يجب اتفاق الشعائر الدينية مع سلامة الدولة وأمنها.
115
ويبرهن سبينوزا على الأمرين الأول والثاني معا، لأنه يجب البرهنة أولا على أنه كيف لا يحصل العدل والإحسان على قوة القانون إلا بتشريع الدولة للانتهاء إلى أن الدين لا يحصل على قوة القانون إلا بمشيئة أصحاب السلطة، وأن الله لا يحكم البشر إلا من خلال السلطات السياسية، فالإنسان في الموقف الطبيعي لا يعيش إلا طبقا لقانون الشهوة، فليس هناك خطأ أو صواب، ينشأ الخطأ والصواب عندما ينتقل الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة العقل؛ أي عندما يأخذ العدل قوة القانون الذي يصدر عن مشيئة من لهم الحق في الحكم، أي أن الله لا يحكم إلا من خلال أصحاب السلطة السياسية، ولا يهم بعد ذلك إدراكه بالنور الفطري أو بالنور النبوي. فعندما فوض العبرانيون حقهم لله ظل هذا التفويض نظريا لأنهم احتفظوا لأنفسهم بحقهم السياسي الذي فوضوه بعد ذلك لموسى وجعلوا منه ملكا. وابتداء من ذلك الوقت حكم الله العبرانيين من خلال موسى، ولم يأخذ الدين قوة القانون إلا بعد التشريعات السياسية، فلم يعاقب موسى مخالفي السبت قبل الميثاق وعاقبهم بعده بعد أن تحول الميثاق إلى قانون سياسي، وكذلك لم يعد للدين قوة القانون بعد انهيار الدولة وبعد سبي بابل وضياع استقلالهم السياسي ومشاركتهم في إدارة دولة بابل باعتبارهم عبيدا لا أسيادا. لا يأخذ الدين إذن قوة القانون إلا بالتشريع السياسي، فإذا قضي على التشريع السياسي لا يصبح الدين سلوكا إجباريا للمواطنين، بل يصبح تعاليم عقلية شاملة، والدين الشامل لم يكن موجودا في ذلك الوقت، ولا يأخذ الدين، سواء كان مدركا بالنور الفطري أو بالنور النبوي قوة القانون إلا بسلطة من لهم الحق في الحكم، فالله لا يحكم البشر إلا من خلال السلطات السياسية؛ وذلك لأن الله ليس أميرا أو مشرعا، ولأن حقائقه أبدية تتميز بضرورة أبدية أيضا ولا تتحول إلى أوامر إلا من خلال السلطات السياسية، وبذلك يكون للسلطات الحق في تفسير الشرائع.
أما الأمر الثالث هو اتفاق الشعائر مع سلامة الدولة وأمنها، فهذا يعني أيضا تحديد الدولة للشعائر وتفسيرها لها دون الشعائر الداخلية أي التقوى والإخلاص، فحب الوطن حب مقدس، وهو من أنبل العواطف، ولكن وجود الدولة هو الحافظ للقيم، وبالتالي، فلا يكون السلوك سلوكا شرعيا إذا ما نال من سلامة الدولة، ويكون شرعيا إذا ما حافظ عليها مهما كان هذا السلوك مضادا لحب الجار؛ فمصلحة الجميع سابقة على مصلحة الفرد. وللسلطة الحق في تحديد المصلحة العامة وأمن الدولة واتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك. على السلطة إذن تحديد أفعال الإحسان للجار أي الأفعال التي تجب بها طاعة الله، فملكوت الله هو تطبيق شريعة الله أي ممارسة العدل والإحسان، ولا فرق بين النور الفطري والوحي في معرفة ذلك إذا كانت هذه الشريعة هي القانون الأسمى، ولا يكون لأصحاب السلطة فقط الحق في تفسير القوانين، بل لا يطيع الإنسان الله إلا إذا كان سلوكه متفقا مع المصلحة العامة ومطيعا لأوامر السلطات؛ لذلك لا يجوز للفرد الإضرار بفرد آخر أو بالجماعة، ولا يحسن الإنسان إلى الجار إلا إذا كان الإحسان متفقا مع المصلحة العامة، والسلطة هي التي تحدد هذه المصلحة لأنها المسئولة عن تنظيم شئون الدولة. فإذا حكمت السلطات على فرد من الداخل أو من الخارج بأنه عدو فلا ينبغي على الأفراد التعامل معه، فحب الجار يتبعه كراهية العدو، وتاريخ العبرانيين يؤكد دائما اتفاق الدين مع مصلحة الدولة، حتى أتى المسيح ورأى تشردهم وضياع دولتهم أمرهم بالإحسان لكل الناس،
116
أما الحواريون فإنهم لم يبشروا بالدين باعتبارهم رعايا، بل بناء على القدرة التي أعطاها المسيح إياهم.
117
على الأفراد طاعة الطاغية إلا من وهبه الله هبة النبوة ووعده بمساعدة من لدنه ضد هذا الطاغية.
118
ولكن ما الحجج التي يقدمها دعاة التفرقة بين السلطة الدينية والسلطة السياسية؟ أهم هذه الحجج وجود كعب الأحبار عند العبرانيين لتنظيم شئون الدين. ويرد سبينوزا على ذلك بأن الأحبار أخذوا هذا الحق من موسى، صاحب السلطة السياسية، وكان يمكنه سلب هذا الحق منهم، وبعد موت موسى، احتفظ الأحبار بهذه السلطة باعتبارهم استمرارا لسلطة موسى، أي استمرارا للسلطة السياسية في حين أن موسى لم يعين أحدا بعده للقيام بالسلطة السياسية، بل قسمها بحيث يبدو أصحابها كمساعدين له. صحيح أن الأحبار كان لهم الحق في تنظيم شئون الدين في الدولة الثانية، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه رؤساء الأسباط أي إنهم كانوا يتمتعون بالسلطة السياسية، وكان للملوك الحق في تنظيم شئون الدين وشئون الدولة على السواء مع استثناء وحيد وهو إقامة الصلاة بأنفسهم في المعبد؛ لأنهم ليسوا من سلالة هارون، وبالتالي ليس لهم شرف مخاطبة الله. كان الأنبياء يدفعون الناس إلى التطرف لأن السلطة السياسية لم تكن في أيديهم في حين استطاع الملوك التأثير عليهم بالتوعد بالعقاب . وتنصل ملوك العبرانيين من الدين لأنه لم يكن لهم الحق في التدخل فيه، وتبعهم الشعب في هذا التنصل.
Неизвестная страница