ما أكثر ما سمعت ذلك! يدخل في أذن ويخرج من الأخرى؛ أجل لم أحمل هما من تلك الهموم. وإلى ذلك كله عشت منذ رحيل الأسرة بلا مطبخ؛ بالسندوتش والمعلبات، ومع الراديو والتليفزيون، ولكني لم أكف أبدا عن التوق إلى الزوجة والأولاد، حتى الساعة لم أكف، وأخيرا وجدت الخلاص في النرد. وتظل ساعة الرجوع إلى العمارة المتهرئة بشارع أبو خودة أثقل الأوقات كآبة، على مدى صلتي بحمادة الطرطوشي اطلع على الكثير من خفايا حياتي. ولما حكيت له حكاية ملك سألني: ما عمرها اليوم؟ - تصغرني بعام أو عامين على الأكثر. - وحالها كامرأة؟ - رأيتها مرات من بعيد وأنا ماض إلى المقهى في شرفة شقتها، يخيل إلي أنها ما زالت امرأة!
فقال جادا: أرملة، ابناها في السعودية بصفة دائمة، وحيدة مثلك وقريبة لك، زرها يا أخي وجس النبض!
ضحكت لغرابة الفكرة ولكنها عششت في رأسي مذ اقترحها، وتخيلت عنها كل ما يستطيعه الخيال. وقبل ذلك لم تكن تغيب عن خواطري وخاصة عند اشتداد أزماتي الجنسية، تزورني وأنا أتأهب لاستقبال النوم، ويدور الحوار وتحدث الأفعال ولكن مع الفتاة القديمة، فتاة القلب والأحلام الزوجة التي أعدتها الطبيعة لي وأعدتني لها فيا للخسارة! لا أقول إنه حب فذ تحدى جميع تلك الأعوام؛ مات الحب في وقته، شهدت زفافها كالغريب، ولكنها الوحدة والجوع. وألعن تقلبات الزمن التي اجتاحت وطني والعالم وغزتني في عقر داري، وأصب لعناتي على موطني بين أبو خودة وميدان الجيش. وأتساءل من قبلي ولد، ونشأ وتقاعد في حي واحد وشارع واحد وشقة واحدة بل وحجرة واحدة، كلما هم بالتحرك قبضت عليه الأحداث. وعداوتي تتصاعد بصفة خاصة نحو مدخل العمارة القديمة، واسع مظلم نهارا وليلا وبئر السلم مكتظ بالنفايات، السلم متآكل ذو لون كآبي مستمد من القذارة، عمارة بلا بواب، وشقق بلا خدم، رغم شقائي بالتنظيف والترتيب فرائحة ترابية تقتحم خياشيم الداخل، ووراء ذلك كله يجثم التضخم والانفتاح والحروب والنظام الاقتصادي العالمي، وما كان لي من طموح أكثر من أن أتزوج من ملك ابنة قريبي بهاء أفندي عثمان. قال لي حمادة الطرطوشي ذات مرة: لا أتصور أن الوطن سيخرج بسلام من أزمته.
فقلت له وأنا من القرف في نهاية: دعنا في أزمتنا نحن! .. عمرنا يحسب باليوم وعمر الوطن بالقرون!
إنه محب للأحاديث العامة على حين أن همومي الشخصية دفنتني تماما، وأنظر إلى أطلال الشقة وأتساءل أحقا كانت هذه الأطلال مهد الدفء والحنان والكرامة؟! أمي بعد إنجاب فكرية وزينب أنجبت ستة ذكور ماتوا جميعا في الطفولة ثم أنجبتني أنا، مجدد الأبوة والأمومة ولعبة القلبين .. بل لعبة أربعة قلوب، وهل أنسى حب فكرية وزينب؟ يشتركن جميعا في إعدادي لصحبة أبي إلى المقهى للتسلية والفرجة، أمي تمشط شعري، فكرية تلبسني بدلة البحار، زينب تلمع لي الحذاء، يخرج أبي من حجرته متأنقا غاية الأناقة، بدلة آخر موضة، رائحة زكية يقطرها له الحلاق، عصا ذات مقبض عاجي، يلقي علي نظرة استحسان من نظارته المؤطرة بالذهب، ويقول لي باسما: تفضل يا حليم بك!
اسمه عبد القوي البيه، والبيه في الحقيقة اسم لا لقب ولكنه يضيفه علي لقبا، رغم أن جدي البيه كان فطاطريا في شارع الشيخ قمر. وفي المقهى يطلب لي الدندورمة، ويحدث أصحابه عن ذكائي المبكر، ويقول: له صورة تذكرني بسعد زغلول في صباه!
الحق أن لي عينين تريان أكثر مما ينبغي، تجمعنا المائدة جميعا، ها هي الأسرة بكامل هيئتها، الأب والأم وفكرية وزينب، أحب الجميع ولكن لي عليهم ملاحظات وتحفظات؛ وجه أبي لا يعجبني وبخاصة إذا نزع نظارته المذهبة، وجه نحيل ممطوط مجوف بعض الشيء، صغير الأنف بصورة مضحكة، ضيق العينين كأنهما مشروع عينين، بارز الجبهة، صورة منفرة. أمي صغيرة الجسم حسنة الطلعة، ذات عينين واسعتين جميلتين وشعر ناعم وأنف دقيق مستقيم، وإن اعتور صوتها خنف ونبرة احتجاج دائمة. أما سوء الحظ فقد تركز في فكرية وزينب اللتين خلقتا صورة طبق الأصل من وجه أبي الدميم. ودون أي فائدة ورثت أنا وجه أمي المليح، ومن ذلك التكوين المتنافر تربع سوء الحظ على عرش أسرتنا دون منازع، أنا السعيد الوحيد ولكن زحف الكدر. تبدى القلق واضحا في سلوك أمي وكلامها، متشائمة دائما من ناحية المستقبل، يتفجر قلقها مع مرور الأيام.
تقول لأبي: كان يجب أن يتعلما في المدارس!
فيقول: لتجر مشيئة الله كيفما شاء، أما أنا فلا أبتذل كرامتي .. علاقة أبي وأمي حسنة جدا، وعلاقة فكرية وزينب بأبي على أحسن حال، أما الأم وفكرية وزينب فلا يصفو بينهن جو إلا فيما ندر. كل واحدة منهن على حدة غارقة في مخاوفها، وينعكس ذلك توترا دائما فيما بينهن وخصاما لغير ما سبب، نقار دائم وكدر شامل واتهامات مكبوتة.
ويوما ما يقول لي صديقي علي يوسف - زميلي وجار - بثقة ويقين: أبوك غني يا بختك!
Неизвестная страница