80

Часы среди книг

ساعات بين الكتب

Жанры

ومنهم من ينتظر من الشعر ألفاظا بعينها يقرؤها فيطمئن على الكلام، ويوقن أنه غير مخدوع في صحة الصنف المعروض عليه، فالكلام الذي فيه الأزهار والبلابل والكواكب والغدران، وفيه مع هذا عيون وثغور وقبلات وخدود وكئوس وأشواق، يستحيل ألا يكون شعرا أو يكون فيه موضع لانتقاد، ولو أنك أردت بأي كلام أن يكون أجمل الشعر وأظرفه وأحلاه، لما كان عليك أكثر من أن تكتب أمامك هذه الكلمات على مسافات متقاربة، وتملأ ما بينها من الفراغ كما يصنعون في ألغاز الكلمات المجهولة، فإذا شعر لديك كأحسن ما يقول القائلون! وأمتع ما توحي العرائس أو الشياطين! ومن أكبر الطمع أن يعرض عليك بيت في بلبل وزهرة، ثم تساوم فيه بعد هذا ولا تعطي فيه ثمن الشعر الصحيح غير منقوص ولا مبخوس، فإذا كان فيه، فضلا عن هذا، عشرة بلابل وخميلة أزهار، فلا والله ما لك عليه من سبيل، وما أنت فيه بمغبون إذا أعطيته من نفسك كل حق الشعر والشعراء!

ومنهم من ينتظر من الشعر لفا في التعبير، يبعده عن استقامة الكلام المعهود، ويحوج القارئ إلى التفطن والجهد في استخراج معناه، والبحث عن مرماه البعيد، فليس بشعر ما يسمى الظهر ظهرا والليل ليلا، ويذكر كل شيء باسمه المتداول المعروف، وأقرب منه إلى الشعر ما يسمى الظهر الأوان الذي بين الضحى والأصيل، ويسمى الليل الأوان الذي لا شمس فيه، أو الذي يشرق فيه القمر وتومض النجوم. ويتم الشعر عند هؤلاء بتمام غرابته في لفظه ومعناه، وبعده عن المألوف في الأثر والإحساس، إن كان لا بد فيه من إحساس، وهو أمر لا يحفل به ولا يلتفت إليه.

ومنهم من ينتظر من الشعر «المعاني»، ويفهم من المعاني اعتساف التشبيهات والخواطر، واختلاق الأفكار والتصورات، فإذا سمع صرخة ألم في قصيدة غير مشفوعة «بمعنى» معتسف أو ابتكار ملفق، نظر إليك نظرة من يصغي إلى قصة تمت، ولم يتم مغزاها في نظره، وعجب لماذا ينظم الشاعر هذا الكلام إذا كان جهد ما يبلغ إليه أن يمثل لك حالة ألم، يشعر بها جميع الناس! او يكفي أن يشعرنا الشاعر ألمه دون أن يقرن ذلك بتشبيه براق، أو كناية بعيدة، أو أسطورة منمقة، أو خاطرة منتزعة من أبعد المناسبات وأغرب التمحلات؟ كلا ذلك لا يكفي في عرف هؤلاء القراء، ولا يزال الشاعر عندهم مطالبا «بالمعنى» الذي لا محل له حتى بعد أن يشعرك ما في قلبه ويجلو لك الحالة النفسية التي حركته إلى النظم والغناء! والقارئ من هؤلاء لو سمع الرعد يدوي، ورأى البرق يلمع، وشهد السماء في جلالها، والبحر في اتساعه لم يكرثه أن يعرف هل هذا رائع أو غير رائع، وهل له صدى في النفس أو ليس له من أصداء، وإنما يكرثه أن يسأل: وأي معنى لهذا؟ وأي معنى لهذا؟ وماذا قال لنا الرعد أو البرق أو السماء أو البحر مما لم يقله قبل الآن؟ وكأنه يعجب: هل وظيفة الرعد أن يكون رعدا، وأن يكون له أثر الرعد في النفس أو وظيفته أن يطرقنا كل يوم بنغمة جديدة و«معنى » طريف؟ وكذلك هو يعجب: هل وظيفة الشاعر أن يكون صاحب صور نفسية ينقلها إلى نفوس الناس، أو وظيفته أن يلفق لهم تشكيلات المعنى كما تلفق تشكيلات الصور المبعثرة يلهو الأطفال بضم أجزائها وتغيير أشكالها، والإتيان بها على أوضاع لا نهاية لها، ولو لم يكن من وراء ذلك فن ولا تصوير؟

فمن المفاجأة ولا ريب لجميع هؤلاء أن يقال لهم: إن الكلام قد يكون في الذروة العليا من البلاغة الشعرية، وليس فيه خيال شارد، ولا دمعة، ولا آهة، ولا كلمة ملفوفة، ولا معنى مستكره. بل هو يكون أبلغ في الشاعرية كلما خلا من هذا التصنع، واستوى على طريقه الواضح القويم، ونضرب لهم مثلا بقطعة واحدة سبق لنا أن ترجمناها فسألنا السائلون: وما معنى هذا؟ كدأبهم كلما سمعوا كلاما يعوزهم أن يستحضروا إحساسه، وينظروا إليه من وجهته! أما القطعة فهي القصيدة الآتية من شعر توماس هاردي، الذي كتبنا عنه مقال «أزياء القدر» في بعض هذه المقالات:

إذا طلع الفجر، ونظرت إلى الطبيعة المصبحة جدولا وحقلا، وقطيعا وشجرا موحشا، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص إلي، وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه، فبردت حرارتها، ورانت على وجوهها السآمة والضجر والإعياء، وكأنما تهمس بسؤال كان مسموعا، ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاه: عجبا! عجبا لا انقضاء له أبد الزمان! ما بالنا نحن قائمين حيث نقوم في هذا المكان؟ أتراها حماقة جليلة قادرة على التكوين، ولكنها غير قادرة على القصد والترسيم، خلقتنا في مزاح، ثم تركتنا جزافا لما تجرى به الصرف؟ أما تراها آلة لا تفقه ما نحن فيه من الألم والشعور، أم ترانا بقية من حياة إلهية تموت فقد ذهب منها البصر والضمير؟ أم تراها حكمة عالية لم تدركها العقول، ونحن في جيشها «فرقة الفداء» والغلبة المقدورة للخير على الشر مقصدها الأخير؟ كذلك يسألني ما حولي ولست أنا بالمجيب، وما تبرح الريح والمطر والأرض في الظلام والآلام، كما كانت وكما سوف تكون، وما يبرح الموت يمشي إلى جانب أفراح الحياة.

هذه هي القطع، ولقارئ من أولئك القراء أن يسأل ألف مرة: ما معنى هذا؟ ما معنى هذا؟ فلا يظفر بجواب يقنعه، ولا يرجع بغير الخيبة، وماذا عسانا نقول له إذا سألنا: هل في هذه القطعة جناس؟ هل فيها «عواطف»؟ هل فيها «معنى» غريب؟ هل فيها ألفاظ وأساليب؟ ماذا عسانا أن نقول له غير «لا» في جواب كل سؤال، وأن نسبقه بها إلى جواب كل ما يسأل عنه أمثاله، وكل ما يطلبونه في الشعر وفي كل كلام. غير أننا نضرب المثل الأعلى للبلاغة الشعرية بهذه القطعة التي تلوح له هزيلة ضامرة لا تساوي بيتا من ابن نباتة، ولا شطرة من صفي الدين! لأننا نعلم أن الشاعر أراد أن يمثل بها «حالة نفسية» تحيك بنفسه، فمثلها لنا أحسن تمثيل، أراد أن يصور لنا ملالة النفس العارفة بأسرار الحياة ونواميس الوجود، فصورها في سكون لا ادعاء فيه، وإيجاز لا خلل فيه، وبساطة يخطئها الجاهل، فيحسبها من غثاثة الفضول. فهو رجل نظر في عبث العواطف، وعبث الحوادث، وعبث النواميس، فتولاه الضجر، ونفرت نفسه، ثم ثابت إلى السكينة والتسليم، فيم يحزن الحزين، وفيم يفرح الفرحان، وفيم ينخدع الناس لهذه الآمال الكاذبة ثم لا يزالون ينخدعون بها وهم يعلمون أنهم مخدوعون! في لا شيء، وهذه هي الحالة النفسية التي يجب أن نستحضرها ونعالج بواعثها لكي نضع هذه القطعة في مكانها من الذروة العالية التي هي فيها، فإذا استحضرتها علمت أن ليس في وسع شاعر أن يصف تلك «الحالة النفسية» أصدق ولا أبسط ولا أسهل ولا أعمق من ذلك الوصف العبقري القدير، وكيف يسع الإنسان أن يصور «الفطرة» التي في الشجر وفي الطبيعة عامة، بأقرب من صورة الطفولة المكبوحة؟ وكيف يسعه أن يصور ثقلة النواميس التي قيدتها ذلك التقييد بأقرب من ثقلة الدرس الممل، والتكليف العنيف الجاثم على طبيعة الطفولة المحفوزة إلى اللعب والمراح؟ وكيف يسعه أن يعطي السآمة صورة أوفى من صورة الشجرة خاصة وهي تتثاءب في جمودها الدائم وتسألك: لماذا نحن هنا في هذا المكان؟ أو ليس هذا بالسؤال المنتظر المعقول! أو ليس يخيل إليك الآن أنك تسمعه من كل شجرة، وتعرف لها الحق في أن تلقي بهذا السؤال إليك؟ فإذا كان الإنسان الذي يروح ويغدو ويطير في الجو، ويغوص في الماء، ويفرح ويألم ويفلح ويفشل ويقول ويعمل، يعود إلى ضميره كرات متواليات ويسأله: لماذا نحن هنا في هذا المكان؟ فما أولى الشجرة التي تقضي حياتها في مكان واحد لا تتزحزح عنه حتى تموت، أن تعجب ذلك العجب وتسأل ذلك السؤال؟ ثم هل من سبيل إلى فرض واحد يضاف إلى تلك الفروض الشعرية التي ختم بها الشاعر قطعته، وأجمل بها كل ما يحير في نفس المتأمل من الظنون، كلا! لا مزيد عليها، فهي في إجمالها دليل على نفاذ الشاعر إلى كل مذهب يهيم فيه الفكر، وشعوره بكل إحساس يعتري النفس، وإلمامه بكل دقيقة وجليلة يلم بها من خبر هذه الدروب ونظر في هذه الأمور.

ذلك مثل واحد من شعر كثير ينقل ولا يقابل من عامة القراء بغير ذلك السؤال الذي تعودوه كلما سمعوا شعرا من هذا الطراز: ما معنى هذا وما معنى هذه؟ وإن معناه لواضح بسيط لو يحسونه ويستعدون له، وما هو بالبسيط لأنه «غير عميق»؛ ولكنه هو البسيط الذاهب في العمق إلى قرار ليس بعده قرار.

الشعر في مصر (7)1

أما وقد بدأنا بسوق الأمثلة من الشعر الذي يروع باطنه، ولا يعجب الأكثرين من قرائنا ظاهره، فلنمض في التمثيل خطوة أخرى ليكون مثلنا الجديد من شعر توماس هاردي الذي استشهدنا به في القطعة الأولى؛ لأنه أولا: من المعاصرين الأحياء والوهم الغالب على الناس في أوربا وفي مصر أن العصر الحاضر ليس بالعصر الذي ينجب الشعراء ويحيي العبقرية الشعرية فلا لوم على المقصرين، وإنما اللوم كله على البيئة والجدود!

ولأنه ثانيا: شاعر «الحالات النفسية» وهذه الحالات هي التي نقصت في شعرنا القديم والحديث؛ لأننا نفهم شعر الأسلوب، وشعر المعاني الذهنية، وشعر الألاعيب اللفظية والمعنوية، ولكننا لا نفهم الشعر الذي يترجم لقارئه عن حالات النفس بغير ما حفاوة مقصودة بذلك الذي يسمونه المعاني، ويفهمون منه أن يكون الشاعر مختلقا للخواطر، مكثرا من المبتكرات المعتسفة، مولعا بالاستعارات والمواقف التي لا موقع لها في القصيدة، فنحن لفقرنا في الإحساس المنوع الغزير، أو لتفريقنا بين الشعر والإحساس.

Неизвестная страница