انتقلت إلى فندق صغير في زقاق ضيق، اسمه فندق «أفريقيا هاوس» يطل على المحيط، البيت من الطراز الأفريقي الإسلامي، أعمدة ضخمة قوية كسواعد الأفارقة، الغرفة نظيفة والسرير تغطيه ملاءة بيضاء، رائحة القرنفل تنبعث من كل مكان وتملؤني بالانتعاش، وأصوات الغناء والطبول تملأ الجو بما يشبه الفرح، أطفال يحملون الفوانيس الصغيرة ويسيرون في الشوارع يغنون لشهر رمضان، تذكرت أطفال قريتي على ضفاف النيل، المحلات الصغيرة على جانبي الشارع كمحلات الموسكي في القاهرة، ناولني طفل فرعا من شجرة القرنفل وصافحني وهو يقول: قريبو واجيني بانجو. ولم أفهم ماذا يقول، فتاة صغيرة تعرف العربية قالت لي: يقول لك: مرحبا. الفتاة اسمها «هدى»، وهي ابنة أحد المصريين الذين يعملون مع القنصل المصري، خرجت أمها من محل القرنفل وصافحتني، اسمها «أم علاء»، ليس لها ابن اسمه علاء، لكن الجزيرة كلها من المسلمين ولهم عادات قديمة، لا ينادون الأم باسمها وإنما باسم ابنها، وإذا لم يكن لها ابن خلقوا لها ابنا وهميا لمجرد أن تحمل اسمه.
أخذتني في سيارتها الصغيرة الصفراء إلى بيتها، على الجدار صورة أهرامات الجيزة وأبو الهول، وسجادة صلاة عليها صورة الكعبة. ملامحها مصرية صميمة ورأسها يشبه كليوباترا، عينان سوداوان واسعتان تمتزج فيهما القوة بالحزن، قدمت لي صينية الشاي وكعك العيد الصغير وقالت: قرأت كتبك وكنت أنوي الحضور إلى عيادتك بالقاهرة.
وقلت: أغلقت عيادتي منذ سنين.
وهتفت: لماذا؟
وقلت: لم أسترح لفكرة أن أبيع الصحة للناس مقابل ثمن محدد.
وتنهدت: أنفقت كل ما معي على أطباء النفس في القاهرة، أعاني يا دكتورة من حالة «اكتئاب»، وامتلأت أدراجي بالأقراص والحبوب المهدئة والمنومة ، تركت عملي في القاهرة لأصحب زوجي في حياته الدبلوماسية، عشرون عاما ونحن نسافر في جميع أنحاء العالم من نيويورك إلى زنجبار، «هدى» ابنتي تعيش وحدها في القاهرة طوال السنة، ولا نراها إلا في الإجازة الصيفية، أبي مات وأنا في نيويورك ولم أره، وأمي ماتت العام الماضي وأنا هنا في زنجبار، زوجي يعاني من الاكتئاب أيضا؛ فهو يكره السادات، ويعرف أنه لا يعمل لصالح مصر، لكنه يقول العكس كل يوم حسب وظيفته الدبلوماسية.
دخلت ابنتها «هدى» في هذه اللحظة فسكتت «أم علاء» ثم غيرت الحديث.
وقالت: ماذا رأيت في زنجبار؟
وقلت: لا شيء حتى الآن إلا فندق «بوانا» ومن تحته الجماجم البشرية، وضحكت أم علاء: سآخذك بسيارتي لتري متحف زنجبار، وكان بيت العبيد.
ركبت إلى جوارها في السيارة الصغيرة، أصابعها الرفيعة حول عجلة القيادة هادئة مملوءة بالثقة، وسمعتها تقول: قيادة السيارة تعيد إلي الثقة بنفسي وأشعر أنني إنسانة مستقلة، عشت حياتي ظلا لرجل هو زوجي، وأما لابن وهمي يعيش في الظل، وخلقت لنفسي عالما آخر أحلم فيه بالحرية كالعبيد.
Неизвестная страница