أم أحمد
صباح الورد
أسعد الله مساءك
أم أحمد
صباح الورد
أسعد الله مساءك
صباح الورد
صباح الورد
تأليف
نجيب محفوظ
Неизвестная страница
أم أحمد
لو رجعت إلى الذاكرة ما وجدت إلا صورا متناثرة لا تعني شيئا؛ قمرا يطل من نافذة عالية، أقمارا ثلاثة يخرجن من تحت القبو صفا واحدا، حنطورا يتهادى في الميدان بامرأة كالمحمل. الزمن القديم في الحي العتيق، لم يبق من حياته الحافلة إلا ما تعيه الطفولة؛ مناظر غائمة، وأصوات غائبة، وحنين دائم، وقلب يخفق كلما حركته روائح الذكريات. ما كان أجدر ذلك كله أن يتلاشى في ظلمة الماضي، فلا يستطيع الحب أن يستنقذه من الموت، لولا خالدة الذكر أم أحمد! قوية، سمراء، متحدية، في ملاءتها اللف، ووجهها السافر، وشبشبها الرنان، وصوتها الغليظ النافذ، ولسانها الذي لا يهمد ولا يعرف الحرج، بيتها كان يقع ملاصقا للشرفة التاريخية لبيت القاضي، يصل إليه الزائر من ممر ضيق متصاعد مترب، في جانبه كارو قديمة مركونة مهملة، وأحيانا يرى حمارا واقفا يقتات التبن من مخلاة تطوق علاقتها عنقه، كان يشدني إلى مأواها العربة المهملة والأمل المثابر العنيد في الالتقاء بالحمار الهادئ العذب، وهناك أراها وهي تطهو الطعام أو تطعم الدجاج أو تتسلى بمشاجرة شفهية عابرة. في شبابها اليافع - الذي لم أشهده - كانت زوجة لمعلم كارو.
أنجبت منه بكريها أحمد وزينب وسيدة وسنية، ولعلي لمحت الرجل وابنه مرة أو مرات كشيئين من الأشياء التي يموج بها الميدان التاريخي، ميدان بيت القاضي، ولكني علمت مع الأيام أن المعلم قتل في معركة بأرض المماليك، وأن ابنه أحمد مات في السجن. ولم أشهد أم أحمد في حزنها، حتى حين لحقت زينب بأبيها وأخيها لمرض فتك بها في زمن متأخر نسبيا. كلا، لا أذكر أني رأيتها باكية أو مولولة أو شبه يائسة، ما عهدتها إلا متماسكة قوية ضاحكة أو محدثة، غارقة حتى قمة رأسها في أعمالها، ومشروعاتها، تعيش يومها وتبني للغد. وأذكر قول أمي عنها «لولا قوتها الخارقة لأهلكتها الأحزان.» وهو قول لم أع معناه تماما إلا فيما بعد، فعلمت أن أم أحمد التي عرفتها ما هي إلا الثمرة الأخيرة لصراع طويل مع الألم كتب لها فيه النصر؛ فمنذ وجدت نفسها وحيدة توثبت بهمة صلبة للكفاح في الحياة المتاحة، حتى ظفرت بوظيفتها المرموقة في الميدان والحارات المتفرعة عنه، فباتت أشهر شخصية دون منازع، هي الخاطبة والماشطة وإخصائية التجميل والسعادة الزوجية، وشقت طريقها إلى سرايات الحي جميعا وبيوت الطبقة الوسطى، إلى قيامها بمهام الصحافة والإذاعة والمخابرات، وتحسنت أحوالها، ثم توجت كفاحها بتشييد بيت لها من طابقين على كثب من قسم الجمالية. وألحقت سيدة بالمدارس فصارت معلمة، أما بنتها الصغرى، وكانت أجمل إنتاجها كله، فقد أحبها ابن الأسرة الساكنة في الطابق الأول من بيتها وتزوج منها، وأصبحوا فيما بعد من رجال التربية الكبار في مصر. المهم أن أم أحمد جذبتني بسحر حكاياتها عن الجيران، وخاصة أهل الطبقة العليا، وهي حكايات لا يعرف مدى الصدق فيها إلا الله، ولكنها تحرك الشهية دائما لدورانها حول أولئك السادة الممتازين. ولم تنقطع أم أحمد عن زيارتنا عقب انتقالنا إلى العباسية؛ فقد سبقنا أهل السرايات إلى العباسية الشرقية، فانتقل المجال الحيوي لأم أحمد من حي الحسين إلى العباسية تبعا لذلك، مؤصلة ممارسة وظائفها الساحرة. ولم تتوقف عن نشاطها حتى بعد أن تقدم بها العمر، أو بعد أن أدت فريضة الحج وأمست الحاجة أم أحمد، ولكنها اضطرت إلى لزوم دارها بعد أن زحف عليها العجز وضعف بصرها وقلت حركتها قبل رحيلها عن الدنيا في ختام الثمانينيات. ولا أزعم أنها أحسنت تعريفي بأفراد السادة والسيدات من أهل سرايات حارتنا، ولعلها هي نفسها لم يتح لها أن تعرف حقيقتهم، ولكنها اهتمت بعموميات لا بأس بها، وبشئون مما يتصل بعملها، وعلى أي حال فقد عرفت حقائق عن الأسر ككل، كما عرفت أشياء عن مصائرها. وهي في جملتها تعد ثروة هامشية تضاف إلى التجارب التي حصلها الإنسان بنفسه وحواسه وقلبه. ورغم ما عرفت به أم أحمد من صفات الغجر فقد حظيت بإعجابي لقوتها الذاتية وصلابتها وشجاعتها وذكائها وانتزاعها من الصخر الأصم مكانة مرموقة بين أرقى سيدات ذلك الزمان. ولن أنسى أيضا منظرها وهي واقفة فوق الكارو بين جارات لها في إحدى المظاهرات الوطنية تهتف بصوتها المدوي لسعد ومصر.
وحارة قرمز ذات جدران حجرية عالية، تغلق أبوابها على أسرارها، ولا تبوح بسر إلا لمن ينظر في داخلها، هناك يرى ربعا آهلا بالفقراء والمتسولين يجمعهم الفناء للعمل المنزلي وقضاء الحاجات، أو يرى جنة تغنى بالحديقة والسلاملك والحراملك، من نافذة صغيرة عالية قبيل القبو يلوح أحيانا وجه أبيض كالقمر، أراه من موقعي في نافذة بيتنا الصغير المطلة على الحارة فأهيم رغم طفولتي في سحر جماله، وقد أسمع صوته الرخيم وهو يبادل أمي التحية إذا خلت الحارة من المارة، فلعله بث في روحي حب الغناء، فاطمة العمري، حلم الطفولة المجهول، وموعد اللقاء النافذة، وإذا توارت يوما فإنما لتلقنني الألم قبل أوانه. وكلما غابت حدجت أمي بنظرة عتاب كأنما هي المسئولة عن غيابها، فتضحك طويلا وتحكي لأم أحمد عن العاشق الصغير فتتلقف الخبر لتزفه إلى فاطمة، ثم ترجع إلينا برسالة سعيدة أن أشد حيلي، وأنها ستنتظر عريس الهنا مهما يطل الانتظار، ثم تقول: ولكنك تعشق أمها أيضا، فما حكايتك؟
أمها؟! أراها أحيانا في الحنطور وهو يتهادى بها في الميدان، وعيناها الجميلتان تطلان علي فوق حافة البرقع الأبيض، وجسمها المتمادي في العظمة يملأ المقعد بتمامه. وتضحك أم أحمد ثم تقول لأمي: زينب هانم قالت لي إنها رأته «مشيرة إلي» وهو يتطلع إلى ما بين ساقيها المنفرجتين حتى اضطرت إلى ضمهما .. أيعجبك هذا؟!
من هؤلاء الناس الذين ليسوا كبقية الناس؟ العمري - والعهدة دائما على أم أحمد - رجل قد الدنيا، صاحب فابريكة النحاس ومحل بيع النحاس بالصالحية، أصلهم من القدس، والجد الكبير هاجر إلى مصر ليستثمر أمواله، أنشأ فابريكة في الخلاء قبالة الجبل، ويوم حملت الآلات من محطة مصر إلى الفابريكة محمولة على الكارو تجمع الأهالي ينظرون ويسبحون لله القادر على كل شيء، ومن يومها ما من عروس تزف إلا وتقتني نحاسها من محل العمري. وآل الخير كله لحسين بك العمري زوج زينب هانم، وشيد الرجل سراياه في درب قرمز، وأنجب فاطمة الجميلة وثلاثة ذكور.
وكانت زينب هانم وأمي يتبادلان الزيارة، فتجيء الهانم وحدها دون فاطمة وتذهب أمي وحدها بدوني رغم توسلاتي الباكية. وبقدر ما كانت تعجبني عينا زينب هانم إلا أن جسمها الضخم كان يخيفني. ومن عجب أن الحارة كانت أسرة كبيرة واحدة لا تعترف بالفوارق الطبقية. أجل، لم يكن التزاور ممكنا بين الربع والسراي، ولكن السرايات كانت تفتح أبوابها لأهل الربع في رمضان والأعياد، يجلسون في الحديقة، ويأخذون حظوظهم من اللحوم والكعك ويستمعون لتلاوة القرآن من كبار القارئين. وكشفت أم أحمد عن جانب من دورها في سراي آل العمري، فقالت إنه بفضلها استقرت الحياة الزوجية بين حسين بك وزينب هانم، وبفضل وصفاتها النادرة تمادت المرأة في العظمة حتى حاكت المحمل السلطاني، وقالت وهي تقهقه: وهي اليوم تضرب زوجها باليد والعصا!
وذهلت أمي فقالت أم أحمد مستدركة: بالدلال والحب!
ليس كالضرب الذي نستعمله! أي نوع من الضرب ذاك؟! - وهذا اللحم الأبيض الذي تغوص اليد بين طياته الطرية من صنع يدي!
مرة أمرت الحنطور أن يتوقف حيالي وأنا ألعب في الميدان، ومدت لي يدا بضة بذراع مطوقة بالأساور الذهبية لتهبني قطعة من الملبن بالقشدة، فتناولتها فرحا متلقيا في ذات الوقت مما ذقته من عبير جميل نافذ كأنه عصير مركز لحديقة ورد، وكم شغفتني زيارات الهوانم بهداياها اللطيفة اللذيذة! - ووددت أن أسرع في تسمين فاطمة، ولكن أمها أجلت إلى ما بعد الزواج.
Неизвестная страница
وتساءلت أمي عما يؤخر زواج الجميلة رغم بلوغها الخامسة عشرة، فقالت أم أحمد: حسين بك مصمم على ألا يزوجها قبل الثامنة عشرة. - ولكنها سن متأخرة يا أم أحمد! - لحسين بك رأيه أيضا، ولكن الاختيار ينحصر في اثنين؛ أحدهما وكيل نيابة والآخر طبيب.
وأحسست على نحو ما بأن فاطمة ستمضي ذات يوم إلى بعيد مثل أخواتي وإخوتي، ولن يبقى منها في أحلامي إلا الشذا. حتى الطفولة المبكرة لم تخل من حسرات على أشياء جميلة ومحبوبة يترصدها الضياع والفناء . ودهمتنا ثورة 1919 ونحن ننعم بالهدوء النعسان. استيقظت بغتة على دوي الهتاف وفرقعة الرصاص ورأيت الألوف الغامضة، حتى أم أحمد رأيتها فوق الكارو تهتف. وزارتنا بعد أيام لتسأل إن كنا رأيناها، كانت تتيه دلالا بالعزة والنصر. - سينصرنا الله على الإنجليز ويتم لنا الإفراج عن سعد .. وهي التي أبلغتنا بعد ذلك باعتقال حسين بك العمري تمهيدا لتقديمه للمحكمة العسكرية الإنجليزية، ولكنه أفرج عنه فيمن أفرج عنهم عقب الإفراج عن سعد، فرجع إلى حارة قرمز رجوع الأبطال. فرشت أرضها بالأكمة وتناوحت في سمائها الثريات والأعلام، وزغردت النساء من وراء المشربيات، وتعالى هتاف الفقراء رغم ما فقدوا من أبناء، ووفت أم أحمد بنذرها، فرقصت أمام باب السراي وهي تنشد: «سلمى يا سلامة.» وحتى مأمور قسم الجمالية جاءه مهنئا، بعد أن اعتقد الجميع أن الإفراج عن سعد ما هو إلا مقدمة للاستقلال التام، وبعد فترة قصيرة حملت المرأة إلينا خبرا مزعجا وهو أن آل العمري استقر رأيهم على الانتقال إلى العباسية؛ حيث اشتروا أرضا فضاء لإقامة سراي كبرى. وتساءلت: أمي هل هان عليهم حقا أن يهجروا الحارة التي هي أصل الخير والبركة؟ فقالت أم أحمد بيقين: بعد عام أو عامين لن تجدي أسرة واحدة من أسر الأعيان في الحارة.
يا له من خبر! .. وكيف تكون الحارة إذا انطفأت أنوارهم؟! - الدنيا تتغير بسرعة، الأحياء الإفرنجية هي الموضة اليوم، والعباسية مترامية الأطراف، وفيها متسع للمستورين أمثالكم. - ونبعد عن الحسين؟! - سوارس تنقلك إليه في نصف ساعة.
وتحقق مع الزمن ما خطر لأم أحمد، فانتقل الأعيان إلى العباسية الشرقية وشيدوا قلاعهم العملاقة، كما انتقلت الطبقة الوسطى «المستورون» إلى العباسية الغربية، فسكن البعض بيوتا صغيرة واشترى البعض ما يناسبه. ولم تتواصل الرابطة القديمة بين الطرفين فسرعان ما تعرضت للوهن والتمزق. لأمر ما شغل كل فريق ببيئته الجديدة، وكأن شارع العباسية الذي يفصل بين الجانبين أصبح سدا لا يعبر إلا في الملمات وقد لا يعبر أبدا. عدنا غرباء أو كالغرباء، بل صرنا مع الزمن أعداء أو شبه أعداء، وحمل إلينا الزمن أفكارا جديدة تكرس العداوة والانفصام، وحتى الانتماء للحزب الواحد لم ينجح في محو تلك الغربة الزاحفة. واعتدت أن أجعل من العباسية الشرقية مرتادي ونزهتي خاصة في أصائل الصيف، أتمشى في شوارعها الواسعة وميادينها الأنيقة، أقلب النظر في القصور الشامخة والحدائق الغناء، وأتذكر أحيانا الجيرة القديمة الحميمة الصادقة التي تلاشت في الفضاء، وأتذكر الوجوه المليحة التي علمت القلب الحب قبل الأوان، أتساءل: ترى أين أنت الآن يا فاطمة؟ .. وهل خلق منك الزمن زينب هانم جديدة؟ وجاءتنا بالأنباء في حينها أم أحمد التي ظلت الرابطة الباقية بين الطبقتين المتباعدتين. حدثتنا طويلا عن تضخم ثروة حسين بك خاصة بعد الحرب، وعن إشراك أبنائه الثلاثة معه في المصنع والمحل، وإصهارهم الموفق إلى أسر من طبقة الباشوات، أما فاطمة فقد تزوجت من وكيل النيابة. ووجدتني قد نسيت صورتها تماما، فلم يبق في خيالي إلا نفحة من جمال مجرد وصدى صوت رخيم شديد التأبي والتمنع على الذاكرة. وعلمنا أيضا بإصابة زينب هانم بالسكر وكيف استفحل معها المرض لعجزها عن الانضباط أمام إغراء الحلوى. أجل، فقدت الهانم بصرها في الخمسينيات، ثم ماتت في الأسبوع الأول لقيام ثورة يوليو. والحق أن الثورة لم تمس آل العمري بسوء، ولعله كان من حسن حظ حسين بك أنه هجر الاشتغال بالسياسة عقب انشقاق السعديين عن الوفد، غير أنه شارك أبناء طبقته في خوفهم الثابت وقلقهم الدائم وشعورهم بإدبار الدنيا عنهم. وحديث أم أحمد عن السادة لم يخل أبدا من عطف رغم تعلقها بثورة يوليو وزعيمها. أحبت ثورة يوليو كما أحبت ثورة 1919، ولكن حبها لزبائنها القدامى لم يفتر أبدا، وهي التي قالت لنا يوما بجزع واضح: أما سمعتم عما حدث لزوج فاطمة هانم العمري؟
آه .. فاطمة الجميلة، ماذا حدث لزوجها؟
سافر المستشار في رحلة قصيرة إلى سويسرا، وهناك قابل أحد رفاق صباه وكان هاربا من عبد الناصر ولا يكف عن مهاجمته، ولما رجع المستشار إلى مصر دعي لسؤاله عن مقابلاته لصديقه القديم، ثم لم يظهر له أثر بعد ذلك. - لعله ما زال معتقلا؟ - أبدا .. قيل لهم إن سؤاله لم يستغرق إلا ساعة أطلق بعدها سراحه. - لعله وقعت له حادثة في الطريق؟ - وهل يصعب الاستدلال على شخصية مستشار قد الدنيا؟!
ويسود صمت، ثم تواصل أم أحمد: فاطمة هانم تؤكد أنهم قتلوه ودفنوه في أي خلاء وانتهى الأمر.
اليوم - وبعد رحيل أم أحمد عن الدنيا في الثمانينيات - لا أعرف شيئا عن آل العمري، ولعله لا يهمني أن أعرف شيئا، ولكني قرأت هذا العام نعي فاطمة الجميلة في الأهرام. ولم يمض الخبر بلا حزن ولكنه حزن من نوع خاص، لا كالحزن على الأقارب أو المعارف أو الأصدقاء. إنه حزن يتأدى كأنه شعيرة تتلى في محراب الوجود على لا شيء أو على كل شيء. ثم قرأت عنها رثاء جميلا في إحدى المجلات النسائية بوصفها من رائدات رعاية الطفولة، تلك الرعاية التي بدأتها بتلقائية معي، فحفرت أثرها الطيب في أعماق قلبي.
وآل سعادة بعد آل العمري يومضون في غياهب الماضي الجميل، تقوم دارهم كالقلعة فيما وراء القبو الأثري العتيق. هناك يطالعك جدار عال مركب من أحجار كبيرة تاريخية، أما مدخله فيفتح على عطفة جانبية. ورؤيتي لآل سعادة تتم عادة وأنا في الحارة عندما يخرجون من جوف القبو في طريقهم إلى ميدان بيت القاضي، تنطق وجوههم المشعة بأصولهم الشركسية. هذا عبد الحميد بك سعادة، رب الأسرة، بقامته العالية، وعوده النحيل، ووجهه الأبيض المشرب بحمرة، وعينيه الزرقاوين، وأنفه الحاد الطويل المقوس، يرفل في بذلة إفرنجية وعمامة بيضاء، متوكئا على عصا سوداء ذات مقبض ذهبي، صارم النظرة، متعالي الهيئة، ينظر أمامه، لا يعنى بما حوله. يبث حيث يسير الخوف فيستقبله الاحترام وتتبعه الكراهية، وهذا بكريه الشاب فاضل سعادة ينور المكان بلمعانه وبسحره، بأناقته وحسنه وثيابه الفاخرة. وهؤلاء بنات سعادة الثلاث، بين الطفولة والصبا، جميلات فاتنات ساحرات، يسرن صفا إلى الميدان لشراء الشيكولاتة والدندورمة، يذهبن بلا مرافق ويعدن بلا مرافق غير مباليات بتقاليد الأسر الكبيرة والمتوسطة، وجمالهن يشفع لهن عند الرأي العام الرافض لتعالي الأسرة وعزلتها. أما ربة الأسرة فلا ترى أبدا راكبة أو راجلة، دائما معتصمة بالقلعة وراء الجدران والستائر. كم ولعت عيناي بالجميلات الثلاث وخصوصا الصغرى، وكم حلمت بأن ألعب معهن تحت القبو أو فوق السطح ولكنهن كن يذهبن بسرعة الأحلام ويبقين في النفس بقوة الخيال. وآل سعادة يمثلون البطالة المستغنية عن العمل، المعتمدة في معيشتها على الأوقاف، يقضي الأب وقته بين الكلوب المصري والمقاهي الكبرى في وسط المدينة، ويقنع فاضل بالحصول على الابتدائية. ولا يشك أحد في ثرائهم الكبير، إلا أم أحمد التي تقول وتعيد: إنهم أصحاب أصل ولكن ثراءهم دون ما يظن الناس بكثير .. وعزلة ربة البيت ليست نتيجة للتقاليد أو الكبرياء وحدها، ولكنها ردة فعل لحزن عميق. - الحزن؟!
تتساءل أمي، فتقول أم أحمد: الرجل طول عمره عينه زائغة! .. وذوقه قذر لا كمظهره .. يجري وراء الخادمات والساقطات، وزوجه والحق يقال بنت ناس، وآية في الجمال! - وطبك المجرب يا أم أحمد؟ - منع الطلاق ولكنه لم ينج من القدر، وقد جربت سلطانة هانم الرشاقة ثم نفختها حتى فاقت زينب هانم في الحجم، ولكن المكتوب مكتوب.
Неизвестная страница
وتفكر قليلا ثم تواصل: ولكنها انتقمت من الرجل وهو لا يدري، فخانته كما يخونها. - ولكنها لا تغادر القلعة أبدا!
فتقول أم أحمد مقهقهة: لا يتعذر على اللبان أن يتنكر في زي امرأة ويندس إلى الحريم.
وفاخرت أم أحمد بأنها الوحيدة في الحي التي تصافح عبد الحميد بك سعادة، والتي يقول لها دون تأفف: كيف حالك يا أم أحمد؟
ولعلها الأسرة الوحيدة التي شهدت ثورة 1919 من بعيد، دون اشتراك من أي نوع كان.
وبعد أشهر من قيام الثورة توفي عبد الحميد بك، ولم يشيع جنازته سوى نفر من ذوي القربى وشيخ الحارة، ولم يشترك رجل أو امرأة من حارتنا في العزاء. ولمحت البنات الثلاث وهن يبكين في نافذة ففاضت دموعي، وسرت وراء المشيعين القلائل حتى جامع الحسين. ولم يكن شيء يثير خيالي وأفكاري مثل الجنازات، وشهدت جنازات معدودة لشبان الحارة الذين استشهدوا في أوائل الثورة، وصدقت حرفيا الهتاف المعروف: «فلان حي لم يمت.» وكنت أتوقع أن أراه يعمل ويسير كما كان يفعل من قبل، وتساءلت عن ذلك دون جدوى. وعلى أي حال، حل فاضل مكان أبيه، وما لبث أن هاجر إلى العباسية، ولكنا سمعنا أن الأسرة اشترت بيتا فوق المتوسط بغمرة ولم تشيد قلعة جديدة في العباسية الشرقية، فتبين لنا صدق رأي أم أحمد في درجة ثرائهم. انتقلت الحارة إلى العباسية ولكن لتعيش في دويلات مستقلة. ولولا أم أحمد ما عرفنا بزواج فاضل من كريمة وكيل الداخلية.
رضي به زوجا لابنته، بعد أن رفض يد طبيب فلاح!
وتزوجت كبرى البنات من صائغ غني بالصاغة، والوسطى من وكيل نيابة، أما الصغرى وهي أحبهن إلى قلبي فقد عشقت موظفا بسيطا وأصرت على الزواج منه رغم معارضة الأم والأخ وبقية الأسرة، وقد أقامت معه في بين الجناين لا يفصلهما عن بيتنا إلا خطوات، وهي الوحيدة التي كنت أصادفها في الطريق فنتبادل نظرة عابرة ولكن مترعة بذكريات الماضي .. وقدر لي أن أرى بكريها الجميل وهو يلعب في الشارع أو في الحدائق التي تكتنف الحي وتسكب عليه عبيرها، وطبعا لم أتصور المستقبل المثير الذي كان ينتظره بمنحنى التاريخ. ولما قامت ثورة يوليو مرت بآل سعادة بسلام، بل حل الوقف وأصبحوا أحرارا في التصرف في أملاكهم. وعلمت أن الصبي الصغير ابن البنت الجميلة الصغرى من الضباط الأحرار، بل والمقربين. واختير لوظيفة في المخابرات وسرعان ما جرى اسمه على كل لسان، واكتسب سمعة مخيفة لا تكون إلا لشيطان! وجعلت أقارن بين ما يقال عنه من حقائق وأساطير وبين صورة صباه الجميلة الوديعة، وأتساءل وأتعجب. ورحت أسأل أم أحمد عن رأيها في ذلك فأرسلت قهقهتها العظيمة، وقالت: صدق من قال: إن الأتراك فيهم عرق جنون.
وكانت أسرته قد انتقلت بعد الثورة من بين الجناين إلى المعادي، ولم أعد أرى من أفرادها أحدا، ولكن أم أحمد حدثتنا عن استقالة الأب من الحكومة ليشغل وظيفة في شركة، وأنهم يتوغلون في العز والجاه بسرعة الإكسبريس. وعلى أي حال فقد اندمج آل سعادة أخيرا في الوطنية المصرية ، بل الوطنية الثورية!
إلى يسار قلعة آل سعادة، وعلى مبعدة خمسين مترا تقوم سراي آل البنان. أرى علي بك البنان كل يوم في دوكاره وابنه الصغير محمد صديقي وزميلي وربة السراي فردوس هانم حبيبة أمي وأقرب الجميع إلى قلبها> وعلي بك طويل القامة، غامق السمرة، ذو مظهر جذاب في جبته وعمامته البيضاء، يمضي به الدوكار كل صباح من السراي إلى الطاحونة في مرجوش. هو أتقى الأغنياء بالحارة وأبرهم بالفقراء وأجودهم بالابتسامة، وفي سراياه يقام ذكر كل أسبوع يؤمه جمع من أهل الطريقة الشاذلية، وتقول عنه أم أحمد: علي بك غني وما غني إلا الله.
ثم ترجع إلى التاريخ بصوت منخفض قائلة: كان أبوه يسرح بالبن على باب الكريم، وفتح دكانا صغيرا في الخرنفش، وقامت الحرب، فأمر الله بالثراء ولا راد لأمره. ومات الأب فأنشأ سي علي الطابونة، وشيد السراي، وتزوج من فردوس هانم بنت أكبر حلواني في الحي، وأنجب البنات كالأقمار، ثم جبر الله بخاطره فأنجب محمد على كبر.
Неизвестная страница
أهل حارتنا لا فرق فيهم بين غني وفقير وهم يعترفون بفضل الله عليهم ولا يتنكرون لأصلهم، ودعك من آل سعادة فهم مجانين من ذرية مجانين!
محمد الصغير كان قريني في اللعب في الميدان وفي قطف ذقن الباشا من أشجار البلخ. ودخلنا الكتاب معا فمكث فيه عامين أكثر مني لينقطع بعد ذلك عن التعليم ويمارس العمل في الطاحونة والمحل تحت رعاية أبيه، بدأ العمل في العاشرة، وقرر علي بك أن يشعره بالرجولة قبل مجيئها فألبسه الجبة والعمامة وعامله بجدية تفوق ما يحتمل عمره. وأذهب إلى مرجوش كلما سنحت فرصة لأشاهد صديقي من بعيد وهو يعمل، فنتبادل البسمات الخفية بعيدا عن أنظار أبيه. وعند فراغه من عمله يرتدي جلبابه ويهرع إلي في الميدان لنلهو بألعاب الصبيان. ولما قامت ثورة 1919 شارك علي بك فيها بماله وقلبه ولسانه، واعتقل في يوم واحد مع حسين بك العمري، ولكنه واصل نشاطه السياسي بعد ذلك حتى انتخب عضوا في أول مجلس نواب بعد الثورة، وحافظ على عضويته في جميع البرلمانات الوفدية حتى آخر برلمان قبل ثورة يوليو. وعقب الثورة انتقلت الأسرة إلى سراي جديدة بالعباسية الشرقية، وزوج الرجل ابنه محمد وهو ابن خمسة عشر عاما، وأحيا فرحه صالح عبد الحي وبمبة كشر.
ولم ينقطع ما بيننا وبين آل البنان بالسرعة التي انقطع بها ما بيننا وبين الآخرين، ولكنه انقطع على أي حال. والظاهر أن روح الألفة والتضامن المنبثة في الحارة تتلاشى في الأحياء المترامية. إلا تراث أم أحمد من الخدمات والأساطير فهو باق لا يقتلع من صدور الناس على اختلاف طبقاتهم. ويكتسب أهميته المتجددة من ينابيع الحب والجنس والأحلام الخالدة. وهي أم أحمد التي أخبرتنا على المدى بزيجات بنات البنان؛ واحدة من محام، والثانية من مهندس ري، والثالثة من وكيل وزارة، وأن الأولى شهد زفافها سعد زغلول كما شهد زفاف الأخريين خليفته مصطفى النحاس، ولكن المجتمع تغير في علاقاته وتياراته وأفكاره، واحتدم الجدل والخصام بين أجياله، حتى قامت ثورة يوليو لتواجه التناقضات الجديدة قبل أن تجتاحها ثورة شعبية جائحة. ووجد علي بك البنان نفسه في مرمى مدافع التغيير الثوري، وحمل من سراياه إلى أعماق السجون وهو لا يدري لذلك سببا، ثم وضع تحت الحراسة، فران على الأسرة ستار أسود من الحزن والغم، وانفجر شريان في رأس الرجل فرحل عن الدنيا مستعيذا بالله من الناس وشر الناس، على حين انزوى ابنه محمد في ذعر مقيم. وتصورت أم أحمد أن تلك الأحداث يدبرها رجال عبد الناصر من وراء ظهره وتمتمت متنهدة: عيني عليك يا علي بك يا أمير وعلى أيامك الحلوة.
ولحقت فردوس هانم بزوجها بعد رحيله بعام، ولكن محمد البنان استرد نشاطه في عهد الرئيس السادات، وعاونه الانفتاح فعوض خسائره وضاعف ثروته، بل وتردد اسمه في صحف المعارضة باعتباره من وحوش الانفتاح، فأي حياة وأي سخرية من عجائبها؟! •••
آل المرداني يشكلون الأسرة الرابعة من أعيان الحارة، وتقع سراياهم عند طرف الحارة الآخر المتصل بين القصرين. وتقسم أم أحمد أنها رأت أباه المرداني الكبير يتجول في الحارة حافيا. - ولكنه الحظ والشطارة والحرب!
على أي حال نشأ عباس بك المرداني من كبار تجار الجملة في العطارة، وهو الذي شيد السراي التي تعتبرها أم أحمد أجمل وأفخم سرايات قرمز! - أما زوجته فرحة هانم فهي من أصل مملوكي، جميلة، وما جميل إلا سيدنا محمد.
فتقول أمي: جميلة نعم، ولكنها لا تخلو من عنطزة! - المال كثير يا حبيبتي. - أهم أغنى من البنان؟ - عباس بك المرداني أغنى رجل في الحارة.
وتسكت مليا ثم تواصل: لم ينجب إلا ولدين وانقطعت الهانم عن الحبل لداء احتار الأطباء فيه! - وماذا فعلت أنت يا أم أحمد؟ - فعلت الكثير، ولكن إرادة الله فوق كل إرادة!
وكان عباس بك ضخم الرأس والوجه، غليظ القسمات، بدينا لحد الإفراط، ولكنه كان كريما محسنا وابن نكتة، وكان سلاملك سراياه صالونا للظرفاء وذوي الحناجر الطيبة من الهواة وصغار المحترفين. ولما قامت ثورة 1919 أيدها بماله، ولكنه لم يكن ذا استعداد للاشتراك في الشئون العامة مثل حسين بك العمري وعلي بك البنان. واقتحمت الثورة سراياه وهو لا يدري فانتزعت منه بكريه محمود الطالب بالزراعة العليا، حيث قتل في إحدى المظاهرات. وقالت أم أحمد: لم يبق له إلا شاكر، وكثيرون ينصحونه بالزواج من أخرى. - مسكينة فرحة هانم! - وحزنها فاق كل حد، ربنا يصبرها!
وانتقل عباس بك المرداني إلى العباسية الشرقية كآخر الأعيان المهاجرين، ولوعه الشديد بالهانم زوجته نبذ فكرة الزواج من أخرى، وكان أول من اقتنى سيارة .. «فيات» من الأعيان، وكانت تثير الخواطر إذا مرقت في شارع العباسية في ذلك الزمان بسحرها الخاص وأزيزها الذي يكدر الهدوء الشامل. وانتهت حياة عباس بك نهاية درامية مأساوية في الثلاثينيات وهو في غاية الصحة والعافية والحيوية. وكان يهم بدخول شيكوريل فأصابته رصاصة طائشة في معركة نشبت بين يونانيين فجرت مأساته على أوسع نطاق. وكان شاكر بك ابنه قد أصبح محاميا فصفى تجارة والده، وأخبرتنا أم أحمد أنه تزوج من فتاة بارعة الجمال تمت بصلة القربى للسلطان عبد الحميد.
Неизвестная страница
وقد انضم شاكر بك إلى الوفد، وتجلى نشاطه في الصحافة والبرلمان، ولكنه انضم إلى السعديين عند انشقاقهم وتقلد الوزارة مرتين، ولما قامت ثورة يوليو اعتقل أكثر من مرة وفي مناسبات مختلفة، ثم وضع تحت الحراسة فهام على وجهه كالمجنون. وكانت أم أحمد ترثي لحاله وحال أسرته وأمه ولكني عرفت عنه أشياء .. من بعض الصحفيين، لم يكن من المستطاع أن تبلغ علم أم أحمد. قيل - والله أعلم - إنه عمل مرشدا للمخابرات، وقيل إنه وضع نفسه في خدمة بعض من العرب كقواد دون لبس أو إبهام، وإنه بهذا وذاك أمن المزيد من العسف وكون ثروة كبيرة. وكانت تلك الثروة دعامته في عهد الانفتاح، ليقفز إلى درجات خيالية من الثراء. اليوم الظاهرة الغالبة عليه هي التدين، وكأنما يكفر عن تناقضات حياته الحافلة بالألم والذكريات الأسيفة.
خطر لي ذات يوم أن أزور أم أحمد بعد انقطاع طويل. وجدتها في بيتها مع ابنتها المحالة إلى المعاش بعد خدمة كاملة في التعليم. كان بصرها قد كف وقدرتها على الحركة قد ولت. ولما عرفتني فتحت لي ذراعيها بحرارة وشوق، ثم جلست على كرسي جنب فراشها. لعل لسانها هو العضو الوحيد الذي بقي محافظا على حيويته، ورحنا نتذكر ونتذكر ونقلب صفحات الماضي البعيد والقريب. جلنا معا في جنبات عالم حافل بالأموات، ألا ما أكثر الراحلين! كأن الوجوه لم تشرق بالسناء والسنا في ظلمات الوجود، وكأن الثغور لم ترقص بالضحك، ها هي راوية الحكايات وطبيبة الحب والجنس والسعادة ملقاة على الفراش القديم تشكل عبئا يوميا على أقرب الناس إلى قلبها. وما قيمة الحكايات يا أم أحمد وهي تتكرر بصورة أو بأخرى قبل أن تلقى نفس المصير؟ وقد عبرت الحارة من أولها لآخرها وانغمست في العطر القديم. رأيت قلعة آل سعادة مغلقة مهجورة كالبيت المسكون، أما السرايات الأخر فقد صارت إحداها مدرسة، والثانية مستشفى، والثالثة مقرا للحزب الوطني. وتنبثق من الماضي أصوات وألوان ونبضات قلب، فأقول لها: لقد جمعتنا هذه الحارة ذات يوم ثم فرقت بيننا الأيام، فإلى اللقاء في المقر الأخير.
صباح الورد
لم يبق من شارع الرضوان القديم إلا موقعه ما بين شارعي العباسية وبين الجناين، ويحتفظ أيضا بميل سطحه الطبيعي من مرتفع الشرق إلى منخفض الغرب، غير أن بيوته قد انقلبت عمائر، وتحولت الحقول والحدائق إلى أرض فضاء تباع فيها الخردة ومخلفات السيارات. وحل سكان جدد لا يحصيهم العدد مكان سكانه القدامى الذين تشتتوا في الأحياء أو استقروا في جوف الأرض. كان يستكن في حضن الهدوء الشامل، محاذيا في حبور الحقول والحدائق، يثمل بمناجاة يومية مع أشجار الحناء والياسمين والتين والخضروات، وخرير السواقي، مزهوا ببيوته المهندمة ذات الحدائق الخلفية الصغيرة. في الشتاء تسقفه السحب وتتجهمه وجوهها المكفهرة، وحتى إذا أمطرت مطرة واحدة سال سطحه المائل بالمياه الجارية لتتجمع في شارع بين الجناين صانعة نهرا منه يفور بالزبد. وفي الصيف تلهبه الشمس فتنطلق من صنابير جدرانه خراطيم المياه ترش الأرض مهدهدة حرارتها الحامية. وينظر القادم من الحي الشعبي العتيق فيما حوله بدهشة وسرور، ولا يجد في قاموسه وصفا للشارع والبيوت والناس إلا أنه شارع إفرنجي وبيوت إفرنجية وأناس متفرنجون، لا ينقصه إلا القبعة واللغة الأجنبية. ومع ذلك فقد ترى القبعة فوق شعر مقصوص ألاجرسون، أو تسمع الفرنسية في حوار عابر، وقد نطق صبيانه بجملة: «أحبك وأعطني قبلة.» بالفرنسية قبل أن يتعلموها في المدارس بسنوات طويلة.
واستقرت أسرتي في بيت من البيوت في منتصف الجناح المطل على الحقول، أمي وأبي وأنا، أما الإخوة والأخوات فقد هاجروا هجرة دائمة إلى بيوت الزوجية. والنقلة من الجمالية إلى العباسية في ذلك الزمان تعتبر وثبة من القرون الوسطى إلى أعتاب العصر الحديث. توارت الحارة والأزقة بعبيرها العنبري ومصابيحها الغازية وعرباتها الكارو وملاءاتها اللف والجبب والقفاطين والعمم. وتلقانا الرضوان، ملتقى الريف والمدينة، بعصرية مقتحمة مهديا إلينا المياه والكهرباء والصرف الصحي، وسرعان ما استبدلت بالجلباب البيجاما، والكرة بالسيجة والجري وراء عربة الرش، كما كتب علي أن أرى السيقان والأعناق لتتفتح على إيقاعاتها مراهقتي. كنا أول من هاجر من الطبقة الوسطى الصغيرة، في إثر أعيان الحارة الذين سبقوا إلى العباسية الشرقية فشيدوا القلاع وغرسوا الحدائق. وكان والداي قد فارقا الشباب بعقد أو عقدين من السنين، والحق أن فرحتهما بالحياة الجديدة شابها اكتئاب وحنين، ولم يستطيعا التحرر من هيمنة الحي القديم على قلبيهما، من أجل ذلك لم ينقطع أبي عن حيه، أناسه ومقاهيه، وكذلك أمي واظبت على زيارة الحسين وجيران الزمان الأول، وربما سألت أبي في عتاب: لماذا هجرنا بيتنا القديم؟
أما أنا فقد انقسمت إلى اثنين، تكيفت مع الجديد وأصدقائه ومجالسه وعصريته، وكلما سنحت فرصة للرحلة للحي العتيق انتهزتها حتى جرفت معي الأصدقاء الجدد فاكتشفوا على يدي عالما غريبا، عشقوه، وأقبلوا عليه كالسائحين. على أي حال فلن يطول حديثي عن بيتنا أكثر من ذلك، ولي عودة إليه إن شاء الله في حينه. أما الآن، وسأقتنع بأن أكون ترجمان الرضوان فيما لديه من قصص. هو صاحب الحكايات الأول؛ فهو الذي ضم البيوت يمينا وشمالا، وعلى سطحه التقى الصبية ليبدءوا عهد صداقة دائمة، وفي أركانه ذهب الأبطال وجاءوا، وفي جنباته تطايرت الأخبار وانتشرت، ولو لم يصدق من رواياته إلا نصفها لكفى، بالإضافة إلى أن الزمن كان ينقيها من الشوائب ويسندها بالشواهد، والعبرة في النهاية بما يقال لا بما حدث، ورب كذبة أصدق من حقيقة، فاستمع إلى شارع الرضوان ولا تكن من المتشككين.
آل إسماعيل
يقوم بيتهم في آخر الشارع من ناحية بين الجناين، في الناحية المطلة على الحقول، وهو يماثل أكثر البيوت بهندسته الأنيقة وحديقته الخلفية، ولكنه بحكم موقعه يطل على الحقول وشارع بين الجناين وشارع الرضوان، ويمتاز بدرجة عالية نوعا بأثاثه واستخدامه لطاه مع الخادمة وهو ما يعد من الاستثناء النادر. وتتكون الأسرة من جمال بك إسماعيل - ولا أدري إن كانت رتبته رسمية أم بالشهرة - الموظف بوزارة الأوقاف، وزوجته كريمة هانم وذريته الجميلة مديحة وسامية وعثمان. أسرة ناجت وجداننا حتى نفذت إلى أعماقه. الأب ربعة كبير البطن كث الشارب، مهيب الطلعة، لامع الحذاء والعصا، إذا مر أوقفنا اللعب وتلقينا نظراته الغاضبة في سكون وامتثال. وربما صاح بنا: بدل اللعب والقرف روحوا سقفوا عقولكم!
ينطق «سقفوا» لا «ثقفوا»، فنغرق في الضحك بعد ذهابه ويقول قائلنا: ما هو إلا بغل فخم!
أما كريمة هانم فتسير مختالة بحسنها، متبخترة بلحمها الجسيم كالمحمل، وأما مديحة وسامية فما أجمل ما يشف عنه النقاب من جمالهما الغض، حتى عثمان تميز بالجمال ولكن رقته الأنثوية جرت عليه التعليقات الساخرة الحادة. وترفع عن صداقتنا لفارق عمر بسيط، وكم عبر بنا دون أن ينظر إلينا. واشتهرت كريمة هانم في أوساط الأسر بالخفة، وتمتعت في حياتها بقدر لا يستهان به من الحرية، فكانت تصاحب زوجها إلى المسرح والسينما، وتحكي للنساء عن منيرة المهدية ومسرحياتها الغنائية، وطالما قالت عنها والدتي: سيدة طروب ودمها شربات، ولا نهاية لنوادرها المسلية!
Неизвестная страница
وكنا نرى مديحة وسامية كثيرا لدى عودتهما من مدرسة سان جوزيف بالعباسية الشرقية، كما كنا نعرف أن عثمان يتعلم في مدرسة الفرير. ووجد في شلتنا من ينتقد سلوك الأسرة ومنهجها في الحياة: جمال بك أسد علينا ولكنه نعامة أمام زوجته، فيرافقها إلى السينما والمسرح.
ونختلف على المدارس الإفرنجية التي ألحق بها أبناءه؛ فمنا من رأى في ذلك نقصا في الوطنية، ومنا من أثنى على التعليم في تلك المدارس، وكنا جميعا نشعر بدرجات متفاوتة من الغيرة وننفس عليهم طلاقتهم في التحدث بالفرنسية.
باختصار كانت الأسرة موضع إعجابنا واستفزازنا؛ لذلك رحبنا بأن نسمع عنها ما يسيء. ولعل صديقنا عبد الخالق كان مصدر الهمس الأول بحكم جوار بيته لبيت آل إسماعيل، قال ونحن مجتمعون عند رأس الشارع حيث ملتقاه بشارع العباسية: مديحة بنت جمال بك إسماعيل هربت!
وحدقنا به ذاهلين، وفي غاية من الانفعال: غير معقول! - حصل، هربت مع محام شاب!
حلق بنا الخبر في جو الأساطير وألف ليلة، وواصل عبد الخالق: ولكنه تزوج منها! - ليس خبرا ولكنه لغز! - لا أزيد عما سمعت حرفا.
الأسرة هي هي لم يتغير لها حال، الأب يمضي في مهابته والأم في دلالها وعثمان في رشاقته وغرابته، ولكن الشارع يتلقى التفاصيل والأسرار. قيل إنه تقدم لطلب يد البنت كثيرون وإنهم قوبلوا جميعا بالرفض، لم يملأ أحد منهم عين جمال بك .. هذا فقير، وذاك شهادته دون المستوى، الثالث أهله على غير ما يرام، الرابع أخلاقه كيت وكيت .. حتى يئست الجميلة من ناحية أبيها، فما إن مال قلبها إلى المحامي الشاب حتى اتفقا على الهرب والزواج. لم تقم حفلة للخطبة ولا للدخلة، ولم تقدم شبكة أو هدايا، ولم يتفق على مهر، ولكن الشاب أثث شقة صغيرة وبنى عشه. وبدا أول الأمر أن مديحة قد انفصلت نهائيا عن أسرتها، ولكن القطيعة لم تدم طويلا، وتوسط أهل الخير فرجعت الأمور إلى مستقرها، وخفقت القلوب بالحب والرضا.
وبعد انقضاء حوالي عام ما ندري إلا وعبد الخالق يقول ضاحكا: سامية بنت جمال بك هربت مع ضابط جيش!
وشاركناه الضحك هذه المرة. - البك الغبي لا يريد أن يتعلم! - إنه ولا شك مجنون.
وكررت حكاية سامية حكاية مديحة. الهرب والزواج وبناء العش والقطيعة، ثم الرجوع إلى المستقر والرضا كأنما كانت الأسرة تخلق تقاليد جديدة للحب والزواج. غير أن شائعة غريبة تمطت في الشارع، دعمها عبد الخالق وعم فرج بياع الدندورمة والحلوى، وصادفت هوى شاملا لتصديقها؛ قيل إن حوادث الهروب لم تقع مصادفة، ولكنها جاءت نتيجة تدبير حكيم من جمال بك إسماعيل، ليزوج كريمته دون أن ينفق مليما، لا عن بخل، ولكن لأنه كان ينفق مرتبه كله على رفاهية أسرته والمظاهر الجذابة دون أن يعمل حسابا لغد. لم يستطع أن يدخر نقودا أو يقتني ملكا، فدأب على رفض الخطاب حتى اضطر مديحة وسامية إلى الهرب وتم له ما أراد. كلام قيل وصدق، ولا يعز على التصديق خبر رديء، ثم إنه لا دخان بلا نار. وعلى أي حال كنا نعيش في جو يقطر كذبا وادعاء؛ كل فرد يروي الأساطير عن أسرته وتاريخها، كل أسرة يتسلل أصلها من منبع عريق كان له شنة ورنة على عهد محمد علي أو المماليك أو عهد الرسول نفسه. أما أكاذيب النساء فحدث عنها ولا حرج، وهي تقبل دون مناقشة وإن انحشرت في الحلق كالشوكة؛ ولذلك ما إن تنفجر إشاعة مسيئة كإشاعة زواج مديحة وسامية حتى تقابل بالتصديق والارتياح الخفي. أما نحن - المراهقين أو شبه المراهقين - فكان الجانب الجنسي هو الذي يثير اهتمامنا. انتهاء الهروب إلى الزواج خيب آمالنا وفتر خيالنا وشتت أحلامنا. وددنا لو تقلد الحياة الفن ولو مرة وأن نشهد تمثيلية من تمثيليات يوسف وهبي في شارع الرضوان. ويجري الحوار المحموم بيننا: هل تظن أنه لم يحدث شيء قبل مجيء المأذون؟ - البنت القادرة على الهرب قادرة على كل شيء! - تخيلوا ذلك الجمال النادر عندما تجرد من ملابسه.
وماذا نتخيل إن لم نتخيل ذلك؟! لم ينج أحد منا من سحر مديحة أو سامية أو كلتيهما معا. وكان غيابهما من شارع الرضوان مثل كسوف الشمس أو خسوف القمر، وهيهات أن يسلي عنه الخيال أو قراءة الأشعار الحزينة. لم يبق لنا من آل إسماعيل إلا كريمة هانم، وكان حجمها يخيفنا، وجمال بك الذي يتبادل معنا نفورا ثابتا، وأخيرا عثمان المثير لإعجابنا واستفزازنا وسخريتنا إذا وقفنا اللعب حتى يمر شكرنا قائلا: مرسي مسيو.
Неизвестная страница
فيفجر بعد ذهابه عاصفة من السخرية، وكان يدعو أصدقاء متفرنجين مثله ويجتمع بهم في منظرة البيت. وكان بينهم عازف بيانو يتقن عزف المقطوعات الإفرنجية، فكان يترك في نفوسنا أسوأ الأثر والغضب. أجل كنا نتطلع إلى الفرنجة في نواح أخرى فنقرأ الأدب الغربي المترجم، بل حاولنا أن نتعلم الرقص وخاصة الشارلستون والطانجو، أما الموسيقى فلم يكن من الميسور هضمها. وفي رمضان لم يكن عثمان يبالي أن يسير والسيجارة في فمه! وقالت لي أمي: كريمة هانم لا تصوم أيضا! - وجمال بك؟ - لا أدري ولكن المعقول أنه يصوم.
وتذكرت مساحة بطنه التي تشبه خريطة آسيا فلم أصدق أنه يصوم.
المهم أنه في أوائل الثلاثينيات - وكنا في ختام المرحلة الثانوية - سافر عثمان في بعثة إلى فرنسا، وبعد أشهر دهمنا خبر فظيع وهو أنه اضطر إلى إطلاق الرصاص ليسترد نقوده التي خسرها على مائدة قمار، وأنه ألقي القبض عليه. لم نستطع أن نتصور تطور تلك الشخصية البالغة الرقة والتهذيب من العذوبة اللانهائية إلى الجريمة. وخفق قلب شارعنا رغم كل شيء، ثم وردت الأخبار بأنه قضي عليه بالسجن عشر سنوات في جزيرة الشيطان. يا للهول! .. عثمان جمال إسماعيل في جزيرة الشيطان! إنها الجحيم كما رأيناها في فيلم بسينما أوليمبيا، فكيف يتحملها الفتى الهش الرقيق؟ ولم تعد كريمة هانم ترى في الطريق. أما جمال بك إسماعيل فقد غامت نظرة عينيه البراقتين وثقلت خطاه بالهوان. وقيل إنه استشفع بإسماعيل صدقي رئيس الوزراء، ولكن ماذا تجدي الشفاعة أمام القانون الفرنسي؟! وسمعت أمي تقول ذات يوم بتأثر شديد وهي راجعة من زيارة آل إسماعيل: عيني عليك يا كريمة هانم .. ذبلت عيناك من البكاء!
ولكن المأساة لم تستمر كالجرح الذي لا بد أن يذبل فبلغت ذروتها بوفاة البطل السجين. وغيرت المأساة من حياة الزوجين، فكانت الوداع لحياة السرور والضحك. وما ندري يوما إلا وهما يسافران معا إلى الحجاز لأداء فريضة الحج. وفي أثناء الحرب العظمى الثانية رأيت كريمة هانم في مخبأ الشارع الذي كان يجمع بين أهل الحي كل ليلة. رأيتها في ملابس البيت وقد تخلى عنها لحمها ورواؤها، وعلتها أمارات الكبر .. وعند نهاية الحرب هاجرت الأسرة إلى مصر الجديدة فلم تقع عيني على أحدهما بعد ذلك حتى اليوم. وتتابعت الهجرات من شارعنا إلى الأحياء الأرقى، وشق شارع أحمد سعيد وسط الحقول، فسرعان ما اختفت الخضرة والأزهار وحلت محلها في الأرض الفضاء الخردة ومخلفات الحرب. وفي الخمسينيات - وأنا موظف بالأوقاف - رأيت ذات يوم سامية تمضي بصحبة كهل نحو حجرة مدير الأوقاف الأهلية. رأيت أمامي صورة طبق الأصل من كريمة هانم على عهد النضارة والجمال. وقد التقت عينانا في نظرة خاطفة، وأعتقد أن التذكر تبادل حوارا صامتا بين عينينا، ولكنه كان كافيا من ناحيتي لإحياء عشرة طويلة من الماضي الجميل.
آل مراد
يقوم بيتهم في نهاية الشارع من ناحية بين الجناين في ذيل الجانب الآخر من الشارع، فهو يواجه بيت آل إسماعيل. صديقنا من هذه الأسرة هو آخر عنقودها عبد الخالق، وكان يقيم في البيت مع أخت وأخوين. أما الشيخ مراد أبوه وكذلك أمه فقد توفيا منذ سنوات وهو ما زال طفلا. وبترتيب السن كان محمود هو الأكبر، ورتيبة تليه ثم أحمد، وتفصل سنوات غير قليلة بين أحمد وصديقي عبد الخالق، وكانت رتيبة تقوم في البيت بوظيفة الأم خير قيام. وقال لي عبد الخالق إن أخويه موظفان وإنهما قررا ألا يتزوجا حتى تتزوج أختهم رتيبة. ورغم بساطة الحال والمظهر لم أعرف في حياتي شخصا فخورا مثل عبد الخالق. يحدثنا كثيرا عن أبيه الشيخ مراد وكيف كان من شيوخ الأزهر الخالدين، وأمه سليلة مجد عريق، وأن أباها مذكور في تاريخ الجبرتي، وكان يذكر أخويه محمود أفندي وأحمد أفندي باعتبارهما من موظفي الدولة المهمين. وعرفت الحقيقة بفضل بقية الأصدقاء والزمن والشارع، وعرفت أن فخره لم يكن على غير أساس دائما. أجل كانت أسرته الغصن الوحيد العاري في شجرة مورقة بالمجد والثراء. عمه كان يوما مفتي الديار المصرية، وما زال وقتذاك عضوا في هيئة كبار العلماء، إلى مواقف مشهودة تذكر له في ثورة 1919، وخاله كان في تلك الأيام النائب العام، وما أدراك ما النائب العام؟! وثمة خال آخر يعد في الصفوة المختارة من تجار البلد. إذن ففخره لم يكن بلا أساس يعتمد عليه، ولكنه كان يغالي فيه لدرجة جرت عليه بعض السخرية. وكان ينتهز فرصة نشر أي نعي خاص بأسرته لكي يتلوه علينا بالأسماء المدوية المذكورة فيه، ولكننا لم نشهد يوما أحدا من أولئك الرجال العظام وهو يزور بيت صديقنا المنعزل في شارع الرضوان. وعرفت بعد ذلك حقيقة أخويه الموظفين، فإذا بهما من صغار الموظفين، محمود أفندي بالابتدائية، وأحمد أفندي بالكفاءة. وكان عبد الخالق ذا وجه مستدير وشعر أسود عميق السواد، وأنف أفطس، وعينين مستديرتين صغيرتين، وكان هو ومحمود أفندي ورتيبة ثلاث صور متقاربة لا تمت للجمال بأي صلة، بخلاف أحمد أفندي الذي انطلق بقامة ممشوقة ولون ضارب للبياض وقسمات متناسقة جذابة. وكان طبيعيا أن يؤجل الأخوان زواجهما حتى تتزوج رتيبة، وحتى ينتهي عبد الخالق من مراحل تعليمه التي تعثرت خطاه فيه ولم تبشر بأي فلاح مرموق. كان الفقر يخيم على الأسرة ويطمس معالم مستقبلها، وربما كانت رتيبة مشكلتها الأساسية لفقرها وجهلها وحرمانها القاسي من الجاذبية والجمال. ورغم ذلك فهي لم تستسلم للانزواء والانطواء، وترددت على أسر الشارع في زيارات انفرادية - متجنبة أيام الزيارات المعروفة - لتتفادى الوجود في مجتمعات السيدات بملابسها البسيطة المتواضعة، ولتلقاهن كذلك في بيتها منفردات فلا تكلفها الزائرة أكثر من فنجان القهوة. وكانت محور الخدمة في بيتها، فلم يشعروا بفقد الأم ولا بافتقاد الزوجة، وراحت تتقدم في السن عاما بعد عام في جو من الصمت والقلق. لا شك أن أحمد كان أسعد أعضاء الأسرة، يسير بالشارع تياها بمنظره فيجذب أنظار البنات والنساء، ويوزع نظراته على النوافذ والشرفات مغلقة بالحذر الواجب. جعل من فن الحب مهنته ولم يخب مسعاه فحرره الحب من البيت الكئيب بما يشبه المعجزة. أحبته أرملة غنية تماثله في السن وعرضت عليه زواجا يناسب حاله؛ أي بدون تكاليف تذكر. وانزعج أخوه الأكبر محمود، وقال له إنه سيتركه وحيدا في السفينة الجانحة ولكنه طمأنه ووعده بأنه سيفيض على أسرته مما سيفيض به الله عليه، وتزوج من الأرملة، وانتقلت به إلى المعادي، كأنما لتستأثر به بعيدا عن أهله. والحق أنه لم يستطع أن ينجز وعدا من وعوده الخلابة، وكاد ينقطع تماما عن أسرته تحاشيا للمشاحنات ووجع الدماغ. وساءت حال الأسرة أكثر وبلغ اليأس أقصى مداه بمحمود ورتيبة، أما عبد الخالق فنتيجة لفشله المتكرر في الدراسة التحق بالتجارة المتوسطة بالابتدائية، وانتهى من دراسته المتواضعة قبل أي واحد منا، وبوساطة عمه أو خاله التحق بوظيفة صغيرة بالمعارف. وبحلول الثلاثينيات نبذ محمود أفندي فكرة الزواج تماما يأسا وعجزا، ومضى ينحدر نحو سن المعاش، ورتيبة جاوزت الثلاثين بخمس واستسلمت لليأس، وآمن عبد الخالق بأنه يسير في نفس الطريق، ولكن كان ثمة مفاجأة في الغيب فقد جاء أولاد الحلال بعريس لرتيبة. في الخمسين من عمره، كان وحيدا وعلى شيء من الثراء والمرض، ولعله كان في حاجة إلى الخدمة أكثر من أي شيء آخر. هكذا تزوجت رتيبة قافزة فوق اليأس والظنون، واستقرت أيضا في بيتها الجديد، وأنجبت قبل فوات الفرصة ولدين أتيح لي أن أرى الأكبر ضابط شرطة والآخر ضابط جيش، وصادفتهما كثيرا في أطوار من العمر في بيت عبد الخالق فكانا يناديانني بقولهما: «يا خالي.» أسوة بخالهما عبد الخالق. والحق أن صداقتنا مع عبد الخالق صمدت للزمن قوية رغم اختلاف المشارب والمذاهب، يحفظها الشارع والمقهى والذكريات. واستقبلنا الحرب العظمى معا، وجمعنا المخبأ كل ليلة، وطالما ناقشنا التغيرات النامية حولنا في الناس والأحوال والأسعار. وكان من السهل ملاحظة الحب الجامح الذي يكنه صديقي لأهله عامة ولابني أخته خاصة، شأن الأعزب المحروم من ممارسة العواطف الحميمة، وأيضا لتطلعه الطبيعي الساذج نحو نفوذ الشرطة والجيش يغطي به هوانه كموظف صغير ضائع بلا مستقبل يعتد به، ولكن سوء الحظ كان يرصده من حيث لا يدري؛ ففي الفترة الحرجة التي أعقبت الحرب استولت مبادئ الإخوان على ضابط الشرطة، وفي خضم الصراع بين الإخوان والسلطة انكشف أمره في مطاردة مثيرة وقتل برصاص الشرطة! قتل الجنود ضابطهم، ولم أعرف هذه الحقيقة إلا من عبد الخالق نفسه، بخلاف ما نشر في الجرائد من أنه قتل برصاص الإخوان في المعركة. وأرسل عبد الخالق لنا كلمة مكتوبة يحذرنا فيها من شهود سرادق المأتم خوفا أن نجر بسبب ذلك التحقيق.
وقال لي فيما تلا ذلك من أيام: حتى بيتنا فتشوه!
وراح يتمتم بنبرة باكية: إنه حظي الأسود!
لم أعرف بين أصدقائي من كان يقارب عبد الخالق في عمق أحزانه أمام الموت، وكان يفوق في ذلك النساء أنفسهن، كما لم أعرف أحدا يماثله في شدة تعلقه بأسرته. أما خاصيته الأخرى فهي إدمانه لشراء أوراق اليانصيب وبخاصة يانصيب المواساة أو سباق الدربي العالمي. وكانت أسعد أوقاته هي ما تمضي بين شراء الورقة وظهور النتيجة، حينما يستسلم لعذوبة الأحلام، في مباهجها الأساسية؛ الفيلا، والسيارة، والمائدة، والعروس. وأحيانا يقول لي متحسرا: يا لخسارة النظرات الضائعة في الهواء!
فأسأله عما يعني فيقول: الجميلات في النوافذ!
Неизвестная страница
ويحكي عن بنات العباسية، كيف يطاردهن بنظراته الجائعة، وكيف يستجبن بأدب منتظرات الخطوات التالية التي لا تجيء أبدا. - العين بصيرة واليد قصيرة!
فأقول ضاحكا: ربما يخبئ لك الدهر حظا كما خبأه لأخيك أحمد!
فيقول محتجا: لا تذكرني بالوغد!
كان عبد الخالق متدينا من نوع ما، يحافظ على صلاته وصيامه ويكثر من الدعاء لعل وعسى، ولكنه لا يتردد فيسكر ليلة الجمعة متجرعا أرخص أنواع الأنبذة بشارع محمد علي، ثم يذهب مترنحا إلى درب طياب. ويتغنى إذا سكر:
الحمد لعلام الغيب،
القادر على أن يملأ جيبي،
وآخذ من الدنيا نيبي،
وأتزوج بفرنسية.
وعلى نقيض شلتنا لم يعرف الانتماء إلى الحركة الوطنية، وبامتعاض يقول: كلهم مهرجون، ماذا فعلوا للبائسين؟!
وتحمل الأصوات على الاستعمار والأجانب، فيقول ساخرا: السياسيون يقاسمونهم الخيرات، ويضحكون علينا بالخطب!
Неизвестная страница
ولا سبيل إلى تغيير رأيه، ولعله الوحيد - أو أحد اثنين - في شلتنا كلها الذي قبع في قوقعة محكمة من الأمية العقلية، فلم ينظر طوال حياته في كتاب أو مجلة - عدا المقررات المدرسية، ولم يستطع أن يفرق بين العقاد المفكر والعقاد التاجر بالسكة الحديد - واكتشفنا في زمن متأخر نسبيا أنه يعتقد أن النيل مرادف للنهر، فيوجد نيل في إنجلترا ونيل في العراق ... إلخ. وكان يغلب عليه الوجوم والكآبة فلا يضحك، ويغني ويرقص وينبسط إلا إذا سكر. وجرى الزمن حتى أقبلنا على الأربعين من عمرنا، وعند ذاك فاجأنا الجيش بانقلابه في يوليو 1952. ورحنا نضرب أخماسا في أسداس كما يقولون، وإذا بعبد الخالق يقول: أي حركة خير من الكرب الذي نعانيه.
وسرعان ما تبين له أن ابن أخته الباقي من ضباط الصف الثاني المقربين، وكاد يطير من الفرح، واهتم بالسياسة لأول مرة في حياته، وراح يقول لنا ضاحكا بغير سكر: إذا لم يقسم لنا أن نكون من الأمراء فنحن من النبلاء!
وآمن عبد الخالق بأن ورقة يانصيبه قد ربحت أخيرا، وأن الدنيا مقبلة على أجنحة الملائكة، وسألته: متى تجيء الترقية؟
فقال بحبور: قال لي - ابن أخته - إن الترقية في الوزارة كثيرة الصخب قليلة الثمرة، ولكنه سيبحث لي عن وظيفة في شركة وبمرتب خيالي .. ولم أعد أرى الضابط الشاب في شارعنا، ربما لانغماسه في واجباته الجديدة، وكان يزور خاليه أحيانا مستترا بالليل فيطمئن عليهما ويعدهما خيرا ثم يذهب دون أن يدري به أحد. وقد صادفته ذات صباح وأنا ذاهب إلى عملي وكان يغادر دار الإذاعة بشارع الشريفين إلى سيارة عسكرية تنتظره. هممت بالسلام ولكنه مضى وكأنما لم يرني، اندلق علي جردل ماء بارد. لا يمكن أن يتجاهلني، إنه في شغل شاغل بأفكاره فلم يرني، ولكن لشد ما تغير في أيام معدودة؛ تلبسته هيئة عظمة لا أدري من أين جاءته، ومضى وكأنه صاحب الأرض ومن عليها. وتذكرت بذهول تواضعه وبساطته وعذوبته وسذاجته الثقافية. وخطر لي خاطر أن أولئك الضباط في ثورتهم يمثلون مصر المقهورة في معاناة مشاعرها بالنقص، ولكن يخشى أن ينقلب الأمر في ذواتهم إلى مركب عظمة، ولا يجدوا من يمارسونه عليه إلا المصريين التعساء! المهم أن عبد الخالق كان يعيش في سراب. وبدأت المأساة بصداع متقطع ينتاب الضابط الشاب في رأسه، ثم يشتد ويستفحل، وينجلي الفحص عن اكتشاف ورم بالمخ. وسرعان ما حملته طائرة إلى إنجلترا لإجراء جراحة عاجلة وخطيرة، وبسرعة غير متوقعة أسلم الشاب الروح. أما الحزن الذي حاق بعبد الخالق فمما لا ينسى أبد الدهر، بكى ولطم كالنساء، وأغمي عليه مرتين في منظرة بيته ونحن نقدم له واجب العزاء. والحق أننا قدرنا حزنه وحاله فشاركناه ألمه من صميم قلوبنا. ومضى وقت طويل وهو عائش في مأساته، وكان يقول: أي حظ هذا؟! حدثت معجزة من أجلي فانظروا كيف انتهت!
ويشرد طويلا، ثم يواصل: انظروا إلى حظ الآخرين!
وراح يحصي المحظوظين .. من ضموه إلى لجنة جرد القصور الملكية وما أدراك ما الجرد، من رقي في وزارته وفاق نفوذه وكيل الوزارة، ومن ... ومن ... - حتى جاء دوري فحصل انقلاب للانقلاب!
ونصحناه بأن يستشفع بزملاء ابن أخته من الضباط، ولكن لم يسفر المسعى إلا عن ترقيته إلى الدرجة السابعة. وواصل حياته التعيسة برفقة أخيه الأتعس. ولما مات أخوه في الستينيات باع البيت، وتزوج بنصيبه أرملة في منتصف الخمسين كانت أما لفتاتين متزوجتين، وأقام معها في السكاكيني ولم ينجب. وهدأت أعصابه بعض الشيء بتقدم العمر وسلم بالأمر الواقع، وازداد تدينا وأملا في الآخرة، ولم ينقطع عن المقهى وأصدقائه قط. وفي الثمانينيات توفي بفشل كلوي وهو ابن سبعين بعد حياة مفعمة باللهفة والحسرة والإحباط، طاوية ذكرياتها الجميلة في ماض بعيد لم يكد يبقى من معالمه شيء.
آل القربي
تقوم سراي آل القربي فيما يلي بيت آل مراد، سراي كبيرة مترامية، ينطلق النخيل متجاوزا أسوارها العالية، وتشغل مساحة واسعة بطول شارعنا، وفي العمق المفضي إلى شارع أبو خودة. تلوذ بعزلة صارمة عما حولها، وتغوص في غموض شامل كأنها تاريخ قديم بلا وثائق؛ فلا أحد يعرف شيئا عن الأصل أو الأقارب، وأهل السراي لا يزورون ولا يزارون بخلاف أغلبية السكان الملتحمة بالجيرة والتزاور والمودة. ولم نر من أهلها سوى ربها إحسان بك القربي وابنه الصبي عمرو. كما كنا نرى البواب والحوذي والطاهي ومديرة السراي أمام الباب في العصاري. وكان البك يغادر السراي مرة واحدة يوميا عند الأصيل، على قدميه غالبا، وفي الحنطور نادرا، ثم يعبر شارع العباسية متجها نحو الشرق لقضاء سهرة في أحد القصور. كان بدينا مع ميل إلى القصر، ضخم الخلفية مثل امرأة، طويل الطربوش، ريان الوجه، ثقيل الملامح، يرى العالم من خلال نظارة كحلية اللون ويقبض على مذبة عاجية. كان بطيء الحركة، بارد النظرة، كأنه ناهض من نوم أو ماض إلى نوم، ويمضي غير منتبه لما حوله. وكان عمرو من سننا، ولكنه لم يشجع أحدا على التعرف به ولم يسع إلى التعرف بأحد، وكان يظهر أمام الباب قليلا، وأغلب فراغه يقضيه في الحديقة، وكان صورة مصغرة من أبيه لولا جحوظ في عينيه. وكنا نفضل جمال بك إسماعيل على إحسان بك رغم تأديبه المتلاحق لنا؛ فهو مثير وباعث على الضحك، ولا وجه للمقارنة بينه وبين هذه الكتلة اللحمية الباردة الصامتة، فضلا عن المكانة المرموقة التي استحقها جمال بك لإنجابه مديحة وسامية. ورغم ذلك فقد رسمنا للأسرة صورة، أمدنا الخيال ببعض خطوطها وعم فرج بالبعض الآخر. قال صديقنا عبد الخالق: اسم القربي فيه الكفاية، هو نسبة إلى القربة؛ فجدهم كان - ولا شك - سقاء، وبشرتهم كما ترون لا تشي بأصل شركسي أو تركي أو حتى شامي!
أما عم فرج بياع الدندورمة والحلوى فقد اقتحم بحديثه أسوار السراي إلى الداخل، وقال: ليس في السراي امرأة سوى نفوسة كبيرة الخدم.
Неизвестная страница
وأكد لنا أن الهانم توفيت عقب ميلاد عمرو، وقبله بسنوات عديدة أنجبت موسى بك الذي يعمل اليوم في السلك السياسي. وتناسينا آل القربي بلا اكتراث حتى شدوا انتباهنا في الثلاثينيات بواقعة استفزازية خلقت لهم في القلوب كراهية ثابتة؛ فقد دعا البك إسماعيل باشا صدقي رئيس الوزراء في الثلاثينيات إلى مأدبة عشاء في سراياه. كان الباشا في ذلك الوقت دكتاتور مصر ومعذبها وأبغض خلق الله إلى قلبها. ومنذ عصر ذلك اليوم انتشر المخبرون في الشارع والحي كله، وصادروا أي تجمهر لأبناء الحي حتى اضطررت لمشاهدة ما يجري من نافذة بيتنا. وجاءت قوة من الشرطة واتخذت مواقعها في الشارع بكامل أسلحتها. ومضى المدعوون يحضرون في سياراتهم ويدخلون السراي تباعا. وأخيرا جاءت سيارة رئيس الوزراء، ووقف المدعوون وعلى رأسهم إحسان بك القربي لاستقبال الرجل، ولمحته وهو يغادر السيارة إلى السراي. وامتدت السهرة حتى نهاية الثلث الأول من الليل، ثم غادر الجمع السراي في مظاهرة من السيارات بين صفين من الجنود المسلحين. وانتشر الخبر في الحي كله كالنار المندلعة، وجرى اسم القربي على الألسنة مصحوبا باللعنات.
وتراجع البك إلى جحر عزلته وغموضه حتى شد انتباهنا مرة أخرى في تاريخ لاحق لم أعد قادرا على تحديده. ما ندري ذات نهار إلا ونفوسة كبيرة الخدم تغادر السراي ملتفة في ملاءتها اللف وهي تسب وتلعن قلة الحياء، ماذا حدث يا ترى؟ ومن يكون قليل الحياء؟
وعلق أحدنا قائلا: المرأة ليست شابة ولكن بها رمق ولا شك!
ورجعت المرأة بعد حين بصحبة شرطي فدخلا السراي معا، وبلغت بنا الأشواق منتهاها، واستخفنا السرور، وإذا بركب يخرج مكون من المرأة والشرطي وإحسان بك القربي، فيتحرك نحو قسم الوايلي. - يا ألطاف الله! .. البك نفسه؟! - لم لا؟ - وما دخل الشرطة؟ - طمعت المرأة في قرشين!
ولم نعرف مزيدا من الحقيقة حتى تكلم عم فرج. والله وحده هو المطلع؛ فلم أدر حتى اليوم أين يقف الخيال، وأين تبدأ الحقيقة. قال عم فرج إن البك فاجأ المرأة برغبات شاذة فغضبت لكرامتها وأبت إلا أن تشكوه في القسم. وقال الرجل: تحولت المسألة إلى قضية، وربنا يستر!
أشعلت القضية اهتمامنا، وأثارت خيالنا، وحركت مكامن الجنس في نفوسنا. وزاد عم فرج فقال إن العلاقة ساءت قديما بين البك والمرحومة زوجه لميوله الشاذة. ورأينا الرجل يرجع إلى أسلوب حياته اليومي؛ يذهب ويجيء دون مبالاة وكأن شيئا لم يكن. ماذا حدث؟ هل ينتظر محاكمة؟ .. هل عجزت المرأة عن إثبات التهمة؟ .. هل تم اتفاق من نوع ما؟ .. هل تدخلت جهات عليا لصالح البك؟ .. أفلتت الحقيقة منا تماما، وعادت الحياة إلى روتينها المألوف، وحلت خادم جديدة محل القديمة. وأتم عمرو تعليمه معنا على وجه التقريب في تاريخ واحد، وألحق كأخيه بالسلك السياسي. وبعد قيام الحرب العظمى بقليل غادر البك الحي إلى مكان آخر، فلم أسمع عنه أو عن ابنيه أي خبر، ولبثت السراي مغلقة حتى بيعت قبيل الخمسينيات، وشيدت مكانها أربع عمارات.
آل الجمحي
بيتهم يقع مباشرة لصق آل إسماعيل، وهو بيت عامر بالسكان .. عبد الرحيم بك رب الأسرة، وحسين ابنه وصديقنا، وزوجة وبنات لم يرهن أحد ولم يعرف عددهن أحد من شدة غلظ السياج المضروب حولهن. وعبد الرحيم بك الجمحي من عرب الفيوم وأعيانها، ولسبب ما عهد بأرضه إلى إخوته وهاجر إلى القاهرة، فشيد بيته في شارع الرضوان واستقر. لم ير وجه من حريمه في نافذة أو باب، ولا وجد حاجة لعرض بناته على الأسر؛ إذ كن مخطوبات منذ المهد لأبناء عمومتهن، ولم يسمح لزوجه بزيارة أسرة من الأسر إلا بعد التأكد من بعدها عن «الفرنجة»، فكان من حظي أن أرى زوجته وأنا في صباي الأول، وأتملى لونها الأبيض وقسماتها الجذابة ولهجتها العربية الريفية الممتعة، أما في المجيء والذهاب فكانت تتسربل بالسواد كأنها جوال فحم. وكان للرجل هيبة وعنجهية وصرامة وقوة عمل لها كل إنسان ألف حساب وحساب. كان قوي الجسم كمصارع محترف، غزير الشارب، غليظ القسمات، وبه حول شديد، منفر الصورة، يقبض في سيره على عصا غليظة أطول منه، ويضرب الأرض بقدم ثقيلة وهو يندفع بعباءته وعمامته. وذاع - ولا أدري كيف - أن الرجل قاتل له أكثر من ضحية في بلده. وخطر لنا ذات يوم أن نسأل حسين عن صحة ما يقال، فقال بأبهة: قتل أبي أربعين رجلا!
فرأيت فيه رمز الموت وشبحه وخفته بقدر ما كرهته، وآمنت بأن العدل لن يتحقق على الأرض حتى يقتل هذا الرجل.
وعلى أثر انصرافه من زيارة لأبي قلت لأبي: يقولون إنه قاتل.
Неизвестная страница
فقال ببساطة: ولماذا نصدق ما يقال؟ .. الحق أنه شهم وجار أمين.
ونشأ حسين مثل أبيه في القوة والشراسة والصورة. إذا غضب ضرب، ولا يجرؤ أحد على مواجهته، ولكنه في حال الرضا كان مثال الكرم والمودة، وطالما دعانا للغداء وأتحفنا بالهدايا من الحلوى والفاكهة.
ورغم ثرائه كان تلميذا ناجحا، ويحب المطالعة والمناقشة غير أنه بدا من أول الأمر فخورا بالعرب والعروبة، معتزا بالطبقة؛ ولذلك احترم الملك وعدلي، ولم يخف استهانته بسعد زغلول. نظرته إلى الأمور من فوق إلى تحت، وهو لا يداريها أو يخفيها، يثير عاصفة من المناقشات، ولكننا أخذناه على علاته، بل آمنا بضرورة وجوده كممثل لمعارضة لا بد منها لتجديد حوارنا وإنعاشه. ولم نختلف معه في السياسة وحدها، ولكن أيضا حول المرأة والحضارة الغربية والأفكار الجديدة، ولعله كان الوحيد في شلتنا الذي يفضل الرافعي على العقاد، ولكنه اختلف أيضا مع عبد الخالق على ماشست وفانتوم، فأسفر ذلك الاختلاف عن شراسته. كان ماشست وفانتوم من أبطال الأفلام الذين يأسروننا بقوتهم وشجاعتهم. وفاز كل منهما بفريق من المتحمسين، فكان حسين مع ماشست وعبد الخالق مع فانتوم، واشتد النقاش بينهما عن ذلك حتى غضب حسين الجمحي، وإذا به يقبض على عنق عبد الخالق، ويقول: لو قبض ماشست على عنق فانتوم هكذا ، فماذا يستطيع فانتوم أن يفعل؟
وضغط على عنق عبد الخالق بحنق حتى احتقن وجهه بالدم وانحبس صوته، وخلصنا بينهما وعبد الخالق يلهث. وقاطع حسين فترة طويلة حتى صالحه بدعوة خاصة إلى الغداء. وكان بيت عبد الرحيم بك يواجه سراي آل القربي مباشرة، ولكن لم يحدث أن تبادلا التحية قط. كان إحسان بك يسير كالنائم غائبا عما حوله فيستفز عبد الرحيم بك بتجاهله غير المقصود. ودأب عبد الرحيم بك، كلما مر به الآخر، أن يبصق بصوت مسموع إعرابا عن ازدرائه واستيائه، فيمضي الآخر في طريقه دون أدنى التفات. وتوقعنا أن تحدث أمور أخطر من ذلك، ولكن الله سلم. واعتاد عبد الرحيم بك عند زواج أي بنت من بناته أن يقيم حفلين .. الأول في شارعنا عند كتب الكتاب، والآخر في الفيوم ليلة الدخلة. وكان الشارع كله تقريبا - طبعا لا محل لذكر القربي هنا - يدعى للحفل. وأردنا أن نسمع العالمة - ونرى الحريم - معتمدين على حداثة سننا، ولكن البك الجبار انتبه لتحركنا، واعترضنا غاضبا، وصاح بنا: يا شياطين، مكانكم في السرادق وإلا حطمت رءوسكم!
فهربنا كالفئران، وصورته المتوحشة تطاردنا، وحكيت الحكاية لأبي في اليوم التالي، فقال ضاحكا: إنه يعتبركم رجالا، وما أهمية العالمة ولديكم صالح عبد الحي في السرادق؟!
وظلت الأسرة محافظة على تقاليدها حتى اضطرتها الحرب العظمى إلى اللجوء إلى المخبأ مثل الآخرين. في ذلك الوقت كانت البنات قد تزوجن، وكان حسين قد أتم دراسته الزراعية وسافر في بعثة إلى أمريكا، ولم يبق في البيت إلا عبد الرحيم بك وحرمه. اضطر الرجل أن يجيء بها معه إلى المخبأ الذي يتساوى تحت سقفه عم فرج مع القربي بك. وكانت حرم الجمحي تجيء متلفعة بعباءة ولا يظهر من معالمها شيء. واشتدت الغارة ذات ليلة مشهورة، فتناثرت الأعصاب وصوتت النساء. وفقد عبد الرحيم بك أعصابه كذلك، واندفع يضرب سقف المخبأ بعصاه في حالة هستيرية، وصرخ في النساء بلا وعي: هس .. ستحطم عصاي رأس من أسمع صوتها!
ولم يعد يسمع إلا أصوات المتفجرات ودوي القنابل المضادة، ولم يفكر أحد في مؤاخذته أو معاتبته في تلك الليلة الليلاء.
ورجع حسين دكتورا في أوائل الحرب، وشغل وظيفة في وزارة الزراعة، وعاد إلى عهده القديم في صداقتنا وإن لم تغير الرحلة من موقفه في الحياة بصفة عامة، ظل على محافظته في كل شيء عدا ميل جديد نحو الحضارة الحديثة في مظاهرها المادية المتقدمة. وعند ذلك انتهت حياة أبيه نهاية غير متوقعة، أو غير متوقعة بالنسبة لنا. كان في زيارة للفيوم، وعلمنا عن طريق الرواة أنه زار جزارا من معارفه وجلسا سويا أمام الدكان قبيل المغرب، وكان الدكان في ميدان تتفرع منه شوارع، فلما آذنت الشمس بالمغيب وخلا الميدان من السابلة، انهال الرصاص فجأة ومن نواح متعددة وبكثرة على الرجل. وفي ثوان انتهى كل شيء؛ سقط عبد الرحيم بك قتيلا مضرجا بدمه واختفى الفاعلون. وكان للجريمة ردة فعل عنيفة في الأنفس بالنظر إلى مكانة الرجل وجبروته. وبدأ التحقيق مع الجزار ومع رجلين تصادف قربهما من موضع الحادثة، ولكن اتفقت الأقوال على أن الأمر وقع بسرعة مذهلة وأنهم لم يروا أحدا على الإطلاق. لم يسفر التحقيق عن شيء، وقيل - والله أعلم - إن الشهادة اتفقت على قول واحد رغبة في الانتقام من سفاح خطير أفلت من قبضة العدالة بلا وجه حق، بل قيل أكثر من ذلك إن الشرطة تهاونت في البحث، وكذلك النيابة لأن قلوبها كانت مع القتلة تلك المرة لا مع القانون!
وربما كان ما سمعنا مجرد أسطورة ابتدعت، فإن صح ذلك فلا شك أن بعض الأساطير تتفوق على الوقائع بصدقها وجمالها، وحزن حسين على أبيه حزنا كبيرا، وجعل يقول لنا: أود أن أنتقم لأبي، ولكن ممن؟
ويتنهد بغيظ دفين. ولما قامت ثورة يوليو تقوض بنيان عالمه كله، وأصبح بين يوم وليلة غريبا في دنياه .. وبدا أحرص مما كنت أتصور، فعرف منذ اللحظة الأولى كيف يضبط لسانه ويسيطر على انفعالاته، وتزوج من ابنة عم له، ومضى يبيع أرضه أو ما تبقى منها. وأقام في بيت العباسية وارتضى مستوى من المعيشة دون إمكانياته بكثير. وأقلع عن حديث السياسة حتى مع أخص خواصه، أصبح شخصا جديدا لا يهمه من الدنيا إلا شئون أسرته ووظيفته. لبث كذلك دهرا حتى دهمتنا الهزيمة في 5 يونيو فتعذر عليه أحيانا أن يكتم فرحه، وربما مال على محدثه، وهمس: هل سمعت آخر نكتة؟!
Неизвестная страница
ويروي النكتة بعد النكتة، غير أنه لم يسفر عن وجهه الحقيقي إلا بعد وفاة عبد الناصر، أو على وجه التحديد، بعد السماح بنقد عهده. هناك لمست مدى الحقد الذي تنطوي عليه جوانحه نحو الرجل وثورته. وما كان يمكن أن يزيد حقده لو أنه تعرض لما تعرض له غيره من الاعتقال أو الحراسة أو المصادرة؛ ذلك أن الحقد لم يترك في جوفه زيادة لمستزيد. ولا تتصور طربه عندما انتشرت إشاعة - لعلها لم تقم على أساس - بأن مياه المجاري تسربت إلى قبر الزعيم. كان يرقص طربا، واقترح أن يعلقوا الجثة على باب زويلة حتى تجف! ورغم ثقافته وتعلمه في الداخل والخارج فإنه لم ير في ثورة يوليو إلا أنها انقلاب دبرته عصابة من اللصوص لنهب البلد باسم الوطنية ثم تركتها خرابا شاملا، وتغير حاله في عهد السادات، وازدهر وتألق في الانفتاح، فاستقال من وظيفته واشتغل بالاستيراد وغيره، وأثرى ثراء فاحشا، وشيد لأسرته قصرا في مصر الجديدة وعاش عيشة الملوك. وفي العهد الثالث للثورة - عقب اغتيال السادات - تكشفت له حقائق الأمور كما لم تتكشف من قبل، ولم يتبع الإصلاح الجديد بالتفاؤل الجدير به، وكان آخر ما سمعت من قوله: أشك جدا في أنه يمكن إنقاذ السفينة من الغرق، وسوف يستوي من عنده مال ومن لا مال له؛ ولذلك فإني أفكر في هجرة بلا رجعة، وهي نهاية منطقية لحركة عبد الناصر!
آل مكي
وهذا بيت صابر مكي التالي لآل الجمحي مباشرة. مطرب غير مجهول الاسم، ويقيم في البيت هو وزوجته وابنه يسري وابنته وداد. وداد تماثلني في السن، أما يسري ففي المرحلة الثانوية. وكانت أم وداد وبنتها يزوراننا كثيرا، فعرفتهما معرفة جيدة. وبقي في ذاكرتي من تلك الأيام جمال البنت وضعف الأم وشكواها المتكررة من قلة الرزق وسلوك صابر. كانت تقول: كلما رزقه ربنا بقرشين أنفقها على أصحابه، يولم الوليمة ويدعو إليها كل من هب ودب، ثم نعيش بعد ذلك على باب الله!
وكان في وجهها جاذبية، ولكن يطغى عليه الشحوب والضعف. وفي ليالي الصيف كان صابر مكي يقوم بتدريباته الغنائية في الحديقة الصغيرة الخلفية، فتترامى إلينا الأنغام مخترقة فضاء الحقول. كان صوتا حسنا ولكن صوت وداد كان أحسن. كنا ندعوها للغناء فتغني:
ارخي الستارة اللي في ريحنا،
لحسن جيرانا تجرحنا،
يا مبسوطين بالقوي يا احنا.
وتقول لها أمي في انشراح: بنت الوز عوامة!
والأم فخورة بابنتها، وتقول حالمة: ستكون مطربة وربنا يعوض صبري خيرا.
أما الابن يسري فولد ذكي وهو يحلم بأن يكون طبيبا. ونراه كثيرا في الشارع ولكنه يترفع عن صحبتنا لانتسابه لجيل آخر، وكان صديقا لأحمد أفندي مراد شقيق صديقنا عبد الخالق. وأيضا كان يزورنا صابر مكي ويجالس أبي طويلا في حديقتنا الصغيرة، وسمعته مرة يقول لأبي: صالح عبد الحي رجل غريب الشأن، لماذا يلقب نفسه بعبد الحي؟! دجال يتمحك باسم خاله عبد الحي حلمي ويتبرأ من أبيه، وبهذا الدجل تفوق علينا في الطرب دون جدارة ذاتية!
Неизвестная страница
ولم يكف عن الحنق على صالح، ونفس عليه نجاحه المبكر المكتسح، ومرة أخرى قال: جميع الأمور منحرفة في بلادنا حتى الطرب، وها هو الشيخ علي محمود يحب صوتي حب خبير، ولكننا لا نحصل على اللقمة إلا بطلوع الروح! - فيقول له أبي: صوتك مليح، والأرزاق بيد الله. لكنك تدخن كثيرا يا صابر أفندي.
فيرد باستهانة: ولا يهمك!
وقد سجل عددا من الأسطوانات، وأحيا بعض الأفراح، ولكنه لم يذق طعم الثراء الذي يحلم به، ثم هبت عليه رياح الأحزان فضاعفت من تعاسته، بدأت بوفاة زوجته في ولادة عسيرة. ولعلها كانت أول جنازة أشهدها في الشارع الجديد .. ولما رأيت الأستاذ صابر وابنه يسري يبكيان بكيت، وخيمت على خيالي صورتها وهي تتحدث أو تضحك، فتطلعت إلى نعشها متمنيا الاطلاع على ما آل إليه حالها. وآلمني صراخ وداد فكرهت من أجلها الدنيا. ورأيت جميع رجال الشارع في الجنازة عدا إحسان بك القربي، وكثيرين من رجال الفن. وفي الأيام المتعاقبة جعلت أرقب صابر ويسري باهتمام، وكلما لمحت ابتسامة في وجهيهما قلت لنفسي باستغراب: ها هم ينسون. ولم تكن وفاة الزوجة خاتمة الأحزان كما تمنى المشيعون وهم يقدمون العزاء لصابر؛ ففي الثلاثينيات تعرض يسري - كطالب في كلية الطب - لهجمة شرسة من الشرطة ضمن مظاهرة كبيرة، ونقل إلى مستشفى قصر العيني مصابا برصاصة في بطنه، وسرعان ما أسلم الروح. وقصم استشهاده ظهر صابر، ويوم خرجت جنازته ودعته شرفات البيوت بالصوات والعويل، وتضاعف السخط على آل القربي لوقوع الوفاة بعد إقامة الوليمة للباشا بأسابيع قلائل. لم يبق لصابر إلا وداد، وراحت مع الأيام تنضج وتحلو ويعذب صوتها، فتهفو لها القلوب والأبصار والأسماع. وعلى عهد الإذاعات الأهلية فاجأتنا بإذاعة أغنية من أغاني سيد درويش في راديو سابو. طربت وفرحت كأنما أنا الذي نجحت. وقلنا إنه نجاح يجيء في وقته تماما؛ إذ كان صابر يمضي من سيئ إلى أسوأ في الصحة والعمل. وقررا هجر الشارع فما ندري يوما إلا والعربة تحمل أثاث البيت البسيط وتذهب إلى المجهول.
كان يوما من الأيام الكئيبة في العمر وخيل إلي أن شارعنا فقد ابتسامة مشرقة لا تعوض وذكريات لا تنسى. واعتزل صابر الطرب حتى إننا لم نعلم بوفاته في حينها، ولكن وداد لم تغب عنا بروحها وإن غابت تماما بجسمها. مضت تشق طريقها كمطربة ناشئة في الراديو وعالم الأسطوانات. وكان المعجبون بها يزدادون يوما بعد يوم. وكنت أتساءل: ترى أين تعيش؟ وكيف تتعامل مع وحدتها؟ وهل نسيت أحزانها؟ وكيف استوى جمالها الباهر؟ .. حتى رأيت صورتها في إعلان عن فيلم قادم تتقاسم بطولته مع محمد عبد المطلب. قلت من أعماق قلبي: ها هي لؤلؤة شارع الرضوان تتألق وتندفع في دنيا النجاح ذات السناء والسنا. وذكرت بأسى المرحوم صابر المكي في أحزانه وسوء حظه وعسر رزقه. وذكرت قوله لأبي مرة: هذه البنت ستخلف أم كلثوم على عرش الغناء !
وتمادت قرينة صباي في النجاح حتى اعتلت قمة شعبية لا ترام بين جماهير الحرب العظمى الثانية، وفرحت أمي لها كثيرا وأنشأت تقول: ألف رحمة ونور عليك يا أم وداد.
ولكن البنت الحلوة نسيت الشارع الذي ولدت فيه والجيران الذين كانوا أول جمهورها.
وفي الخمسينيات وأنا في زيارة لاستديو مصر كانت وداد تعمل في تصوير منظر خارجي بفناء الاستديو. كان الوقت ليلا والمصابيح تصب أنوارها على المنظر، ووداد تقف في ثوب عرس، لتمثل الهروب من زفاف فرض عليها دون إرادتها. رأيتها في ثوب العرس كالفلة المتفتحة تشع ضياء وجمالا، الأرض والناس والعمال مأخوذون بنجوميتها المبهرة. ولما انتهوا من تصوير اللقطة وراحوا يعدون الكاميرا للقطة جديدة تراجعت وداد إلى الوراء قليلا بصحبة المخرج وآخرين. أمست على مبعدة يسيرة من موقفي، ولكنني لم أتحرك ولم أفكر في التحرك ولم أتصور أن تتذكرني أبدا. وفي لفتة تلقائية تلاقت عينانا. وعبرتني كأنها لم ترني ولكنها رجعت إلي مركزة البصر. ولعلي في اضطرابي ابتسمت، وإذ بها تمرق من بين الجماعة منطلقة نحوي هاتفة في بساطة: أنت .. حقا الدنيا حلقة .. كيف حال تيزة؟!
تصافحنا بحرارة، واندفعت تسأل عن المعارف والجيران، وأجيب بما أعلم؛ فهؤلاء انتقلوا إلى مصر الجديدة، وهذه تزوجت، وفلان البقية في حياتك وهكذا، وقالت: حركت ذكرياتي، الله يسامحك، يجب أن تزورني، وعند أول فرصة سأزور شارعنا القديم.
لم يحدث شيء من ذلك، لا زرتها ولا زارتنا. كانت دفعة هواء مترعة بالطيب، ولكنها لم تهب إلا مرة واحدة، ولكنها بفنها كانت تعايشنا الأيام والليالي، ويدور الزمن دورة أخرى، ويجيء الخريف بعد الربيع والصيف، وتتكرر المأساة التي يظن صاحبها أنه أول من يعانيها، وقد امتد بها العمر حتى الثمانينيات، وحظيت بصحة حسنة ومال وفير ولكن لا حيلة مع الشيخوخة وتنكر وغول النسيان.
آل قيسون
Неизвестная страница
ولصق سراي القربي يقوم بيت صغير لموظف في شركة المياه يدعى حسن قيسون. كان نساء الشارع يطلقن عليه - لرثاثة منظره - زبال أفندي. وسمعت مرة كريمة هانم - حرم جمال بك إسماعيل - تقول عنه ضاحكة إنه شحاذ إفرنجي. بدلة عتيقة مهلهلة، حذاء غليظ كأحذية الجنود، وطربوش متهدل حائل اللون، ونظرة ثقيلة زاهدة، وقسمات متنافرة. أرمل تخدمه قريبة طاعنة في السن، ولكنه أنجب ولدين عزت ورأفت يماثلاننا في السن ويكبراننا بالعقل. وليست رثاثته عن فقر ولكنها وليدة انضباط شديد وحرص أشد، غير أنه لم يضن على ابنيه بما يضفي عليهما المظهر اللائق. لا يزور ولا يزار ولا يرحب بتوثيق العلاقات الاجتماعية، ولكنه لا يتأخر عن أداء واجب، فيشيع الجنازة ويعود المريض ويترك بطاقته لدى التهنئة. عزت ورأفت كانا نجمين متألقين في شارعنا، في غاية من التفوق الدراسي، وقمة من البراعة الرياضية، ومكانة فريدة في الاطلاع والثقافة، وإلى ذلك كان عزت عازف ناي ممتازا. ومن عجب - ورغم تقارب السن - كانا يلعبان في حياتنا دور المرشد والمربي والحامي. وعزت بالذات مغرم بتقليد «شجيع» السينما في أفلام رعاة البقر في شجاعته وشهامته، فإذا تحرش بنا حرافيش الوايلي انبرى لهم وانهال عليهم باللكمات حتى يطلقوا سيقانهم للريح. وكانت طبقية حسين الجمحي تصطدم بآراء عزت ورأفت الديمقراطية، وكذلك تفاخر عبد الخالق بالأصول والأقارب. وكان عزت خاصة قوي الحجة آسر المنطق، وحتى من ناحية القوة فإن حسين نفسه على قوته تجنب الدخول معه في معركة مجهولة النتائج. وقال لنا عزت ذات يوم: لا يكفي التفوق في الدراسة، ولا الانتماء في الوطنية، وليست الوطنية هي يحيا سعد، ولكن يجب أن تكون أنت أيضا مثل سعد.
وحدقنا به في دهشة، فواصل: الرياضة .. الفن .. الثقافة .. العمل .. هذا هو مستقبل وطننا الحقيقي.
لم أصادف في حياتي أحدا يقارب عزت ورأفت تفوقا وتطلعا للجديد مع الاستقامة وسمو الأخلاق. وكان لهما أثر وأي أثر في تعلقنا بالقراءة والرياضة والفن والتطلع للمثاليات في القيم. وكم قال لنا عزت: أعداؤنا ليسوا الإنجليز والملك فقط، ولكن أيضا الجهل والخرافات.
ولا أشك اليوم في أن حسن أفندي قيسون انطوى على مرب فاضل وإنسان ممتاز رغم قذارة منظره، بل حذرتنا الأيام من التمادي برميه بالبخل والتقتير؛ فإنما كان يقتر على نفسه ليهيئ لابنيه ما يتطلعان إليه من اقتناء الكتب والمجلات والهوايات الأخر، بالإضافة إلى حسن المظهر، وهو ما مكنه أخيرا من إلحاقهما بالطب والهندسة رغم تعذر ذلك على أبناء غير القادرين من الشعب؛ ففي منتصف الثلاثينيات تخرج عزت طبيبا ورأفت مهندسا. وعقب ذلك بعام توفي حسن أفندي قيسون مع تحقيق رسالته وحلمه، وسافر عزت ورأفت في بعثة إلى إنجلترا فأغلق البيت الصغير أبوابه، وانقطعت الصلة بيننا وبينهما فلم نعد نلتقط من أخبارهما إلا ما يجود به الرأي العام. وعن ذلك السبيل سمعنا عن تقدم عزت في مجال الطب حتى صار من أساطين الطب الباطني، أما رأفت فقد تبوأ عمادة كلية الهندسة. وفي الستينيات اضطررت إلى استشارة طبية، فعقدت العزم على زيارة صديقي القديم عزت قيسون. وسرعان ما عرفني فاستقبلني بالأحضان، وخصني بعناية فائقة وغمرني بإحساس إنساني شامل، وتبسط معي في الحديث عن الماضي، عن شارع الرضوان وإخوان الزمان الأول، فتتابعت ذكريات الأحياء والأموات. ومما لاحظته أيضا أن وفديته العريقة حالت بينه وبين التفاهم الكامل مع ثورة يوليو، فاعترف بإيجابياتها ولمس بخفة السلبيات، ثم قال: ولكن أين الشعب؟ .. إنه يخسر كل يوم بعضا من إيجابياته.
فقلت ببراءة: كأنما أصبحنا دولة عظمى.
فقال باسما: دولة عظمى بلا شعب تساوي صغرى!
وقد رأيته مرة أخرى من بعيد في جنازة مصطفى النحاس، ثم قرأت نعيه المفاجئ في نهاية عام الهزيمة المشئومة، أما رأفت فلا أدري اليوم عنه شيئا.
آل حسب الله وفرج
البيت الصغير الثاني في الشارع يلاصق آل مكي، دوره الأرضي فرن بلدي، والثاني شقة صغيرة، والثالث نصف شقة تفتح على نصف سطح مظلل بتكعيبة لبلاب. أما صاحب المبنى كله فهو المعلم حسب الله، ولا أعرف له لقبا أو كنية - وهو صاحب الفرن ومديره - ومسكنه في الشقة الثانية هو وزوجته وبلا ذرية على الإطلاق. وليست صورته مما يعفي عليها الزمن، قصير، مفرط البدانة، ثقيل النظرة والصوت، يكحل عينيه دائما وأبدا، ولم ير أحد امرأته. يتعامل مع عماله بكفه القوية فالعمل يسير كالساعة. وعمله ينحصر في خبز عجين السكان من شارعنا والشوارع القريبة مثل بين الجناين وأبو خودة؛ استجابة لتقاليد ذلك الزمن التي قضت بأن تعجن الأسر في بيوتها ثم ترسل العجين إلى الفرن فيرجع إليها خبزا ساخنا مورد الخدين نافذ الرائحة، كما ترسل إليه في العيد الكعك والغريبة، وفي المواسم الفطير رحمة القرافة المعروفة. وعرف عن عم حسب الله أنه يتعاطى المخدرات، ولكنه كان فرانا ذا سمعة طيبة جدا. ومن عجب أنه لم ير أبدا خارج بيته. ومات في أوائل الحرب، فأغلقت الفرن وتغيرت التقاليد، فجعلنا نشتري الخبز من البقالين والكعك من محال الحلوى.
وأما نصف الشقة فوق السطح فكان يسكنه عم فرج بياع الحلوى والدندورمة وزوجته، وقد أنجب ذكورا وبنتا واحدة ولكن لم يبق له إلا البنت. وكان رجلا خفيف الروح يعلن عن سلعته بالأغاني كعادة كثيرين من باعة ذلك الزمان، ويدعي أنه يعرف تاريخ الشارع وأهله، ويروي الحكايات عن النساء والرجال. وقد زعم أن مبنى الفرن كان أول مبنى يشيد في الشارع عندما كان متر الأرض بمليم! وكان ضحوكا بشوشا ويتعامل مع كل أسرة كأنما هو من صميم أهلها. وقد مات عم فرج قبيل الحرب فحلت ابنته بسيمة محله في إدارة العربة. وكانت تجمع بين القوة وشيء من الأنوثة والحسن، فتزوجت من بياع فاكهة سريح. ولا أدري كيف امتد نشاطها إلى تجارة الخردة أيام الحرب. ولما راجت تجارتها هجرت عربة الحلوى والدندورمة واكترت جراجا صغيرا في الشارع جعلته مركزا لنشاطها وضمت زوجها لمعاونتها. وأقبلت الأيام عليها فاكترت مكانا جديدا في الأرض الفضاء التي حلت محل الحقول، وملأته بمخلفات الجيش البريطاني، وأصبحت معلمة بكل معنى الكلمة. ومضت تتوسع في الإثراء والتملك فاشترت مبنى الفرن وشيدت مكانه عمارة، وكررت ذلك مع بيت آل جمال إسماعيل وبيت الجمحي أخيرا، أما هي فأقامت في شقة حديثة في شارع العباسية نفسه. وعاصرت الثورة ثم الانفتاح الذي بلغ نشاطها فيه الغاية. وإنها اليوم عجوز ثرية، وأم لرجال ناجحين، وبالنظر إلى قوتها وحزمها ونجاحها فإن أصدقاءنا في العباسية يطلقون عليها «مسز تاتشر»!
Неизвестная страница
آل شكري بهجت
وفيما يلي بيت حسن قيسون يوجد بيت آل شكري بهجت، والأسرة تتكون من شكري أفندي ونعمات هانم وسامح وأمينة؛ سامح يماثلنا في العمر ويبادلنا الصداقة. وللأسرة صفة مميزة هي الثورة على التقاليد والتمرد على الزمن وإن لم يتضمن ذلك أي انحراف عن القيم الأخلاقية الحقيقية. وشكري ونعمات يكونان رابطة تعتبر مثالا للحب والتوفيق، وهو موظف بالداخلية وهي حاصلة على الابتدائية، والرجل وسيم مهيب وهي تنافس في جمالها حرم جمال بك إسماعيل. لعلها أول امرأة في العباسية تظهر في الطريق سافرة بموافقة زوجها، وتقول لأمي ضاحكة: زعيم الأمة نفسه يوافق على السفور، وعلينا أن نسير مع الزمن .. أما أمينة فلم تستعمل النقاب قط، تمضي مع أسرتها سافرة أو وحدها إذا زارت هذا البيت أو ذاك. ولما خطبت وهي في المرحلة الثانوية صاحبت خطيبها في رحلات انفرادية، ولم تكترث الأسرة لتعليقات الناس، ولم تعتد أن تكترث لأقوال الآخرين.
ويقول لنا سامح لدى كل مناسبة: الناس؟! .. ما أغبى الناس!
جملة مأثورة يرددها كلما ترامى إليه رأي لأحد في سلوكهم. - نحن نعيش في نسيج عنكبوتي من التقاليد السخيفة.
ثم يخاطب حسين الجمحي وعبد الخالق مراد خاصة: الفارق بيننا حيال بعض التقاليد السخيفة هو أنكم تمارسونها رغم عجزكم عن الدفاع عنها، أما نحن فنرميها بكل شجاعة في صندوق القمامة .. وقد تزوجت أمينة عقب حصولها على البكالوريا. كان من رأيه أن تتم تعليمها في الجامعة، ولكنها آثرت بمحض اختيارها الحب والزوجية. على ذلك كله كان شكري أفندي متدينا، ويرى كثيرا أيام الجمع وهو يغادر جامع البيومي بعد صلاة الجمعة. وفي أوائل الثلاثينيات أدى فريضة الحج، واستقبلت زوجته عودته بالزينات وأقامت سرادقا أمام البيت أحيت به ليلة للإنشاد والأذكار، وأطرب الشهود الشيخ علي محمود بصوته الجميل في سهرة امتدت حتى طلوع الفجر. ومن أسف أن الرجل توفي في نفس العام عقب مرض لم يمهله إلا أياما معدودات، ونشرت الأسرة نعيه معلنة الاقتصار على تشييع الجنازة. لم يكن ذلك شيئا مألوفا في ذلك الزمان ، ولم يكن يصرف الأهل والأصدقاء عن زيارة البيت والاستماع إلى ترتيل القرآن. وذهب الجيران للعزاء فوجدوا البيت مغلقا وخاليا من أهله. ودهش الناس لحد الانزعاج، وعجزوا عن التوفيق بين ذلك السلوك وبين ما عرف عن الزوجين من حب وتوفيق، وارتفع النقد تلك المرة حتى بلغ كبد السماء. ولما اجتمعنا كالعادة نحن الأصدقاء قال سامح: الحزن في القلب لا في السرادق، نحن لا نؤمن بهذه التقاليد، وماذا يفعل المعزون سوى أن يتسامروا كأنهم في مقهى؟! .. من أجل ذلك غادرنا البيت وانفردنا بحزننا في وقار ودون طقوس أو تمثيل .. ورغم إعجاب عزت قيسون بالمبادرات الجديدة، إلا أنه قال في شيء من الحذر: لم يكن من بأس في أن نجالسك ذلك المساء؛ فلا سخف في ذلك فيما أعتقد. على أنه استدرك بعد ذلك قائلا: على أنني لا ألومك ولا ألوم أحدا.
أما عبد الخالق فقد همس في أذني: أسرة مجانين!
وحسين الجمحي همس أيضا: عليهم اللعنة، ضنوا بإنفاق قرشين تحية لذكرى الرجل!
أما المفاجأة المذهلة فقد وقعت بعد وفاة الرجل بعامين أو ثلاثة. كان سامح قد تخرج وتوظف وتزوج زواجه المبكر، فما المفاجأة؟ ذاع وتأكد أن نعمات هانم تزوجت من رجل يماثلها في السن أو يقل عنها! إنها تقترب من الخمسين، ومسلم به أنه ما زالت في صحة كاملة وجمال غير منكور، ولكن هل يسوغ ذلك الزواج مرة أخرى؟! ويبدو أنها لم تجد من يدافع عن سلوكها في البيوت كلها، بين المتزوجات مثلما بين المطلقات والأرامل، وكأنما فقد الزواج شريعته الدينية المطلقة. أما نحن معشر الأصدقاء فقد اتفق رأينا على تجاهل الموضوع رحمة بصديقنا العزيز غير أنه كان هو الفاتح له، قال ببساطته المستفزة: العريس فاتحني أنا أولا مستأذنا، والحق أنني رحبت به.
فهتف حسين الجمحي: رحبت به؟! - لم يهن علي أن أتركها وحيدة في بيتنا، ولم لا؟ إنها جميلة وعلى أكمل صحة وعافية، لعلي وجدت صعوبة بعض الشيء في إقناعها، ولكنني قلت إنه العقل والشرع!
فتساءل عبد الخالق: والمرحوم؟ .. ألا شأن له في الموضوع؟! - المرحوم في قلوبنا، ولم يعد له شأن بحياتنا، ونحن لم نخلق الموت، ولكننا مطالبون باحترام الحياة.
Неизвестная страница
وسئلت على انفراد عن رأيي فأجبت: إني أشعر بإعجاب وامتعاض.
ويمكن اعتبار سامح من مدرسة عزت ورأفت مع اندفاع بلا حدود. ومع اتجاهه إلى الدراسات العلمية في المدرسة والتخصص فإنه برع في الموسيقى وعشق المسرح والثقافة، ودعا بكل قوة إلى العصر الحديث علما وصناعة وحضارة، واستمد رؤيته في الحياة من رغبة الخديو إسماعيل في جعل مصر قطعة من أوروبا.
وعزت ورأفت يشاركانه الإعجاب بالعصر ولكن في اعتدال، ومع الاهتمام بحضارتنا القديمة الفرعونية والإسلامية. ولم يكن ممن يعتبرون الحضارة الغربية حضارة غريبة عنا، وهي لم تسم باسم خاص إلا بسبب البيئة التي نشأت فيها، ولكنها في الواقع الثمرة الأخيرة في شجرة الحضارات الإنسانية التي أسهم البشر جميعا في غرسها. - فلا علم اليوم إلا علمها، ولا أدب إلا أدبها، ولا فن إلا فنها، ولا فلسفة إلا فلسفتها.
فقال له الجمحي: أموت قبل أن أتذوق موسيقاها، هذا على سبيل المثال لا الحصر. - المسألة مسألة تدريب ليس إلا، أما التراث فلا معنى له، كان ذات يوم حضارة حية متقدمة ثم تجاوزه الزمن فأمسى خرقا بالية!
إنه خواجة بلا قبعة؛ بسبب جو أسرته وقراءاته والمراكز الثقافية والأجنبية، وصداقاته المتعددة للإنجليز والفرنسيين، أما انتماؤه الوطني فكان دون المتوسط رغم اندلاع الحركة الوطنية، ولا أذكر أنه اكترث يوما لخلافاتنا الحزبية. وبالرغم مما أثاره من اعتراضات وانتقادات فلم يحفل أبدا بآراء الآخرين، ولم أشهد له نظيرا في شجاعته. وقد تخرج في كلية العلوم واشتغل مدرسا في المدارس الثانوية، وسرعان ما تزوج من مدرسة متخرجة في كلية الآداب تماثله في السن على أحسن الظنون، واتخذ مسكنا في شارع العباسية. ولم تفتر علاقته بنا ولا لقاءاته معنا في المقهى. وأصبح صالونه منتدى لنخبة من الزملاء ممن كانوا على شاكلته بالإضافة إلى بعض الأجانب. وكان يضرب على البيانو بامتياز، ويلقي محاضرات في الجمعيات التقدمية أو يعلق على بعض الأفلام، ولكن مواهبه لم تتجاوز به ذلك القدر من النشاط.
ولما قامت ثورة يوليو راقبها بحذر، ومضى يميل إليها مثنيا على اندفاعها في طريق التصنيع، واعتبر ذلك حجر الأساس في التحول نحو الحضارة الحديثة. وفي أثناء ذلك أنجب من البنات أربعا وختم بعد فترة انقطاع بولد. أما البنات فقد تعلمن وتوظفن وتزوجن، وأما الولد فقد التحق بكلية الطب مع إحالة سامح إلى المعاش في السبعينيات، وكان يدخر له مفاجأة أو مشكلة لم تجر لأحد في بال. وها أنا أرويها نقلا عنه كما رواها على فترات متقطعة تبعا لحدوثها.
كان اسم الولد شكري كجده، وكان وسيما رياضي الجسم ومتقدما في الدراسة، وكان سامح يحبه حبا فاق حبه أي شيء. ولاحظ بعينيه المحبة أن الشاب لم يعد كسابق العهد به؛ فتر مرحه، ومال إلى الانطواء، ورمق والديه بنظرات غريبة حائرة لعلها أزمة من أزمات المراهقة، أو قصة حب خائب، وإذا بأمه تسأله: ما لشكري يا سامح؟ .. إنه لا يعجبني. - ولا أنا، فلنعترف أنه جيل مجهول رغم أي ادعاء آخر. - ولكننا ربيناه على الحرية والصراحة! - حلمك وصبرك، إنه جيل يعاني من ذكريات الهزيمة والغلاء والمستقبل المسدود! - عليك أن تستدرجه إلى الكلام. - إني أتوقع أن يتكلم هو!
وتكلم، غادر حجرته الحاوية لفراشه ومكتبه إلى حجرة المعيشة حيث يجلس والداه أمام التليفزيون. ضغط على مفتاح التليفزيون فأسكته، وجاء بكرسي صغير فجلس أمام والديه، وهو يقول: ثمة سؤال يشغل بالي.
فقال سامح بشيء من الجدية: ولكنك أغلقت التليفزيون دون استئذان! - آسف، ولي عذر في الهم الذي يركبني. - ليكن، وإن كنت لا أوافق على هذا الأسلوب، ماذا لديك؟ - لماذا لا تصليان؟
ذهلا للمفاجأة، وخيم صمت فاندفع فيه زفيف رياح خريفية تهب في الخارج، أي سؤال لم يتوقعا أن يسمعاه أبد؟! - ولم تصوما رمضان قط؟
Неизвестная страница
ثم بنبرة أعلى: ولدى كل سهرة في الصالون تقدمان الخمر وتشربانها!
كيف يجيبان؟ ليسا متدينين ولا دينيين، لا يضمران للدين شرا ولا خيرا، لا يشغل لهما بالا. ولا فلسفة وراء ذلك، ولا يتصوران أن الله يكترث لشرب الخمر أو الامتناع عنها. الأمور تجري بلا تفكير ولا مشكلات. إنهما لا يؤذيان أحدا ولا يسمحان لأحد بالتدخل في شئونهما الخاصة، ولكن المتدخل هو ابنهما الوحيد، وهو يطرح سؤاله في حرية كاملة ولكن لا حرية لهما في الإجابة بل يشعران بأن الإجابة يجب أن تلتزم حدودا معينة. وتبادلا نظرة؛ نظرة حيرة واستغاثة. ولما طال الصمت تساءل الشاب: ألستما مسلمين؟
فقال سامح: طبعا. - المسلم ليس مجرد اسم، ولكنه عقيدة وسلوك.
فقال سامح بضيق: المسلم مسلم في جميع الأحوال.
فقال شكري بأسى: كلا .. إما أن تكون مسلما أو لا. - هذا رأيك؟ - نعم .. مذ هداني الله إلى طريقه.
فتساءلت أمه بقلق: هل انضممت إلى التيارات التي يتحدثون عنها؟ - هداني الله إلى طريقه! - إنه طريق شديد الخطورة. - هو طريق الله، ولا يهم ما عدا ذلك.
فقال سامح باستياء: لم تحدثنا من قبل بهذه اللهجة؟ - كنت في غيبوبة الجاهلية! - لا أقبل أن تخاطبني بهذا الأسلوب. - انظر! طالما شجعتني على الصدق والصراحة، ها أنت تضيق بمن يخالف رأيك! - فليمض كل في حياته كما يرضاها!
فقال الشاب بتصميم: غير ممكن، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان.
لم يسمعا بالحديث من قبل فوجما وهما يتفكران فيه، ثم سأله سامح متهكما: وماذا اخترت؟
فقال بتأثر: إني حائر بين الواجب وبين البر بكما.
Неизвестная страница
وتنهد سامح، ثم قال لينهي الحديث الأليم: شكري، احصر انتباهك الآن في دراستك الصعبة، ولما تقف على قدميك افعل بنفسك ما تشاء، أسرتنا لم تقم يوما على الإكراه أو العسف.
وظن أنه تحاشى الزلزال كي يسترد أنفاسه، ولما انفرد لزوجه قال: إنه يتكلم مستندا إلى الدين والتراث، فكيف نناقشه؟
فقالت بحيرة: لن تستطيع أن تقول له إنه مخطئ، أو نقنعه بأننا على صواب. - هذه هي المشكلة!
وضايقه موقفه المتخاذل، فقال مدافعا عن كرامته أمام نفسه وأمام زوجته: لو أن لي رأيا محددا في الدين لألقيت به في وجهه!
وانبثق سؤال من عدم لم يطرح من قبل: ترى ما الرأي في الدين؟! خيل إليه أنه مؤمن بالله ومؤمن أيضا بأنه لا شأن لله بحريته الشخصية، وأن الفرائض لا معنى لها، والخمر مفيدة وممتعة ما احتملتها الصحة، ولكنه مقتنع تماما بأنه لا يستطيع أن يصارح ابنه بذلك، ولم يتصور من قبل أنه سيواجه هذا الموقف الحرج.
وقال لزوجته: إنه يطالبنا بالتخلي عن أجمل ما في حياتنا!
فحركت رأسها بالموافقة دون أن تنبس، فتساءل: كيف نستطيع أن نواصلها دون متاعب؟!
كيف يمارسان حياتهما المألوفة تحت سمعه وبصره؟!
وضاعف من همهما أنه دأب على تجنبهما تماما؛ فهو إما في الكلية أو في جامع الحي، أو في حجرته؛ طعامه يتناوله في المطبخ، إنها مقاطعة مطلقة .. هما نفسهما فضلا ذلك - مع الألم والأسف - على مواجهة أخرى أليمة. إن يكن استطاع أن يتحدى ناقديه طوال حياته بلا مبالاة كاملة فإنه لا يستطيع أن يفعل ذلك في بيته ومع ابنه.. إنها مصيبة لا تخف بمرور الزمن ولكنها تتعقد وتستفحل وتنذر بشر العواقب. - كدرت صفوي، عليك اللعنة!
واضطر أخيرا إلى إحياء سهراته في بيوت أصدقائه بعيدا عن ابنه، وخوفا من أن يقدم على تصرف أحمق يحرجه أمام المدعوين. وحنق على تلك التيارات المتطرفة، واعتبرها غريمه الأول في الحياة. ومضت الحياة في ذلك الجو الكدر حتى قذفته بالمفاجأة الأخيرة، فما يدري ذات يوم إلا وشكري يلقى القبض عليه في أعقاب معركة دامية مع الشرطة بتهمة القتل. أدرك سامح أنه خسر ابنه الوحيد الذي عقد به آماله، وانطلق يبحث عن محام قدير ويدبر له المال اللازم من مدخراته وبيع بعض حلي زوجته. ورفض الشاب مقابلة والديه وأنكرهما، وفسد مذاق الحياة تماما، ومرت الأشهر السابقة للمحاكمة كأسوأ ما تكون الأيام. وتمت المحاكمة وقضي على الشاب بالشنق، ونفذ الحكم، وأسدل الستار على المأساة الدامية.
Неизвестная страница
ماذا حدث لصديقي بعد ذلك؟
إنه يبذل قوته كلها كي لا يغلبه الحزن أمام الناس، يتظاهر بالتسليم بالأمر الواقع والارتفاع فوقه، ويأبى أن يرجع عن رأي من آرائه المأثورة، ولكني شعرت طوال الوقت بأنه يغالب ألما دفينا حادا وباقيا كالظل. ويوما قال لي بنبرة ساخرة: الولية بدأت تصلي وتصوم وتتعلم أصول الدين في كتاب الديانة للمدارس الابتدائية!
ولأول مرة في أثناء ذلك العمر الطويل أشعر بأنه يكتم عنا أشياء تحاوره في أعماقه، وأنه على أي حال لم يعد الشخص الذي كان.
آل السناوي
الشيخ السناوي هو الجار المباشر لآل شكري بهجت، إمام جامع الكومي، ولشيخوخته وورعه ذاع صيته كمصدر من مصادر البركة والخير. وكان يعيش في بيته مع زوجة طاعنة في السن أيضا وابن وحيد يدعى محمد وهو صديقنا. وعرفنا أن أم محمد هي الزوجة الثانية للشيخ. تزوج منها على كبر بعد أن فقد الأولى وذريتها بصبر المؤمن المسلم أمره لله. محمد إذن وحيد أبويه مركز الرعاية والحب، ومدلل الأسرة رغم كل شيء. أقول رغم كل شيء لأنه إذا قيمناه بوجهه فهو توءم قرد. ومع أن شهادة ميلاده تقرر أنه يماثلنا في سنه إلا أن مظهره يضيف إلى سنه الحقيقية عشر سنوات على الأقل. ورغم أن التربية الدينية تدين من يسخر من آخر لعاهة فيه أو دمامة باعتباره على أي حال من صنع الله القدير إلا أننا خرقنا القاعدة واستسلمنا لإغراء السخرية من دمامته بإفراط ملحوظ، وشجعنا على ذلك تسامحه الطيب وسعة صدره وقدرته الفذة على مقابلة السخرية بالسخرية. واحترنا في تعليل قبحه؛ إذ إن الشيخ السناوي كان على قدر مقبول من القبول، وأجمعنا على اتهام أمه التي لم نرها وتحميلها المسئولية الكاملة. وحظه في الحياة شابه وجهه، فالرزق محدود، وضاق أكثر عقب وفاة أبيه، واستعداده للدراسة في حكم المعدوم، فلم يوفق إلى الحصول على الابتدائية، ومن نوادر سقوطه أنه سقط مرة في امتحان الخط، وكان لاعب كرة فاشلا، غير أنه توهم دائما أنه عبقري زمانه.
نقول له: ولكنك لم تجرب النجاح أبدا!
فيرد هازئا: وأي علاقة بين هذا وبين الذكاء؟! .. ألا تنجحون جميعا رغم غبائكم؟!
وسعى له أصدقاء أبيه حتى ألحقوه بوظيفة صغيرة بالأوقاف خارج الكادر. ولما شعرت أمه بدنو الأجل زوجته من قريبة لها عانس، قدرنا جميعا أنها تكبره حتى لو قسناه بعمره المفترض لا عمره الحقيقي، ولكنه وفق في زواجه، وفاخرنا بفحولته الفذة، وقنع بالحد الأدنى من المعيشة صابرا، وأكرمه الله بولد قبل أن تنقطع المرأة عن الحبل. وباختلافه إلى المقهى معنا عرف إحباطات جديدة في خيبته القوية في ألعاب الشطرنج والدومينو والنرد، ولكنه لم يعترف أبدا بقصوره وعلق هزائمه بالحظ وحده، فالحظ السيئ هو القدر الوحيد الذي لم يكابر في الاعتراف به. على ذلك كله كان أكثرنا ضحكا وتهريجا وانبساطا. ومضت الحياة ممكنة دون يسر حتى قامت الحرب العظمى الثانية وهبت علينا رياح التغيير وأمواج الغلاء المتتابعة. هنالك اقتحمته المرارة فصب غضبه على كل شيء، شابه في ذلك عبد الخالق مراد، ولكن على حين كان عبد الخالق رافضا لجميع الساسة فإن محمد ركز هجومه على الحكام فكان دائما وأبدا في صف المعارضة. اليوم وفدي وغدا ملكي، لا يهم، ضرباته دائما وأبدا مسددة نحو الجالسين على كرسي الحكم، وقال قولته المشهورة التي أثرت عنه لتكرارها: ستجري الدماء حتى تبلغ الركب!
مبشرا بثورة دموية يموج بها خياله لتجتث الأغنياء والحكام من جذورهم. ولما اشتدت الغارات الجوية وأخذ المخبأ يجمعنا ليلة بعد أخرى، قلنا له: ستتحقق نبوءتك وتجري الدماء ولكنها ستكون دماءنا نحن لا الأغنياء والحكام.
ونجده مشغولا عن تعليقاتنا بتلاوة آية الكرسي مستعيذا ببركتها، كما علمه أبوه في الزمان الأول. ولا أنسى انشراحه عقب حريق القاهرة وقوله باسما عن أسنانه المثرمة: أول الغيث قطر!
Неизвестная страница