أرأيت عدلا أحلى من هذا العدل، وانتقاما ألذ من هذا الانتقام؟ (2)
هذا ما كان من أمر الانتقام من بعض الناس، أما ما كان من الانتقام من بعض الأشياء فإليك الحديث: أنت - ولا ريب - تعلم أن القاهرة هي أجمل المدن المصرية، بل من أجمل مدن العالم كافة، ولعلي لم أحسن التعبير عن الواقع تماما، فأي جو غير جو القاهرة خانق يفر منه، وينبغي لبس القناعات الواقية فيه على الأقل؟
وإذا كنت في شك من هذا الكلام، فارجع إلى شأن تسعة وتسعين في المائة، أو تسعمائة وتسعين في الألف من موظفي الحكومة في الأقاليم نجدهم يصلون الليل بالنهار جادين جاهدين في التماس النقل إلى القاهرة، فمن لم يسع له أبوه عند كبار الحكام سعت له أمه عند نسائها، وهذه أم فلان تبكي حتى تستعبر بين يدي زوج الحاكم أو بنته أو أخته، فيرد عليها غربة ولدها المسكين الذي لا طاقة له بالغربة، فلم يألفها في حياته ولم يعرفها.
ولا تجد أحدا منا - نحن الموظفين - يعدم الحجة على طلب النقل إلى القاهرة، فمن ليس له أولاد في المدارس، فإن له - بحمد الله - أبا في «الاسبتالية»، ومن ليس له أم ضربها الفالج فإن له إخوة تربى على العشرة ... وهكذا!
وأما النقل من القاهرة فمصيبة دونها عندنا - نحن الموظفين - جدع الأنف وفقء العين، وصلم الأذن، وقطع اليد اليمنى التي نأكل بها ونشرب ونكتب، ونتناول بها أهم الأسباب، ونبسطهم لمصافحة الأهل والصحاب! ...
وصدقني إذا قلت لك: إن هذه الغربة تبتدئ عندنا نحن معشر المصريين من قليوب إلى الإسكندرية شمالا، ومن الجيزة إلى الدر جنوبا، كلها غربة تستدعي الحسرة، وتثير الزفرة، وتبعث العبرة، بل لا أكتمك إذا قلت لك: إن بعض من نقلوا من الأرياف إلى شبرا مثلا استأنفوا السعي لينقلوا إلى دائرة قسم عابدين ...
أصدقتني الآن في أن كل جو غير جو القاهرة، بل سرة القاهرة، خانق وجدير بالفرار، أو لبس القناعات الواقية على الأقل كما ذكرت؟
والآن، أين الريف الريف يا عالم؟ ومن لنا به؟ وكيف السبيل وا حسرتاه إليه؟
الريف البديع هواؤه، العذب ماؤه، الجميل رواؤه، من لنا به؟ من لنا به؟
أعوذ بالله! لا أنكر وجه القاهرة، وما أخبث مناخها، وأوخم هواءها، كيف كانت حكمة الله الباهرة، وكيف انتقم للريف المسكين من هذه القاهرة؟
Неизвестная страница