والحجة الثانية أنه في المسيحية قام رجال الدين بمهام الكهنوت. ويرد سبينوزا على ذلك أيضا بأن رجال الدولة كان لهم أيضا الحق في القيام بالشعائر الدينية، بل كان لهم الحق وحدهم في ذلك. كان التوحيد بين السلطتين حافظا لسلامة الدين وأمن الدولة، فالإنسان بطبيعته يثق بمن يقوم على شئون الدين وبالتالي بسيادته على نفوس الناس.
119
يؤدي الفصل بين السلطتين إذن إلى الفتن والشقاق كما حدث بين الأحبار والملوك عند العبرانيين، ومن يريد سلب الحاكم سلطته الدينية فإنه يود الاستيلاء على السلطة؛ إذ لا يبقى للحاكم سلطة سياسية لو سلبت منه سلطته الدينية، والتاريخ شاهد بمساوئ الكهنوت وأضراره. يكفي مثل بابا روما عندما اقتصر دوره على شئون الدين حاول إخضاع الأباطرة لسلطانه حتى انتزع منهم السلطة، وكل من حاول من الأباطرة التقليل من سلطة البابا زاده سلطانا. ولكن استطاع رجال الدين أنفسهم بأقلامهم ما لم يستطعه الأباطرة بسيوفهم.
ولكن ما العمل إذا خرج أصحاب السلطة على الدين؟ وما العمل أيضا إذا خرج رجال الدين على الدين؟ إذا خرج أصحاب السلطة على الدين لا يهم بعد ذلك إلى أي حد تمتد سلطتهم؛ إذ يؤدي خروجهم إلى الكوارث، سواء في أمور الدين أو في أمور الدولة، وتعظم الكارثة إذا أرادت الرعية تنصيب نفسها حارسة على القانون الإلهي وترفض سلطة الدولة واختصاصها في أمور الدين. ويبرهن تاريخ العبرانيين على أن عزل الملوك يؤدي بهم إلى رفض الإيمان؛ لذلك حرصا على مصلحة الدين والدولة معا يجب أن يعهد لأصحاب السلطة تنظيم شئون الدين وتفسيره والمحافظة عليه.
120
ولكن هذا المبدأ الذي أجمع عليه العبرانيون اختلف فيه المسيحيون؛ وذلك لأن المسيحية في نشأتها لم يدع لها الملوك بل دعا لها الرعايا المناوئون للسلطة السياسية القائمة، وتعودوا الاجتماع في كنائس خاصة لتنظيم شئون الدين وأخذ القرارات وإصدار المراسيم دون أخذ رأي السلطة القائمة. وبعد أن أخذ الدين في الانتشار في الدولة استمر رجال الدين في نشر الدعوة بطرقهم الأولى؛ لذلك كان من السهل الاعتراف بهم رؤساء للكنيسة أي ممثلين لله. وقد اتخذت بعض الإجراءات لمنع الملوك من التدخل في شئون الدين أهمها تحريم الزواج على رجال الدين، وضرورة وجود الفيلسوف اللاهوتي لتفسير العقيدة وحقائق الإيمان التي تضعها الفلسفة موضع الشك، فهو القادر على النفاذ إلى هذه التأملات التي لا نفع منها.
121
أما عند العبرانيين فقد نشأت الدولة والكنيسة معا، وكان موسى هو صاحب السلطتين، وكان لرؤساء الأسباط أيضا الحق نفسه مع أنهم كانوا أقل هيبة من موسى، وكان العبرانيون يستشيرون الأحبار أو الموظفين المدنيين على السواء، وكان الملوك يقومون بتنظيم شئون الدين، وإن لم يكن بالدرجة نفسها التي كان يقوم بها موسى، فقد شرع داود في بناء المعبد، واختار المنشدين والقضاة والحراس والموسيقيين والخدام ورؤساء الطوائف الدينية؛ أي إن شئون الدين كانت من اختصاصات الملك. ولكن لم يكن للملوك الحق، كما كان لموسى، في اختيار كعب الأحبار ومخاطبة الله مباشرة ومحاكمة المتنبئين. وفي مقابل ذلك، كان للأنبياء الحق في اختيار الملك الجديد والعفو عن قاتلي الملك السابق، ولكن لم يكن لهم الحق في تقديم الملوك للمحاكمة أو اتخاذ أي إجراء ضدهم إذا ما خالفوا القوانين باستثناء النبي الذي وعده الله بالعون؛ لذلك، فإن لأصحاب السلطة الحالية الحق في تنظيم شئون الدين، بالرغم من أنهم لا يعيشون عيشة الرهبنة، بشرط ألا يزيدوا شيئا على تعاليم الدين أو يخلطوها بالمعارف العلمية، خاصة أن عصر الأنبياء قد انتهى.
سابع عشر: مواطن حر في دولة حرة
122
Неизвестная страница