هذه آية كريمة نتلوها مع ما نتلوه من كتاب الله، لكن هل وقفنا عند الشرط المشروط علينا فيها، إذا نحن أردنا أن يغير الله ما بنا؟ وما بنا مما نحتاج له أن يتغير، قد كثر حتى لقد ضعفنا بعد قوة، وذللنا بعد عزة، وتخلفنا بعد أن كنا الطلائع التي يقتفيها من أراد أن يتقدم.
والشرط المشروط علينا في الآية الكريمة هو أن نغير ما بأنفسنا، مطلوب منا أن نغير الداخل ليتغير الخارج، مطلوب منا أن نعيد النظر في ترتيب جهازنا النفسي من باطن، فتتبدل دنيانا، ليرتد ضعفنا قوة، وذلتنا عزة، وتخلفنا ريادة، ولكن نقطة البدء في هذا كله ، هي الإجابة عن هذا السؤال: كيف يغير المرء ما بنفسه؟ وما «القوم» إلا مرء، ومرء، وثالث ورابع.
لو كانت «النفس» آحادية العنصر، لما كان في الأمر إشكال، إذ ما علينا إلا أن نغير ما قد فسد من ذلك العنصر الواحد، كما تزيل الصدأ - مثلا - عن مفتاح لم يعد قادرا على الدوران في القفل، فأصبح عاجزا عن السيطرة عن ذلك القفل فتحا وإغلاقا، لكن الأمر في «النفس» أعقد من ذلك، فهي جهاز متعدد العناصر، وأتحفظ هنا فأقول: إن هذا الاسم متعدد المعاني في مجالات استعماله، فقد تراه مستخدما في سياق ما بمعنى، ثم تراه مستخدما بمعنى آخر في سياق آخر؛ وعلى ذلك فقد تكون رؤيتي لمعنى هذه الكلمة، في هذا السياق، مختلفة عن رؤية آخرين، وأما رؤيتي فهي أن تكون «النفس» التي يراد منا أن نغيرها، ليغير الله ما بنا، جهازا متعدد الأجزاء، بحيث تشترك تلك الأجزاء معا في توجيه صاحب تلك النفس نحو ما يفعله وما لا يفعله، ما يقوله وما يسكت عنه، ما يسر له وما يحزن له ... إلخ، وليست هذه المقالة بحثا علميا نتوقع منه أن يتقصى المعنى بكل دقة وبكل شمول، بل يكفينا هنا أن نبرز عددا قليلا ومؤثرا، من أجزاء الجهاز الذي من أجزائه تتكون «النفس»، لنقف عندها وقفة متأملة، لعلنا نهتدي إلى طريقة تغييرها إذا كانت في حاجة إلى تغيير.
وأول ما يهمني ذكره من جوانب النفس، هو مجموعة «الأفكار» التي نملأ بها رءوسنا، والتي هي ذات شأن في تشكيل سلوكنا، فلنقف هنا وقفة، حتى إذا ما فرغنا من عنصر «الأفكار»، انتقلنا إلى عنصر آخر.
تعالوا نبدأ من البداية فنسأل: ما هي الفكرة؟ ولكي أجيب إجابة بسيطة وخالية من التعقيد، أقول: إنه كما يكون لكل حيوان طريقته التي يحمي بها نفسه حماية سلبية بالدفاع، أو حماية إيجابية بالهجوم، فإن وسيلة الإنسان في ذلك هي «أفكاره»، إنه قلما يلجأ في دفاعه وهجومه، إلى أظافره وأنيابه وعضلاته، لكنه «بالأفكار» يصنع السلاح، ويضع الخطط، ويرسم طريقة السلوك التي تنتهي به آخر الأمر إلى حماية نفسه هجوما أو دفاعا، «فالفكرة» لا تكون فكرة، إلا إذا كانت منطوية على شيء يصلح أن يكون أداء لحياة أقوى وأكمل، إن الله لم يخلق الإنسان ذا عقل «يفكر» ليجيء الإنسان فيجعل من أفكاره فقاقيع فارغة كفقاقيع الصابون ... تبدو براقة وشفافة وجميلة التكوين، وكثيرا ما تزدان بألوان فيها الأزرق والأخضر والبرتقالي، مما يخطف البصر في لمحة سريعة، ولكنها - وا أسفاه - لا تكاد تمس الهواء أو يمسها الهواء حتى تنفجر وتختفي كأن لم تنتفخ بلمعتها وألوانها منذ لحظة يسيرة، نعم، إن الله - جلت قدرته وحكمته - لم يجعل الإنسان كائنا عاقلا، ليجيء الإنسان فيجعل من عقله ذاك أداة يعبث بها ويلهو، وإنه ليصبح ذلك العابث اللاهي، إذا ما شحذ عقله شحذا، ليلد له عقله تصورات تبدو له وكأنها «أفكار» يدافع بها عن حياته ويهاجم، وإذا هي في حقيقتها تنتسب إلى أسرة الفقاقيع الصابونية الخالية في أجوافها حتى من الهواء، والفرق بين «الفكرة» التي هي أداة للحياة القوية المزدهرة، والفكرة التي تشبه الفكرة ولكنها ليست منها، هو هذا، الأولى ترسم لك طريقا تسلكه إلى ما هو أنجح وأقوى وأحكم، والثانية إما أن تهوى بك إلى ما يشبه الموت إذا لم يكن هو الموت نفسه، وإما هي - في أهون حالاتها - تقعد بك قعودا لا فعل فيه ولا حركة ولا مقامرة ولا إنتاج.
ونحن إذ نزدهر حينا ونذبل حينا، فإنما نزدهر بأفكار من النوع الأول تبث فينا، فتكون هي الموجهات لنا في حياتنا العملية، وتذبل بأفكار - أو قل أشباه أفكار - تقع منا مواقع القيود والأغلال، لا تسمح لحياتنا بحركة مؤدية إلى شيء، ولا يفوتنا أن نلحظ في الحالة الأولى عوامل تدعو الناس إلى أمل في مستقبل مزدهر، وأما في الحالة الثانية فالأغلب أن يكون في حياتنا ما يدعو إلى يأس من مستقبل ناجح، وإني لأخشى ألا أكون مخطئا، إذا زعمت بأن الفترة الراهنة التي كانت بدايتها هزيمة 1967، قد أخذت تميل بنا شيئا فشيئا نحو ذلك المناخ الفكري الذي يملأ جو السماء وصخور الأرض «بأفكار» الجمود والفقر واليأس من الحياة، وإذا صح هذا النظر، لم يكن لنا بد من أن نغير ما بنفوسنا ليغير الله ما بنا، وأول ما نغيره هو تلك الأفكار، التي أشرت إليها، لنملأ رءوسنا بغيرها مما يؤذن بالأمل.
وسأضرب أمثلة قليلة من الأفكار، التي هي في حقيقتها أشباه أفكار، والتي - واعجباه - تنفتح لها أبواب الأجهزة الإذاعية والصحفية انفتاحا لتنصت إليها الملايين، فتملأ بها أوعية دمائها، ولا تلبث أن تكون هي «الرأي العام»، فمن ذلك ما يلح به علينا أصحاب الكلمة العليا، يلحون علينا بالكلمة المسموعة المذاعة، وبالكلمة المقروءة في الصحف، يلحون على آذاننا وعلى أبصارنا، في الصبح وما بعد الصبح من ساعات النهار، وفي العشية وما بعد العشية من ساعات الليل، إن ماضينا يجب أن يعود إلى الحياة ليكون هو حاضرنا، هكذا يقولونها بغير تدقيق ولا تحليل، فيتلقاها الجمهور السامع والجمهور القارئ، فلا يعرف كيف يفهمها إلا أن يأخذها بظاهر حروفها، وعندئذ ترى عجبا عند التطبيق، ولو أن حقيقة الصلة بين حاضر الإنسان وماضيه، عرضت على الناس في صورتها الصحيحة والقوية، لاستبدلنا بالفكرة المريضة فكرة سليمة، فليس على سطح الأرض مخلوق من البشر، بقيت له في رأسه مسكة عقل، يريد أن يخلع على نفسه ماضيه، كأن ماضي الإنسان قميص يخلعه إذا شاء ويرتديه إذا شاء، لكن المسألة هنا هي «كيف»؟ كيف نبث ماضينا في حاضرنا؟ إننا لو تصورنا بأن المطلوب هو أن يجيء الحاضر مصبوبا في قالب الماضي بكل حذافيره، لكان هذا الحاضر قد جاء زائدة دودية ليس لها إلا أن تقتلع من جسد التاريخ لتفنى، هذا إن كان في حدود المستطاع أن يبعث ماضي الإنسان في حاضره كما يتصورون، إن حقيقة الموقف يمكن توضيحها باللغة، فنحن نستخدم لغة السلف، لكن إذا كانت «الأداة» واحدة ومشتركة بيننا وبين أسلافنا، فهل نطالب أبناء الحاضر ألا ينطقوا أو يكتبوا بتلك اللغة إلا ما نطق به الأولون أو ما كتبوه؟ وهل تشابه السابقون أنفسهم فيما قالوه وكتبوه هم؟ لا بد لنا من أن نبقى على لغتنا العربية حية وقوية، وإلى هنا يظل الماضي حيا في الحاضر، لكن البون شاسع بين ما قالوه بتلك اللغة وما نقوله، وقد يكون الماضي أفضل في قوله من الحاضر في قوله أحيانا، وقد يكون الحاضر أحيانا أخرى أفضل من الماضي.
وعلى هذا الغرار، تكون صلة الماضي بالحاضر في كل مواقف الحياة العقلية والوجدانية والعملية، فقد كان من أسلافنا من برع في علوم الرياضة وعلوم الطبيعة وغيرها، فيصبح ماضينا حيا في حاضرنا إذا حافظنا على مكاننا في الريادة العلمية، لكن أحدا لا يتصور علماءنا اليوم وقد وقفوا بعلومهم عند الحدود التي وقف عندها علماء الأمس، إذ هو محال أن يجيء يومنا كأمسنا في الطب والهندسة والرياضة والفلك إلخ إلخ، وما نقوله عن الحياة العقلية، نقول مثله في الحياة الوجدانية، فليس حتما لشاعر عصرنا أن يفرح ويحزن ويفخر ويهجو، لكل ما فرح له الشاعر القديم وحزن وفاخر وهجا، وهل كان في القديم شاعر واحد، ذو موقف واحد، لكي أحاكيه وجدانا بوجدان؟ مرة أخرى أقول: إن الماضي يظل موصولا بالحاضر بالمشاركة اللغوية أولا، وبشيء من الروح السارية في النغمة العربية.
والحقيقة نفسها تتمثل في الحياة العملية وأوضاعها، فبينما يتحتم على الحاضر أن ينشط في حياته العملية، مهتديا بإطار القيم التي احتكم إليها أسلافنا في سلوكهم، إلا أنه من غير المعقول أن يجيء السلوك نفسه ... المنضبط بقيمة معينة، صورة مكررة من سلوك السالفين، ومرة ثانية أقول: إن هؤلاء السالفين لم يكونوا رجلا واحدا في موقف واحد، حتى أجعل منه نموذجا أحاكيه، فمثلا إذا كان السالفون قد رفعوا من شأن إكرام الضيف، ونجدة المأزوم، والشجاعة في مواجهة المخاطر، فنحن كذلك يجب أن نربي أبناءنا على تلك النماذج «القيمية»، لكن صور السلوك التي تندرج تحت تلك القيم ليست بالضرورة هي نفسها صور السلوك في عصر ذهب بذهاب ظروفه.
كلام بسيط وواضح، لو وجد سبيله إلى رءوس شبابنا، لما رأينا شبابا من شباب الجامعة يفكر جادا في أن يغير ثيابه وفي أن يوجه مطالعاته نحو أن يحاكي صورة قدمها إليه السادة مسموعة ومقروءة، فللشباب أن يرتدي من الثياب ما يوافق ظروفه كما ارتدى الأقدمون ثيابا تتفق مع ظروفهم، وللشباب أن يوجه مطالعاته ودراساته وجهة تعينه على القوة والنجاح، كما كان الأقدمون يفعلون ما يفعلونه ابتغاء القوة والنجاح.
Неизвестная страница