فيضحك عاليا ويقول: أنتظر مع الأيام إجابة أفضل!
ومثله أؤدي الصلاة والصيام، النساء يكتفين بالصيام ولكني رجل. أبي لطيف حنون ويحب الدعابة، عندما يغضب يغلق عليه حجرته أو يرتدي ملابسه ويذهب إلى المقهى. تولت تلك الحياة وغاب أبطالها، في باب النصر يرقدون في قبر واحد نصفه للرجال والآخر للنساء. حجرتي كما كانت، وحجرة أبي الملاصقة لها معدة للمعيشة يزينها التليفزيون والراديو والمكتبة، وفي الصالة السفرة وأربعة مقاعد خشبية ودولاب شبه خال، بيع الأثاث القديم بأبخس الأثمان، وتعرت الحجرتان الأخريان تماما، لا مطبخ لي بالمعنى المفهوم لهذه الكلمة، ثمة موقد غازي صغير أعد فوقه القهوة أو الشاي وأحيانا الكراوية، وأغتذي على الفول والطعمية وبعض المعلبات والبيض أحيانا، وهو غذاء الحكماء في هذا الزمن الناري.
الوحدة تتحداني وأنا دائب على مقاومتها بالمقهى والتليفزيون، ندرت قراءاتي للحد الأدنى في أعقاب معايشة طويلة لعمالقة الفكر في وطننا ونخبة من المترجمات الممتازة. اكتسبت سعة في الأفق واستنارة لا بأس بها، ولكن لم يؤثر شيء في عقيدتي الأساسية، أو لم يؤثر فيها لدرجة التخلي عنها، ما أزال أصلي وأصوم، وأنتظر النهاية بالرغم من أنني لم أضف إلى الحياة جديدا ولم أحدث فيها شيئا ذا بال. وأعاني كثيرا من الملل والكآبة، وأضيق بالمكان لحد الموت، وتطاردني مخاوف كثيرة من المرض والموت، أخاف أن تدركني علة فلا أجد من يأخذ بيدي، أو أن يوافيني الأجل فأترك في مكاني حتى تنم عني رائحتي. أقول لنفسي اطرد عنك الوساوس فمن الغباء أن تحمل الهم قبل وقوع القضاء. الطرطوشي يراني أهلا للحسد، الماكر الأزرق يخزي العين عن حسده، أبناؤه غاية في الروعة، يمدونه بالعون أول كل شهر، وعندما يجيء أجله سيزدحم بيته بالنساء والرجال ويلعلع الصوات فيترامى إلى أنحاء العباسية، وينشر نعيه في الأهرام،
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية ، انتقل إلى جوار الله المربي الفاضل. وتمضي وراء نعشه جنازة محترمة يشترك فيها أصدقاء الأبناء والأصهار، فيفوز الرجل الطيب التافه بجنازة من الدرجة الأولى. حليم بك لن ينشر له نعي على الإطلاق، سينشر نعيك في صفحة الحوادث. دع حمادة يحسدك كيف شاء، إنه لا يعرف الوحدة، ولم يشم رائحة التراب في مأواه، ويتغذى باللحوم رغم تساقط أسنانه، نسي الفراش البارد المحروم من دفء الزوجة، لا يعرف حرمان الجنس والأبوة، لولا أنه لم يبق لي من أنيس غيرك لدعوت عليك. التليفزيون أنيس أيضا وأي أنيس، عالم السحر والخيال والنساء، حتى الإعلانات موجعة لقلب المحروم! حياة تافهة ولكني لست بالتافه، حتى أمس كنت المراقب العام للعلاقات العامة بوزارة التربية والتعليم، كان من الممكن أن أحقق أحلامي ولكن في ظروف أخرى، ما جدوى ارتفاع المرتب قيراطين إذا ارتفع التضخم أربعة؟! ليست الأسرة وحدها المسئولة ولكن العالم كله باقتصاده وسياسته. تجنبت العالم ولكنه أبى أن يتركني وشأني. أين السباك ليصلح صنبور الحمام؟ ترى ما أجرته اليوم؟ أكون سعيدا لو نمت نصف اليوم ولكنني لا أنام أكثر من خمس ساعات، كي أريح نفسي من التفكير فيك يا ملك، مناجاتي الجنسية لك لا تنقطع، إحساس ما يلهمني بأنك ما زلت صالحة، كلانا وحيد يا ملك، لم لا نفعل ما حرمنا سوء الحظ من فعله في الزمان الأول؟ حرك الطرطوشي خاطر اللقاء وتركني فريسة في قبضته، تسلمه الخيال بشهوة جامحة، أن تضغط جرس الباب وتنتظر، تفتح الشراعة وتنظر، أنت .. ياه .. تفضل، كيف ذكرتنا؟ كنت مارا فقلت لنفسي .. أهلا وحديث عن الجهات الأربع. وأدور وأناور وعيني مركزة على حلم الجسد، وهي تقرأ وتفهم فتصدر عنها إشارة خفية للعمل، وأنتقل إلى جوارها كالأيام الخالية، وتدعوني أكثر بالمقاومة الواهنة، ونهوي بقبضة الجنس الناعمة على الكآبة الغاشية، وتتراكم الأفعال الجميلة الشائنة، آه لو تحقق الأحلام يا ملك! ثمة أخريات ألقاهن اليوم في جنبات الحي معطرات بأريج الماضي الجميل، غيرهن الزمن بلا رحمة ولم يبق ماضيهن إلا الاسم، بتن غرباء رغم ابتسامة عابرة، فضليات وأمهات، لولا الظروف العاتية لاتخذت إحداهن زوجة صالحة، ذهب الشعر واختلت أوزانه. اليوم أغير الملابس الداخلية مرة واحدة في الأسبوع توفيرا للغسيل والكي، لا أتناول الكباب إلا في المناسبات. ينسى المتقاعد في تقاعده كما ينسى الميت في موته. في الزمن المجيد سرت اختيالا بجناحي الشباب المورق، الأمهات قلن لأمي حليم لملك، حليم لبثينة، حليم لرباب، حليم لبيسة، أمي غارقة في مأساة ابنتيها، السنون تمضي بلا أمل، جميع البنات يتزوجن إلا فكرية وزينب، لا الغرباء ولا الأقارب يقتربون منهما. أقول لنفسي مستغربا: ما أكثر الزوجات الدميمات! ألا يكفي ثراء أبي لسد الثغرة؟
وأنفض عن نفسي نكد الأسرة وأسير اختيالا بجناحي الشباب المورق، وتهل على بيتنا في شتى المناسبات ملك وبثينة ورباب وبيسة كالأقمار في صحبة أمهاتهن، وتتفجر في كآبة شقتنا بروق الإغراء والدلال، وتتجاذب نظرات الرغبة والأشواق، ولا يخلو الأمر من كلمة عذبة أو لمسة لطيفة أو خطف قبلة في غفلة من الرقباء، حب مشاع لا يعرف التخصص، في حضرة كل واحدة أتناسى الأخريات، ولكن ملك تمتاز أيضا بقوة الشخصية والذكاء. ويوما سألتني أمي وأنا في المرحلة الثانوية أو الجامعية لا أذكر: من تعجبك منهن؟
فتفكرت مليا، ثم قلت: لا أدري! - ولكن لا بد من واحدة تتفوق بطريقة ما؟
فقلت وأنا أفكر في ملك: إنهن متساويات لدرجة كبيرة.
فضحكت وقالت: أعز أمنية عندي أن أرى ذريتك، ربنا يسهل لفكرية وزينب حتى يخلو لك الجو!
وكانت الأحداث قليلة، فمرة قابلت بثينة في العباسية الشرقية وتبادلنا قبلة سريعة، وهدايا رمزية تبادلتها مع رباب، وبعض الرسائل التي تدس في اليد مع بيسة، أما مع ملك فالنظرات تغني عن الهدايا والرسائل. أسعدني أن أكون محورا ويدرن حولي، آه لو أجمعهن في حريم واحد! ولكن ملك تزحف في هوادة وعلى مهل فتغيب أضواء النجوم في رحاب الشمس المشرقة، صورتها لا تبرح مخيلتي وهي واقفة في حجرة الحريم بترام العباسية كعمود من نور في فستانها الأبيض، طويلة القامة مكتنزة الجسد في غير إفراط، ثرية الصدر بيضاء اللون فاحمة الشعر جذابة العينين، حائزة على البكالوريا ومتقنة لفن البيت. ومن الكلام المليح بين الأهل وتبادل الزيارات وترددي على بيتها باتت خطوبتنا حقيقة معترفا بها دون إعلان. من أجل ذلك عزف الخطاب عنها فتزوجت أخواتها وبقيت هي تنتظر، هي زوجتي وأنا زوجها وانحصر حلمي - بعد إتمام التعليم والتوظف - في الزواج منها. وأخلو كثيرا إليها في بيتها، أنا مثل وعاء على نار يرتعش غطاؤه بقوة البخار المحتدم في باطنه، وهي ترنو إلي بعينين يقطر منهما الشوق والحلم، تبادلني القبل وتصدني عن العبث، وتقول بلطف: لكل شيء حدود.
وأركز نظري على فتنة الحاضر ولكنها تمد نظرها إلى المستقبل فتصارحني: عليك بعد التوظف أن توفر من مرتبك مائة جنيه فينتهي كل شيء على خير.
Неизвестная страница