حماقتي!
وأغلق مذكراته، ووضعها في مكانها بين عشرات الكراسات الصغيرة التي تحوي كل منها مذكرات عام كامل من حياته ... ولم يكن بحاجة بعد ذلك إلى مذكرات ... إن مذكرات الأعوام التالية بعد عام 1929 تستطيع أن تمر بخياله سريعة باردة، كما مرت هذه الأعوام نفسها ... لقد أتم دراسته عام 1933، وسافر إلى أوروبا ... ثم عاد إلى القاهرة، وانخرط في سلك المحاماة ... ومنذ وضعت الحرب أوزارها، وهو يجلس كل يوم يسأل نفسه هذا السؤال: لماذا لا أتزوج؟!
وتمر بخاطره قصته مع «ر» إن ذلك الماضي القديم يرتبط في خياله دائما بفكرة الزواج، وما من مرة فكر في الزواج إلا ذكر «ر» وذكر قصته معها، وتمنى لو أنه تزوجها ... لكنه مع ذلك يفكر في الزواج تفكيرا جادا منذ بضعة شهور.
منذ أن أخذت بضع شعرات بيضاء تتسلل إلى رأسه ... إنه لم يبلغ الأربعين بعد ... إن هذه الشعرات توحي إليه في رقة وأدب أنه لم يعد طفلا ... وحين يتجاهلها تخطابه في المرآة ... وقد تغيرت لهجتها من الأدب إلى الخشونة؛ لأنه قد أصبح رجلا ... وهي أحيانا تستعير لسان أحد أصدقائه لتنطق في قحة ساخرة: والله عجزت يا أبا السباع!
وفي أغلب الأحيان تترجم خواطر هذه المزاح السخيف إلى صرخة ملحة: لم يعد هناك مجال للتسويف، ولا بد أن تتزوج ...
وهو لا يعارض في الزواج، وما عارض فيه من قبل أبدا، وإنما كان يتوقع الوقت المناسب والوجه المناسب والسن المناسبة.
ومنذ أيام كان الوقت مناسبا، والوجه مناسبا.
كان صباحا مشرقا جميلا من أيام أبريل الأخير، وكان يجلس في حديقة الشاي، وكانت الفتاة الجالسة على خطوات من مائدته تحتسي على مهل القطرات الأخيرة من كوب عصير البرتقال، حين اهتزت يدها باصطدام طفل صغير بمقعدها فسقط الكوب ... وتناثرت القطرات على الثوب ... قطرات قليلة لكنها أتاحت له فرصة الحديث ... حديث قصير لم يتجاوز الأسف على ما حدث، وهو يمد لها يده بكوب ماء لتنظف ما علق بالثوب ... ثم أتاحت له فرصة أخرى حين خرج من الحديقة بعد ساعة، ورآها تنتظر على محطة الترام فركب معها، ولم يكن هناك ما يمنع حديثهما، فقد كانا وحيدين في المقصورة ...
Неизвестная страница