وأما القسم الرابع والأخير، فيقتصر على فكرة الانتماء؛ ليبين عناصرها تحت ضوء التحليل، وقد أسلفت الإشارة إلى ذلك في هذه المقدمة.
أما بعد، فإن القلم حين أخذ على مدى ستة أشهر أو نحوها، يعالج ما يصح أن يكون جوابا عن السؤال الذي طرحته على نفسي، أو الذي طرح نفسه علي، عما أصاب العالم الإسلامي في جملته من ضعف، فإنما أخذ على نفسه عهدا ألا يكتب إلا ما يراه صدقا، فإذا وقع في خطأ هنا أو هناك، فشفيعه نية حسنة أرادت الخير والإحسان، وبالله يكون التوفيق.
زكي نجيب محمود
القسم الأول
مع العلم بعمق الإيمان
أنا المسجد والساجد
روى لي الراوي فقال: أتذكر روضة «ريجنت» في لندن؟ إني لأعلم كم أنفقت في أيامك الخوالي من ساعات في تلك الروضة الفسيحة الجميلة، وأعلم أنها كانت لك المنتزه، والملاذ، والمحراب، فلما أقيم المسجد على حافتها، ازدانت به الروضة، وازدادت وقارا على وقارها، ولأني أعلم عن صلتك بتلك الروضة، تعمدت أن أزورها، عندما قضيت بضعة أيام هناك - قضيتها في مزيج من راحة وعلاج - وما إن بلغت الروضة، حتى أخذت سمتي نحو الأماكن التي أعلم أنها كانت أثيرة لديك، بادئا جولتي ببستان الورد، وفي ركن ظليل من أركانه، جلست على الكنبة الخشبية، وهي الكنبة التي اعتدت أنت الجلوس عليها ... إنني يا أخي لا أعرف لذلك البستان - بستان الورد - في روضة «ريجنت» شبيها.
ولم ألبث في خلوتي تلك إلا دقائق، حتى جاء ليجلس معي على الكنبة رجلان هنديان ملتحيان، وأخذا يتحدثان بالإنجليزية، ولم أنصت، ولكن لم يكن في وسعي إلا أن تسمع أذناي، فلما سمعت في حديثهما كلمة «المسجد» تتردد أنصت لأرهف السمع، فكان ختام حديث الرجلين هذا السؤال وجوابه: - أذاهب أنت معي إلى المسجد؟ - يا صديقي أنا المسجد وأنا الساجد معا.
وانصرف صاحب السؤال - ولم تمض خمس دقائق، حتى انصرف كذلك صاحب الجواب، فماذا تظنه يعني بقوله إنه المسجد وإنه الساجد معا؟ فلولا أنني رأيت وجهه مضيئا بتقوى العابدين، لقلت إن الرجل إنما أراد أن يعفي نفسه من شيء لا يحبه، فماذا تقول في معنى عبارته تلك؟
قلت لصاحبي: لقد كان الرجل قوي التعبير واضح المعنى، فلقد أراد أن يقول لزميله إنه إنما يعبد الله أنى كان وأينما كان، إنه يعبد الله قياما وقعودا وعلى جنبه، نعم، إنه يؤم المسجد (المبنى) مع من يؤمه من المسلمين، لكنه حتى وهو في المسجد (المبنى) يجعل من ذاته مسجدا داخل المسجد، بمعنى أن يستغرق وجوده في عبادته، فكم هم كثيرون كثرة تذهلك، أولئك الذين يؤدون صلاتهم في بيت الله فترى الواحد منهم قائما بجسده راكعا بجسده ساجدا بجسده، وأما عقله كله وقلبه كله فشاردان هناك في الأفق البعيد يحسبان المكسب والخسارة ويكملان رسم الخطة التي يعدانها ليكيدا للخصوم، وعندئذ يتحول المسجد في حياتهم ليصبح مكانا كأي مكان آخر يرونه صالحا للتدبير والتخطيط، وأما صاحبنا الهندي بتعبيره القوي ومعناه الواضح، فقد أراد لبدنه أن يكون مسجده حتى وهو في المسجد؛ لكيلا يفلت منه زمام عقله أو تشرد الأهواء بقلبه، وحتى لو أخلص العابد لعبادته وهو في المسجد، مرخيا لنفسه العنان قبل ذلك، وبعد ذلك كان بمثابة من وضع عقيدته الدينية بين قوسين ... وأما فيما قبل القوس الأول وبعد القوس الأخير، فهو مطلق السراح، فيجيء التعبير الذي عبر به الهندي التقي عن ذات نفسه ليلفت أنظارنا إلى وجوب أن تستمر معنا تقوى الله، قبل المسجد وفي المسجد وبعد المسجد، ولكن كيف؟
Неизвестная страница