وأما الكهان يا سادتي فهم أول من عاثوا في الأرض فسادا، هم أول من قيدوا الأنفس البشرية واستعبدوها ، هم أول من تاجروا بالخداع والتغرير، هم أول من استولوا على الأمراء والملوك وأيدوا سلطانهم بأنباء من السماء مكذوبة. والكهان اليوم أو رؤساء الأديان كلها هم أعداء الحرية الروحية الأدبية، ولا يغرنكم ما بدا منهم من الارتياح إلى هذه الحرية التي منحنا إياها الدستور، فإن العنان لم يزل في أيديهم والأرواح لم تزل في ربقتهم. الكهان هم أعداء الآداب الراقية، أعداء اشتياقات الأنفس السامية إلى الكمالات الفكرية. على الكهان وآلهة الكهان امتشق نبي العرب حسامه في الكعبة، وصب أشعيا نار غضبه في أورشليم.
على الكهان ومذابحهم وتزاويقهم وأصنامهم ورجاساتهم انقضت صواعق حزقيال في إسرائيل وزمزمت رعود دانيال في بابل، على تغريرات رجال الدين وخزعبلات العبادات قام عبد الوهاب في نجد ولوثيروس في وتنبورغ وجون نكس في إنكلترا وغيرهم في البلاد كثيرون. فما علينا لو استغنينا عن المتكهنين المدلسين وتفلتنا من ربقتهم واعتصمنا بالله وبدين الله وبأنبياء الله. تدبروا كلامي ولا تسيئوا افتهامي، إني أحترم العاطفة الطينية التي تكاد تكون فطرية في الإنسان، ولكني لا أجد في خزعبلات هؤلاء الناس وفي تنطعهم - وقد قيل: هلك المتنطعون - ما يساوي ذرة من نفس امرئ راقية.
ولكن إذا لبس الكاهن أو الإمام لغايته ثوبا من التغرير والخداع ولبس المتعبدون ثوبا من الجهل والخرافة؛ فذلك لأن الإنسان لا يسير في الأرض عريانا ينبغي له أن يستر سوءته ولو بسوءة أسوأ منها.
وقد قال أحد المسلمين: إن من آفات الدين فسق المتكلمين وجهل المتعبدين. أيها السادة، المرء يحتاج دائما إلى من يذكره بأنه من أبناء اليوم لا من بقايا الأمس، يحتاج دائما إلى من يريه الربقة والقيود على روحه، يحتاج دائما إلى من يهمس في أذنه أو يصرخ في وجهه: إنك إنسان حر، لا آلة في يد هذا أو ذاك يتصرف بها ساعة يشاء كيف شاء، فيا أيها الشرقيون! إن تحت خريف نفسكم الدائم ربيعا جميلا إذا كنتم تعقلون، إن تحت رهوكم موجات عظيمات لو ناهضتم العاصفة ولو مرة في الحياة، فإن مثل هذه النهضات الروحية ، مثل هذه الثورات الأدبية - وإن كانت عاقبتها اليوم غير مرضية - فهي غدا للنفس منعشة محيية، مثل هذه النهضات تعود المرء الفكرة وتروض منه الإرادة وتكسبه المنعة والاستقلال.
إن للماضي أثرا قويا في العروق، إن فتور الترقي وخموله لفي الدم، فإن كان لا يمرن نفسه وإرادته على ما يحرك الدم - دم الجسد ودم الروح معا - يظل ما دام حيا كطل من أطلال الزمان ولا ينهض الشرقيين من هذا الغور المظلم سوى الثورة الأدبية التي يتبعها انقلاب عظيم في الأخلاق.
فها إننا صرنا أمة حرة ذات حكومة دستورية، ولكن ذلك لا ينافي ما في العائلة وما في الطائفة وما في المدرسة من الجور والحيف والاستبداد، من العماوة والجهل والفساد، ذلك لا ينافي ما في اصطلاحاتنا الاجتماعية - وأكثرها من فضول هذا التمدن الإفرنجي - من الضيم والشقاء ما لا يماثله ظلم أظلم حكومة مطلقة.
ألا ترون أن التاجر لم يزل محني الظهر تحت أمواله وصكوكه، وأن الصانع لم يزل أسير هذا العبد سيده، والتلميذ في المدرسة أسير جهل أستاذه، والأستاذ أسير استبداد رئيسه، ألا ترون أن المصلح السياسي مرهونة حريته لخطة حزبه، والكاتب حريته عند قرائه أو في قبضة رزقه، والصحافي حريته في جلده واستقلاله في كيسه - لا تؤاخذوني فقد وعدتكم في البداية بأن أسمي المعول معولا والعقاب عقابا - ألا ترون أن المرأة في البيت مقيدة بإرادة زوجها عادلة كانت أو جائرة، وأن الأب لم يزل يعتقد أن أصول التربية في تأييد سلطته، وأن المأمور في الحكومة يتألم من ضغط ذاك الجا لس فوق رأسه، والجندي من استئثار ضباطه، والكاهن من ظلم أسقفه، والأسقف من استبداد بطريقه، والراهب يحترق في نذره ويئن من عنف رئيسه، والفلاح يتأوه من جور أميره، بل يصرخ في بعض الأماكن تحت سوطه، شولم صحافة؟ صرنا شعبا حرا، شولم دستور؟ صرنا أمة راقية.
إي إخواني! اسمعوا التقية تهمس في أذن هذا الشيخ: حافظ على مركزك. اسمعوا الخوف يقول لذاك الصحافي: حافظ على مصلحتك. اسمعوا الذلة ترشد أخينا الفلاح قائلة: اتق بطش سيدك. اسمعوا الجبانة تهمس في قلب الراهب: اتق الفضيحة وحافظ على ثوبك. فالتقية والخوف والذلة والجبانة هي أعداء الإنسان الحقيقية، وإن لم يحرر نفسه منها بنفسه فمائة قانون ومائة دستور لا تحرره. واعلموا أن الإرادة المستولية على أرواحنا لا يخلصنا من ظلمها إلا إرادة أشد وأقوى منها.
لذلك أدعوكم إلى ثورة أدبية، أناشدكم بالحرية التي بعثت من غور ماضينا حياة جديدة؛ ألا تدعوا الخوف والتقية والذلة والجبن تستولي عليكم متى شعرتم بيد تضغط جورا على أنفسكم، متى رأيتم حريتكم الأدبية مقيدة أمامكم، ارفعوا أعلام الآداب في البلاد شيدوا صروح التهذيب أسسوا معاهد للفنون، فإن الآداب والتهذيب والفنون هي القوى الأدبية الروحية التي يتآلف فيها العلم والدين ويقرن فيها بين بديهيات الأنبياء ومعقولات العلماء وتمتزج فيها روح الحقيقة وروح الجمال، وتنبثق منها أشعة السلم والحرب والإخاء.
أجل هي القوى التي يتوقف عليها تحرير الإنسان وتحرير الشعوب والأمم، لنعزز الآداب إذا والفنون، لنؤيد بالقول والعمل التعاليم السامية، لننصر الآراء الحرة السديدة، ومتى رأينا أن الحزب الذي ننتمي إليه أو الطائفة التي نحن منها والجريدة التي نكتب فيها تحاول تقييد أفكارنا أو الضغط على عقولنا أو المتاجرة بأرواحنا؛ فعلينا أن نخرج منها سريعا، وننفض عن نعلنا غبارها. إن شرف المرء في حرية عقله ونفسه، وشرف الأحزاب في حرية رجالها، وشرف الطوائف في حرية أبنائها.
Неизвестная страница