إخواني! ما الناس إلا أمة واحدة وستجمعهم في المستقبل - إن شاء الله - جامعة واحدة هي جامعة الآداب والفنون، ودين واحد شامل قوامه الأبوية الإلهية والإخاء العام. (5) المدينة العظمى
12
سادتي وسيداتي
قص أرستو الشاعر اليوناني قصة عرافة تترائى للناس أثناء الربيع والصيف في صورة ملك سماوي وأثناء الخريف والشتاء في شكل حية رائعة هائلة، وكانت هذه الساحرة تغمر بفضلها وآلائها أولئك الذين أحسنوا إليها وعاملوها بالمعروف في فصلي الشتاء والخريف. وأما الذين أساءوا معاملتها وحاولوا قتلها وهي في تلك الصورة المخيفة فكانت تحرمهم هذه النعم والبركات، وقد شبهت الحرية بهذه العرافة العجباء التي تبدو تارة كالملك وطورا كالحية الرقطاء .
فالحرية في بادئ أمرها تتخذ هذا الشكل المزدوج الغريب الذي يتخوف منه بعض الناس ويغالي في مدحه الآخرون، في الأمم التي ألفت العبودية تظهر الحرية أولا كالحية فتتحول رويدا رويدا إلى ملك سماوي، وما من منكر أن حرية العثمانيين لم تزل في فصل الشتاء، حريتنا لم تزل كعرافة أرستو في شكلها الهائل المخيف، ومع ذلك علينا أن نصبر عليها ونحسن استقبالها حتى إذا استحالت ملكا قريبا لا نحرم فضلها وآلاءها.
سادتي، إن الحرية مهما قيل فيها هي ضالة الإنسان المنشودة، هي غايته القصوى في الحياة، هي قوام الأنفس والعقول، وغذاء الفنون والعلوم، وأساس كل مظاهر الرقي والعمران، وأود لو دعيت المدينة العظمى - التي هي موضوعي الليلة - مدينة الحرية وأطلقت على شوارعها أسماء رسل الحرية وأبطالها في كل زمان ومكان.
من الحقائق التي لا ريب فيها هو أن الإنسان مهما ارتقى في سلم الحياة يظل في مكان يرى منه من تقدمه إلى العلاء، ومهما انحط المرء وتقهقر لا يصل إلى القعر الذي لا يكشف على أحد دونه.
فالسلم والهاوية لا نهاية لهما في الحياة؛ لأن الدرجة الأولى منهما في المهد والدرجة الأخيرة في القبر، أينما كان المرء إذا يرى كثيرين من الناس فوقه وكثيرين تحته، وكلما ارتقى درجة في معارج الفوز والفلاح يسمع أصواتا بعيدة تدعوه إلى ما هو فوقها. وهذه من حقائق الحياة التي فيها لجميع الناس كثير من التنشيط والتعزية، علينا إذا أن لا نكون عبيدا لمن هم فوقنا وألا نستعبد من هم دوننا. علينا ألا نتصاغر أمام الكبار وألا نتكابر أمام الصغار.
وكما في الناس كذلك في المدن، فلا يحق للوندرا مثلا أن تصعر خدها للقاهرة، ولا القاهرة أن تشمخ أنفها على بيروت؛ لأن حسنات المدينة العظمى قد تكثر في هذه وتقل في تلك، قد تكبر في المدينة الصغيرة وتصغر في الكبيرة. والمدينة هذه التي صورها العقل بريشة الخيال ما هي من مدن هذا الزمان ولا من مدن الماضي. ليس في نيتي أن أكلمكم لا عن نينوى أو بابل ولا عن نويرك أو باريس؛ فإن باريس من أمهات المدن العظيمات، ولكنها لا تستحق - في نظري - صيغة التفضيل؛ لأن هناك مدينة أعظم منها مجدا وأسمى منها شأنا وأبعد منها جمالا وأرقى منها فضلا وعلما.
ومن يتجاسر أن يتكهن في هذه الأيام، من يدري ما في المستقبل لشعوب آسيا الصغرى، فقد تزهو والمدينة العظمى فوق أطلال بابل، قد يشيدها الزمان على ضريح نينوى، قد ترتفع صروحها وأعلامها وأبراجها وقبابها تحت هذه السماء الجميلة على هذه الشطوط التاريخية المقدسة أمام هذه الأمواج التي شاهدت جنازة مجد آسيا وستشاهد - إن شاء الله - موكب بعثه.
Неизвестная страница