والدباغة والفخار. ثمّ إنّ تجّار الشام المسيحيّين غاية في النشاط والمهارة، وإقبال النّاس عليهم في محالّهم عظيم جدًّا. ولذلك لم يكن للتاجر الأجنبي مطمع في وقت من الأوقات أن ينال من أهل البلد مثل ثقتهم بتاجرهم مهما حاول واِحتال، وقد رأيت هناك حالة تستدعي الأسف.
معلوم أن جبل لبنان قطعة من الشام، وهو جملة بلاد واسعة يسكنها ما يقرب عدده من ٤٠٠ ألف نفس: منهم حوالي ٢٣٠ ألفًا من الموارنة، ٥٥ ألفًا من الروم الأرثدكس، و٤٥ ألفًا من الدروز، و٣٥ ألفًا من الروم الكاثوليك، و١٧ ألفًا من المتاولة، و١٤ ألفًا من المسلمين وثمان مائة من البروتستان، و١٥٠ من اللاتين، وقليل من الطوائف الأخرى. وكانت هذه البلاد تابعة لولاية بيروت، قبل حدوث التعديّات الّتي وقعت سنة ١٨٦٠ في دمشق ووادي التيم ولبنان، ولكنّها انسلخت عن بيروت واِنفصلت عن حكومتها وقتما كان احتلّها العساكر الفرنساويون مع معتمدي الدول لدفع هذه العاديات، وجعلت من هذا الحين متصرفيّة مستقلة متعلقة بالباب العالي رأسًا. ولذلك كنت أجد تمام الانفصال بين الحكومتين، كما كنت أرى تخالف الأزياء العسكرية فيهما، وأن العلاقات بين حكومة الجبل وولاية بيروت صارت قاصرة على مجرّد العلاقات التجاريّة والمودّة الجوارية. ولقد كنت أسفت أشدّ الأسف على مرافق الدولة ومصالحها، كما يأسف كلّ غيور عندما يجد سكان هذا الجبل معتمدين على نفوذ الدول الأجنبية وحمايتها لهم غير خاضعين بالمرّة
لقوانين الحكومة العثمانية ونظاماتها الشرعية، حتّى كأنّهم ليسوا من ضمن رعاياها، وحتّى إن أثر هذا الاستقلال الممنوح لهم من جهة السلطة الخارجية واضح مثل فلق الصبح في الفرق العظيم والبون الشاسع بين أحد أهالي لبنان وبين غيره من سكان المدينة أو أي بلد من بلاد الولاية، حيث الأوّل مترعرع ذو قوّة وشمم تعرف في وجهه نضرة النّعيم والترف، بينما الآخر على العكس من ذلك لا يتعدّى حدود السلطة ولا يتجاوز مواقف النظام، مع أنّهما موجودان تحت سماء واحدة ويتنفسان معًا في جوّ واحد. على أنّه يقال إنّ عددًا عظيمًا من أهل لبنان وبعضًا من السوريّين يهاجرون إلى الولايات المتحدة وإلى جمهوريات أمريكا الجنوبية والوسطى، وأوستراليا، وبعض الجزائر بقصد التجارة وغيرها لتوسيع المال وتحصيل الثروة الطائلة. ويقدّر بعضهم عدد
1 / 54