ورجع عبد المنعم بعد المعاش إلى سابق عهده بنا، لم يكن الشخص القديم، ومن منا كان؟ وبدا متماسكا بعد فقدان وحيده أكثر مما توقعنا، وسرعان ما فسدت حياته الزوجية لأسباب لم يعلنها وربما لم يكن من المستحيل تصورها، وانتهى الأمر بينهما بالطلاق. وما لبث أن تزوج من امرأة ألمانية، فهيأت له حياة مستقرة لم يعرفها من قبل، وعاش حياته سعيدا أو كالسعيد ما بين مصر وألمانيا. ومن العجيب أن حديثه شهد على ما اكتسبه في حياته من نضج وحكمة وثقافة جعلت منه شخصا جديدا بالغ الروعة. لم يكن من أنصار الثورة ولكنه أيضا لم يكن من أعدائها المتعصبين وحسبه ذلك. وحظي بمستوى معيشة حسن بفضل معاشه وميراثه. وقد تجلى إخلاصه في حزنه الشديد في أعقاب هزيمة 5 يونيو، وانتعاش روحه عقب حرب 6 أكتوبر. وكان يجب أن تتوقف دراما حياته عن إفراز المفاجآت ولكن زوجته الألمانية أهدت إليه آخر المفاجآت؛ فبعد المعاشرة الطويلة والإيغال في الشيخوخة إذا بها تتمرد فجأة على حياتها الزوجية واستمرار الحياة في مصر، وانفصلت عنه راجعة إلى ألمانيا تاركة إياه في وحدة وشيخوخة، وقال: هجرتني الولية المجنونة في سن لا تسمح بعلاج لوحدتها!
ولكنه خلق حمالا للهموم والمصائب، وظل يمتعنا بمعاشرته العذبة حتى طلع علينا «الأهرام» ذات صباح بنعيه، وانضم ركب من الذكريات الحميمة إلى القافلة التي لا تتوقف عن السير.
آل ضرغام
ويجيء بعد آل الكاشف بيت آل ضرغام، ويقيم في البيت ، ربه ضرغام الهندي وبكريته صافيناز وابنه الأصغر - صديقنا - سيد، أما الأم فقد رحلت عن دنيانا من قبل انتقالنا إلى شارع الرضوان بأعوام ثلاثة. الأب متوسط القامة، قمحي اللون، واضح الملامح، صلب القسمات، يوحي منظره بالحدة والجدية والتجهم. يملك محل رهونات بباب الخلق يستأثر بكل وقته من طلعة الصبح حتى هبوط المساء. وعدا الاشتراك في واجب العزاء فلم يعرف واجبا من واجبات الجيرة. وعم فرج يقول عنه في غياب سيد طبعا: غضب ربنا مطبوع على وجهه!
وخيل إلينا أننا نرى أثر الغضب الإلهي في وجهه الجامع بين الحسن والصرامة، ولكن عم فرج كان يعرض بمهنة الرجل الحقيقية وهي الإقراض بالربا رغم إسلامه الرسمي، بل وصفه كثيرون من أهل شارعنا بالملعون، ولم يخف ذلك عن سيد، ولم يبد أنه اكترث له أو اغتم. وكانت صافيناز على جمال ورشاقة فعشقها يهودي من سكان السكاكيني وتزوج منها بعد إشهار إسلامه، وسمعنا أنه تاجر أقمشة، وعلى درجة حسنة من الثراء، كما كان من المتعاملين مع ضرغام في حقل العمل. وصديقنا سيد صبوح الوجه، رشيق، ضحوك، مطبوع على اللامبالاة، وكنا نحبه لجاذبيته وصراحته وذكائه، كما نجد في لامبالاته موضعا دائما للإثارة. وما أشبهه بسامح في موقفه من التقاليد! ولكنه من نوع آخر ولأسباب مختلفة، وقد زاملنا في المدرسة الابتدائية ثم تحول منها إلى التجارة المتوسطة رغم استعداده الطيب للنجاح؛ إذ إن أباه ضرغام أفندي هندي نجح في أن يصبه في قالبه، فقال له: لا أهمية للتعليم إلا كتمهيد للعمل، فلا تهتم بالشهادات.
كان يعده ليحل محله في محل الرهونات والإقراض بالربا. ولم يمهله حتى يرشد فقرر أن يؤقلمه بجو العمل وعبادة المال من صباه. الأول جعل منه المحصل الأمين لأقساط قروضه ليمارس ويتدرب ويندمج، ومضى يتردد على المقترضين بدفتر الإيصالات ويحصل الأقساط ويرجع بها إلى أبيه سعيدا فخورا نظير نسبة من الأرباح. وتعلم منذ تلك السن المبكرة أن يربح وأن يدخر وأن يعرف لكل مليم قيمته، ويقول لنا ضاحكا: كلما أقبلت على رجل منهم فر الدم من وجهه!
فيقول له حسن الفنجري: أهلا بعفريت الرجال!
وتأدب بآداب أبيه في تقديس القرش وعبادته، ولم يكن يصرف مليما إلا لضرورة مقنعة. وتعود منذ صغره أن يسمع الغمز واللمز يقرضان سمعة أسرته، وتهم الشح والكفر تنهال عليها، فنشأ بكل بساطة مزدريا للدين والتقاليد والأخلاق التي تدين أباه وعمله. كان وثنيا وكأنه من مواليد الغابة مثل طرزان، بلا دين ولا وطن، ثم قرر أن يعيش بلا أسرة أيضا؛ يسخر دائما من الزواج والأبوة، ولم يخف دهشته من المجانين الذين يتزوجون، ولم ينتم لأي مبدأ أو رأي أو شرق أو غرب. ولعله من أعجب الأمور أن تجمع شلتنا كل تلك المتناقضات وأن تحافظ في ذات الوقت على المودة والحب بين أفرادها! وفي الثلاثينيات توفي ضرغام أفندي هندي بالسكتة القلبية، وافته المنية في بيت من بيوت الدعارة الرخيصة! لم يتزوج الرجل بعد وفاة أم سيد. لعل حرصه على المال هو الذي صده عن طريق الزواج، ولم يعرف عنه في حياته كلها أنه ممن يستجيبون إلى قلوبهم في قول أو فعل؛ ولذلك فإن مخاوف صديقنا سيد من تلك الناحية كانت وهمية ونتيجة لسوء ظن في غير محله بأبيه. كلا، عاش الرجل أمينا مع نفسه تماما، وكان كلما ثقلت عليه الوحدة روح عن صدره بزيارة سرية لبيت من بيوت الدعارة. وشاء سوء حظه أن تفيض روحه في آخر مغامرة من مغامراته؛ لذلك كثرت نوادرنا حوله، وجعل منه حسن الفنجري شخصية أسطورية مثل جحا، وكان سيد يشاركنا في المزاح ويسبقنا في الضحك. كان يباهي بكل ما يؤخذ عليه من البخل والإقراض الربوي والوثنية ونوادر أبيه. وبموت أبيه حل محله في دكانه وعمله وورث نصيبه من أمواله المكنوزة في البنوك، وبات من أغنى الأغنياء بكل معنى الكلمة. وكان بخلاف أبيه لا يضن على نفسه بمتعة، فجدد البيت بناء وأثاثا، واقتنى سيارة فورد، وقال ملخصا فلسفته: سأعيش طيلة عمري عزبا، حسن! يجب أن تكون العيشة محترمة، مسكنا وملبسا وطعاما وجنسا، ولا مليم وراء ذلك إلا بحساب!
لا مليم وراء ذلك. وأذكر أنه أثار مرة ضجة لخلاف حول مليم في حساب مشترك بينه وبين سامح، وأراد سامح أن يغالطه على سبيل المزاح ولكنه اضطر إلى التسليم إيثارا لراحة الدماغ. ومن صفاته البارزة بعده الكلي عن الفن والثقافة وجهله الكامل للحب؛ لم تحركه أي فتاة، ولم يخفق قلبه أبدا بغرام، وكان للمرأة وقت محدد في جدوله الأسبوعي، وقد يختارها من الملاهي ويؤدي لها ثمنها المرتفع ثم يمضي إلى حال سبيله. ومرت بوطنه أحداث وأحداث وهو ينظر إليها من بعيد أو لا ينظر إليها على الإطلاق. وراح الزمن يتقدم وهو يكبر ولا يتغير ضاربا المثل الحي للرجل الناجح السعيد. وأسأله أحيانا: ألا تشعر بالوحدة؟ ألا تحن إلى الأبوة؟ ألا تندم على شيء فاتك؟
فيقول ضاحكا ساخرا: إنك تسأل عن أوهام بدافع من أوهام! - قد يضعف الإنسان في شيخوخته؟ - لم يفتني الاستعداد لذلك! - كيف؟ - إني أحتفظ للظروف السيئة بسم يقتل في ثوان!
Неизвестная страница