81

Часы среди книг

ساعات بين الكتب

Жанры

نقرأ القصيدة التي تشرح لنا الحالة أو الحالات الكثيرة من عوارض النفس البشرية، ثم لا نزال نترقب من الشاعر مغزاه ونتوهم النقص في غرضه، أو نحن نقرأ القصيدة التي تومض لنا بالصور الخيالية، والمواقف الدقيقة ونعدوها كأننا لم نجد عندها مستوقفا ولم نظفر بخبر، وتوماس هاردي غني بشعر الحالات النفسية، وإن لم يكن غنيا مثل هذا الغنى بشعر الصور الخيالية، فالتمثيل ببعض كلامه الذي يقل فيه ما يسمونه «بالمعاني» يعين على تقرير هذا الغرض الذي أردناه، ويرينا كيف يكون الكلام في الطبقة الأولى من الشعر بعد تجريده من زينة الصياغة الموسيقية، وخلوه من تلك «المعاني» التي يولع بها عندنا أناس يحسبون أنفسهم خيرا من طلاب الألفاظ والأساليب، وهم مثلهم في الضلال عن روح الشعر ورسالة الشعراء.

هذا سببان لاختيارنا التمثيل من شعر توماس هاردي، وثمة سبب ثالث فيه بعض الغرابة ولكنه وجيه في رأينا كل الوجاهة، وذلك أننا نعد توماس هاردي من شعراء الطبقة الثانية ولا نعلو به إلى المقام الأول بين رهط الشعراء الكفاة الذين جمعوا خصال الشعر من موسيقية وإلهام وبداهة عالية ونفاذ وشيك، فليس في التمثيل به تكليف بشطط، ولا غلو في التحدي، ولا مهرب للذين يعتذرون عن شأو الكمال إلا أن يقنعوا بما دون ذلك من منازل الشعراء، ولو مثلنا لهم بالآخرين الذين تفردوا في عصورهم وأقوامهم عن النظراء لما كان عليهم ضير أن يخلدوا إلى العجز ويلقوا يد التسليم.

ونحن بعد، كثيرو التقليب هذه الأيام في شعر توماس هاردي؛ لأنه شاعر الساعة أو صاحب النوبة كما نسمي الشعراء الذين نرجع إليهم حينا بعد حين، وكان بودنا أن نمثل بقصيدة من مطولاته، لولا رغبتنا في حصر وجهتنا واجتناب التشعب والشتات، فنكتفي بقطع صغيرة له تفي بالغرض في هذا المقام، وهذه واحدة منها بعنوان «قلت للحب»:

قلت للحب: ليست الدنيا الآن كما عهدتها في سالف الأيام. أيام كان الناس يعبدونك ويعبدون أساليبك وبدواتك، ويرفعون لك عرشا لا تعلو عليه العروش. أيام كانوا يسمونك الصبي، والجميل، والوحيد، ويزعمونك باسطا لهم تحت الشمس سماء النعيم. قلت للحب.

قلت له: إننا لنعلم اليوم ما لم يكونوا يعلمون، وإننا لضعاف رأي يوم أن كنا نفتح لك قلوبنا المفعمة، ونضج إليك عسى أن تلقي فيها بلواعجك وآلامك. قلت للحب.

وقلت له: ما أنت بالفتى ولا أنت بالجميل، وما أنت بالجني الصغير يلعب بسهامه، ولا الملك الطهور يتخايل في وسامة، وما كان سيما الإوزة الناعمة، ولا الحمامة الوادعة، وإنما هي ملامح القسوة المتجهمة ملامحك، وخناجر الحديد الطاعنة سهامك، وسلاح الفتك والغيلة سلاحك. قلت للحب.

قلت له: سحقا لك يا حب إذن، وفراقا عنا إلى حيث لا معاد! أو يفنى الإنسان تقول؟ ويجهل الجيل غدا ما يكون وما يحول؟ لقد شاخت نفوسنا يا حب في هذا الزمان، فما نبالي منك ذاك الوعيد، وسيفنى الإنسان! نعم ليذهب إلى حيث شاء! قلت للحب.

هذه إحدى النماذج التي نمثل بها لشعر الحالات النفسية، فتخيل أيها القارئ مجمعا من ظرفاء الأدب عندنا يتناولونها بالنقد والتقدير، وقل لي كيف يحكمون على هذا الشعر وأي الحسنات يرونها فيه وأيها تنقصه وكن على يقين أن مصير القطعة عندهم «سلة المهملات» أو أي مصير يشبهها غير مأثورات عقولهم التي هي أشبه شيء بسلة المهملات! فلا «معنى» هنا ولا تزويق ولا «خيال» ولا قلب ولا عكس ولا مراعاة نظير! ودع عنك اللطافة التي يتأفف صاحبها اللبق الرشيق من شاعر يصف ملامح الحب بالجهامة، وسهامه بالخناجر، وسيماه بسيما الغائلة وقطاع الطريق! ودع عنك الأناقة التي يتسخط صاحبها على شاعر يطرد الحب ويجازف بفناء الإنسان! فهذا بعض نصيب هاردي من ظرفاء الأدب عندنا، وهذا هو الحكم الرءوف الذي نتلقاه من منصة ذلك القضاء، ولكنك إذا ضربت صفحا عن هؤلاء الأمساخ الهازلين ونظرت إلى القطعة من حيث هي ترجمان صادق لحالة تعتري النفوس الشاعرة، فهناك تعلم كم من الحياة يحتاج إليه الإنسان ليقول مثل هذا المقال، وتفهم كيف أن ناظم هذه القطعة لم تفته صورة من صور الحب في أجيال الخليقة من إنسان وحيوان، فما قالها إلا بعد أن أحس شبع الإحساس بضراوة الحب المفترس يمعن في عالم الحيوان قتلا لا رحمة فيه ولا إمهال، وطغيان الحب الخالب يستغوي أبناء الفناء برونق الفتنة، وهو موت أصم أعمى لا يصغي ولا يحيد ولا يحفل ما سعادة النفوس وما هناءة البيوت وما شقاء الآباء والأبناء والأمهات وما سموم الغيرة ومرارة اليأس الخفي، وحسرات الفؤاد الكظيم، وما هان على الشاعر أن يذهب نوع الإنسان إلى حيث يشاء، إلا بعد أن بلا من الحب ما هو أشد من الفناء، وإلا بعد صرعات لا منفذ فيها للرجاء، ولا موضع فيها للعزاء، فإلى جانب هذا الفتور الشاحب الذي يسميه فتور الشيخوخة جحيم عذاب لا فتور فيه ولا سكون، ووراء هذه الملالة الهاجعة هاوية زافرة لا تبرد ولا تنام. •••

وقطعة أخرى على هذا النمط عنوانها «في خسوف القمر» يقول:

ظلك أيتها الأرض - من القطب إلى المحيط - يدب الآن على شعاع القمر الضئيل في سواد لا شية فيه، وسكينة لا يخالجها اضطراب، وإني لأنظر إليه فأعجب كيف يستوي هذا الظل المنسوق، وذلك الجرم الذي أعرفه لك موارا بالقلق والحيرة، وكيف تتفق هذه الصفحة الراضية كأنها الطلعة الإلهية، وأقطار عليك أيتها الأرض تموج الساعة بالأحزان والكروب!

Неизвестная страница