ونأخذ فكرة أخرى مما يحرص السادة على تبليغها إلى الناس، وهي قد بلغتهم وصدقوها وعاشوا على منهاجها، لكن الأرجح أن ينتهي بهم الطريق إلى ضعف وفقر وهزيمة، وهي فكرة أن الإنسان لا حول له في أمور نفسه ولا قوة؛ وذلك لأن أموره إنما تجري بمشيئة الله، وها هنا - كما في المثل السابق - نقول: إنه إذا تلقى الجمهور السامع والجمهور القارئ كلاما كهذا بغير تدقيق وبغير تحليل وتوضيح، لجاز على كثيرين أن يحدوا من نشاطهم وأن يتركوا انتصارهم وهزيمتهم، نجاحهم وفشلهم، قوتهم وضعفهم لمشيئة الله، وكأنه لا جهد ولا اجتهاد ولا جهاد، فليس هنالك على وجه الأرض مخلوق واحد من البشر المؤمن بدين، إلا ويعلم أن وراء جهده واجتهاده وجهاده، مشيئة إلهية، لكن الفرق بعيد بين أن «أعلم» هذه الحقيقة الثابتة، وبين أن تتأثر إرادتي بما قد علمته عنها، فواجب الإنسان هو أن «يريد» وأن يسعى إلى تحقيق ما أراده، ويكون لله - جل شأنه - مشيئة في أن يوفق ذلك الإنسان إلى تحقيق ما أراده أو لا يوفق، فإذا كان السادة لا يقصدون بإلحاحهم على ضعف الإنسان وعجزه وقلة حيلته، أن يكف ذلك الإنسان عن أن يكون ذا طموح وصاحب عزيمة قوية يعمل بها على تحقيق ذلك الطموح، فهل يكون السداد في تربية أبنائنا، هو أن نبث فيهم ما يقوي إرادتهم ويشعل فيهم روح النشاط والعمل؟ أو أن نجعل محور الارتكاز هو تذكيره بضعفه وعجزه وقلة حيلته؟ إني أرجو ألا يساء فهم ما أقوله، فأنا أكرر مرة أخرى، أنه ليس في الدنيا من لا يعلم - وأكرر «يعلم» - أن مشيئة الله فوق كل إرادة، لكن «العلم» بحقيقة ما، وإن يكن واجبا إلا أنه «علم» لا يراد له أن يحد من أن تكون للإنسان إرادته وسعيه واجتهاده، فالأمر كما قال شاعر قديم هو أن «علي أن أسعى، وليس علي إدراك النجاح»، فواجب الإنسان أن يسعى جهده، كما لو كان النجاح مضمونا، ولكن إدراك النجاح بالفعل إنما أمره مرهون بمشيئة الله، فإذا كنا لنغير ما بأنفسنا من أسباب الضعف والهزيمة رجاء أن يغير الله ما بنا، كان بين ما نغيره في تربيتنا لأبنائنا أن يكونوا على «علم» بقدرة الله ومشيئته، وأن يكونوا في الوقت نفسه على طموح نحو القوة والنجاح والنصر، وعلى إرادة تتكافأ مع ذلك الطموح.
وأكتفي بالفكرتين اللتين أسلفت ذكرهما، لأوضح بهما ماذا نغيره مما بأنفسنا، ليغير الله ما بنا، لأنتقل إلى جانب آخر من جوانب النفس - غير جانب «الأفكار» - مما يجب أن نغيره، ليغيرنا الله حالا بعد حال، والجانب الذي سأختاره هذه المرة، هو العلاقات الإنسانية التي يجري التعامل بين المواطنين على أساسها في هذه الفترة الزمنية التي نحياها، وهي علاقات يستحيل عليها إلا أن تكون طارئة بحكم ظروف استحدثت في حياتنا، نحتاج في تفصيلها وبيانها إلى بحوث علمية دقيقة؛ لأنها لو كانت كامنة في طبيعتنا، لما كان للمصري دوام على امتداد التاريخ، ولما استطاع أن يقيم ما أقامه من حضارات، وحسبنا في حديثنا هذا، أن نشير إلى جانبين فقط من تلك العلاقات:
أولهما: هذا الإرهاب الفكري العنيف، الذي يضغط به الرأي العام على حرية الفرد في اختياره لوجهة النظر التي يختارها لنفسه، لينظر من خلالها إلى ما يعرض له من قضايا، خصوصا إذا كانت تلك القضايا مما يمس الدين - عقيدة وشريعة - من قريب أو من بعيد، فهنالك اليوم ما يشبه القيادة الفكرية في هذا المجال، وهي قيادة أخذت تبث في جمهور السامعين والقارئين إطارا من التفكير، حتى خيل لذلك الجمهور أنه هو الإطار الذي لا إطار سواه، وها هنا ألتمس من قارئ هذه السطور شيئا من سعة الصدر ومن حسن الاستماع، كما ألتمس منه قليلا من الثقة أحدنا في الآخر، حتى ولو لم تدم تلك الثقة المتبادلة أكثر من دقائق معدودات، لأقول لذلك القارئ بعد ذلك: إن المبدأ الأول والأساسي الذي يجب أن يعتمد عليه كلانا في الحوار والتفاهم، هو أن يثق أحدنا في سلامة العقيدة الدينية عند أخيه، وأود أن أذكره - بهذه المناسبة - أن حاجة الإنسان إلى دينه، هي جزء من فطرته التي لا حياة إلا بها، وحتى إن خيل لفرد من الناس أنه ليس به حاجة إلى ذلك الجزء من فطرته، فهو - بكل بساطة - إنسان لا يعرف نفسه، وليست هي بالحالة النادرة القليلة الحدوث، أن تجد من الناس من لا يعرف نفسه على حقيقتها، حتى يبصره بها من هو أكثر دراية وعلما، فليس الاختلاف بين فرد وفرد، أو بين جماعة وجماعة، هو «دين أو لا دين» إنما الاختلاف هو: كيف تكون الظواهر التي يتخذها الدين؟ وإننا لنعلم جميعا أنه ما من دين، إلا ويحدث بين المؤمنين به أنفسهم اختلافات في طريقة الفهم والرؤية، ومع ذلك تبقى الجماعات المختلفة كلها تحت مظلة ذلك الدين، ففي الإسلام - مثلا - شيعة وسنة، وفي كل من الشعبتين مذاهب، ولم يقل أحد، بل لم يجرؤ أحد على القول، بأن الإسلام مقصور على تلك الشعبة دون هذه ... أو أنه مقصور على هذا المذهب دون ذاك، وتستطيع أن ترى ذلك في أجلى وضوح، إذا طلبت من مؤرخ مختص أن يؤرخ للإسلام، فماذا نتوقع منه عندئذ إلا أن تجيء روايته للتاريخ شاملة لكل ما شمله تاريخ الإسلام من وجهات النظر في الفهم والرؤية، وهذا طبيعي، بل هو علامة خصوبة وغنى؛ لأن الاختلافات لا تمس جوهر الرسالة، بحيث نرى شعبة تأخذ بالتوحيد، وأخرى لا تأخذ به، إنما تبدأ الاختلافات، عند تفريع النتائج من ذلك الجوهر؛ لأنه ميدان قدرات عقلية قد تتفاوت واجتهادات بشرية قد لا تلتقي.
لكن هذا التفريع نفسه، لا يقف عند حد الأقسام الكبرى والمذاهب المتعددة التي تندرج تحت كل قسم منها، بل إنها قد تتسلسل حتى تصل إلى فروع الفروع، فيختلف الرأي بين الأفراد، دون أن يكون من الحق أو من الإنصاف ، أو من الصالح للحياة الاجتماعية والعملية نفسها، أن يحكم مختلف على مختلف بالخروج على دينه، فتلك تهمة كبرى يجب التردد ألف مرة قبل إلقائها، ومع ذلك فانظر إلى ما قد شحنت به العقول في جمهور السامعين والقارئين، وكيف تحول الأمر حتى أصبح من لا يجري على غرار الجمهور في شحنته تلك، موضع اتهام قد لا ينجيه من التعرض للأذى، مما يميل بكثيرين من أصحاب الرأي أن يلوذوا بالصمت إيثارا للسلامة والعافية، وفي ظل هذا المناخ، الفكري، أو قل في ظلمة هذا المناخ وظلمه، تضيع كرامة الأفراد، وحريتهم في التفكير وإعلان الرأي، فتحرم الأمة من مصابيح كان يمكن لها أن تضيء الطريق.
ذلك جانب من حياتنا كما هي قائمة في يومنا، وجانب آخر يستحق الذكر في هذا الموجز السريع، وهو جانب ربما يكون عاما في بلاد العالم الثالث كلها أو معظمها، وأعني به ذلك الشعور الغامض، الذي يوهم صاحبه بأن النظام الاجتماعي - وأهم عناصره هو الناحية الاقتصادية - إنما هو إلى زوال سريع، وليس هو بالنظام المقدر له أن يستقر قرنا كاملا من الزمان، وأظن أن مثل هذا الشعور الغامض بسرعة الزوال، ينشأ عادة بعد الثورات؛ وذلك لأن التغيرات التي تحدثها ثورة ما ليس لها ذلك الثبات لحالة تجيء نتيجة تطور طبيعي على امتداد فترة طويلة، حتى لقد قال باحث تناول الثورات الكبرى التي حدثت في التاريخ، ليستخرج منها ما يمكن أن يكون شبيها بالقوانين العلمية في طبائع الثورات وخصائصها، قال ذلك الباحث: إن التاريخ قد شهد ثورات كثيرة، جاءت ثم ذهبت ولم تخلف وراءها إلا تبديلا لأسماء عدد من شوارع المدن وميادينها.
إذن فقد كان طبيعيا للشعوب التي تغير فيها ما قد تغير - من بلاد العالم الثالث - أن يشيع في صدر الناس ذلك الشعور الغامض بزوال سريع لما قد استحدث في الحياة من تغيرات، وإذا كان الأمر كذلك، فلينهب الناهبون قبل الزوال، وليظفر الظافرون بالغنائم قبل السقوط ...
أفكار، وحالات، ومواقف، هي هي نفسها التي نجملها معا في حزمة واحدة ، ونشير إليها بكلمة «النفس»، ونفوس الناس - بهذا المعنى - هي التي لا يغير الله ما بنا اليوم، حتى نغير نحن أولا ما بها.
القسم الرابع
دوائر الانتماء
عروبة مصر
Неизвестная страница