مقدمة
القسم الأول: مع العلم بعمق الإيمان
أنا المسجد والساجد
اقرأ باسم ربك
العقل يهدي ويهتدي
الأشياء والكلمات
عصر يبحث عن حرية الإنسان
اختلاف الرأي والرؤية
عالم عابد في مركبة الفضاء
القسم الثاني: من عوامل القوة
Неизвестная страница
يموت الإنسان ليحيا
قنافذ وثعالب
أنا أريد - إذن - أنا إنسان
فالق الحب والنوى
صورة ريفية وأعماقها
للعصر الواحد صوت واحد
من الجذور
حياتنا الجديدة تصنعها أقلامنا
وهذه جزيرة أخرى
تقاليد وتقليد
Неизвестная страница
الاقتصاد في الاعتقاد
القسم الثالث: من عوامل الضعف
صرخة
متطرف تحت المجهر
عصر الحنين
أزرع ولا حصاد؟
ظلال بين اليأس والرجاء
أهو شرك من نوع جديد؟!
هذا الصغير وصغائره
صانع الحروف
Неизвестная страница
هؤلاء الآخرون!
فعل الزمن
حتى يغيروا ما بأنفسهم
القسم الرابع: دوائر الانتماء
عروبة مصر
حول مشكلة الانتماء
مقدمة
القسم الأول: مع العلم بعمق الإيمان
أنا المسجد والساجد
اقرأ باسم ربك
Неизвестная страница
العقل يهدي ويهتدي
الأشياء والكلمات
عصر يبحث عن حرية الإنسان
اختلاف الرأي والرؤية
عالم عابد في مركبة الفضاء
القسم الثاني: من عوامل القوة
يموت الإنسان ليحيا
قنافذ وثعالب
أنا أريد - إذن - أنا إنسان
فالق الحب والنوى
Неизвестная страница
صورة ريفية وأعماقها
للعصر الواحد صوت واحد
من الجذور
حياتنا الجديدة تصنعها أقلامنا
وهذه جزيرة أخرى
تقاليد وتقليد
الاقتصاد في الاعتقاد
القسم الثالث: من عوامل الضعف
صرخة
متطرف تحت المجهر
Неизвестная страница
عصر الحنين
أزرع ولا حصاد؟
ظلال بين اليأس والرجاء
أهو شرك من نوع جديد؟!
هذا الصغير وصغائره
صانع الحروف
هؤلاء الآخرون!
فعل الزمن
حتى يغيروا ما بأنفسهم
القسم الرابع: دوائر الانتماء
Неизвестная страница
عروبة مصر
حول مشكلة الانتماء
رؤية إسلامية
رؤية إسلامية
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
سؤال طرحته على نفسي، حين ألقيت نظرة إلى خريطة العالم الإسلامي، في امتداد رقعته الجغرافية، من أقصى الجنوب الشرقي لقارة آسيا، حتى أقصى الغرب في معظم القارة الأفريقية، وما إن ألقيت السؤال، حتى أجريت القلم خلال ستة أشهر، بالفصول التي هي مادة هذا الكتاب، وكانت هذه الفصول كلها تحمل أطرافا مما يصح أن يكون جوابا عن ذلك السؤال.
وأما السؤال فهو هذا: ما الذي أصاب العالم الإسلامي، فتخلف حتى أصبح في مؤخرة الركب الحضاري في عصرنا هذا، بعد أن كانت له، ذات حين، قيادة وريادة؟ على أنني إذا أخذت أضع الجواب في قطرات متفرقة متتابعة، أنظر في كل قطرة فيها إلى الموقف من إحدى نواحيه، كانت نظرتي تنحصر في ذلك الجزء من العالم الإسلامي - الذي يكون الوطن العربي الكبير، ثم كانت تلك النظرة - أحيانا كثيرة - تعود فتزداد انحصارا - حتى تقف عند حدود وطني الخاص الذي هو مصر، وسيجد القارئ في القسم الرابع من هذا الكتاب تحديدا دقيقا لدوائر الانتماء الثلاثة، التي على أساسها يتدرج الانتماء، من حيث التبعات الاجتماعية، تدريجا يجعلني مصريا أولا، وعربيا ثانيا، وفردا من أبناء العالم الإسلامي ثالثا، وهو تدرج لا أقيمه على درجات «الأهمية» لهذه الأجزاء، بل أقيمه على الأمر الواقع الذي يجعل الإنسان مسئولا أمام القانون عن وطنه الخاص، قبل أن يكون مسئولا عن المجالات الأوسع نطاقا، والتي ينتمي إليها جميعا بدرجات.
وقسمت فصول الكتاب أربعة أقسام، ففي القسم الأول منها، حاولت أن أبين كيف يعود العالم الإسلامي إلى قوته، إذا هو جعل العبادة تتسع في معناها، حتى تشمل بكل جدية واهتمام محاولات الكشف العلمي عن أسرار الكون، كشفا لا يقتصر على مجرد العلم في ذاته بتلك الأسرار، بل يجاوز ذلك إلى تحويل العلم إلى عمل في مجالات التطبيق الذي ينشط به الإنسان في حياته العملية، وإلا فماذا تكون الدلالة الحقيقية لكون الأمر بكلمة
Неизвестная страница
اقرأ
أول ما نزل به الوحي بالقرآن الكريم على نبي الإسلام - عليه الصلاة والسلام؟ ماذا تكون الدلالة في تلك الأسبقية، إذا لم تكن حثا على أن يكون «العلم» هو الركيزة الصلبة التي تقام عليها أركان الإسلام؟ فإذا كان سؤالنا الذي بدأنا به هو: ما الذي حدث للعالم الإسلامي، حتى بلغ من الضعف ما بلغ؟ وجدنا أول كلمة في الإجابة الصحيحة، كلمة «العلم»، فمع العلم تدور القوة وجودا وعدما، ولربما كان ذلك العلم - لو ترك غير ملجم - سبيلا يؤدي بالإنسانية إلى الدمار، ولكن قوته الذاتية كفيلة للإنسان بالسمو إلى التقدم، إذا هو ألجم العلم - في التطبيق - بالقيم الضابطة، والتي مصدرها الأول هو الدين بمعناه العام أولا، وبمعناه الإسلامي بصفة خاصة.
إن أداة الإدراك في مجال العلوم، إيجادا وتطبيقا - هي «العقل» بأجهزته القادرة على التحليل وعلى الاستدلال، وهذا «العقل» إنما هو بطبيعته يهدي ويهتدي في آن واحد، فهو يهدي إلى النتائج الصحيحة التي تستدل من الشواهد والمقدمات - ثم هو يعود فيهتدي في جانب التطبيق على عالم الأشياء، ومن الخير للإنسان أن يدور بعقله هذه الدورة كاملة؛ لأنه إذا وقف عند «المقدمات» و«الشواهد» في صيغها اللفظية، دون أن ينتقل منها إلى عمليات التحليل والاستدلال والتطبيق، وجد نفسه «حافظا» لنصوص، مع عجزه عن نقل تلك النصوص نفسها إلى دنيا العمل، وتلك هي حالنا - بصفة عامة - فترانا وقد أحاط علماؤنا بأصول ديننا «حفظا» وشرحا لذلك المحفوظ، تركوا العملية «العلمية» لسواهم، ثم ترتبت على تلك العملية العلمية حضارة، فلم نجد بدا من أن نقف من ذلك كله موقف المتسول، وكان في وسعنا أن نقلب الوضع، لو أننا أدركنا إدراكا واضحا، أن واجب المسلم هو أن يستمد من روح إسلامه قدرة على المشاركة الإيجابية في الكشوف العلمية، ثم في تحويل تلك الكشوف العلمية إلى شتى ضروب النشاط البشري في حياة الإنسان العملية.
والعلاقة وثيقة العرى، بين «علمية» الإنسان في موقفه من عالمه الذي يعيش فيه، وبين نصيب ذلك الإنسان من «الحرية»، فالخلط شائع فينا بين معنى «التحرر» من القيود على اختلاف أنواعها، وبين معنى «الحرية» التي لا تكون شيئا إذا هي لم تكن قدرة الإنسان الحر على أن يملك زمام الموقف الذي يجد نفسه فيه، على أن امتلاك الإنسان لزمام الأمر حيال أي موقف من مواقف الحياة، إنما يتفاوت قوة وضعفا بمقدار ما لدى ذلك الإنسان من «علم» بدقائق الموقف المذكور؛ حتى يستطيع التصرف فيه وهو على هدى، ومن هنا وجدنا شعوبا كثيرة فيما يسمونه بالعالم الثالث، قد «تحررت» من قيود مستعمريها، لكنها مع ذلك بقيت مفقودة «الحرية »؛ لأنها معتمدة في معظم شئون حياتها على أولئك المستعمرين السابقين أنفسهم، سواء أكان ذلك في نتائج العلوم التي تدرس في المعاهد والجامعات، أم كان أجهزة ومصنوعات، مما ينتج عند أصحاب تلك «العلوم».
لقد أوهمنا أنفسنا وهما «عجيبا»، قيد خطواتنا على طريق التقدم، وهو أننا توهمنا أن ثمة تناقضا بين أن يكون الإنسان مسلما بعقيدته الدينية، وأن يكون في الوقت نفسه ساعيا إلى ما يسعى إليه أهل الغرب، من إيجاد لعلم جديد، ثم إقامة حضارة جديدة على أساس ذلك العلم الجديد، وقد كاد الأمر يكون كذلك، لو أن إسلامنا لم يجعل «العلم» وتطبيقه ركنا أساسيا في بنائه، وإني لأتصور أن الأمة الإسلامية، لو كانت اليوم على مثل قوتها الأولى، لكانت هي التي ملكت زمام عصرنا هذا بكل ما فيه من علوم، ومن «تقنيات»، فالذي انتهى بنا إلى موقف المتسول المحروم في دنيا العلم والصناعات، ليس هو إسلامنا، بل هو أننا قد أخطأنا منزلة العلم بأسرار الكون، والانتفاع بذلك العلم في الحياة العملية، أقول إننا قد أخطأنا منزلة ذلك كله في العقيدة الإسلامية، تلك المنزلة التي من أجل رفعتها، كانت
اقرأ
أول ما نزل به القرآن الكريم.
تلك - إذن - هي النبرة التي يسمعها قارئ القسم الأول من هذا الكتاب، حتى إذا ما انتقل إلى القسم الثاني، سمع تنويعا آخر من النبرة نفسها، فالمحور واحد، والهدف واحد، والخط الفكري واحد، إلا أن مقالات القسم الثاني تتلمس مواضع القوة في حياتنا الفكرية كما هي واقعة الآن، لولا أنها مواضع تحتاج إلى تقوية وتنمية.
فنحن بغير شك نحس في بواطن نفوسنا، شعورا قويا باستمرارية الحياة بين ماضينا وحاضرنا، أو على الأقل نحس بوجوب مثل هذه الاستمرارية، ففي «يموت الإنسان ليحيا» عرض لما يؤيد ويؤكد ذلك المنحى، على ألا يتم هذا بأن نحيي الماضي كما كان حرفا بحرف وموقفا بموقف، على حساب المعاصرين، فهؤلاء المعاصرون لا بد لهم أن يبرروا وجودهم التاريخي بإثبات شخصياتهم وما يميزها، بحيث يكونون مع أسلافهم كقصيدتين من الشعر في ديوان شاعر واحد، وإنه لخطأ خطير أن نستمع إلى دعاة العودة إلى الماضي، عودة تنسخ وجودنا الحاضر، إذ إن ذلك يجعلنا كالقنافذ التي تتكور على نفسها في انتظار ما يأتيها من عوامل خارجية تؤثر فيها، وهي في حالة من السلبية التي لا حول لها ولا إرادة، في حين أن إيجابية الإرادة لها في العقيدة الإسلامية أولوية منطقية، حتى على الحياة العقلية نفسها؛ لأن لحظة «الإيمان» إنما هي لحظة تندرج أساسا تحت الحياة الإرادية للشخص الذي آمن، ثم تأتي الحياة العقلية بعد ذلك، لتصب تحليلاتها واستدلالاتها على ذلك الذي آمن به المؤمن، ولك أن تنظر في تعاقب المراحل الفكرية عند أسلافنا الأولين، فبينما القرن الهجري الأول لم يكد يشهد شيئا إلا دخولا في دين الله، ثم جهادا في سبيل ذلك الدين (ولنلحظ هنا أن دفعة الإيمان وعملية الجهاد كلتيهما تقعان في مجال الحياة الإرادية)، ثم بدأت حياة عقلية من القرن الهجري الثاني وما بعده، لتنصرف بجهدها إلى دراسات علمية تنفع المؤمن في فهمه للكتاب الكريم حق الفهم، كعلوم اللغة، والفقه، وعلم الكلام، وعلى هذا الأساس نقول إننا لو صغنا الوقفة الإسلامية في صيغة ديكارتية، قلنا: أنا أريد - إذن - أنا إنسان.
وبين مقالات هذا القسم الثاني، مقالتان توضحان من حياة الفلاح المصري على براءته وبساطته، ومن حياة الشجرة التي في فطرة بذرتها تعرف كيف تنمو وتزدهر؛ لنبين بهما أن أولوية الإرادة في حياة الإنسان، إنما هي أمر تحتمه طبيعة الحياة نفسها، فحينما قويت الإرادة في شعب، أو في فرد من أفراده، كان الأرجح له أن يوفق إلى تحقيق أهدافه، وذلك كما قال أبو القاسم الشابي في قصيدة مشهورة من شعره:
Неизвестная страница
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
والعالم الإسلامي اليوم تنقصه تلك الإرادة، مع أن أولويتها هي من صميم الإسلام.
ولعل أهم ما يلفت النظر في موقف الأمة الإسلامية بجميع أقطارها اليوم، هو دعوة تسري في جماهيرها، بأن توصد أبوابها، وتصم آذانها عن حضارة العصر وثقافته، باعتبارها «غزوا ثقافيا»، في الوقت الذي نجد أنفسنا فيه مرغمين إرغاما، بضرورة الحياة نفسها، أن نأخذ عن العصر علومه وما ينتج عن تلك العلوم، ولكنه أخذ المتسول - كما ذكرت - يطلب الصدقة ممن يملك القوة والعلم معا، لا أخذ المشارك بجهده وبذهنه، مما يدل دلالة قاطعة على أن أحدا لا يستطيع أن يتمرد على عصره تمردا كاملا، إلا إذا أراد لنفسه الموت؛ لأن العصر الواحد - أيا كان موقعه من مسيرة التاريخ - إنما يكون له هدف واحد، فمن استهدفه مؤمنا به، كان له كيانه في عصره، ومن أدبر عنه، خرج من الحساب، حتى ولو استباح لنفسه أن يستخدم في حياته العملية ثمرات ذلك العصر الذي أدبر عنه، إذن تخرج لنا نتيجة واضحة من هذا الذي ذكرناه، وهي وجوب أن نأخذ - أعني العالم الإسلامي - بكل ما يمكن أخذه من مشاركة فعالة في بناء عصرنا، ولما كان الاحتمال قليلا بأن نستطيع إثبات وجودنا بما تستحقه أمتنا من وزن في دنيا العلوم والتقنيات، فهنالك جانب هو موضع رسالتنا في حياة العصر، وأعني جانب النقص الملحوظ في الحياة العصرية، إذ حصرت نفسها في «الواقع» وغضت النظر عما بعد هذا الواقع، فحدث ما حدث من علل أفقدت الإنسان المعاصر توازنه، وها هنا تأتي رسالة الإسلام لتضيف إلى حياة عصرنا ما قد نقص فيها، من إضافة حياة الجلد إلى حياة الدنيا العابرة، وهذا كله يعني أن حملة الأقلام من أبناء الأمة الإسلامية، ومنها الوطن العربي الكبير، وفيه الوطن الإقليمي، أقول: إن حملة الأقلام منا تقع عليهم التبعة الأولى، في أن يغيروا من المناخ الفكري السائد بيننا اليوم تجاه عصرنا، عسانا نخرج إلى العالم بما يجيز لنا أن نقول في عزة وشموخ: ها نحن أولاء ...
وينتقل القارئ بعد هذا إلى القسم الثالث من هذا الكتاب، ليجد نفسه في غرفة أخرى من مسكن واحد، وإن يكن لكل غرفة فيه ما يميزها، إلا أن الروح الشائعة فيها جميعا روح واحدة، ففي القسم الثالث إبراز أشد وضوحا لجوانب الضعف واليأس والخمول وضيق الأفق، التي لا يخطئها بصر في حياتنا الثقافية الراهنة، وعقيدتي هي أن إدراك مواضع العلة هو أول خطوة على طريق العلاج والشفاء.
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، نعم، ولكننا نحتاج إلى تحليل هذا الذي ما بأنفسنا لنغير فيه ما ينبغي له أن يتغير؛ حتى يتاح لنا بعد ذلك أن نضع بيئة جديدة يعاش فيها، دون أن تكون عقبة في سبيل ارتقائنا، وسيجد القارئ مقالة في هذا القسم الثالث حاولت مثل هذا التحليل.
وربما كان من أهم ما يجب أن يتغير في نفوسنا - ذلك «التطرف» في العقيدة تطرفا لا يسمح لصاحبه برؤية ما قد يكون عند أصحاب الاتجاهات الأخرى من حق ... ولقد كانت آخر مقالات القسم الثاني من هذا الكتاب عرضا لوجهة النظر التي أبداها الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «الاقتصاد في الاعتقاد»، وفيه يبين الغزالي كيف يجب على المسلم أن يكون على شيء من الاعتدال في إيمانه بعقيدته؛ لأنه إذا تطرف فيها، بمعنى أن يسيء الظن بكل من خالفه بغير بحث ولا إمعان للنظر، كان بمثابة من ضيع على نفسه نعمة الرؤية المتروية المتزنة المنصفة، وفي موضع آخر من مقالات القسم الثالث، عرضت فكرة تساعد على الحد من طغيان النظرة المتطرفة عند أصحابها، وهي أن الحياة الثقافية للإنسان، لا تتجمع كلها في طريق واحد، فلا هي كلها «فن»، ولا هي كلها «علم»، ولا هي كلها «عقيدة إيمانية»، وهكذا تتعدد المجالات، ولكل مجال مقاييس الصواب والخطأ الخاصة به، مقاييس الجودة والرداءة، فلا يجوز - إذن أن أحكم به على قصيدة الشعر بما أحكم به على قانون علمي في مجال الكيمياء أو الفيزياء، كما لا يجوز أن أحكم على صواب حقيقة معينة في تلك العلوم أو على خطئها، بشيء مما يقع في دائرة الإيمان بالعقيدة، فلو أننا عرفنا كيف نجعل كل تلك الفروع بمثابة «النظائر» التي تلتقي كلها في الإفصاح عن الحق المطلق إفصاحا يجيء عند كل نظير من تلك النظائر بلغته الخاصة، لتوحدت حياتنا الفكرية وتخلصت من عوامل الصراع التي تمزق بنيانها.
إنه مما يلاحظ بنظرة سريع إلى حياتنا اليوم - إهمال كل فرد منا لما يقوله الآخرون، لا، بل إن الأمر أشد من ذلك سوءا، وهو أن كلا منا يكاد يجعله واجبا عليه أن يحطم هؤلاء الآخرين ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن هنا صغرت منا نفوس كثيرة، وفقدنا روح الكرامة والكبرياء.
Неизвестная страница
وأما القسم الرابع والأخير، فيقتصر على فكرة الانتماء؛ ليبين عناصرها تحت ضوء التحليل، وقد أسلفت الإشارة إلى ذلك في هذه المقدمة.
أما بعد، فإن القلم حين أخذ على مدى ستة أشهر أو نحوها، يعالج ما يصح أن يكون جوابا عن السؤال الذي طرحته على نفسي، أو الذي طرح نفسه علي، عما أصاب العالم الإسلامي في جملته من ضعف، فإنما أخذ على نفسه عهدا ألا يكتب إلا ما يراه صدقا، فإذا وقع في خطأ هنا أو هناك، فشفيعه نية حسنة أرادت الخير والإحسان، وبالله يكون التوفيق.
زكي نجيب محمود
القسم الأول
مع العلم بعمق الإيمان
أنا المسجد والساجد
روى لي الراوي فقال: أتذكر روضة «ريجنت» في لندن؟ إني لأعلم كم أنفقت في أيامك الخوالي من ساعات في تلك الروضة الفسيحة الجميلة، وأعلم أنها كانت لك المنتزه، والملاذ، والمحراب، فلما أقيم المسجد على حافتها، ازدانت به الروضة، وازدادت وقارا على وقارها، ولأني أعلم عن صلتك بتلك الروضة، تعمدت أن أزورها، عندما قضيت بضعة أيام هناك - قضيتها في مزيج من راحة وعلاج - وما إن بلغت الروضة، حتى أخذت سمتي نحو الأماكن التي أعلم أنها كانت أثيرة لديك، بادئا جولتي ببستان الورد، وفي ركن ظليل من أركانه، جلست على الكنبة الخشبية، وهي الكنبة التي اعتدت أنت الجلوس عليها ... إنني يا أخي لا أعرف لذلك البستان - بستان الورد - في روضة «ريجنت» شبيها.
ولم ألبث في خلوتي تلك إلا دقائق، حتى جاء ليجلس معي على الكنبة رجلان هنديان ملتحيان، وأخذا يتحدثان بالإنجليزية، ولم أنصت، ولكن لم يكن في وسعي إلا أن تسمع أذناي، فلما سمعت في حديثهما كلمة «المسجد» تتردد أنصت لأرهف السمع، فكان ختام حديث الرجلين هذا السؤال وجوابه: - أذاهب أنت معي إلى المسجد؟ - يا صديقي أنا المسجد وأنا الساجد معا.
وانصرف صاحب السؤال - ولم تمض خمس دقائق، حتى انصرف كذلك صاحب الجواب، فماذا تظنه يعني بقوله إنه المسجد وإنه الساجد معا؟ فلولا أنني رأيت وجهه مضيئا بتقوى العابدين، لقلت إن الرجل إنما أراد أن يعفي نفسه من شيء لا يحبه، فماذا تقول في معنى عبارته تلك؟
قلت لصاحبي: لقد كان الرجل قوي التعبير واضح المعنى، فلقد أراد أن يقول لزميله إنه إنما يعبد الله أنى كان وأينما كان، إنه يعبد الله قياما وقعودا وعلى جنبه، نعم، إنه يؤم المسجد (المبنى) مع من يؤمه من المسلمين، لكنه حتى وهو في المسجد (المبنى) يجعل من ذاته مسجدا داخل المسجد، بمعنى أن يستغرق وجوده في عبادته، فكم هم كثيرون كثرة تذهلك، أولئك الذين يؤدون صلاتهم في بيت الله فترى الواحد منهم قائما بجسده راكعا بجسده ساجدا بجسده، وأما عقله كله وقلبه كله فشاردان هناك في الأفق البعيد يحسبان المكسب والخسارة ويكملان رسم الخطة التي يعدانها ليكيدا للخصوم، وعندئذ يتحول المسجد في حياتهم ليصبح مكانا كأي مكان آخر يرونه صالحا للتدبير والتخطيط، وأما صاحبنا الهندي بتعبيره القوي ومعناه الواضح، فقد أراد لبدنه أن يكون مسجده حتى وهو في المسجد؛ لكيلا يفلت منه زمام عقله أو تشرد الأهواء بقلبه، وحتى لو أخلص العابد لعبادته وهو في المسجد، مرخيا لنفسه العنان قبل ذلك، وبعد ذلك كان بمثابة من وضع عقيدته الدينية بين قوسين ... وأما فيما قبل القوس الأول وبعد القوس الأخير، فهو مطلق السراح، فيجيء التعبير الذي عبر به الهندي التقي عن ذات نفسه ليلفت أنظارنا إلى وجوب أن تستمر معنا تقوى الله، قبل المسجد وفي المسجد وبعد المسجد، ولكن كيف؟
Неизвестная страница
قبل أن أعرض ما أريد عرضه، يحسن أن أضع بين يدي القارئ أمثلة قليلة تصور له السلبية المميتة، وما هو أشر من السلبية المميتة التي يريد لنا نفر من قادة الرأي أن نفهم إسلامنا على ضوئها.
أولا:
يجمل بنا أن نضع نصب أعيننا تلك الحقيقة المرة، وهي أن الرقعة الجغرافية المتصلة والممتدة من إندونيسيا شرقا إلى المغرب غربا مرورا بباكستان وأفغانستان وإيران والوطن العربي وأقطار من أفريقيا، هذه الرقعة الجغرافية بأسرها والتي هي الموطن الأساسي للشعوب الإسلامية، توشك أن تكون في مجموعها أقل بلاد الدنيا نصيبا من التقدم بأي مقياس نختاره لنقيس به من تقدم من الشعوب ومن تأخر، اللهم إلا إذا اخترنا «الإسلام» في ذاته على أنه هو نفسه «التقدم»، مهما يكن نصيب المسلمين بعد ذلك من التعليم، ومن الإنتاج الاقتصادي، ومن مستوى المعيشة، ومن الإبداع في الأدب والفن، ومن الإضافة الحقيقية إلى العلم وما يتفرع عنه ... فإذا رأينا أن تلك هي الحقيقة المرة، أفلا ينبغي لضمائرنا أن تتأرق لتدفعنا دفعا إلى جدية النظر وجدية التفكير وجدية العمل سائلين أنفسنا: لماذا؟ ثم ألا يجوز أن نجد بعض الجواب متضمنا في ذلك التعبير القوي، وهو أن المسلم لم يجعل من نفسه «مسجدا وساجدا» قبل المسجد وفي المسجد وبعد المسجد؟
ثانيا:
إنه بغير أدنى شك، لا بد للمسلم - شأنه في ذلك شأن أي مؤمن بأي عقيدة دينية أخرى - أن يكون «عابدا» بما تضعه له عقيدته من صور العبادة، وفي هذا الصدد نسأل - جادين ومخلصين - أفلا ينبغي للمسلم أن يتدبر في روية وفي عمق قول الله سبحانه:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ؟ فما هو ذلك الجانب من حياة الإنسان الذي يظل قائما مع الإنسان، ما امتدت لذلك الإنسان حياة واعية؟ أيمكن أن يكون المقصود بالعبادة مقصورا على صور العبادة المعروفة من صلاة وصوم وغيرهما؟ نعم - إن هذه الصور المعروفة هي أركان الإسلام، لكنها موقوتة بأوقاتها، فماذا عسى أن تكون صورة العبادة قبل تلك الأوقات وبعدها؟ ماذا عسى أن تكون الصورة المقصودة بالعبادة، حين نعلم من القرآن الكريم أن الإنسان ما خلق إلا ليعبد؟ إن المسلم كاتب هذه السطور لا يرى - بكل التواضع الذي يستطيعه إنسان - لا يرى إلا أن تكون العبادة التي ما خلقنا إلا لأدائها إنما هي - إلى جانب الأركان المعروفة - اجتهاد في سبيل معرفة الإنسان لربه، عن طريق معرفته لمخلوقات ربه، فها هنا نستطيع أن نتصور صورة من الدأب الدءوب الذي لا يفتر لحظة على طول الحياة الواعية، محاولا أن «يعرف» ثم «يعرف مزيدا» ثم يعرف مزيدا من المزيد إلى آخر نفس يلفظه الإنسان المجتهد في تحصيل المعرفة إذا جاءه أمر ربه ... على أن هذه النقطة من نقاط حديثي هي التي سوف تكون إحدى ركيزتين أساسيتين سيكونان المحور الرئيس للموضوع كله.
ثالثا:
وهذه نقطة متصلة بما أسلفته لتوي، أذكرها راجيا أن تتسع صدورنا لما يقوله بعضنا لبعضنا، فكلنا طلاب حقيقة نسعى إلى إدراكها وإلى العمل بمقتضاها، ولا ضير في أن يصحح أحدنا الآخر، بل لا بد أن يصحح أحدنا الآخر لتتحرك حياتنا الفكرية نحو ما هو أصح وأكمل، وإلا فمن ذا الذي يدعي لنفسه سعة من العلم لا تنتهي حدودها، وعصمة من الخطأ لا موضع فيها للزلل والخطأ؟ وإني إذ أقول ذلك، فإنما أقوله وفي ذهني أمثلة حية مما قرأته أو سمعته لعلماء منا لا أشك لحظة في فضلهم وفي إخلاصهم وسلامة طويتهم، لكنني في الوقت نفسه أشك كل الشك في سداد ما يكتبونه أحيانا وما يذيعونه في الناس، وذلك حين أشعر في قوة ووضوح أن مؤدى ما يقولونه في موضوع «العبادة» قد يفهمه الآخذون عنهم على أنها عبادة السكون والقعود والزهد والرضا بالقليل من دنيا «العلم» ومن دنيا «العمل»، وكان آخر ما سمعته في هذا الباب ما أذاعه أستاذ جليل عن «القدس» وكيف تكون سبيلنا إلى تحريرها من قبضة إسرائيل؛ إذ قال إن الوسيلة هي «العبادة»، والشرط الذي اشترطه فضيلته لتلك العبادة هو أن تعم الأمة الإسلامية كلها لا تقتصر على نفر منها دون الآخرين، ولو أن فضيلته قصد ب «العبادة» ذلك المعنى الواسع الذي سأجعله موضوعا لحديثي بعد قليل، لكان قوله صوابا، لكنه قال قوله ذاك في سياق لا يجعل للعبادة معنى في أذهان السامعين إلا ما هو معروف من «أركان» الإسلام الخمسة؛ أي أنه يكفي المسلمين أن يقيموا الصلاة ويؤدوا الزكاة، ويصوموا رمضان ويحج منهم من هو قادر على الحج، وذلك كله بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيخرج الإسرائيليون من القدس. لقد سبق لكاتب هذه السطور أن ذكر سامعيه (في محاضرة عامة ألقاها في تونس)، كما ذكر قراءه (في مقالة له)، ذكر أولئك وهؤلاء بأن أركان البناء لا بد أن تقام قوية وراسخة، لكن في البناء إلى جانب «الأركان» غرفا وجدرانا، ومن تلك الغرف والجدران أن يكون المسلم عابدا بعلمه وباستخدامه لذلك العلم في السلم إذا كان السلم وفي الحرب إذا كانت الحرب، وبهذا الجانب من العبادة تخلو القدس من الغاصبين.
ربما كنت بتلك النقاط الثلاث، قد مهدت الطريق إلى ما أريد عرضه تعليقا وتوضيحا لتلك العبارة التي قالها ذلك المسلم من أبناء الهند، حين أجاب صاحبه الذي سأله إن كان راغبا في مرافقته إلى المسجد إذ أجاب قائلا: يا صديقي أنا المسجد وأنا الساجد معا، لله سبحانه وتعالى ... عند المسلم كتابان: القرآن الكريم، وهذا الكون العظيم الذي يحيط بنا ونسكن كوكبا من ملايين كواكبه وأنجمه، وذلك لا ينفي أن يكون الكتاب الثاني محكوما بالكتاب الأول؛ بمعنى أن «الكلمة» تسبق فعلها، و«كن» يتبعها أن «يكون»، ومن القرآن الكريم يستمد المسلم - بين ما يستمده - المبادئ والقواعد التي يقيم حياته السلوكية على أسسها، ومن كتاب الكون يستمد المسلم «وغير المسلم» قوانين «العلم» التي على أساسها وفي حدود ما يعلمه منها يصنع الغذاء ويصنع الدواء وينسج الثياب ويبني المساكن، ويقيم الجسور ويصوغ المعادن أدوات لعيشه وسلاحا لحربه إلى آخر ألوف الآلاف من صنائعه إن كان لتلك الصنائع أثر، وكلا الكتابين مقروء للناس بمقادير ودرجات تتفاوت بتفاوت أفراد الناس في قدرتهم على القراءة، ولكل من الكتابين لغته التي لا بد أن تدرس دراسة دقيقة وعميقة؛ حتى يتمكن الدارس من استخلاص ما ظهر من مضمونها وما بطن؛ ولذلك كان لكل من الكتابين علماؤه المتخصصون الذين يجب أن يكونوا مرجعا يلوذ به من أراد العلم من غير المتخصصين، إلا أنه من المألوف للناس أن تكون لغة القرآن الكريم هي اللغة العربية، لكنه ليس من المألوف عندهم أن يقال إن لظواهر الكون لغاتها، وهي اللغات التي يحتال على قراءتها العلماء الباحثون عن أسرار تلك الظواهر؛ أي إنهم باحثون عن قوانينها، غير أن لغات الظواهر الكونية أقرب إلى ما يسمونه ب «الشفرة» أو هي أقرب إلى الكتابة بمداد غير مرئي للعين إلا إذا عولج بمواد معينة فيظهر للعين بعد خفاء، واحتيال العلماء على ظواهر الكون حتى يكشفوا عن أسرارها هو نفسه الذي نطلق عليه اسم «المنهج العلمي» في البحث، وإلا فكيف قرأ علماء الضوء ما استكن في ظاهرة الضوء بحيث استطاعوا آخر الأمر أن يطوعوه لأغراضنا، فكان لنا تلك المصابيح التي نستضيء بضوئها، كما كان لنا أجهزة أخرى كثيرة كالتليفزيون وغيره، وكيف قرأ علماء «الصوت» وعلماء «الكهرباء» وعلماء «الجاذبية» وعلماء هذا وعلماء ذلك، كيف استطاع كل هؤلاء العلماء، أن يقرءوا تلك الكائنات جميعا ليستخرجوا ما كان مكنونا من سرها فطوعوها، وأصبحت حياة الناس كما نراها بوسائلها وأجهزتها، ولم يعد في مستطاع أحد أن يتصور لنفسه حياة بغيرها ...؟ ولقد كان هؤلاء العلماء في جهدهم وجهادهم يعبدون الله الذي خلق الكون، وأمر عباده أن يتفكروا في خلقه ذاك، حتى يكشفوا ما استطاعوا الكشف عن كنزه المستور.
قل لي - بالله - يا أخي أين هو المسلم الواحد الذي لا يفخر ويفاخر بآبائه المسلمين فيما قالوه وما فعلوه خلال القرون العشرة الأولى من تاريخ الإسلام، والقرون الأربعة الأولى منها على وجه الخصوص؟ وإذا كان هذا هكذا - فتعال معا نحلل العوامل الأساسية التي جعلت تلك القرون الأولى مختلفة عما تلاها إلى يومنا هذا، إن الأسبقية الزمنية وحدها لا تكفي للتعليل، ولا بد أن يكون الفرق كامنا فيما أداه أولئك وما يؤديه هؤلاء، وإذا أذنت لي بأن أدلي بين يديك برأي عاجل، ولكنه شامل، لقلت إن الفارق الرئيس بين الفترتين إنما هو أن الأولين عنوا بالكتابين معا: القرآن الكريم والكون العظيم، معترفا لك بأن القرآن الكريم قد ظفر منهم بالاهتمام الأكبر، مما كان ينبغي أن يؤدي بنا إلى نتيجة هامة لو كنا حريصين على أن نكون مع أسلافنا استمرارية تاريخية إيجابية وفعالة، وتلك النتيجة هي أن نعتمد إلى حد كبير على دراساتهم القرآنية لنجعل لدراسة «العلوم» الكونية فرصة أوسع.
Неизвестная страница
إننا حين نعتز بأسلافنا ترانا لا نقصر الأمر على فقهاء الدين منهم، بل نحرص على أن نضيف الأسماء اللامعة لعلماء الرياضة وعلماء الطب وعلماء الكيمياء وعلماء الفلك والمؤرخين والرحالة فضلا عن الشعراء والنقاد والفلاسفة، فهؤلاء جميعا قد وجهوا جهودهم نحو الكون، يقرءون ظواهره ليصفوها وليحللوها وليستخرجوا قوانينها، ثم أصابنا الجمود منذ القرن الخامس عشر الميلادي، ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا قبل ذلك لم تكد تتجه بنظرة واحدة نحو تلك العلوم، (وهذا الحكم منصب بالطبع على ما بعد العصر اليوناني) وكان أسلافنا المسلمون وحدهم هم فرسان الميدان، تحول الموقف تحولا حادا بعد ذلك التاريخ، فاتجهت أوروبا بكل عقولها وقلوبها نحو طبيعة الظواهر الكونية يدرسونها، ووقفنا نحن وقفة الأشل، فلم يتبق لنا من ميادين الدراسة شيء إلا أن يعيد الدارسون ما كتبه الأولون متصلا بالقرآن الكريم، فلا هم أضافوا شيئا في هذا المجال، ولا هم بالطبع أنفقوا من وقتهم ساعة واحدة يدرسون فيها ظاهرة من ظواهر الكون.
وإذا شاركتني هذا الرأي، انفتح الطريق أمامنا نحو الوسيلة التي ننهي بها مأساتنا، فهي - كما نرى - أن نجعل إسلامنا على نحو ما كان إسلام الأسبقين فيما يختص بالحياة العلمية، فقد كان عالم الرياضة أو عالم الطب أو عالم الكيمياء إلخ مسلما عالما، لا «مسلما وعالما» بإضافة واو العطف بين الصفتين، بمعنى أن اهتمامه بالفرع الذي يهتم به من فروع العلم الرياضي والطبيعي كان جزءا من إسلامه، أو بعبارة أخرى، كانت العبادة عنده ذات وجهين: بالوجه الأول منهما يعبد الله بالأركان الخمسة، وبالوجه الثاني منهما يبحث في خلق السموات والأرض وما بينهما كما أمره القرآن الكريم، وبهذه النظرة نفسها يكون مخرجنا من مأساتنا، وهي المأساة التي جعلت الأمة الإسلامية على حالتها من الضعف، كما أسلفنا القول في ذلك.
وإذا اتجه المسلمون بإيمان راسخ وعميق نحو دراسة «العلوم»، لا من حيث هي «مذكرات» تحفظ، بل من حيث هي ضرب من عبادة الله عز وجل لأنها نظر في خلق الله، لاستطاعوا أن يتميزوا في هذا المجال بالقياس إلى علماء الغرب، لماذا؟ لأنهم بحكم إسلامهم موجهون نحو «التوحيد» بكل معنى من معانيه، فتوحيد الله سبحانه وتعالى عند المسلم، لو أخذ مأخذا بصيرا - لاستتبع عند المسلم توحيدا لشخصيته هو وتوحيدا للكثرة الظاهرة في كائنات العالم، بحيث تنخرط كلها في «لون» واحد متكامل الأجزاء، وكلا الجانبين من التوحيد؛ وأعني توحيد الشخصية الإنسانية وتوحيد العلوم المختلفة التي تبحث في ظواهر الكون توحيدا يعود بها إلى مبدأ واحد، أقول: إن كلا الجانبين من التوحيد غائب أو كالغائب عن الحياة الفكرية في عصرنا التي هي حياة انفرد بها حتى الآن علماء الغرب، وما ينفك أدباء الغرب ومفكروه يشيرون إلى هذا النقص الخطير الذي أدى إلى كثير من أمراض العصر النفسية وعلى رأسها القلق والشعور بالاغتراب، وكأن الإنسان يعيش في غير بيته ومع غير أسرته.
نعم - لو أن المسلمين عبدوا الله من ناحية دراستهم لخلق الله بالإضافة إلى عبادته سبحانه وتعالى من ناحية الأركان الخمسة، لانتهوا إلى ما يصح تسميته بالعلم «الإسلامي»، فالعلم لا يصبح إسلاميا بهذا العبث الذي يطن في آذاننا كل يوم حين نسمع صيحات تقول: نريد علم نفس إسلاميا، ونريد علم اجتماع إسلاميا، ونريد علم اقتصاد إسلاميا، كلا؛ لأن كل علم من هذه العلوم الجزئية لا يستطيع إلا أن يكون علما لا تتغير صورته على أيدي علماء اختلفت أوطانهم وعقائدهم، وإنما يصبح العلم إسلاميا بالوقفة العامة التي ترتب بها العلوم الجزئية في وحدة تضمها على نحو ما نتوقع من المسلم الحق أن يوحد بين عناصره الداخلية العاقلة منها وغير العاقلة في ذات موحدة متسقة النغم متفقة الهدف، لكن هذا كله لا يؤديه المسلم في المسجد وحده، وإنما يؤديه - كما قلت - قبل المسجد، وفي المسجد وبعد المسجد، فهل رأيت الآن يا صديقي، كيف يمكن أن تفهم عبارة المسلم الهندي التي قالها لزميله حين قال: إنني أنا المسجد وأنا الساجد؟ هذا، ولم أقل «شيئا» عن الركيزة الثانية في حياة المسلم، ركيزة «الأخلاق» التي نزل بها القرآن الكريم، لينظم على أساسها أنماط سلوكنا في حياتنا منفردة كانت تلك الحياة أو مجتمعة، ويغفر لنا هذا الحذف ضيق المقام أولا، ووضوح هذا الجانب في أذهان الناس، إذ من الذي لا يعرف أن المسلم الحق يحمل مبادئه الأخلاقية في ضميره أينما كان، يحملها قبل دخوله المسجد وبعد خروجه من المسجد - كما يحملها وهو يؤدي صلاته في المسجد سواء بسواء.
اقرأ باسم ربك
في كتابه «الخصائص» يلفت «ابن جني» أنظارنا إلى ما يسميه هو بالاشتقاق الكبير، وكتاب «الخصائص» مؤلف ضخم يقع في ثلاثة مجلدات، يبحث في خصائص اللغة العربية، وهو - كما ذكرت عنه في مناسبة سابقة - أقرب شيء إلى ما نسميه اليوم بفلسفة اللغة، ولست أعرف في تراثنا العربي كله، ما ينافس «الخصائص» في موضوع بحثه، عمقا وإسهابا، وأحسب أن علماء اللغة قبل ابن جني، لم يعرفوا إلا ضربا واحدا من الاشتقاق، وهو ذلك الذي يتعقب الألفاظ التي يمكن أن تتولد من أصل لغوي واحد، فمن الأصل «كتب» تولد «كاتب»، «مكتوب»، و«كتاب» و«كتيبة»، إلخ، أما الاشتقاق الكبير الذي يلفت ابن جني أنظارنا إليه فشأنه شأن آخر، وخلاصته أن الأحرف الثلاثة التي يتركب منها الأصل الثلاثي، لتعطي معنى معينا، يمكن أن نغير في ترتيبها، فنحصل بذلك على كلمات أخرى، لكل منها معناها، لكنها جميعا لا بد أن تكون ذات صلات بعضها ببعض؛ لأنها تكون أشبه بأفراد الأسرة الواحدة، كل فرد منهم متميز بفرديته، لكن يظل الشبه الأسري قائما بينهم جميعا، ثم ضرب ابن جني أمثلة يوضح بها ما زعمه عما أسماه بالاشتقاق الكبير.
وعلى طريق ابن جني، وجدت نفسي مدفوعا إلى إمعان النظر في كلمة «اقرأ»، وذلك عندما أحسست في لحظة من لحظات التأمل، بأنه لا بد أن تكون هناك أبعاد بعيدة الأعماق؛ لأن يكون أول الوحي الإسلامي هو هذا الأمر الإلهي
اقرأ
وقد يكون هنالك من العلماء السابقين أو المعاصرين، من تقصى تلك الأبعاد، لكن ذلك - حتى إن وجد - لا يمنعني من متعة التفكير، بل من واجب التفكير؛ لأن عملية التفكير لمن يحسنها، واجب ومتعة معا، فكانت أول خطوات التفكير عندي، محاولة الإفادة بمبدأ ابن جني في الاشتقاق الكبير؛ لأن ذلك من شأنه أن يصوب الأضواء على ما يمكن أن يكون وراء الكلمة من الأبعاد التي نبحث عنها.
فمن الأحرف التي تتكون منها كلمة «قرأ»، يمكن استخراج كلمة «أرق» وكلمة «أقر»، فلننظر - إذن - إلى هذين اللفظين المستخرجين، ثم نعود بعد ذلك إلى الكلمة التي هي موضوعنا، وهي الأمر القرآني
Неизвестная страница
اقرأ
وكونه أول ما نزل به الوحي.
وأبدأ بالأرق، وللأرق علاقة وثيقة وحميمة بالحياة، فالذي يتأرق هو الكائن الحي على وجه العموم، والإنسان على وجه الخصوص، فالمادة الموات لا تتأرق لشيء، الحجر لا يؤرقه أن تسفعه الريح العاتية سفعا، ولا أن ماء المطر يغرقه، ولا إذا شاءت له حرارة الشمس أن يلتهب وتتفتت أجزاؤه، فليس له في طبيعته إلا أن يتلقى ما يتلقاه، إنه ينفعل ولا يفعل ... ولا كذلك الكائن الحي على إطلاقه، فماذا تقول في الإنسان؟ ولقد كنت وقعت ذات يوم على تعريف للحياة - أغلب ظني أنني صادفته مرتين، إحداهما عند هربرت سبنسر، والثانية عند برتراند راسل - وخلاصة ذلك التعريف، هو أن الحياة إن هي إلا تعاقب مستمر بين حالتي التوتر والارتخاء في الكائن الحي، وذلك أن الكيان الحي ذو حاجات عضوية، من غذاء وماء وغيرهما، فإذا أحس ذلك الكيان الحي بالحاجة إلى غذاء توترت أجهزته العضوية، حتى إذا ما سرى فيه الغذاء المطلوب، استراح واسترخى، وهكذا دواليك طالما كان الكائن حيا، فإذا وجهنا أنظارنا إلى الإنسان، وجدنا تلك المراوحة لا تقتصر على الحاجات العضوية وحدها، بل يضاف إليها في هذا السبيل حاجات عقلية وحاجات وجدانية، أشد إلحاحا عليه وأقسى، فانظر كم تتأزم نفس الإنسان إذا افتقد «الحرية» فلم يجدها، وإذا طلب «العلم» فسدت أمامه الطرق، وفي كل حالة من حالات تأزمه لنقص فينا يشبع حاجاته العقلية والوجدانية، يتوتر كيانه كله، فلا يستريح إلا إذا أشبعت له حاجته الظامئة - وذلك هو الأرق الذي تتصف به كل حياة، وتتصف به حياة الإنسان بصفة أخص، وأدق، وأسمى.
ولم يعد الآن موضع لغرابة، إذا تناولنا اللفظ الثاني الذي استخرجناه من مادة «قرأ»، وهو كلمة «أقر»، فقد رأينا في الأرق أنه اضطراب يعقبه استقرار عندما تشبع الحاجة، وهكذا تكون كلمة «أقر» في معناه جزءا من «أرق» ومعناها.
فإذا عدنا إلى «قرأ»، رأينا في معناها ذلك العمق الذي ظهر من النظر إلى شقيقتيها السالفتين، ففي فطرة الإنسان التي خلق عليها، حاجة حيوية لأن «يعرف» ما استطاع معرفته عما حوله، وعما في نفسه، فتلك المعرفة عند الإنسان، ليست للزينة، أو للمفاخرة، بل هي لحياته ضرورة كضرورة الهواء يتنفسه، والماء يشربه والطعام يأكله، فما لم «يعرف» الإنسان ما لا بد من معرفته عن المكان الذي يسكنه وعن الزمان الذي يحيا فيه، لما استطاع العيش يوما واحدا، انظر إلى أهل الكهف حين استيقظوا، وسعوا في المدينة وهم لا يعلمون أن الزمان قد تغير عما ألفوا، فتعذر عليهم التفاهم والتعامل، وإنه لمصير محتوم على كل إنسان يبتر الروابط عن ظروف مكانه وظروف زمانه، سواء أجاء هذا البتر بإرادته أم جاء مفروضا عليه، فشرط الحياة للإنسان، حتى وهي في أبسط درجاتها، هو أن «يعرف» ذلك الإنسان في أي مكان هو، وبأي زمان يستظل، ثم تتدرج معرفة الإنسان لمكانه وزمانه، تدرجا يتفاوت فيه الصعود بتفاوت الأفراد، على أن صلاحية المعرفة المكسوبة - وأعني صلاحيتها كما وكيفا - مسألة لا تقاس بما يعرفه كل فرد على حدة، وإنما تقاس بما تعرفه مجموعة الأفراد معا في شعب معين، إذ المطلوب ليس هو أن يعرف كل مواطن كل شيء، بل المطلوب هو أن يكون حاصل جمع ما يعرفه أبناء الشعب المعين، فيه ما يكفي لحياته كما يريد لنفسه أن يحيا ...
هي فطرة الإنسان، التي لا تكلف فيها ولا تصنع، هي فطرته أن يكون على «معرفة» ما استطاع إلى ذلك سبيلا ... فإذا لم يشبع من فطرته تلك حاجتها من المعرفة «تأرقت» نفسه لذلك النقص الذي يحد من إنسانيته، بل يحد من قدرته على الحياة، وأما إذا أشبع تلك الحاجة «أقر» بذلك نوازع نفسه، ولكن ما وسيلته إلى تلك المعرفة التي هي من حياته بمثابة القلب والصميم؟ وسيلته إليها هي أن «يقرأ»، ومن هنا كان أول الوحي هو:
اقرأ .
القراءة أمر إلهي للإنسان، بل هي من الأوامر الإلهية أولها نزولا، فهل نخطئ إذا قلنا عن القراءة إنها عبادة؟ ولكن ما كل قراءة هي من ذلك القبيل الأسمى، بل إن من القراءة ما يضل ويفسد، إذن، فماذا تكون؟ وكيف تكون؟ إن الإجابة تتبدى في صيغة الأمر الإلهي نفسه:
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم
و
Неизвестная страница
اقرأ باسم ربك الذي خلق ، في كلتا الحالتين يأتي الأمر بالقراءة متبوعا باسم الله، فليست القراءة الواجبة - إذن - هي قراءة الآلي، وإنما هي القراءة التي تفك بها الرموز، فيكشف عن الكنوز المكنونة من معرفة لما كتبه قلم يحمل علما كان مجهولا للإنسان قبل قراءته «الحالة الأولى»، ومن معرفة لما خلقه الله، وذلك بدراسته ما وسع الإنسان أن يدرس ليعلم «الحالة الثانية».
هي قراءة مزدوجة، فرع منها يقرأ الكلمات، وفرع آخر يقرأ مخلوقات الله، والفرعان كلاهما يستهدفان هدفا واحدا، وهو، «المعرفة» بعد فك الرموز والكشف عما تعنيه، ولعل الأمر يزداد أمامنا وضوحا إذا ذكرنا محاولة من أهم محاولات الفلاسفة المسلمين الأولين، وهي محاولة قد وفقوا فيها إلى حد بعيد، وأعني محاولتهم أن يبينوا بأن الحقائق التي نزل بها الوحي قرآنا، هي نفسها الحقائق التي يصل إليها العقل علما، وربما كان أمتع وأنفع ما نقرؤه في هذا المجال، هو كتاب «حي بن يقظان» لابن طفيل، فهو «أمتع»؛ لأنه «أدب من حيث الشكل الروائي»، وهو «أنفع» لأنه وضع أمام قارئه إنسانا نشأ وحده على جزيرة ليس فيها إلا نبات وحيوان وكائنات مادية كالأرض والماء والشمس، فلما نما جسما، ونضج عقلا، استطاع من تأمل المخلوقات التي حوله، أن يستدل بعقله المحض على وجود الله، وطبائع الأشباه، وأريد للقارئ أن يتأمل الاسم الذي اختاره ابن طفيل لبطل روايته الفلسفية، إذا استخدمنا مصطلحات الأدب في عصرنا، وأحب هنا أن أضيف حقيقة إملائية، وهي أن القارئ إذا ما رآني قد كتبت «ابن طفيل» بحرف الألف في «ابن»، فذلك هو الصواب؛ لأن الألف في «ابن» لا تحذف إلا إذا جاءت بين اسمين كقولنا: «عمر بن الخطاب» - أعود إلى سياق حديثي، فأقول إنني أريد للقارئ أن يتأمل اسم «حي بن يقظان»، ليرى كيف أحسن ابن طفيل اختيار الاسم؛ لأنه إذا كان الإنسان المعزول وحده في جزيرة منذ ولد، قد استطاع بعقله أن «يقرأ» الكائنات من حوله، قراءة كشفت له عن الحق سبحانه، وعن حقائق الأشياء وطبائعها؛ فذلك لأنه لم يكن غافلا ولا لاهيا بما يسمع ويرى، أعني لم يكن غافلا ولا لاهيا عندما «قرأ» الذي قرأه فيما حوله، فذلك لأنه «حي» بكل معنى الحياة، ولأنه «يقظان» بكل وعيه وإدراكه ... فهذا الذي صنعه الفلاسفة المسلمون الأولون، حينما بينوا التقاء ما نزل به الوحي، وما يدركه العقل باستدلالاته وبراهينه، يوضح لنا ما قلناه عن القراءة بشعبتيها، وتلك هي القراءة العابدة؛ لأنها قراءة باحثة كاشفة عارفة.
ومن هذا الذي قدمناه، تتولد نتيجة أراها ذات أهمية كبرى في رؤيتنا الإسلامية من جهة، وفي تربية أبنائنا على تلك الرؤية من جهة أخرى، وأعني بها النظرة التي ننظر بها إلى الحلال والحرام، اللذين هما جوهر الشريعة، فالحلال حلال لأن شريعة الله قد أحلته، والحرام حرام لأن شريعة الله قد حرمته، وهما بغير شك مطاعان عند المسلم لمجرد أنهما شريعة الله، وهناك علماء من أفضل العلماء، يرون أن طاعة المسلم فيما حلل له وما حرم، يجب أن تؤخذ بغير أن يسأل: لماذا كان الحلال حلالا وكان الحرام حراما؟ والرأي عند كاتب هذه السطور هو - بكل التواضع الذي يقبل التصحيح بلا تردد إذا ظهر له أن في الرأي خطأ هو لا يراه، أقول: إن الرأي عند كاتب هذه السطور هو أن الخير كل الخير أن نسأله: لماذا؟ وأن نحاول الجواب والبيان.
وهذا الرأي أبنيه على ازدواجية القراءة التي أسلفت ذكرها، فإذا كان الأمر هو كما بينه الفلاسفة المسلمون الأولون، أن العقل يمكنه بالاستدلالات الصحيحة من وقائع العالم كما تقع لنا، أن يستنتج الأحكام التي نزلت وحيا، كان معنى ذلك هو أن الحلال والحرام هما النافع والضار فيما يدركه العقل، لو أنه تعقب حقائق الأشياء وطبائعها ونتائجها القريبة والبعيدة، فكل حلال إنما هو في حقيقته الواقعية، شيء يفيد فائدة مطلقة، لا يحتمل أن يشوبها ضرر مهما امتد حبل النتائج التي تترتب عليه، وكل حرام هو شيء ضار، قد يظهر ضرره فور وقوعه، وقد يكون ضررا كامنا تظهر نتائجه بعد حين قصير أو طويل، وأعتقد أن بيان ما هو حلال وما هو حرام، لمن نربيه على الإسلام، يزداد عمقا في نفس المتعلم - وفي نفس المسلم عامة - إذا «عرف» بعقله لماذا حلل والحلال وحرم الحرام، إن الأوامر والنواهي لا يتبدل فيهما شيء، عندما ينتقلان من مرحلة القبول الذي لا يسأل عن الأسباب، إلى القبول ومعرفة أسبابه، ففي تربية الوالد الرشيد لولده، يأمره بأفعال وينهاه عن أفعال، لكنه يمسك عن ذكر الأسباب إذا رأى طفله أقل قدرة على إدراك تلك الأسباب، لكن كلما نما ولده وازداد قدرة، اتسع المجال أمام ذلك الوالد، ليشرح لولده لماذا كان الأمر ولماذا كان النهي.
لكنه في الوقت الذي لا يتغير فيه شيء من الحلال والحرام، بين أن يكون الإنسان على علم عقلي بالأسباب، أو لا يكون على شيء من ذلك العلم، فإن الفرق كبير في الإنسان نفسه، بين أن يعلم تلك الأسباب وألا يكون على علم بها، فاستعداد الإنسان لقبول أحكام بغير علم بمبرراتها، قد يتسع مداه في حياته الإدراكية - دون أن يشعر بذلك - من دائرة الطاعة الصامتة في مجال الدين، إلى الطاعة الصامتة كذلك في مجال العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك علاقة الحكومة بالشعب، وعندئذ قد يطغى من يطغى، دون أن يكون من حق المحكوم أن يسأل لماذا؟ ... ثم قد يتسع المدى كذلك لينتقل الإنسان السلبي في طاعته، من دائرة الأحكام الدينية، إلى دائرة الاعتقادات التي لا هي من أحكام الدين فتطاع بغير سؤال من العقل، ولا هي من المعرفة العلمية التي محصها العقل وأثبت صحتها قبل قبولها؛ وأعني بتلك المجموعة الضخمة من الاعتقادات، التي لا هي من دين، ولا هي من علم، تلك «الخرافات» التي إذا شاعت ودامت مع الناس، رسخت في نفوسهم كأنها حقائق لا موضع فيها لجدل أو سؤال، لا سيما إذا كانت الأغلبية الغالبة من الشعب قد حرمت من الحد الأدنى من التعليم والتثقيف، ذلك الحد الأدنى الذي لا يسمح لصاحبه أن يقبل رأيا، أو فكرة، أو حكما أو صورة من صور السلوك، إلا إذا كان لها مبرر معروف.
وأرتفع بالمسألة المطروحة درجة، لأقول إن عقيدة المسلم هي أن الإسلام دين لكل زمان ولكل مكان، ومن الحكمة أن نبين للناس ذلك الأساس الذي يؤيد صدق عقيدة المسلم في دينه، والأساس هو استناد الإسلام إلى «العقل» ليكون هو أداة الإدراك كلما أريد للفكرة المدركة أن يكون لها ثبوت وثبات، وليس الإسلام هو المسئول، إذا نشأت جماعة من المسلمين على تربية تبيح لهم أن يبيعوا عقولهم من أجل خرافة ووهم، فالحقيقة العقلية وحدها هي التي تستطيع بحكم طبيعة تكوينها - أن يدوم لها صدقها مهما تغير بها المكان أو الزمان، وإذا قلنا الحقيقة العقلية فقد قلنا الحقيقة العلمية، إذ لا فرق - في الأساس - بين العبارتين، وهل يتأثر الصدق في قولنا «إن الاثنين نصف الأربعة.» مهما تغير المكان أو الزمان الذي تقال فيه؟
من هنا يكون الفرق بين أن تذكر لي أسلوبا معينا من أساليب العيش، قائلا لي إنه أسلوب جيد أو أسلوب رديء، وبين أن تذكر لي في الوقت نفسه «المبدأ» العقلي (أي التعليل) الكامن وراء ذلك الأسلوب من أساليب العيش ، فيجعله حسنا أو رديئا؛ لأن المبادئ العقلية، أو قل: الحقائق العلمية هي وحدها التي لا يتغير من صدقها شيء برغم تحولات المكان والزمان، وفي هذه المناسبة أروي عن سقراط، وقد كان في موقفه من تاريخ الفكر الإنساني، ينقل المفاهيم العامة والهامة في حياة الناس، ينقلها من حالات الغموض والإبهام إلى حالة التحديد العلمي؛ ليتبين صدقها أو بطلانها، فلقد صادف سقراط شابا في ساحة المحكمة، وسأله عما جاء به إلى هناك، فقال له الشاب (وهو أوطيفرون): جئت لأشكو أبي؛ لأنه قتل عبدا في المزرعة بغير حق، مما قد جاوز بالوالد حدود التقوى، فسأله سقراط، وما هي حدود التقوى؟ فأجابه الشاب بما معناه أنها هي الحدود التي جعلت أباه في قتله للعبد على باطل وضلال، وجعلته هو في رفع الأمر إلى القضاء، مع أن القاتل هو أبوه، على حق وهدى، فاعترض سقراط على تلك الإجابة، مبينا للشاب أنه إنما يحدد معنى التقوى بسلوك معين في موقف معين، مع أن التحديد لا تتوافر فيه الشروط العقلية - إلا إذا جاوزنا الموقف المعين، لنستخرج ما يكمن وراءه من «مبادئ»؛ لأن المبدأ هو الحقيقة العامة التي تتخطى جزئية السلوك الفردي في مكانه المعين وزمانه المعين، ليشمل كل سلوك لأي فرد، في أي مكان، وفي أي زمان ...
وهذه النقطة هي عندي بيت القصيد، فلقد كان الإسلام آخر الرسالات الدينية لهذا السبب نفسه، وهو أن الإسلام قد أوكل المشكلات التي قد تنشأ في حياة الناس، مما لا يكون قد ورد فيه حل قاطع، أو كلها إلى «العقل» الإنساني؛ أي أنه أوكلها إلى «العلم»، فكل مشكلة هامة تعترض حياتنا، هي بمثابة موضع يختص به علم معين، أو مجموعة علوم، إذ قد تكون من اختصاص علماء الطب أو علماء الاقتصاد أو علماء النفس والاجتماع، أو غير ذلك من سائر العلوم، بحسب طبيعة المشكلة المطروحة، وما دام الأمر في تدبير الحياة إذا ما أشكلت على الناس، قد أحيل (في الإسلام) إلى عقل الإنسان وعلمه، ففيم تكون الرسالات الدينية بعد ذلك؟
إنها رؤية إسلامية، تنظر إلى الإسلام من ناحية إقراره لعقل الإنسان وأحكام ذلك العقل في استدلالاته إذا ما التزم فيها منهج العلم، وهي رؤية أذكرها، لا لأضيف بها جديدا من حيث الأساس، بل لأذكر بها من نسيها أو تناساها والذكرى تنفع المؤمنين.
العقل يهدي ويهتدي
Неизвестная страница
لم يكن الفتى الصغير قد تنبه، ولا تنبه أحد من ذويه بأن عينيه العليلتين تحتاجان إلى منظار، فما أكثر ما يغفل الإنسان عن حقيقة أمره، ويظل زمنا - قد يطول مع أفراد، وقد يقصر مع آخرين - يظل زمنا تتراكم له الخبرات فيه، قبل أن يدرك بأنه مختلف عن سواه في جانب هام من جوانب حياته، ولقد لبث فتانا أعواما لا أظنها تقل عن خمسة عشر عاما، لكي يدرك بعدها، ويدرك معه ذووه، أن بصره ليس كأبصار الناس وأنه لا بد له من منظار، فلما فحصت عيناه - وربما فحصتا لأول مرة في حياته - وجد أن إحدى العينين سليمة، أو هي تقرب من السلامة، وأما الأخرى فعمياء أو هي تقرب من العمى، وأعد له منظاره الأول، فكانت العدستان متفاوتتين في السمك تفاوتا بعيدا، فإحداهما رقيقة والأخرى ذات حجم ملحوظ، فكان أن قويت رؤيته لما يراه، حتى لقد أخذته للوهلة الأولى دهشة ممزوجة بالهلع، إذ أصبحت دنياه التي تحيط به، وفي انتقالة خاطفة، ليست هي الدنيا التي كان قد ألفها قبل أن يضع منظاره على عينيه لأول مرة، إلا أنه إلى جانب ذلك الكسب العظيم في اقتراب الصلة ووضوحها بينه وبين الناس والأشياء من حوله، خسر خسارة عظيمة كذلك، وكان الفرق بين الحالتين أن الكسب كان في جانب العالم الخارجي وكائناته، وأما الخسارة فكانت في جانب العالم الباطني ومشاعره، فلقد كان التباين الشديد بين العدستين، لافتا للأنظار، ومثيرا لسخرية الأنداد الصغار وعبثهم، والصغار لا يرحمون صغارا مثلهم ولا كبارا.
ودارت الأيام بالفتى دورانا يستحق التسجيل، فما قد حدث له بالنسبة لمنظاره من كسب في الرؤية الخارجية وخسارة في الرؤية الداخلية، أخذ يحدث له في تكرار عجيب، لا في مجال البصر ومنظاره، ولكن في مجال العقل وإدراكه، إلا أن الكسب والخسارة لم يكونا على اطراد واحد، بل كان الكسب مرة في جانب الرؤية الخارجية، ومرة ثانية في جانب الرؤية الداخلية، وعكس ذلك صحيح أيضا بالنسبة إلى ما خسره الفتى في كل مرحلة.
لم يصطدم الفتى بقضية عقلية تتحداه وتلح عليه، بل إنه لم يكن ليدرك كيف يمكن أن يصطدم أي إنسان بقضية فكرية تتحداه وتلح عليه، أليست هي دروسا يذاكرها ويحفظها طالب العلم، ثم يمتحن فيما ذاكره وحفظه، فيصيب من النجاح أو الفشل ما يصيب؟ فمن أين إذن تأتي تلك القضايا التي تتحدى وتلح؟ وكان إلى جانب دروسه وحفظها والنجاح فيها متدينا عميق التدين، إذا كان التدين معناه أن تؤدى شعائر الدين كما ينبغي لها أن تؤدى، وكما خلت دروسه من القضايا التي تؤرق الجنوب عند من يتعرض لإلحاحها، كان تدينه كذلك لا تعترضه مشكلة مما قد يشغل الفكر، وهكذا سارت سفينة الحياة بالفتى في بحر ساكن لا موج فيه، علما ودينا، عقلا وقلبا، حتى انتصف به الشباب، وأخذ يصعد نحو الرجولة ونضجها.
هنا فاجأ نفسه بسؤال وجده مطروحا في رأسه دون أن يدبر له أمرا، وكان السؤال يسأل: ما الفرق عند الإنسان بين حالتين، هو في الحالة الأولى يعالج تمرينا من تمرينات الهندسة، وفي الحالة الثانية يطالع قصيدة من الشعر؟ ألم تكن الحالتان كلتاهما - ذات يوم - درسين من الدروس التي تحفظ ويقضى فيها امتحان؟ لم يكن في أيام دراسته قد أحس فرقا بين الحالتين، وهل تحس الدابة طبيعة ما تحمله على ظهرها، أقمح هو أم حجر؟ وكذلك كان الفتى في دراسته لا يفرق بين نكبة ونكبة، فكلها نكبات، وعليه أن يكابدها حتى تبلغ به السفينة بر الأمان، لكنه الآن في نضج رجولته، يفاجئ نفسه بذلك السؤال العجيب: ما الفرق بين حالة يقول فيها الإنسان، افرض أن أ ب ج مثلث، فكيف تقيم البرهان على أن زواياه تساوي زاويتين قائمتين، وحالة أخرى يقول فيها: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل؟ ولم يجد الرجل لنفسه مفرا من أن يفكر في الجواب، فما الذي يلزمه إلزاما لا مفر منه بأن يسأل وبأن يحاول الجواب؟ لا أدري، إلا أن شيئا في منظاره العقلي قد تغير، فما قد كان واضحا له وهو طالب علم، ولا يحتاج منه إلى سؤال، بات اليوم مشكلة تعترضه وتتحداه، فأخذ يفكر ويفكر، إلى أن جاءته لحظة، قال فيها ما قاله أرشميدس وهو في حوض استحمامه يلحظ ماء الحوض كيف ارتفع سطحه بحلول جسمه فيه، فأوحى له ذلك بجواب كان يشغله البحث عنه، فصاح: وجدتها ... وأصبحت بعد ذلك صيحة يصرخ بها كل من وجد جوابا لسؤال كان يبحث عنه، وهكذا قالها صاحبنا عندما أدرك الفارق الذي كان يبحث عنه بين الحالتين: إيجاد البرهان في نظرية ما، والتأثر النفسي لقراءة شعر ما، ففي الحالة الأولى نبدأ بفرض هو أن أ ب ج مثلث، وبفروض أخرى وضعناها أمامنا، بعضها «تعريفات» وبعضها «بديهيات» وبعضها الثالث هو ما يسمونه «مصادرات» - وكان الأصوب أن يقال «مصدرات»؛ أي أنها حقائق نختارها لنضعها في الصدر مع غيرها من الفروض، ثم نستدل النتيجة أو النتائج التي تتولد من تلك الفروض، فالمسألة كلها عقلية صرف، لا أثر فيها لحب أو كراهية أو فرح أو حزن، وأما في الحالة الثانية - حالة الشعر - فلسنا أمام فروض وما ينتج عنها استدلالا، بل نحن أمام رجل مر وهو في طريقه، على بقايا منزل كان مسكنا لحبيبته، والآن قد ذهب الحبيب وذهب المنزل إلا أطلالا متداعية، ولا يملك الرجل من ذلك الماضي الجميل إلا «ذكراه» التي كلما وجدت ما يثيرها دمعت عيناه بالبكاء: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» فكما كان الموقف في نظرية الهندسة عقلا صرفا، نرى الموقف هنا شعورا صرفا، ففي حالة العقل كل الناس يشتركون في البرهان، وفي حالة الشعور الذي أثارته بقايا المنزل ومن كان يسكنه، فالأمر ينفرد به صاحب الذكرى، وليس هناك ما يحتم على أحد آخر أن تدمع عيناه إذا مر بتلك الأطلال، فلماذا إذن نقرأ عن مشاعر الآخرين التي لا نشارك فيها؟ إننا نقرؤها لعلنا نتعاطف مع الشاعر في شعوره، فإذا حدث ذلك التعاطف، حدثت معه تربية وجدانية لأنفسنا.
وتدور عجلة الزمان مع صاحبنا، وإذا هو أمام قضية عقلية أعم من القضية الأولى وأشمل، وهي قضية خاصة بالرؤية العامة التي ينظر بها الإنسان إلى هذا العالم وطبيعته، وعلى الرؤية التي يختارها الإنسان لينظر إلى العالم على أساسها، تتوقف نتائج فرعية لا حصر لعددها، فماذا تكون تلك الرؤية التي يختارها؟ هنالك بدائل يمكن حصرها وعرضها ليجيء الاختيار مؤسسا على مقارنة بين تلك البدائل: فهذا العالم إما أن يكون كله تشكيلات من مادة ما، وفي هذه الحالة يكون علينا أن نفسر الظواهر الروحية والعقلية تفسيرا يوضح لنا كيف أنها تفريعات تفرعت عن أصل مادي، وإما أن نقول إن هذا العالم كله من روح وعقل، وفي هذه الحالة أيضا، يكون علينا أن نفسر الظواهر المادية تفسيرا يبين لنا أن تلك الظواهر إن هي في حقيقتها إلا تفريعات تفرعت من أصل روحي أو عقلي، وإما أن نجده عسيرا علينا أن نفسر الروح والعقل بما يبين أنهما من أساس مادي، كما هو عسير علينا كذلك أن نفسر الظواهر المادية تفسيرا يبين أن تلك التي ظاهرها مادة، إن هي في حقيقة الأمر إلا روح وعقل من حيث المصدر والأساس، فخروجا من هذا العسر يجيء افتراض ثالث، هو أن يكون هذا العالم كله ثنائي الجوهر، فهو مادة في جانب منه، روح وعقل في جانب ثان، وهو جمع بين روح ومادة في الكائن الواحد، في جانب ثالث.
عرض صاحبنا أمامه تلك البدائل الثلاثة، ولكل بديل منها أنصار ليرى أيها أصلح له ليكون أساسا لوجهة نظره، وماذا يحدد الصلاحية هنا؟ تحددها القدرة على فهم كبريات المسائل التي لا بد من قبولها في أي ثقافة، ففي ثقافتنا الإسلامية العربية جوانب أساسية، لا نستغني عنها، ولكن نريد تفسيرا لها، والتفسير لا يكون إلا برد ما نريد تفسيره إلى مبدأ عام، وباندراجه تحت ذلك المبدأ العام يتم التفسير، وقد رأى صاحبنا أن أقرب ما يمدنا بالرؤية الملائمة لنا، هو الافتراض الثالث الذي يرى - أن الروح والعقل ليسا أمورا من مادة، وأن المادة الخالصة لا هي من روح ولا من عقل، وأن الإنسان قد اجتمع فيه الجانبان، الروح والعقل من جهة، والجسم من جهة أخرى.
لكن صاحبنا لم يلبث أن رأى ضرورة شيء من التعديل، لكي تتم له صلاحية الرؤية التي اختارها، إذ يلاحظ أن الذين قالوا إن العالم كله مادة في مادة، قد وحدوا الكون تحت طبيعة واحدة، وكذلك الذين قالوا إن العالم كله روح وعقل، قد وحدوا الكون تحت طبيعة واحدة، وأن الذين قالوا إن العالم قوامه العنصران معا، فإما روح صرف، وإما مادة صرف، وإما كائنات تجمع بين الجانبين، لا بد أن يضاف إلى ما قالوه إيمان بوجود إله واحد هو خالق الكون بعنصريه، وبهذا وجد صاحبنا نفسه أمام إطار فكري يستريح له.
ثم تدور به الأيام دورتها، فتعترضه مسألة جديدة تلح عليه ليجد حلا لها، فقد كان منذ أول نضجه العقلي يرى أنه بينما الإنسان في وجوده الحضاري، لا غناء له عن جوانب كثيرة، كلها أساسي وجوهري لذلك الوجود، إلا أن جانبا واحدا منها هو الذي يتغير مع الزمن تغيرا يصحح به أخطاء نفسه، وذلك هو جانب العلم، وأما سائر الجوانب، ففكرة الخطأ ووجوب تصحيحه غير واردة فيها، فالعقيدة الدينية لها عند المؤمن بها كمال منذ لحظتها الأولى؛ لأنها جاءت وحيا، وبهذا يكون معيار القياس بعد ذلك، هو الأصل كما أوحى به، وعلى ذلك فلا يكون للزمن وامتداده قدرة على تكملة ما هو منذ أوله كاملا، وأما مجالات الإبداع في الفن والأدب، فهي كذلك لا يسهل علينا أن نفاضل فيها بين قديم وجديد، مفاضلة نفترض فيها أن ما هو جديد يكون بحكم الضرورة أصح وأكمل مما هو قديم؛ وذلك لأن الأمر فيها مرهون بموهبة الفنان أو الأديب، وليس ثمة ما يمنع أن تكون أقدم موهبة أعظم من أحدثها، فماذا يمنع ألا يكون في شعراء العرب المعاصرين، من يرتفع إلى مستوى شعراء الجاهلية؟ وماذا يمنع ألا يكون بين أدباء المسرح اليوم من لا ينافس سوفوكليز أو شيكسبير، وكذلك قل في فن الموسيقى وفن النحت وفن التصوير وفن العمارة ... واضح - إذن - أن هذه الجوانب كلها، التي هي من أي حضارة بمثابة الروح في الجسد، لا تخضع «للتقدم» مع ما يتقدم من جوانب الحضارة، أما الذي يتقدم بحكم طبيعته، بحيث يكون اليوم أصح منه بالأمس، فهو العلم.
رأى صاحبنا هذه الحقيقة منذ أول نضجه، لكنها حقيقة تترتب عليها نتيجة تدعو إلى بعض الحيرة، وهي أن العلم، الذي عليه وحده يتوقف الحكم على شعب بالتقدم أو بالجمود (لأن بقية الجوانب الحضارية لا يتوقف كمالها على مستحدثات التاريخ) أقول: إن العلم الذي تنصب فاعليته على «الظواهر» ليستخرج لكل ظاهرة منها قوانينها، تتعدد عنده مادة تلك الظواهر بتعدد العناصر، وليس لعنصر منها أفضلية على عنصر آخر، وإذن فلا بد من افتراض رؤية رابعة، تضاف إلى الواحدية المادية، والواحدية الروحية، وثنائية التكوين بين روح ومادة (يهيمن عليها إله واحد)، والرؤية الرابعة هي تعددية العناصر الكونية مع وحدانية الله - سبحانه وتعالى، وأصحاب التعددية في مكونات الطبيعة لا يقفون بها عند كثرة العناصر فحسب، بل إنهم ليستطردون في طريقهم، حتى يصلوا إلى الوحدات الذرية التي منها يتكون كل شيء، والتي كل ذرة منها مستقلة بكيانها عن سائر أخواتها، ولنا أن نضيف إلى تلك الكثرة في مفردات الكون، أفراد الإنسان، لاستقلال كل واحد منهم بفرديته المستقلة المسئولة.
أحس صاحبنا بشيء من الحيرة: كيف يحتفظ بهذه الكثرة من الأفراد والمفردات، لنحتفظ للعلم بقاعدته الراسخة، التي هي أن يذهب في التحليل إلى أقصى مداه، ثم يبني من الجزئيات ما يبنيه من جسيمات وأجسام وأنواع وأجناس، وأن يحتفظ في الوقت نفسه بوحدانية الكون، إذ أحس إحساسا بأن إيمانه بوحدانية الله تقتضي أن يكون العالم الذي خلقه موحدا كذلك على وجه من الوجوه، إن مثل هذا الإحساس بضرورة أن يتجلى الخالق في خلقه، موجود معنا حتى بالنسبة إلى أعمال البشر الإبداعية ، كما هي الحال في الأدب والفن، فللشاعر أبي الطيب المتنبي - مثلا - عدد من القصائد في ديوانه، لكننا بالرغم من اختلافها موضوعا ووزنا وقافية، إلا أننا نتوقع أن يكون بينهما روح واحدة تسري فيها جميعا، ويستطيع نقاد الفن أن يحكموا إذا كان عمل فني معين هو من أعمال الفنان الفلاني أو لم يكن حكما بما عرفوه عن أسلوبه الفني، فكيف بنا مع الخالق - جل وعلا - وما خلق؟
Неизвестная страница
فأصبح السؤال الذي طرحه صاحبنا على نفسه، محاولا أن يجد لنفسه جوابا يقنعه، هو هذا: كيف نسلك العالم المتعدد في عناصره ومفرداته وأفراده، في وحدة توحده ليصبح وكأنه - رغم ذلك التعدد في مقوماته - كائن واحد؟ وبعد تفكير طال أمده، لجأ إلى فكرة «النظام»، لكن هذه الكلمة مضللة ببساطتها وكثرة دورانها على ألسن الناس، إذ هي في حقيقة أمرها بحاجة إلى تدبر طويل قبل تعريفها تعريفا دقيقا ومقنعا، فمتى نقول عن مجموعة من الأشياء إنها في «نظام»؟ افرض أنك نثرت على منضدة عددا من الحصى، فجاءت كما اتفق، فما الذي ينقصها لتصبح في نظام؟ أليس كل وضع لها هو أحد أوضاعها الممكنة؟ فماذا يكون الفرق بين وضع ووضع؟ الإجابة التي نقدمها هي أبسط من البساطة، وهي: كلما قلت الكلمات المطلوبة لوصف الوضع الذي أخذته أفراد المجموعة، كان فيها من النظام بقدر ما فيها من سهولة الوصف، فلو أنك أردت أن تصف بالكلمات، تلك الحصويات التي نثرتها فوق المنضدة كما اتفق، لاحتجت إلى جهد كبير، وإلى عبارة بالغة في طولها حدا بعيدا؛ لأنك مضطر أن تقيس المسافة بين حصاة وحصاة على نحو يبين حقيقة أوضاعها، لكن ضع هذه الحصويات نفسها في شكل دائرة أو مربع أو مثلث، فعندئذ يمكنك وصفها بكلمة واحدة، هي أنها دائرية، أو مربعة، أو مثلثة، وتستطيع أن تضرب لنفسك أي عدد شئت من الأمثلة، وستجد أن «النظام» في كل حالاته، هو أن الأفراد اتخذت وضعا يمكن وصفه في عبارة قصيرة، أو ربما في كلمة واحدة، فمثلا مجموعة الطلاب وهم مفرقون في فناء المدرسة، ثم حين يصطفون في صفوف، فهذه الحالة الثانية هي النظام؛ لأن وصفها يسهل ويقل عدد كلماته، فما عليك إلا أن تذكر عدد الصفوف، وعدد الطلبة في كل صف.
ونعود إلى الكثرة الهائلة التي هي قوام الكون، ما الذي جعلها توصف بالنظام، وهو وصف كفيل وحده بأن يقيم من تلك الكثرة وحدة موحدة؟ نقول: إن دليل النظام فيه، هو اندراج مجموعاته تحت قوانين العلم، فالقانون العلمي الذي يطوي تحت جناحيه أية مجموعة من الكائنات، إنما هو بمثابة وصف لسلوكها في صيغة قصيرة مركزة في عدد قليل من رموز الرياضة، أو عدد قليل من الكلمات، إذا كان ذلك القانون العلمي مسوقا في كلمات اللغة المألوفة، كما هي الحال في العلوم الإنسانية، فهذا النظام الشامل لأجزاء الكون على تعددها، والذي تدل عليه القوانين العلمية التي تضم ذلك التعدد مجموعات مجموعات، وكأنها حشود الجند قد اصطفت في صفوف، هو الذي أشبع في صاحبنا رغبته في أن يرى توحدا في خلق الله، تنعكس فيه واحدية الله وأحديته، جلت قدرته.
كان الفتى حين وضع منظاره أمام عينيه الضعيفتين لأول مرة، قد رأى الدنيا من حوله وكأنها ليست دنيا الناس والأشياء كما ألفها، إذ رأى من دقائق المرئي وتفصيلاته ما لم يكن قد رآه، فلو أنه عاش ومات وليس في صحبته إلا ذلك البصر المحدود، لذهب عن الدنيا واهما أنها كما رأتها عيناه، فإذا كان منظاره غير المتوازن في عدستيه، قد أثار سخرية الصغار، فذلك ثم قليل بالقياس إلى كسبه الضخم فيما عرفه عن دنياه، ولما دارت بالفتى أيامه وأعوامه، وخرج منه الرجل الناضج بعد أن اجتاز مرحلة الشباب، جاء ذلك الرجل بمنظار آخر أضيف إلى منظار البصر، هو منظار العقل، فهو لم يترك عقله لفطرته، بل اقتضاه أن يتكئ في كل خطوة يخطوها، على منطق الفكر الذي يؤدي به إلى نتائج صحيحة فيما يستدله من المعطيات التي بين يديه، إن العقل البشري هو الذي استخلص من عمليات التفكير مبادئ الاستدلال الصحيح وقواعده، استخلصها ليهدي بها من لا تسعفه فطرته، لكن ذلك العقل إذ يهدي إلى سواء السبيل، فهو في الوقت نفسه يهتدي بما هدى.
وما المنطق الذي نشير إليه في سياق حديثنا هذا عن الهداية والاهتداء؟ إنه في اختصار شديد تفريغ ما فكر فيه أولو السداد، تفريغه من مضموناته، لتبقى منه هياكله العظمية التي ليس فيها إلا الصور الخالية وركائزها وقوائمها، كأنها سقالات البناء بغير بناء، وعندئذ نرى في وضوح ماذا يجوز استدلاله وماذا لا يجوز؛ لأن مضمونات المعاني إذا وجدت، فهي قد تضلل الناس بسبب مشاعرهم الخاصة إزاء تلك المعاني، فمنهم من يحب هذا ومنهم من يكره ذاك، فضلا عما قد يكتنف تلك المعاني من سحاب الغموض وضبابه، ولقد شاءت المقادير لصاحبنا الذي بدأ بالمنطق التزاما منه بسلامة التفكير، ثم انتهى به أن يكون موضوع دراسته وتدريسه، يحاضر فيه ويؤلف الكتب.
ولقد رأيناه عندما اصطدم بأول قضية فكرية، وهي الفرق بين حالتين: موقف دارس الرياضة من موضوعه، وموقف قارئ الشعر وناقده، فكأنما جاءت تلك القضية في مجرى حياته بمثابة العتبة التي خطا فوقها ليصل إلى ما قد أصبح رؤية عامة لحياته الفكرية كلها؛ وذلك لأنه بعد دراسات ومقارنات بين وجهات النظر المختلفة، انتهى آخر الأمر إلى اتجاه اختاره مطمئنا بأنه اتجاه يخدم ثقافة قومه الموروثة والمجلوبة معا، فهي تصون واحدية الله - سبحانه وتعالى - وأحديته، وتقر وجود الروح ووجود المادة جوهرين مختلفين، وهي تضمن استقلالية أفراد البشر، ليكون كل فرد قائما برأسه، مسئولا عما يفعل، وأخيرا ليترك عناصر الطبيعة وظواهرها ومفرداتها وجزئياتها لتترك كل هذا في تعدده الذي هو عليه حتى يتناوله البحث العلمي بمناهجه التحليلية منتهيا إلى مجموعات القوانين التي تحكمها.
ولماذا قلنا إن التفرقة بين موقف الرياضي وهو يقيم البرهان على نظرية هندسية، تختلف عن قارئ: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل»، أقول: لماذا قلنا إن تلك التفرقة كانت لصاحبنا بمثابة العتبة التي أدخلته إلى حيث أصبحت له رؤية خاصة يطمئن لها؟ كان ذلك لأنها فرقت له تفرقة واضحة بين نظرتين: نظرة العالم ، ونظرة الواجد قلبه، في الحالة الأولى منطق يطرح كل عاطفة من حسابه، وفي الحالة الثانية عطف وتعاطف يطرحان منطق العقل من قائمة الحساب، في الحالة الأولى تلتقي البشرية العاقلة جميعا، الحاضرون منها والسابقون واللاحقون، على التفرقة بين ما هو صواب وما هو خطأ، وفي الحالة الثانية قد ينفرد فرد واحد دون سائر الناس بعاطفة معينة نحو شيء معين، لا يشاركه في ذلك أحد سواه، ومع ذلك فلا يحق لأحد أن يقول له: لقد أخطأت، في أحكام العقل يكون الصواب والخطأ أمرين واردين، بل إن قابلية الجملة لأن تكون صحيحة أو خاطئة هو العلامة الأولى على أنها جملة تملك جواز المرور إلى رحاب العلم، وأما في حالة الوجد، والعطف، والشعور، والانفعال، وسائر صنوف البضاعة التي يحيا بها الإنسان من داخل، فهذه كلها لا خطأ فيها، ما دام صاحبها قد كان صادقا مع نفسه، فإذا قال - صادقا - إنه مؤمن، إنه خائف، إنه عاشق، إنه كاره ... لم يعد في وسع أحد أن يكذبه.
ومنذ عرف صاحبنا كيف يفرق بين عقله، مستندا إلى منطق الفكر في استدلاله الأحكام من الشواهد والمقدمات، من جهة، ونبض القلب بالإيمان وبالحب وبنشوة الفن، من جهة أخرى، أقول: إن صاحبنا منذ عرف ذلك، بات يأخذه العجب الذي لا ينقضي، ممن يخلطون - عامدين متعمدين - بين ما هو علم، وما هو دين.
الأشياء والكلمات
شاء لي الله فطرة، وجاءت مع تلك الفطرة مصادفات الدراسة والتثقيف والتخصص العلمي، فاجتمعت هذه العوامل كلها على أن تميل بي نحو طريقة في فهم اللغة مقروءة أو مسموعة، فهما يبحث عن «المعنى» فيما يكتب وما يقال ... وكثيرا جدا ما يوقعني ذلك الإمعان في البحث عن «المعنى»، يوقعني في حرج مع الناس؛ لأن الكثرة الغالبة من هؤلاء الناس، لا ينتهجون هذا النهج في فهم المسموع والمقروء، فتتسع الفجوة بيني وبينهم كلما كان الأمر يهمني ويهمهم، ولست الآن بصدد لوم يوجه إليهم في نهجهم أو أوجهه إلى نفسي في نهجي، وإنما هو أمر واقع في حياتي الفكرية، أقرره قبل أن أمضي في الحديث، ولأضرب لذلك مثلا عابرا ورد في حديثي مع أحد معارفي، أخذ يقص علي نبأ زيارة مع طفله لحديقة الحيوان، ليذكر لي ملاحظات طريفة أبداها طفله كلما وقفا ينظران إلى حيوان في محبسه، فلما وقفا أمام النمر، سأل الطفل أباه: لماذا أحاطوا النمر بقضبان الحديد؟ فأجابه أبوه بقوله: لأنه مفترس وشرير. فأسرعت أنا بالتعليق على هذه الإجابة، قائلا: لقد أسأت هنا إلى ولدك؛ لأنك أجبت عن سؤاله بجملة ليس لها «معنى» ... فعجب الوالد لما قلته، وطلب شيئا من الإيضاح، فقلت له: الشر والخير صفتان لا يكتسبان معناهما إلا أن يكون هناك حياة خلقية محددة المعالم، فمن سلكها كان خيرا، ومن انحرف عنها كان شرا، والنمر حيوان خلقه خالقه ذا طبع مغروز في جبلته: كيف يهاجم وكيف يدافع، وماذا يأكل وما وسيلته للحصول على ما يصلح له طعاما، فهو لا يكون شريرا إذا سلك على طبعه؛ لأن الحيوان ليس ملزما بحياة خلقية معينة تشتمل على ضوابط وقيود يفرضها على نفسه ليحكم بها غرائزه: فلماذا تعلم طفلك ما ليس له معنى، وما يبث فيه الخوف والكراهية للحياة في إحدى صورها؟
سكت الرجل، لكنني كنت أدرك ما يدور في خلده، ولست ألومه، فربما كنت أنا أحق باللوم؛ لأنني قلت كلاما في غير موضعه، ولقد ذكرت هذا المثل العابر لأوضح به كيف أتعرض للحرج أحيانا، مدفوعا بفطرة فطرت عليها، وجاءت فيها عوامل لتقويها وتنميها، فلئن كان العالم اللغوي القديم الذي أخذ يتقصى كلمة «حتى» في مختلف معانيها، وبذل في ذلك البحث ما بذل من جهد حتى أوشك في فراش مرضه أن يلفظ آخر أنفاسه، فقال لمن كان يجلس إلى جواره عبارة أصبحت معروفة ومحفوظة، إذ قال: «أموت وفي نفسي شيء من حتى.» أي أنه لم يكن قد شفى من نفسه غليلها في دقة التقصي وشموله، أقول: لئن كان ذلك هو ما تمناه العالم اللغوي القديم عن قضية شغلته، فأحسب أني لو قلت شيئا عن نفسي، بالنسبة إلى قضية شغلت بها خلال الشطر الأعظم من حياتي العلمية، ولا أظنني قد وفيت من حقها في البحث عشر ما كانت تستحقه، لقلت: أموت وفي نفسي أشياء وأشياء عن العلاقة بين الأشياء والكلمات.
Неизвестная страница
فأول ما أشير إليه في هذا الصدد هو ذلك البعد البعيد، والذي هو محتوم علينا ولا مفر لنا من الوقوع فيه، بين الشيء المعين الذي يحدث أن يكون مطروحا علينا لنتحدث عنه، وبين كلمات اللغة التي نستخدمها في الوفاء بهذا الغرض، فافرض - مثلا - أنك قد أطللت من شرفة دارك على نهر النيل، وألممت في لمحة بصرية سريعة بالمشهد الذي وقعت عليه عيناك، ثم أردت أن تصفه لصديق، فماذا أنت صانع إلا أن تظل تذكر له تفصيلات مما رأيته؟ فهنالك نهر منساب في مجراه، وبضع سفن وقوارب سابحة على سطحه، وجسر مزدحم بحركة المرور يصل شاطئيه أحدهما بالآخر، ومبان متفاوتة الارتفاع، متباينة الشكل قائمة على الجانبين يتخللها نخل وشجر، وقد تذكر شيئا عن أفراد الناس الذين شهدتهم هنا وهناك سائرين أو جالسين أو سابحين؛ شيء كهذا هو ما أنت قائله لصديقك عن مشهد رأيته ... ولكن أمعن نظرك بدقة في الفارق البعيد، بين ما شهدته بلمحة بصرية، وبين ما أوردته في وصفك لذلك المشهد بالكلمات، تجد أول ما تجد وأهم ما تجد، أن ما كان مشهدا «واحدا» تراه العين بلمحة، قد جاءت الكلمات لتفك أجزاءه، وتزيل عنه وحدته، وليس في وسع الإنسان شيء غير هذا، فاللغة جمل، والجملة كلمات، والكلمة حروف، وهي كلها «أجزاء» اختلقتها اللغة اختلاقا لتؤدي وظيفتها، فكان لنا بتفكيك الوحدة كسب وخسارة في آن معا، أما الكسب فهو أننا لولا هذه القدرة الفطرية فينا، وهي أن نحلل الواقع الموحد عن طريق الكلمات التي تسمى كل كلمة منها جزءا واحدا من أجزاء الكل الموحد، لما استطعنا أن نعرف حقائق الأشياء وهي فرادى، وكنا عندئذ لنقف عند رؤية الطفل الرضيع لما حوله، فلا يدرك الفواصل التي تفصل شيئا عن شيء، وتلك فائدة كبرى تأتينا عن كون اللغة بحكم كونها «كلمات» تحلل ما هو في طبيعته موحد، والتحليل عملية عقلية من أدق ما يميز الإنسان في إدراك عالمه الذي يعيش فيه.
ذلك هو الكسب الذي جاءنا عن طريق اللغة واستخدامها في نقل الخبرة الحسية من إنسان إلى إنسان، وأما الخسارة فهي أنه بات محتوما علينا ألا ننقل خبراتنا - حسية من الخارج، أو شعورا من الداخل - كما تقع لنا بالفعل، فإذا أحس أحدنا بحالة من الفرح، أو من الحزن، أو من الغضب، أو من الخوف، وإذا أكل أحدنا لونا من الطعام أحبه أو كرهه، وإذا عانى أحدنا من مرض يقسو عليه بشدة الألم، وإذا ... وإذا ... إلى أن تخص كل قطرة من بحر الحياة كما نحياها، وكل نبضة تنبض بها قلوبنا بوجدها ووجدانها، فليس في وسع اللغة أن ينقل بها الناقل إلى المتلقي ما أراد نقله من خبرته كما وقعت؛ لهذا السبب الكبير الذي ذكرناه، وهو أن كل خبرة تقع للإنسان، عن خارجه أو عن داخله، إنما هي حالة موحدة، واللغة بطبيعتها تجزئ ما هو في حقيقته حالة واحدة إلى أجزاء منفصل بعضها عن بعض، ولقد ذكر لنا المتصوفة كلاما كثيرا وعميقا وصادقا، في شكواهم بأنهم يشعرون بما يشعرون به، ثم يعجزون عن نقله إلى الآخرين، لعجز اللغة عن نقل ما هو بطبيعته خبرة موحدة، فإذا فككتها في جمل وكلمات، أفسدتها.
وفي حدود هذه المفارقة في العلاقة بين الأشياء والكلمات، مما يؤدي إلى كثير جدا من عدم التفاهم الصحيح بين متكلم وسامع، أو بين كاتب وقارئ، نستطيع أن نضع من القواعد والضوابط، ما يضمن لنا إلى حد كبير، دقة الالتقاء بعضنا مع بعض عند معان مشتركة بيننا، ولا بد لها أن تكون مشتركة، وذلك في مجال التفكير العلمي، وأول ما يهمنا ذكره في هذا السبيل، هو أن نلفت نظر القارئ بأقوى وأوضح ما يمكننا أن نلفته، إلى أن اللغة في أي وضع من أوضاعها، ليست هي الشيء، أو الحالة، أو الموقف، الذي جاءت تلك اللغة لتتحدث عنه ... هذه حقيقة غاية في البساطة، غاية في الوضوح ، غاية في الأهمية، ومع ذلك يصعب جدا على الإنسان، في استخدامه لكلمات اللغة مع الآخرين، أن يتنبه لها، ولا أظنني أغلو في القول بأي درجة من المبالغة، إذا قلت إن أهم سبب يؤدي إلى عدم التفاهم بين الناس، وبالتالي فهو الذي كثيرا ما يؤدي إلى أفدح الأخطار، ومنها الدخول في قتال حقيقي بين الأطراف المتنازعة؛ هو أنهم حين يكونون في واقع الأمر إنما يتحدثون عن «كلمات» يظنون خطأ أنهم يتحدثون عن الأشياء التي تشير إليها تلك الكلمات، والذي يساعد على حدوث هذا الخلط العجيب، هو سهوهم عن الحقيقة التي ذكرناها، وهي أن الكلمات ليست هي الأشياء المشار إليها بها.
فافرض - مثلا - أنك قد صادفت شخصين يتجادلان في «الحرية»، فيقول أحدهما: إن حق الحرية يقتضي أن يكون للفرد حق اختيار الدراسة التي يختارها لنفسه، فيرد عليه الآخر بقوله: إن الفرد لا حق له في مثل هذا الاختيار، بل هو حق للدولة باعتبارها راعية لمصالح الشعب ووسائل تحقيق تلك المصالح - فاعلم عندئذ أن موضوع الجدال بينهما هو «كلمة» الحرية، وكيف يكون تعريفها عند كل منهما، وإذا تتبعت مشكلات كثيرة في دنيا العقائد وفي دنيا السياسة، وفي دنيا النقد الأدبي والفني، وجدت الاختلاف غالبا ما يقوم على كلمة بعينها وكيف يكون تعريفها، لقد كثرت حوادث «العدوان» بين الدول، فالدولة المعتدى عليها تصرخ بالشكوى، والدولة المعتدية تجيب بأن ما فعلته ليس عدوانا، إنما هو دفاع عن النفس، مما اضطر الأمم المتحدة أن تشكل لجنة تبحث عن «تعريف» العدوان، وهكذا يترك الواقع الذي وقع، ويدور العراك حول كلمة ومعناها، وعندما غزت إسرائيل لبنان، وأسرت ألوف الفلسطينيين وعاملتهم أفظع معاملة وأقساها، فاحتجت بعض الهيئات الدولية على إسرائيل، وطالبتها بأن تعامل الأسرى في حدود ما يوجبه القانون الدولي في هذا الشأن، أجابت إسرائيل بأنهم ليسوا أسرى حرب - بل هم إرهابيون، ولم نر ثورة شعبية تطالب بالحرية من مستعمر، إلا وجدنا رءوس الثورة «أبطالا» في بلدهم - «مشاغبين» في البلد المستعمر الذي قامت الثورة لترده عما اغتصب، في كل هذه الحالات يبقى الواقع في واقعه، ويظل الكلام في كلماته.
وعند هذا المنعطف من الحديث، لا بد لي من وقفة قد تطول بنا قليلا، لكنني على يقين من أن التفرقة التي سأوضحها، بين موقفين فكريين يتصلان بما نحن بصدد الحديث فيه، وهو العلاقة بين الكلمات والأشياء، هي تفرقة مما ينبغي أن تكون واضحة للجميع؛ لأنها إذا ما وضحت، أنقذ الإنسان نفسه من مشكلات كثيرة، تندرج تحت روح التطرف والتعصب، فهنالك طريقتان في عالم الفكر، تختلفان باختلاف الموضوع الذي هو مدار ذلك الفكر، إحداهما أن تكون الفكرة المعروضة متعلقة بشيء قائم في عالم الأشياء خارج البناء اللفظي الذي نعرض به ما نعرضه، كأن تكون الفكرة المعروضة - مثلا - عن ضرورة الاستعانة بالمفاعلات الذرية مصدرا للكهرباء، وإذا كان ذلك متفقا عليه، فأين نقيمها، وأي بلد نستعين به على إقامتها ... في هذه الحالة وأمثالها يتم فض الاختلاف في الرأي، إذا نشأ اختلاف، بدراسة علمية موضوعية لا تغضب أحدا، لكن هنالك حالات كثيرة جدا في العالم الفكري، لا يكون مدار التفكير فيها شيئا من أشياء الواقع الخارجي، بل يكون في حقيقته شيئا فرضناه من عندنا فرضا، ثم بنينا على ذلك الفرض نتائجه، فها هنا تكون صحة تلك النتائج أو بطلانها متوقفا على سلامة استدلال تلك النتائج من الفرض الذي فرضناه، ولا شأن لها قط بشيء من عالم الواقع يمكن الرجوع إليه، فإذا طاب لأي شخص أن يفرض لنفسه فروضا أخرى ليستخلص منها نتائجها، كان له الحق في ذلك، دون أن يكون ثمة موضع لخلاف بين صاحب البناء الفكري الأول وصاحب البناء الفكري الثاني، ما داما لا يقيمان ما يبنيانه على فروض اتفقنا عليها معا، ويكون الموقف أشبه بمنزلين مستقلين أحدهما عن الآخر، اختار أحدهما منزلا وسكن فيه وأعجبه، واختار الثاني المنزل الآخر وسكن فيه وأعجبه.
والتطرف في الفكر وفي العقائد، ما هو؟ هو أن تختار مسكنا فكريا أو عقائديا لتقيم فيه راضيا عن نفسك، ولكنك لا تريد لغيرك أن يختار لنفسه ما يطيب له أن يسعد به من فكر وعقيدة، بل تلزمه إلزاما - بالحديد والنار أحيانا - أن ينخرط معك تحت سقف فكري واحد، فلو تعلمنا عن فهم واضح أن النتيجة التي تبنى على مبدأ اختاره من اختاره، لا تنقضها فكرة أخرى تقوم على مبدأ آخر، اختاره لنفسه شخص آخر، لرأينا أنهما لا تتناقضان لأنهما مستقلتان إحداهما عن الأخرى ... إذن التناقض يكون في البناء الفكري الواحد، حين تأتي نتيجة لا تترتب على المبدأ الذي فرضناه عند أول الطريق؛ وعلى هذا الأساس النظري نقول: إنه لا تناقض هناك بين العقائد الدينية إذا اختلفت نتيجة لاختلاف نقطة البدء، ولا تناقض بين المذاهب السياسية إذا اختار كل مذهب منها مبدأ يبدأ منه عملية تفكيره غير المبدأ أو المبادئ التي فرضها أصحاب المذاهب الأخرى، أقول: لا «تناقض»، ولكن بالطبع هناك بينها اختلاف، وليس كل اختلاف تناقضا، والفرق بين الحالتين هام، وهو أنه في حالة التناقض، لا يصح إلا أحد النقيضين دون الآخر، أما في حالة الاختلاف الذي ليس تناقضا، فليس صواب واحد منها دليلا على خطأ الآخر، ولا خطأ واحد منها دليلا على صواب الآخر؛ لأن كلا منها يستظل بمبدأ ليس هو المبدأ الذي يستظل به الآخرون - ومن هنا قد تختلف الشعوب في مواقفها وطرائق حياتها، ولا يقال إن شعبا منها على صواب، وإن صوابه دليل على خطأ الشعب الآخر، فلكل منها سقف خاص يستظل به ويحتمي، وفي هذه الحالات جميعا لا يكون البناء الفكري والثقافي المقام، مستمدا من شواهد الواقع، كالذي نراه في العلوم الطبيعية وهي تقيم قوانينها على شواهد الواقع، بل يقوم ذلك البناء على «مبادئ» نظرية اختارها الناس لأمر ما في تاريخهم.
وأنتقل الآن إلى خاصة أخرى لما بين الأشياء والكلمات من علاقة، ولعلها هي الخاصة التي أستهدفها، ومن أجلها هذا الحديث، وتلك هي أن الكلمات التي نستخدمها فيما نتبادله، متكلما مع سامع أو كاتبا لقارئ، ليس القصد منها هو أن نقف عندها، وكأنها مطلوبة لذاتها، اللهم إلا في تلك الحالات التي يراد فيها بالتركيبات اللفظية أن تحدث في آذان سامعيها نشوة كالنشوة التي تحدثها الموسيقى لبعض الشعر، ومع ذلك، فحتى في هذه الحالات يكون الهدف البعيد من تلك الأصوات المنغومة، أن تترك في نفس المتلقي حالة معينة أراد الشاعر لها أن تحدث في النفوس، ونعود إلى ما أسلفناه، من أن الأصل في الكلمات عند تبادلها بين متكلم وسامع، أو كاتب وقارئ، لينهض في اللحظة المناسبة فيحدث في دنيا الأشياء تغييرا يستجيب للرسالة التي جاءته مبثوثة في العبارة التي قالها المتكلم، فإذا قال ابن لأمه إنه جائع، لم يكن الهدف من قوله أن تسكن الكلمات في أذنها، أو أن تتغنى بوقع أنغامها في نفسها معجبة بفصاحة ولدها، بل الهدف هو أن تنهض من فورها مستجيبة للرسالة المحمولة على ظهور الكلمات فتعد طعاما لابنها الجائع، إن من يكتبون لنا الكتب والمقالات، ومن يذيعون فينا الأحاديث عن جوانب مختلفة من حياتنا: فهذا عن الاقتصاد، وذلك عن التعليم، وثالث عن نظام المرور في الطرق، ورابع عن الصحة، وهكذا - إنما يستهدفون أن تنتهي مجموعة الكلمات المقروءة أو المسموعة بسامعيها وقائليها بوجهة نظر معينة تحملهم على تغيير هذه الناحية أو تلك من حياتهم العملية تغييرا يحقق المعاني المبثوثة فيما تلقوه من كلمات، وإلا فلو قرأ القارئ ما قرأ وسمع السامع ما سمع، ثم تجاهله وكأنه ما قرأ وما سمع، كنا جميعا كأهل بابل في برجهم، اختلفت لغاتهم فلم يفهم أحد منهم عن أحد، وكان الأمر كله أخلاطا صوتية تصم الآذان وتشق الحناجر، ثم لا شيء بعد ذلك.
كلمات اللغة تأتيك ممن يوجهها إليك، لتوجب عليك أن تتجاوزها إلى ما وراءها من «معنى»، لتقوم بتنفيذ ما يراد تنفيذه، إلا إذا كنت معارضا فيكون التنفيذ هو الكف عن العمل، والكف عن العمل هو كالعمل، شيء من الإرادة.
وبعد هذا التمهيد، أنتقل إلى ما قد قصدت إليه بهذا الحديث كله، وهو الأوامر القرآنية الكثيرة التي لم يألف المسلمون أن يأخذوها على أنها «أوامر» إلهية واجبة الطاعة لتكون جزءا من عبادتهم لربهم، وقصروا فكرة العبادة على الأركان الخمسة: الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج لمن استطاعه، فلقد ألف المسلمون أن يقفوا من تلك الأوامر الإلهية موقف القارئ الحافظ المرتل المفسر، أما أن يفعلوا هذا كله ثم يتجاوزوه إلى التنفيذ فقلما رأيته في مسلم، في حين أنها أوامر يجيء تنفيذها في صميم الميادين التي من أجل تخلف الأمة الإسلامية في شئونها تخلفوا عن موكب الحضارة حتى أصبحوا أهون فريسة لمن أراد من أصحاب القوة.
وأسوق هنا مثلا واحدا، إذ ضربت أمثلة كثيرة أخرى فيما كتبته من قبل، وفي هذا الموضوع نفسه الذي نحن بصدد الحديث فيه، لقد أمرنا الله في كتابه الكريم أن سيروا في الأرض واضربوا في مناكبها، ولكن لماذا نفعل؟ أهو من أجل التنزه؟ من أجل «الفرجة»؟ من أجل الاصطياف هنا والتشتية هناك؟ لا، بل هو قبل أن يكون شيئا من هذا كله يريدنا أن نجوب كل مجهول من يابس وماء، مستطلعين كاشفين باحثين، نجوب الصحراء، ونصعد الجبال، ونشق البحر، ونطير في الهواء، نخرج من جوف الأرض حديدها ونحاسها وبترولها وذهبها وما فيها من يورانيوم ومنجنيز وفحم وماء، ونبحث في طبائع الأرض لنعلم كيف نخصب الجدب، وكيف نزرع الهواء بالماء، وكيف نحيل أجاج البحار والمحيطات ماء عذبا فنروي ونرتوي، ونغوص إلى قيعان تلك البحار والمحيطات نكشف عما أودعه الله فيها من الخيرات، أمرنا الله أن سيروا في فجاج الأرض، بحرها ووهدها برها وبحرها، لا لنقف عند ذلك في آياته الكريمة قارئين، حافظين، مرتلين، متبركين، وبعد ذلك لا جهاد ولا كفاح ولا علم ولا صناعة ولا عمارة ولا حضارة! ولو كنا في غنى عن هذه الثمرات كلها، التي تخرج للإنسان من اليابس ومن الماء ومن الهواء، لقلنا نعم ونعامى عين، ولكننا نفتقر إليها ونستجديها ممن يحصلون عليها، الذين يحققون ما أمر الله به المسلمين، وهم من غير المسلمين، فإذا كان الدعاة الأفاضل منا، ينقلون اليوم عن الدعوة بأن قراءة القرآن الكريم في ذاتها عبادة، حتى ولو لم يفهم القارئ معنى ما يقرؤه، فنحن نقول لهم: ليكن ذلك يا سادة، لكن هنالك عبادة أخرى في درجة أعلى وأكرم، وهي أن يكون قارئ القرآن على وعي بما يقرأ، وينهض فور قراءته بتنفيذ ما فيه من دنيا العلم والعمل، وبالطبع لا يطلب من كل مسلم فرد أن يضطلع منفردا بأمثال تلك الأوامر القرآنية، فليس كل مسلم مطالبا بأن يكون كل شيء، ولكنه مطالب بأي جزء من العلم ومن العمل يراه في مقدروه وفي مجاله، ومن مجموع القادرين العالمين في شتى ميادين الحياة تتكون أمة المسلمين.
Неизвестная страница
كلمات اللغة، مفردة ومركبة إنما هي في تجسيداتها أشياء من الأشياء، إنها نوع من الكائنات كأي نوع آخر من كائنات الأرض أو السماء، فهي في مادتها - إذا كانت منطوقة - موجات من هواء، وهي - إذا كانت مكتوبة - أجسام مشكلة من مداد أو من رصاص، أو من طباشير، أو ما شئت من مواد الكتابة، الكلمات أشياء من الأشياء، ولكنها أسرة عجيب أمرها عجبا لا ينقضي إذا تأملتها، فمنها العلم ومنها الأدب، ومنها السحر ومنها الخرافة، ومنها الغناء المطرب، ومنها الخطابة التي تلهب، ومنها معارك، ومنها حلو السمر بين الأحباء، والكلمات نوع من الكائنات كسائر أنواع الكائنات، فهي كجماعة الطير، فيها البلابل وفيها العقبان والنسور، وهي كجماعة الحيوان فيها الغزلان وفيها الأسود والنمور، أو هي كصخور الأرض فيها التبر وفيها التراب ... لكنها نوع عجيب متفرد وحده دون سائر الأنواع؛ لأن بالكلمات صار الإنسان إنسانا، لا من حيث هي مجرد موجات من الصوت، ولا من حيث هي مجرد جسيمات من مداد أو غير المداد نثرها الكاتبون على الورق، ولكن من حيث هي حاملات للمعاني، ورامزات إلى الأشياء لتكون مهمة من يتلقاها أن يزاوج بين تلك المعاني وهذه الأشياء، فإذا هو لم يفعل، كانت وكأنها وقعت منه على أصم وأعمى وأبكم، كلماتنا قلوبنا وعقولنا، خرجت من مكامنها إلى ملأ الناس في العلانية، وكلمات الله - جلت قدرته - في قرآنه الكريم، هي منهج «للعمل» نعلو به سادة على الأرض ظافرين من رب السماء.
عصر يبحث عن حرية الإنسان
عندما هممت بالكتابة عن حرية الإنسان، وكيف يتمخض بها عصرنا مخاض البركان يريد أن يتفجر بالحمم، أخرجت ورقاتي وأنرت المصباح وأمسكت بالقلم، لكنني لبثت على هذا الوضع فترة طالت معي على صورة لم أعهدها من قبل إلا قليلا، وذلك أني لم أعرف كيف أبدأ، وظللت طوال تلك الفترة الطويلة، أحدق بنظراتي إلى زجاج النافذة، كأنما أردت أن أنفذ بتلك النظرات خلال الزجاج، ولعل ما أعاقني هو رغبتي في أن أجد مدخلا ميسرا بسيطا، يشجع القارئ على البدء بالقراءة، ولكن، لماذا قدرت للقارئ أن يأخذه نفور فينصرف به عن قراءة ما سوف أكتبه؟ ربما جاء تقديري هذا من طبيعة الموضوع أولا، ومن ميل مسبق عند طائفة كبيرة من الناس أن يسيئوا الظن بعصرنا، أما عن طبيعة الموضوع - والموضوع هو حرية الإنسان - فهو يدور حول كلمة من تلك الكلمات التي تنتفخ في الخيال حتى ليتسع جوفها لكل صنوف المعاني، ومع ذلك فقلما يخرج معظم الناس منها بشيء اللهم إلا الكلمة نفسها التي بدأ بها، لماذا؟ قد يكون ذلك راجعا إلى ما يحيط بالحرية من هيبة وجلال، مما يميل بمن يكتبون عنها، نحو اختيار عبارات تتناسب هيبة مع هيبتها، وجلالا مع جلالها، وإنه لمن المفارقات العجيبة، أن حصيلة المعنى التي يخرج بها القارئ كثيرا جدا ما تتناسب تناسبا عكسيا مع ضخامة التعبير وفخامته؛ لأنه كثيرا ما حدث في تاريخ الكتابة الأدبية، أن لجوء الكاتب إلى التضخيم والتفخيم، إنما هو قرين ملازم لقلة علمه وضحالة خبرته، وهذا بعينه هو ما يحدث في حالات كثيرة، عندما يكون الموضوع الذي يكتب فيه هو الحرية أو ما يشبهها من كلمات.
ذلك عن الموضوع وطبيعته، وأما عن عصرنا وكراهية الناس لذكره، فربما جاءت تلك الكراهية من أن بلادنا جزء من العالم الواسع الذي وقع ضحية أو فريسة، فعصرنا يتميز بين ما يتميز به، بانفراج الزاوية انفراجا رهيبا بين القوي والضعيف وبين الغني والفقير وبين طلائع العلم الجديد ومن هم لا يزالون في دنيا هذا العلم الجديد لكن يغمرهم الظل بظلامه، على أن المأساة في هذا كله تزداد أسى بكون الزاوية التي انفرجت بين الفريقين تزداد مع الأيام انفراجا، فلا غرابة إذن - أن تثار الكراهية في الصدور، عند كثرة كثيرة من مواطنينا - إذا أراد كاتب أن يذكر لهذا العصر الباغي فضيلة أو فضائل، لا سيما إذا زعم لهم ذلك الكاتب فضيلة للعصر في جانب من الحياة، هم لم يروا فيه إلا نقيض ما زعم، وهذا الكاتب يهم بكتابة يعتزم أن يقول بها للناس إن عصرنا ما ينفك باحثا لهم عن مسالك تؤدي بهم إلى حياة تسودها حرية الإنسان، وهو ما لم يروا منه - في ظنهم - إلا مرارة نقيضه.
أقول: إنه ربما كان ذلك الشعور هو الذي حدا بي إلى التأني في اختيار ما أبدأ به الحديث حتى ارتأيت آخر الأمر، أن أبدأ باللفظة نفسها لفظة الحرية لأصب عليها نور المصباح، فأبرز منها أمام الأبصار جانبا، هو فيما أعتقد - محجوب عن رؤية الناس، مع أنه فيما أعتقد كذلك لو أضيء ووضحت معالمه، انفتح الطريق أمام رؤية أنصع، وفهم أدق، وذلك الجانب الذي أعنيه هو أن اسم الحرية - شأنه في ذلك شأن طائفة كبيرة من الأسماء - إنما هو اسم لا يطلق على شيء محدد متعين، بل هو في الحقيقة اسم يشير إلى محصلة مفردات كثيرة، كل مفرد منها مأخوذ على حدة ليس حرية، على نحو ما نعنيه بكلمة مباراة في كرة القدم مثلا، فليس هناك شيء معين يكون هو المباراة، فكل لاعب من اللاعبين وهو على حدة ليس مباراة، إذ المباراة هي محصلة جزئيات من أفراد ونشاطهم الحركي توشك أن تستعصي على حصر عددها، إذا أردت حصرها.
ومن هذه البداية أبدأ حديثي، فإذا كانت جزئيات النشاط الحركي في مباراة الكرة تستعصي على الحصر لكثرتها، فإنه يمكن - برغم هذا - معرفة الاتجاه الذي يتجه به السير في مجراها، فكل فريق من الفريقين، في كل ضربة من ضربات أفراده للكرة، يستهدف الهدف المقصود، ومن محصلة تلك الضربات التي تعد بالألوف تأتي النتيجة للفريق نصرا أو هزيمة ... وهكذا الحال في معنى الحرية، فالحياة الحرة للإنسان الحر أو للشعب الحر ليست جزئية واحدة بعينها تشير إليها بإصبعك قائلا: هذه حرية، بل هي تعرف باتجاه جزئياتها نحو هدف معلوم، هنالك تاجر يبيع وزبون يشتري، هنالك مهندس يشرف على إقامة البناء وساكن يسكن، هنالك معلم يعلم وطالب يتعلم، هنالك طبيب يعالج ومريض يتلقى العلاج، هنالك وهنالك، إلى أن تبلغ بعدد الجزئيات إلى ملايينها، لكن هذه الكثرة الهائلة تتجه بتيارها اتجاها يجعلها حياة شعب حر، أو اتجاها آخر يجعلها حياة شعب مقيد، فبأي الخصائص - يا ترى - يتميز كل من الاتجاهين؟
إنك إذا نفذت ببصرك - عن طريق التحليل العلمي - خلال تلك التفصيلات الكثيرة التي يعيشها الناس في حياتهم اليومية العملية، رأيت إرادة رابضة وراءها تحركها في اتجاه يحقق لها آخر الشوط هدفا ما، فإذا كانت تلك الإرادة هي إرادتي وإرادتك، وإرادة الكثرة الغالبة من المواطنين، بقي علينا أن نسأل عن الهدف الذي في سبيله نتحرك، فإذا وجدناه هدفا يحقق لنا في نهاية المطاف أن نكون أكثر علما، وأيقظ وعيا بالعالم الذي نعيش فيه، كانت حياتنا حرة بمقدار ما استطعنا أن نحقق من الهدف المنشود، وأما إذا وجدنا الإرادة الرابضة خلف نشاطنا الحركي في شتى مجالاته مفروضة علينا من سوانا وليست منبثقة من عزائمنا الباطنية، كنا غير أحرار، حتى لو كانت الأهداف التي نحققها بذلك النشاط مما يمكن أن يكون أهدافا لنا، وكأني أسمع طالبا من طلابي يصيح قائلا: ماذا تكون هذه الإرادة الرابضة التي تتحدث عنها يا أستاذنا، وقد كنت تحاسبنا حسابا عسيرا على دقة الكلمات ما دمنا بصدد التعبير عن حقيقة عقلية؟ فأجيب السائل: بأن الإرادة الشعبية التي هي متوسط ما يحسه الأفراد في بواطن نفوسهم من رغبات حقيقية مقرونة بنوايا التنفيذ إذا واتتهم الظروف، أقول: إن مثل هذه الإرادة الشعبية يغلب أن نركن في إدراكها إلى مجرد الشعور بالتعاطف بين أفراد الشعب الواحد، دون أن تكون هنالك الوسيلة العلمية الدقيقة لرصدها وضبط مقدارها، فأحيانا يحس أفراد الشعب بروح المقاومة - مثلا - أو بروح التأييد، برغم كونها مكتومة في الصدور، بسبب أحكام عرفية، أو بسبب مراقبة خارجية تمنع التعبير الحر عما يدور في أخلاد الناس.
نعود إلى ذكر ما أسلفناه من أن الحرية اسم لا نطلقه على شيء واحد معين، كما نطلق مثلا اسم النيل على النهر الذي يجري في أرضنا، أو نطلق اسم المقطم على الجبل المشرف على مدينة القاهرة، بل الحرية اسم يطلق على محصلة عدد يتعذر حصره من جزئيات سلوكية يؤديها الفرد أو الأفراد المرتبطة بما يشعرون به من وجود العزيمة الداخلية التي تريد لنفسها ذلك السلوك، وما دام الأمر كذلك فالحرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأهداف وبالوسائل الموصلة لتلك الأهداف، وذلك يعني أن تكون حرية الفرد الحر، أو الشعب الحر مرتبطة أشد ارتباط بمدى علم ذلك الفرد أو ذلك الشعب بطبائع الأشياء التي لا بد له أن يلجأ إلى استخدامها، وسائل كانت أم أهدافا، فالجاهل بحقيقة شيء معين محال عليه أن يتخذه هدفا، أو أن يتخذه وسيلة لهدف؛ لأن الجهل بشيء معناه غياب ذلك الشيء عن دائرة الوعي.
فلئن كان التحرر من قيد ما أمرا ممكنا لأي إنسان قادر على تحطيم ذلك القيد، فليس الأمر كذلك بالنسبة للحرية التي تأتي مرحلة ثانية بعد التحرر من القيود؛ لأن هذا التحرر معناه إزالة العقبات التي تحول دون العمل والبناء، وأما الحرية التي تأتي بعد ذلك فهي الجانب الإيجابي في إقامة البناء أو في إنجاز العمل، ولا نتصور كيف يمكن لبناء أن يقام أو لعمل أن ينجز دون أن يكون هنالك علم بما نبنيه أو بما نؤديه، وهذا العلم - بالطبع - درجات بين الناس، وبالتالي كانت قدرات الناس متفاوتة في دقة العمل وكفاءته، ومع هذه الدقة والكفاءة تكون الحرية بمعناها الإيجابي المبدع.
علم الإنسان بطبائع الأشياء هو نفسه قدرة الإنسان على التمكن من تصريف تلك الأشياء على النحو الذي يريده لنفسه منها، ضع كتابا بين يدي قارئ ثم ضعه بين يدي أمي لا يقرأ، تجد فرقا بين الإنسان الذي يعلم والإنسان الذي لا يعلم، الأول حر في استخدام المادة التي بين يديه، وقادر بالتالي على التصرف اهتداء بها، فيغير من حياته وحياة الناس ما يريد أن يغير، وأما الثاني فلا فرق بين أن يكون ما بين يديه كتاب أو قطعة من الحجر، وليس في وسعه أن يشكل حياته بناء على شيء مما ورد فيه، اللهم إلا أن يسند بجسم الكتاب قطعة عرجاء من أثاث بيته، وأعط سيارة لمن يعرف كيف يحركها ويقودها ويصلحها إذا عطبت، ثم أعطها لمن لا معرفة عنده بشيء من ذلك، تجدك قد أمددت الأول بمصدر للقوة وسرعة الحركة، وأما الثاني فقد أمددته بكتلة صماء من الحديد، فالعلم بأي درجة من درجاته قوة وسيطرة على الشيء المعلوم، والجهل بطبائع الأشياء التي حولنا وبين أيدينا عجز عن تحريكها واستغلالها، ومن هنا كانت الصلة الوثيقة بين العلم والحرية، وبين الجهل والقيود، عندما نقول عن العلم إنه نور، فلسنا نقول ذلك على سبيل المجاز، بل نقوله على سبيل الحقيقة الواقعة، ففي تعامل الإنسان مع شيء يعرفه حق المعرفة فكأنما هو بتلك المعرفة قد أزاح عنه الظلام، فهو يفكه جزءا جزءا ثم يعيد تركيبه إذا شاء، إنه يألفه ولا يخشاه ولا يتهيبه، وأما من جهل شيئا مما حوله فهو أولا يقف حياله مكتوف اليدين لا يدري ماذا يصنع به، ثم هو ثانيا يخافه ويخشى سوء عواقبه، ومن هذه النقطة بالذات نشأت في تاريخ الإنسان خرافات وخرافات، حتى لقد دفعه وهم خرافاته إلى عبادة ما جهل طبيعته وحقيقته، فلقد عبد الفارسي القديم النار، وهذا مثل من ألف مثل، لأنه رأى ألسنة من اللهب تنبعث من أرضه ولا يعرف عنها أصلا ولا فصلا، فخشى عاقبتها وأراد اتقاء بطشها، فعبدها، وأرجح الظن أن تلك النار إنما كانت ناشئة عن البترول المخزون تحت أرض فارس (إيران)، ولم يكن بالطبع يعرف عن ذلك الأصل البترولي شيئا، أما وقد جاء إليه في عصره الحديث من يعلمه عن حقيقة أرضه ثم يخرج له ما في جوفها، فقد انتقل من عبادة نارها المشتعلة المجهولة إلى استخدامها وبيعها وكسب القوة منها، ولم يكن قد بقي له إلا أن يجد من يعلمه الحكمة أيضا ليحسن الانتفاع بما كسب.
Неизвестная страница
الحرية قوة وقدرة وإنجاز، وليست هي مقصورة على مجرد فك القيود، فالإنسان حر بمقدار ما قد أصبح في قدرته أن يصنعه، وبالطبع لم تشهد الدنيا يوما واحدا خلا من الإنسان الحر القادر بتجربته أن ينجز ما استطاع إنجازه إذا أراد ذلك، إلا أن الحرية القادرة هذه لم تكن دائما من حق الإنسان، كل إنسان، بل بدأت أول أمرها مجمعة في قبضة رجل واحد، هو الذي يحكم سائر الأفراد من أبناء جماعته، ثم يأذن لمن أراده من هؤلاء الأفراد بقدر من الحرية يحدده له كما شاء، ثم اتسعت الدائرة مع مر الزمن، فأصبح الأحرار فئة بعينها من الشعب دون سواها، فانقسم المجتمع بذلك - كل المجتمعات القديمة - إلى أحرار وعبيد، ثم اتسعت الدائرة مرة أخرى مع الزمن، حتى أصبحت الحرية من الوجهة النظرية حقا للأفراد جميعا كائنة ما كانت مكانتهم من المجتمع أو أنسابهم أو أجناسهم أو ألوانهم أو أنواع العمل الذي يؤدونه ... ونقول: إن هذا قد أصبح حقا شاملا لا يستثنى منه فرد من الناس، لكن ذلك من الوجهة النظرية وحدها، وأما من الوجهة العملية فليس في وسع قوى الأرض جميعا أن تجعل فردا من الناس حرا بالنسبة إلى عالم يجهل ما فيه، ونعود فنذكر القارئ بما أسلفناه، وهو أن حرية الإنسان إنما تكون في شيء يعرفه وبمقدار ما يعرف عنه، وإلا فماذا ينفع إذا ما تركوني وحدي في مكان القيادة من طائرة وهي تسبح في الفضاء الأعلى، أقول: ماذا ينفع عندئذ أن أصيح بملء فمي قائلا إنني إنسان حر؟! إذ أين تكون حريتي وأنا أمام أجهزة أجهل عنها كل شيء، وأظل أجهلها إلى أن تصطدم بي الطائرة فيما لا بد أن يكون قضاءنا المحتوم؟! ... الإنسان الحر يعرف ما هو حر فيه، ولا حرية لجاهل.
ولست في الحق أدري هل كان هذا المعنى الذي يربط الحرية بالعلم جزءا مما قصد إليه الشيخ محمد عبده، حين أعلن خطته في النهضة الوطنية بأن يكون تعلم الشعب هو الخطوة الأولى في جهاده لينال حريته، ومن ثم فقد عمل على إنشاء مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية لينقل فكرته من مجال الفكر النظري إلى مجال التطبيق، وإنني لأسأل هذا السؤال؛ لأنني حين ربطت بين الحرية والعلم، لم أقصد أن يكون ذلك العلم أي معرفة نلقنها للمتعلم كما اتفق، إذ لا تتم الرابطة بين الحرية والعلم إلا إذا جاء ذلك العلم متصلا بالميدان الذي يريد المتعلم أن يكون حرا فيه، ومن مجموعة الأحرار بهذا المعنى تتكون حرية الشعب، وإذن يكون الشعب حرا بمقدار ما لأبنائه قدرات عملية على التعامل مع مجالاتهم، كل منهم في المجال الذي تعلم أن يكون حرا فيه وبمقدار ما تعلم، وهل يصبح لكلمة الحرية أي معنى إذا قيل لشعب إنك أيها الشعب حر، في حين يكون أفراد ذلك الشعب على درجة من العجز إزاء أرضهم وبحرهم وسمائهم، بحيث لا يملكون صنع شيء لأنفسهم، حتى يجيء دخيل خارجي فينتج لهم ما عجزوا عن إنتاجه؟ أليست الحرية الحقيقية عندئذ هي حرية ذلك الدخيل؟ وأما الشعب الذي قيل له إنك حر، إذا أعمته الجهالة فعجز، فلن تكون حريته تلك إلا كلمة يضيع الصوت الذي يهتف بها مع عصف الريح.
وما أكثر الصفات التي نصف بها هذا العصر الذي نعيش فيه، ولنتفق مؤقتا على أن المقصود بكلمة عصرنا الفترة التي بدأت بنهاية الحرب العالمية الأولى (1918) وامتدت إلى يومنا الراهن - أقول: إنه ما أكثر الصفات التي نراها مميزة لعصرنا هذا، لكن الذي يهمنا منها الآن فيما له علاقة مباشرة بحديثنا هذا صفتان، إحداهما تحرر الشعوب التي كانت محكومة بغيرها، والأخرى هي الكم الهائل من المعرفة التي استطاع الإنسان بأجهزته الحديثة أن يجمعها عن هذا العالم وكائناته، إنه ربما استطاع بأجهزته تلك أن يجتمع في العام الواحد، ما لم تكن تستطيع جمعه آلاف السنين التي هي تاريخ الإنسان على هذه الأرض، إننا أبناء هذا العصر قد ألفنا بعض الحقائق عن دنيانا وما فيها حتى لنظن أنها لأهميتها الشديدة في حياتنا معلومة للإنسان منذ أقدم عصوره؛ ولذلك ندهش حين نعلم أن الإنسان حديث عهد بها، إلى حد قد لا نتصوره، وإن كاتب هذه السطور ليقرر عن نفسه أنه كاد لا يصدق حين عرف لأول مرة أن حقيقة كون الجسم الحي مكونا من خلايا لم تعرف للعلم إلا في آخر القرن الماضي! ولقد كان من الأمثلة الشائعة في كتب الفلاسفة المعاصرين (وتنبه إلى كلمة معاصرين هنا) كلما أراد هؤلاء الفلاسفة أن يضربوا أمثلة توضح ما يسمونه بالاستحالة التجريبية؛ أي الحقيقة التي هي ممكنة من الوجهة النظرية الصرف ولكنها مستحيلة الوقوع من الناحية العملية، أقول: إن من أشيع الأمثلة التي كانوا يسوقونها في كتبهم لتوضيح الاستحالة التجريبية أن يرى الإنسان الوجه الآخر من القمر، فمن المعلوم أن القمر يواجه الأرض بأحد نصفيه دون النصف الآخر، ولبث ذلك المثل يساق إلى منتصف هذا القرن العشرين، إذ من ذا الذي كان يتصور أنه سيحدث في تقدم العلم أن يدور الإنسان حول القمر؛ فيرى وجهه الخلفي الذي لا يواجه الأرض قط؟ لكن ما كان مستحيلا بالأمس بات في حدود الإمكان.
مرة أخرى أذكر الصفتين اللتين اخترتهما من صفات عصرنا، وهما تحرير الشعوب التي كانت من قبل محكومة بغيرها، والكم الهائل من المعرفة بحقائق الحرية، وكما أسلفنا القول، فإن التحرر من القيود وحده لا يعني الحرية، كالذي تفك عنه أغلاله، فيتحرر منها لكنه لا يصبح حرا بعد ذلك إلا بما يجيد العلم به، فيمهر في إنجاز ما يصنعه في المجال الذي أجاد معرفته، وهنا نجد السؤال يطرح نفسه: كم من الشعوب التي تحررت قد اكتسبت من خضم المعلومات العلمية وغير العلمية التي قدمها عصرنا ما يكسبها قوة وقدرة على الصنع والبناء لتصبح حرة بعد أن تحررت؟ كان الغرب بصفة أساسية هو الذي استعمر الشعوب التي قلنا عنها إنها تحررت من قبضته خلال القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة أي بعد سنة 1945، وكان ذلك الغرب هو نفسه الذي استطاع بعلمه وبأجهزته الجبارة أن يجمع ذلك الخضم من المعرفة بهذا الكون وكائناته، وهي معرفة تعرض نفسها علانية لمن يأخذ، فكم من الشعوب المتحررة قد أخذ، وكم أخذ؟ جواب ذلك يأتي في صورة أوضح إذا قلبنا السؤال فجعلناه إلى أي حد تجد تلك الشعوب المتحررة نفسها مضطرة إلى الاستعانة بالغرب في صنع ما تصنعه؟ فإذا جاءنا الجواب بأن الجزء الأعظم من حاجات الشعوب المتحررة لا يستغني عن صناعات الغرب أو عن مساعدات الغرب بأي وجه من الوجوه، مع أن ما يصنعه الغرب وما يساعد به مأخوذ كله من علمه ومن معرفته التي جمعها عن طبائع الأشياء من حوله، وهو علم وهي معرفة معروضان علانية لمن يأخذ، أقول: إنه إذا كان هذا هو الجواب عن سؤالنا، كانت النتيجة التي تفرض نفسها، هي أن الشعوب التي تحررت لم تستطع بعد أن تصبح حرة، ولقد كان التحرر نتيجة صراع مع المستعمر الأجنبي، وأما الحرية فلن تكتسب إلا نتيجة صراع تلك الشعوب مع نفسها.
إلا أن عصرنا هو العصر الذي عرف الحرية بمعناها الإيجابي المنشئ المبدع الخلاق، وهو العصر الذي جمع لتلك الحرية وسائلها من علم ومعرفة يسيطر بها على عالم الأشياء، وهو العصر الذي عرض تلك الوسائل أمام الناس جميعا، فمن أراد الحرية فليأخذ وسائلها لينعم في رحابها، وأما من وجد في مجرد التحرر من القيد شبعا وريا، تاركا للأحرار أن يعمروا له دنياه، فليرض بنصيبه العادل - وما نصيبه إلا أن يقف مواقف الأتباع الأذلاء حتى بعد أن يتحرر من قبضة سيده.
اختلاف الرأي والرؤية
إنني الآن في سبيلي إلى أن أعرض بين يديك تفرقة بين شيئين، لهما من الدقة الدقيقة ما تفلت به من أعين الناس، أو الكثرة الغالبة منهم، وسوف ترى في سياق هذا الحديث، كيف أن هؤلاء الناس لو أنهم تبينوها - حق بيانها - لألقوا عن ظهورهم أحمالا ثقيلة من التزمت والتعصب والتطرف، إلى آخر هذه الأسرة غير الكريمة، فأراحوا واستراحوا وهدأت لبحر الحياة مياهه.
وأما الشيئان اللذان أريد أن أفرق بينهما تلك التفرقة الدقيقة التي أشرت إليها، فهما: الموضوع الذي يثور حوله اختلاف الرأي - من جهة - والآراء أو المذاهب المختلفة نفسها، التي تتعلق بذلك الموضوع - من جهة أخرى - وإني لأسرع هنا فأذكر الحقيقة التي أسعى الآن إلى طرحها بين يديك، قبل أن أقدم على تحليلها وتفصيلها، لعل ذلك يعين على متابعة الحديث باهتمام أكبر، وبدقة أكثر، وتلك الحقيقة هي أننا واجدون في معظم الحالات، أن الآراء أو المذاهب، التي حسبناها متعارضة متضاربة، إنما هي آراء متكاملة؛ بمعنى أن كل رأي أو مذهب منها يتناول - في حقيقة أمره - جانبا من الموضوع المطروح، غير الجوانب التي تتناولها الآراء أو المذاهب الأخرى، وأنه من مجموع الآراء أو المذاهب، يتألف موضوعنا ذاك من شتى نواحيه، وأن الخير كل الخير للمتلقي أن يجمع في نفسه جميع تلك الآراء أو المذاهب، ليصبح أكمل إلماما بالموضوع الذي هو مدار البحث والنظر والاعتقاد.
وأبدأ الآن في تفصيل ما أجملته، مستعينا بأمثلة منوعة، أسوقها من ميادين مختلفة، وأبدأ بميدان الفكر الفلسفي في مذاهبه المتنازعة، فأقول - في إيجاز شديد - إن لذلك الفكر الفلسفي عند أصحابه، اتجاهين أساسيين، ثم يكون بعد ذلك لكل اتجاه منهما فروعه، أحدهما هو الذي يطلق عليه اسم المذهب «المثالي»، والآخر هو الذي يطلق عليه اسم المذهب «التجريبي»، والأصل في هذا الانقسام، مقابلة تقام بين «الأفكار» في ناحية، و«الأشياء» في ناحية أخرى، فأيهما يا ترى يكون هو الأصل الذي يشتق منه الآخر؟ أو يكون هو المرجع الذي يقاس إليه الآخر في مدى حظه من الصواب والخطأ؟ إنك لو طرحت هذا السؤال على متدين واع بعقيدته الدينية، لجاءك منه الجواب مسرعا، وهو: إن الفكرة تسبق تجسيدها في مخلوق متعين بخصائصه وصفاته، وكذلك إذا سألت من فيه طبيعة الفنان أو طبيعة الشاعر، أجابك بأن المعول عنده إنما هو ما يدور في نفسه، مهما يكن ذلك موصولا أو غير موصول أول الأمر بدنيا الأشياء، وإذا سألت فيلسوفا «مثاليا»، لكان جوابه أيضا هو أن صلته بالوجود في مجموعه، أو في أي كائن من كائناته، إنما هي ما «يعرفه» عنه، والذي يعرفه هو «أفكار» أو تصورات، أو غير ذلك مما هو في داخله ... كل هؤلاء - إذن - يرون للفكرة أسبقية على الشيء المجسد لها، لكن تحول بسؤالك إلى العلماء في أي ميدان من ميادين العلم: ميدان الفيزياء، أو الكيمياء، أو الأحياء، أو ما شئت، تجد جوابا آخر، فمن «الظواهر» المبحوثة، أي من «الأشياء» تستقي قوانين العلوم ومن ثم يجيء الانقسام في وجهة النظر، وهو انقسام قد يتسع ليجاوز الأفراد إلى الشعوب، بحيث نقول عن شعب ما، إنه في مجموعه يجعل الأولوية لما يدور في نفسه، أو في رأسه، أو في قلبه، على الأشياء المجسدة التي تدركها الحواس، ونقول عن شعب آخر، إنه يجعل الأولوية «للشيء» في الواقع المحسوس، وعلى أساسه تقام الفكرة أو السلوك، وقد يكون هذا الاختلاف العميق بين شعب وشعب، هو الذي يقام عليه الحكم بعد ذلك، بأن هنالك شعوبا «روحانية» وأخرى «مادية».
ونحن نسأل بعد هذا العرض قائلين: أيكون ما بين الفريقين، من قبيل «التضاد»؟ أم يكون من قبيل «التكامل»؟ والرأي الذي نراه في ذلك هو أن «الفكرة» و«الشيء» الذي يجسدها كطرفي العصا، أئذا قلنا عن رجل إنه يعني برأس عصاه أكثر مما يعني بأسفلها، كان معنى ذلك أنه استطاع أن يجتزئ الرأس من العصا، مستغنيا عن قاعدتها المرتكزة على الأرض؟ إنه حتى إذا صح أن شعوبا تعنى بالباطن بدرجة أكبر من عنايتها بالظاهر، وأن شعوبا أخرى تعكس هذا الترتيب - وهو صحيح بلا شك - فالذي يحدث بالفعل في تلك الحالة، هو أنهما يتبادلان النواتج، فالأولى تمد الثانية بشيء من روحانياتها، والثانية تمد الأولى بشيء من مادياتها، وإذا شئت فراجع حياة الناس في واقعها، فالغرب - عموما - الذي نشيع عنه أنه «مادي»، قد أخذ دياناته من منابعها في الشرق، والشرق الذي نقول عنه إنه «روحاني» يعيش كل فرد فيه، وفي كل لحظة من حياته، مستعينا بماديات ذلك الغرب.
Неизвестная страница