أناجيل تمسك يدها ، تسيران في شوارع برشلونة، الشمس ساطعة في الربيع، أصوات الآلاف تهتف، جيرانو جيرانو، أساسين أساسين، إيراك بالاستينا، الشوارع تغطيها أجساد النساء والرجال والشباب والأطفال، يحملون اللافتات مكتوب عليها، جيرانو، لا للحرب، جورج بوش أساسين، توني بلير وشارون وأزنار، أساسين!
بدأت المظاهرة في الساحة الكبيرة عند فونتانيلا في شارع لوتانا، سارت إلى قلب المدينة، تلتحم بها مظاهرات قادمة من جميع الشوارع والميادين، يذوب جسدها في الأجساد، صوتها المشروخ تخنقه الدموع، تختلط الكلمات العربية بالكتالانية، والضحك بالبكاء، تبكي على نفسها المفقودة ووطنها الضائع، ويغمرها الحزن والفرح في آن واحد، جيرانو جيرانو، إيراك بالاستينا، يهتفون للعراق وفلسطين، رغم أنهم على الشاطئ الآخر في الشمال، من أجناس أخرى وأديان أخرى وألوان أخرى، لا يفرقهم شيء، ملايين الأجسام مثل أمواج البحر، ترتفع وتتلاقى في موجة واحدة تنطح السماء، طائرات هيلوكوبتر تحلق في الجو، ترقب المظاهرة بالعيون البوليسية، يتلاشى أزيزها الحديدي في هدير الأمواج البشرية ... جيرانو جيرانو، أساسين أساسين!
كانت الشمس عمودية ثم انكسرت ومالت نحو الغروب، جفت حلوقهم والتهبت أقدامهم من المشي، قالت أناجيل، ما رأيك نستريح ونأكل ساندويتش؟
كان المقهى يواجه مبنى البرلمان، طلبت الفتاة فنجان شاي بالنعناع مع ساندويتش بيض وجبنة. طلبت أناجيل قهوة باللبن مع ساندويتش جانبوه، بينما هما تأكلان سألتها أناجيل: هل رأيت البرلمان؟ - لا. - هل عندكم برلمان؟ - أيوه، لكن ...
لم تكمل الفتاة العبارة، أرادت أن تقول: لكن البرلمان عندنا يختلف عن البرلمان عندكم، الانتخابات عندكم لا يمكن تزويرها، استطعتم في الانتخابات الأخيرة إسقاط أزنار. - نجح زباتيرو وقرر سحب جنودنا من العراق، كان أزنار مثل جورج بوش وتوني بلير، أساسين. - أساسين يعني سفاحين. - زباتيرو اسم أمه. - عندكم انتخابات حقيقية وبرلمان حقيقي، لكن ...
أطبقت الفتاة شفتيها، عادت إليها صورة المبنى في شارع مجلس الأمة، ومن خلفه المبنى الآخر يحمل اسم مجلس الشورى، رأت رستم خارجا من المبنى يمشي على مهل، شاردا بعينيه، بين أصابعه السبحة، حبات السبحة الصفراء ناعمة، تشبه السبحة في يد جمالات، وقد دخلت جمالات أيضا مجلس الشورى، كما دخلت النادي الرياضي، أصبحت من الأعضاء والعضوات.
توقفت الفتاة أمام البرلمان لحظة دون أن تدخل، المبنى أبيض له أعمدة على الطراز الكتالاني، أمامه بحيرة صغيرة زهورها وأوراقها الخضراء طافية فوق سطح الماء كالأسماك الميتة، وسط البحيرة تمثال من الحجر لامرأة جالسة، محنية على نفسها بحركة منكسرة، جسدها العاري يلمع تحت رذاذ المطر، رأسها مدفون في صدرها بين ذراعيها الممدودتين إلى الأمام، ركبتها اليمنى ترتكز فوق الأرض، ركبتها اليسرى مرفوعة تحاول أن تخفي بها شعر العانة أسفل البطن، نهدها الأيسر يختفي، والنهد الأيمن يطل من تحت ذراعها على استحياء، عنوان التمثال محفور على القاعدة الحجرية بحروف كاتالانية، دسكونسول (
Desconsol ) وتعني «الحزن»، إنه أحد تماثيل الفنان جوزيف ليمونا (
Joseph Limona ) نحته عام 1903، منذ قرن كامل.
توقفت الفتاة أمام المرأة المحنية، تذكرت سوزان وهي جالسة تحت الشجرة في النادي، محنية على نفسها في هذه الجلسة الحزينة، أدركت لأول مرة أن حبها لسميح كان أكبر من حبها له، كانت تفتقده أكثر منها، كانت تستحقه أكثر منها، تذكرت سميح بعد أن أعد الحقيبة، ظل واقفا عند الباب، لم ترفع وجهها إليه، تركته يمضي دون عناق، دون كلمة وداع أخيرة، كانت تخشى أن تنظر إليه، إن التقت عيونهما ربما يغلق الباب ويعود، فالحب الكبير يبقى محفورا في شغاف القلب، كالجرح العميق الغائر في الجسد.
Неизвестная страница