سميح ينام بعمق لا يؤرقه شيء، تتأمله وهو مغمض العينين، يبدو هادئا وادعا مبتسما في النوم، يحلق في الأحلام، مثل طفل مطمئن إلى وجود أمه وأبيه، مثل ملاك من السماء لا يعرف إلا الخير.
كان رستم مختلفا، تنطوي أعماقه على شيء من الشر، له أعمال نبيلة وله سقطات كبيرة، يمكن أن يكون قاسيا مثل قطعة حجر، ربما كان يشبهها أكثر من سميح ...
في أعماقها قسوة على نفسها والآخرين، يمكن أن تقول لرستم دون أن يطرف لها جفن: «علاقتنا يجب أن تنتهي»، تدرك خطورة ما تموج به أعماقها، تريد تجميد ما بينهما عند العقل، يقول إنه أخطر مما يحدث في الفراش.
كارمن كانت حبه الكبير، تشعر الفتاة نحوها بالحب، يرتعد خيالها لهذه الفكرة وهي معه، جالسة إلى جواره في المطعم فوق الهضبة، عيناها شاردتان بامتداد الصحراء، تقول لنفسها: ما جدوى هذه العلاقة؟ عاملة فقيرة منهوكة القوى بلا شهادات، وأستاذ كبير ينتمي إلى الطبقة الحاكمة، زوجته كاتبة مرموقة من النخبة الرفيعة، تتنبأ الفتاة بوقوع فضيحة، تضج بها المدينة، تتحطم حياته وحياتها، ثم ينتهي الأمر إلى القطيعة، بإرادتهما أو بغير إرادتهما، تعبر الفتاة عما يجول في خاطرها، جالسان يطلان من الحافة الصخرية العالية إلى الهاوية السحيقة، ترقد بيوت القاهرة في القاع المظلم، ترتعش الأنوار الصغيرة المتناثرة، نجوم توشك على الانطفاء.
يحرك عينيه بعيدا عنها، يقول بعد صمت طويل: وهل الأمر باختيارنا؟ صوته تعتريه بحة خشنة، أدمنت أذناها سماع هذه البحة الذكورية، لها وقع خاص يسري في أعماق الجسد، يحرك شيئا مجهولا في أعماق العقل. - لا أنا ولا أنت نملك القوة للاختيار، لأنها خارج إرادتنا، ليست خارج إرادتنا تماما، بل هي جزء من إرادتنا الكامنة في العقل الباطن.
يدب الصمت بينهما، يسمعان أزيز طائرة في الجو، بوق سيارة من بعيد، يشعل سيجارة بعود كبريت، يتركه مشتعلا، يتأمل اللهب بعينيه الكبيرتين، تنعكس الشعلة الحمراء على المقلتين الزرقاوين، تذوب الحمرة في الزرقة، كما يغرق قرص الشمس عند الغروب في مياه البحر، ويطغى اللون الأسود على عينيه الشاردتين، ينتبه فجأة حين يحرق اللهب أصابعه، يطفئه بنفخة واحدة، تعم الظلمة ولا تكاد الفتاة تراه، فقط تسمع صوته المبحوح: وعدت كارمن مائة مرة، وفي كل مرة أخون الوعد وأعود إليك.
أطرق برأسه طويلا، دب صمت الصحراء في أذنها صفيرا ممدودا، مثل رياح من الرمال تهب من الشرق في الربيع. - وسميح! ما رأيه؟
كان سميح يقول: هذه أمور لا تنفع فيها الوعود ولا النيات الحسنة، لا يمكن أقف بينك وبين رستم كما تفعل كارمن، ليس لأنها تحب رستم أكثر مما أحبك، وليس لأنني أعقل منها، فهذه الأمور تتجاوز العقل. - أنت يا سميح لا تؤمن بشيء يتجاوز العقل. - أعني العقل الكلي، ويشمل الجسم والروح واللاوعي. - اللاوعي؟ - أعني الذاكرة المنسية الجماعية.
يدور الحوار بينها وبين سميح في الفراش، يتبادلان الكلام بلذة أكبر من تبادل العناق، يقول إنها مصابة بالبرود الحسي رغم رهافة الحس وسخونة العقل، لم تكن علاقتها برستم تؤلمه، بل يراها ضرورية. - أنت من معدن يتجاوز الرغبة في الامتلاك، وعقلك يتسع لأكثر من شخصية أو ثلاثة أو أكثر.
يبتهج عقلها في الحوار معه داخل الفراش الدافئ، تغمرها لذة تفوق الجنس، تعلو فوق الروح، فوق مشاعر الحب والذكورة والأنوثة، لكن هذا الابتهاج يظل ناقصا لا يتجاوز اللحظة الحاضرة، لا يكاد يهبط من رأسها إلى جسدها، تحت ضلوعها تحس شيئا ينخس كالإبرة، تحت الرئة اليسرى، تحت الشريان الذي يغذي القلب بالدم، كأنما دمها مسمم بمرض مزمن، عميق ومجهول، صوت في أعماقها يهمس، سميح لا يحبك، لا يؤلمه أن تقعي في حب رجل آخر. تخبط صدرها بقبضة يدها، تريد أن تصد عنها هذا الصوت، هذا الفحيح الواصل إليها من الزمن السحيق، وعصر الجواري والعبيد. •••
Неизвестная страница