إذن فمن الانتقام ما يلذ ويطرب، كما أن من الانتقام ما يروع ويهول!
ولقد تقدمت إرادة الله في هذه الأهوال العالمية المهولة بانتقامين بديعين لذيذين، لا أخفيك أن نفسي قد أصابت منهما قسطا كبيرا من الراحة والمتاع.
أما أول هذين الانتقامين البديعين فمن بغض الناس، وأما ثانيهما فمن بعض الأشياء وإليك البيان: (1)
لقد جرت عادة الكثير من الموسرين وأنصاف الموسرين من سكان القاهرة وغير القاهرة أن يقضوا أشهر الصيف في رمل الإسكندرية، كما جرت عادة أصحاب الدور في هذا الرمل ومن في حكمهم من مستأجري دورهم للمدد الطويلة أن يشطوا في الأجور، ويبالغوا فيها مبالغة لم يكن يعبأ بها المصيفون بجانب استراحتهم إلى المصيف، واستمتاعهم وأولادهم بماء البحر وتنسم الهواء العليل، بعدما عانوا في عامهم، كبيرهم من كد السعي والعمل، وصغيرهم من كد الدرس والاستذكار، فلا بأس مع هذا بأن ينفق المرء في كراء البيت ضعفي ما يستحقه، ولا بأس بأن يشتري الخبز، واللحم، والسمك واللبن، والفاكهة، والجبن، والبصل ... إلخ، بأكثر مما يعلم أن جاره الإسكندري يشتري به بحجة أنه غريب «مصيف» ينبغي أن يستغله التجار والباعة بعض الاستغلال!
بل لا بأس على ساكن القاهرة مثلا إذا قال للفاكهاني الإسكندري بكم الوقة من هذا التفاح، وأرجوك أن تقرأها بكسر الواو، وبإبدال القاف بالهمزة - على نطق أهل القاهرة - لا بأس على ساكن القاهرة إذا وجه إلى الفاكهاني في هذا السؤال، فكان جوابه: «بعشرة جروش». ثم يهبط إسكندري فيسأله: «بكم الوجه»؟ فيكون الجواب: «باربعتاشر جرش» «يعني تعريفه»، يعني سبعة قروش صاغ لا أكثر!
لا بأس بهذا كله، فهو استغلال رقيق محتمل على كل حال!
أما الذي به كل الناس، والذي استحق من الله كل هذا الانتقام البديع اللذيذ، فهو أن ملاك الدور في الرمل ما كادوا يطمئنون إلى أن أحدا من المصريين لا يستطيع قضاء الصيف هذا العام في أوروبا، حتى أعلنوا تأرجهم في الأجر واشتطاطهم في الكراء إلى الحد المرهق المضني، فمن لم يطلب في كراء داره أربعة أضعاف ما كان يقتضيه في الأعوام السابقة، اقتضى ثلاثة أضعاف، أشدهم قناعة وزهدا فمن يرضى بالضعفين والنصف!
سكان القاهرة وغيرهم مضطرون هذا العام إلى اتخاذ المصايف المصرية؛ لأنهم لا يستطيعون تخطيها إلى البلاد الأجنبية، ويا لها من فرصة عظيمة تؤتي الغنى، وتجلب الوقت الوفر العاجل! أليس لنا البحر وشواطئه البديعة؟ أليس الله قد ورثنا نسيمه العليل؟ فما لنا نبذله في غير شيء لهؤلاء الفارين من حر القاهرة وغير القاهرة، وطالبي الاستجمام في هذا الجو المريح بعد العناء والكد في العام الأطول؟ ما لنا لا نقتضيهم عن روحه الموجة وهبة النسمة، ولو عصرناهم عصرا وبعناهم النظرة إلى الأفق شبرا فشبرا؟
هكذا شاءوا وعلى هذا جمعوا النيات والعزائم، وهكذا نسوا دورة الفلك الدوار، ونسوا أنهم يقدرون فتضحك الأقدار!
ولقد علمت أن المصريين جميعا وأعني مياسيرهم ومتوسطي الحال منهم، قد أمسكوا عن الشخوص إلى الإسكندرية هذا العام، نزولا على أمر الحالة الحاضرة ودور الرمل المهيأة للتأجير خزيانة تنظر! بل لقد علمت بعد هذا أن كثرة مالكيها ممن تضطرهم هذه الحالة الحاضرة إلى الهجرة إلى الريف، حيث يؤدون هم أجور السكن كارهين مرغمين!
Неизвестная страница