ماذا حدث لصديقي بعد ذلك؟
إنه يبذل قوته كلها كي لا يغلبه الحزن أمام الناس، يتظاهر بالتسليم بالأمر الواقع والارتفاع فوقه، ويأبى أن يرجع عن رأي من آرائه المأثورة، ولكني شعرت طوال الوقت بأنه يغالب ألما دفينا حادا وباقيا كالظل. ويوما قال لي بنبرة ساخرة: الولية بدأت تصلي وتصوم وتتعلم أصول الدين في كتاب الديانة للمدارس الابتدائية!
ولأول مرة في أثناء ذلك العمر الطويل أشعر بأنه يكتم عنا أشياء تحاوره في أعماقه، وأنه على أي حال لم يعد الشخص الذي كان.
آل السناوي
الشيخ السناوي هو الجار المباشر لآل شكري بهجت، إمام جامع الكومي، ولشيخوخته وورعه ذاع صيته كمصدر من مصادر البركة والخير. وكان يعيش في بيته مع زوجة طاعنة في السن أيضا وابن وحيد يدعى محمد وهو صديقنا. وعرفنا أن أم محمد هي الزوجة الثانية للشيخ. تزوج منها على كبر بعد أن فقد الأولى وذريتها بصبر المؤمن المسلم أمره لله. محمد إذن وحيد أبويه مركز الرعاية والحب، ومدلل الأسرة رغم كل شيء. أقول رغم كل شيء لأنه إذا قيمناه بوجهه فهو توءم قرد. ومع أن شهادة ميلاده تقرر أنه يماثلنا في سنه إلا أن مظهره يضيف إلى سنه الحقيقية عشر سنوات على الأقل. ورغم أن التربية الدينية تدين من يسخر من آخر لعاهة فيه أو دمامة باعتباره على أي حال من صنع الله القدير إلا أننا خرقنا القاعدة واستسلمنا لإغراء السخرية من دمامته بإفراط ملحوظ، وشجعنا على ذلك تسامحه الطيب وسعة صدره وقدرته الفذة على مقابلة السخرية بالسخرية. واحترنا في تعليل قبحه؛ إذ إن الشيخ السناوي كان على قدر مقبول من القبول، وأجمعنا على اتهام أمه التي لم نرها وتحميلها المسئولية الكاملة. وحظه في الحياة شابه وجهه، فالرزق محدود، وضاق أكثر عقب وفاة أبيه، واستعداده للدراسة في حكم المعدوم، فلم يوفق إلى الحصول على الابتدائية، ومن نوادر سقوطه أنه سقط مرة في امتحان الخط، وكان لاعب كرة فاشلا، غير أنه توهم دائما أنه عبقري زمانه.
نقول له: ولكنك لم تجرب النجاح أبدا!
فيرد هازئا: وأي علاقة بين هذا وبين الذكاء؟! .. ألا تنجحون جميعا رغم غبائكم؟!
وسعى له أصدقاء أبيه حتى ألحقوه بوظيفة صغيرة بالأوقاف خارج الكادر. ولما شعرت أمه بدنو الأجل زوجته من قريبة لها عانس، قدرنا جميعا أنها تكبره حتى لو قسناه بعمره المفترض لا عمره الحقيقي، ولكنه وفق في زواجه، وفاخرنا بفحولته الفذة، وقنع بالحد الأدنى من المعيشة صابرا، وأكرمه الله بولد قبل أن تنقطع المرأة عن الحبل. وباختلافه إلى المقهى معنا عرف إحباطات جديدة في خيبته القوية في ألعاب الشطرنج والدومينو والنرد، ولكنه لم يعترف أبدا بقصوره وعلق هزائمه بالحظ وحده، فالحظ السيئ هو القدر الوحيد الذي لم يكابر في الاعتراف به. على ذلك كله كان أكثرنا ضحكا وتهريجا وانبساطا. ومضت الحياة ممكنة دون يسر حتى قامت الحرب العظمى الثانية وهبت علينا رياح التغيير وأمواج الغلاء المتتابعة. هنالك اقتحمته المرارة فصب غضبه على كل شيء، شابه في ذلك عبد الخالق مراد، ولكن على حين كان عبد الخالق رافضا لجميع الساسة فإن محمد ركز هجومه على الحكام فكان دائما وأبدا في صف المعارضة. اليوم وفدي وغدا ملكي، لا يهم، ضرباته دائما وأبدا مسددة نحو الجالسين على كرسي الحكم، وقال قولته المشهورة التي أثرت عنه لتكرارها: ستجري الدماء حتى تبلغ الركب!
مبشرا بثورة دموية يموج بها خياله لتجتث الأغنياء والحكام من جذورهم. ولما اشتدت الغارات الجوية وأخذ المخبأ يجمعنا ليلة بعد أخرى، قلنا له: ستتحقق نبوءتك وتجري الدماء ولكنها ستكون دماءنا نحن لا الأغنياء والحكام.
ونجده مشغولا عن تعليقاتنا بتلاوة آية الكرسي مستعيذا ببركتها، كما علمه أبوه في الزمان الأول. ولا أنسى انشراحه عقب حريق القاهرة وقوله باسما عن أسنانه المثرمة: أول الغيث قطر!
Неизвестная страница