عندما أصدرنا الميثاق الوطني سنة 1962م، قرأت في الفصل الأول منه تفنيدا للرأي الشائع، والذي يؤمن بصوابه كاتب هذه السطور، حتى هذه الساعة، وهو أن نهضة مصر الحديثة بدأت يوم أن اتصلت بأوروبا عن طريق الحملة الفرنسية بقيادة نابليون «1798م»، وقيل في تفنيد هذا الرأي، إن الأزهر الشريف كان قبل ذلك - خلال القرن الثامن عشر - يعج بالعلماء، ولم تكن مصر بحاجة لنهضتها إلى انتظار فرنسا وحملتها، ومن صحبوها من علماء. وأذكر أني إذ قرأت ذلك في الميثاق عند صدوره، صممت على ألا أترك نفسي نهبا لأحكام قد تكون قائمة على أساس علمي صحيح، وقد لا تكون، فبحثت عما أقرؤه من مراجع لأكون على بينة من أمري، فما الذي كان قائما في الأزهر من علم في تلك المرحلة من تاريخنا - على سبيل اليقين، لا جريا مع الإشاعة؟ فرجعت إلى مجلد موسوعي يحصي كل المشتغلين بالعلم، ولمعت أسماؤهم في البلاد الإسلامية جميعا، وهو كتاب «سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر»، أي القرن الثامن عشر بالتاريخ الميلادي، وأخذت نفسي باستخلاص ما ورد فيه عن علماء مصر إذ ذاك، وفيم كان علمهم، وماذا خلفوا وراءهم من مؤلفات؟ فوجدت ما توقعت أن أجده، وأعني الدوران فيما هو موروث، فإما أن يتركوه كما هو بعد أن يهمشوه بشروح، وإما أن يعيدوا محتواه ملخصا ليسهل على الدارسين. وكثيرا ما وقعت على علماء وكل ما نسب إلى الواحد منهم من فضل، هو أنه قرأ الكتاب الفلاني كذا مرة، أو أنه قرأ كتاب كذا على شيخه فلان، أو أنه حفظ كذا وكذا من الكتب القديمة عن ظهر قلب. وليس في ذلك كله ما يعاب عليهم، فذلك هو ما بين أيديهم من علم، فماذا يصنعون كسبا للعلم أكثر من أن يحصلوه ويجمعوه ويشرحوه ويحفظوه؟
وفجأة هبطت عليهم ثقافة أخرى وعلم آخر، فإذا كان علمهم قراءة ما قد ورثوه من كتب، فها هي ذي وقفة أخرى جاءتهم عبر البحر، تجعل العلم قراءة لظواهر الطبيعة. وبدل أن تكون موضوعات العلم مقصورة على اللغة وقواعد نحوها واشتقاقها، وأحكام الشريعة في كذا وكيت، طلعت عليهم علوم أخرى تنظر في قوانين الكهرباء والضوء والمغناطيس وما إلى ذلك من أمور. ولقد روى لنا الجبرتي كيف تعمد علماء الحملة الفرنسية أن يبهروا علماء الأزهر بما جاءوا به مما ليس عندهم، فكانوا يدعون المشايخ جماعة جماعة، ليطلعوهم على فعل الكهرباء وغيرها، وكأنهم سحرة يعرضون ألعابهم السحرية التي تثير العجب في الناظرين، حتى لقد بلغ الغيظ بأحد الشيوخ العلماء ذات مرة، عندما أحس أن هؤلاء العلماء الإفرنج إنما أرادوا من علماء المسلمين خلع قلوبهم، فقال لهم الشيخ: هل يستطيع علمكم أن يجعل الإنسان قادرا على الانتقال إلى بلاد المغرب خطوة واحدة؟ فكان الجواب بالنفي، فقال الشيخ: لكن علمنا نحن يستطيع فعل ذلك.
والسؤال الذي يهمنا نحن الآن فيما نعرض له من حديث هو: هل كان يمكن لهذين الضربين من العلم أن يتفاعلا بالمعنى الصحيح للتفاعل؟ إن شواهد التاريخ الفكري تدلنا على أن الثقافة الوافدة لا تتفاعل مع الثقافة الموفدة إليها، إلا إذا كان في هذه عناصر مشابهة من بعض الوجوه لتلك، وعندئذ يجوز للثقافتين أن تتفاعلا فيخرجا نتيجة جديدة. بعبارة أخرى يصبح في مستطاع الثقافة التي تستقبل تلك الوافدة، أن تصبها في قالبها لتخلع عليها طابعها التقليدي في مجال الفكر والقصيدة، وكان ذلك هو الشأن في كل فروع العقائد والمذاهب العقلية أو الفنية. حتى الديانات نفسها، فقد ذهب الإسلام إلى إيران وجاء إلى مصر، فبينما جعلته إيران إسلاما شيعيا استقر في مصر إسلاما سنيا. وليست هذه مصادفات، وأن العكس كان يمكن أن يكون، بل كان لا بد لمن كانت ديانتهم قبل الإسلام ملتفة بالألغاز والإيحاء، والرمز أن يكسوا العقيدة الجديدة بما يشبه هذا الذي ألفوه، كما كان لا بد لمن كانت ديانتهم قبل الإسلام متميزة بالاعتدال وإقامة البنيان على قواعد واضحة، أن ينظروا إلى الدين الجديد مثل هذه النظرة.
وشبيه بذلك ما حدث للمسيحية في أوروبا، فهي كاثوليكية في الجنوب، حتى إذا ما انتقلت إلى الشمال الذي كان يغلب على أهله أن يكون الأفراد أحرارا من القيود على أن تقع على كل فرد تبعة الإرادة الحرة فيما تختار، جاء اليوم الذي يظهر لهم فيه من فقهاء الدين من يستخلصون تأويلا للمسيحية يكفل لهم ما يساير طبائعهم، فنشأت البروتستانتينية، ثم عبرت المسيحية إلى أمريكا مع المهاجرين إليها، فأضافت إلى نفسها جانبا عمليا في خدمة الناس، يتناسب مع الروح العملية التي سادت جوانب الحياة كلها هناك.
هكذا يكون التفاعل بين الوافد وما يحيط به من ظروف في البلد المستقبل. وإن ذلك ليظهر جليا في الفنون، فانظر - مثلا - إلى المساجد بمآذنها وقبابها في مختلف الأقطار الإسلامية، تجد الفروق واضحة في فن العمارة، ولا يصعب عليك من نظرة واحدة إلى القباب والمآذن، أن تقول هذه مصر، وتلك تركيا، والثالثة الأندلس، أو المغرب، أو إيران وباكستان، فكل قد صاغ عمارته وفق ما أملته عليه مقومات ذوقه واتجاهه وتاريخه الثقافي.
ونعود إلى سؤالنا الهام: هل كان يمكن للعمل الأوروبي الحديث عندما وفد إلى مصر لأول مرة مع الحملة الفرنسية، أن يتفاعل مع العلم كما كانت صورته هناك؟ ولماذا نلجأ في إجابتنا عن هذا السؤال إلى التخمين؟ لماذا لا نتعقب ما قد حدث بالفعل؟ والذي حدث - بصفة عامة - هو أن الدارسين للعلوم الحديثة بعد ذلك، نقلوا معهم طريقة «الحفظ» والوقوف بجهودهم عند حد الشرح والتعليق والاختصار. بعبارة ثانية: إن كل ما حدث في عملية التفاعل بين الثقافتين - عند من كان حظهم دراسة العلوم الحديثة - هو أنهم استبدلوا موضوعا بموضوع، وأما الطريقة فلم تتغير عما كانت عليه في القرن الثامن عشر، وتلك هي كارثة الكوارث في حياتنا العلمية إلى اليوم ، فلبثت شجرة العلم كما غرست أول ما غرست في أرضنا، لا تنمو.
قال صديقي عالم الزراعة الذي ظل يستمع إلى حديثي: أيكون معنى قولك هذا أن لا أمل في إصلاح؛ إذ كيف يكون أمل إذا كان الأمر مرتبطا بتاريخنا وتقاليدنا كما زعمت؟
فأجبته بأن أمل التغيير مفتوح الأبواب على مصاريعها، إذا حسنت النوايا، واشتدت العزائم، فهل نسيت ما قلته لي عند حديثنا عن الشجرة التي جمدت فلا تنمو؟ ألم تقل لي إن حالها لينقلب إذا ما ضربنا بنصل المحراث إلى طبقة أرضية عميقة يكون فيها صلاحية التربة وخصبها؟ هذا إن وجدت تلك الطبقة. وتاريخ مصر وتقاليدها ليست كلها منحصرة في القرون الظلام الثلاثة التي امتدت من السادس عشر إلى التاسع عشر، والتي عقمت خلالها إلا من المحاكاة والحفظ والتعليق والشرح، فمصر - خلال تاريخها الإسلامي وحده - عاشت على الأقل خمسة قرون غزيرة الإنتاج من العاشر الميلادي إلى الخامس عشر أثبتت فيها ذاتها الخلاقة في كل فروع العلم المعروف إذ ذاك، فعلماء الأزهر في محاولاتهم لصون التراث الإسلامي، لم يكونوا آلات صماء، يحاكون ويحفظون عن ظهر قلب، بل وأنشئوا معاجم اللغة الكبرى التي حفظت مفرداتها في تعقب حي للحياة المتطورة التي تسلسلت فيها سيرة كل مفردة منها، وأنشئوا من كتب النحو ما قيل عنه بعد ذلك إنه من أعظم ما شهدته العربية في تاريخها، وكتبوا التاريخ كتابة جعلته أقرب إلى العلم المنهجي، لا مجرد حكايات تروى، إلى آخر ما أبدعوه في شتى ميادين الفكر والأدب ومختلف العلوم.
تلك هي الطبقة العميقة الخصبة التي يمكن أن يصل إليها نصل المحراث، ودع عنك ما قد سبق بكل ما احتوى عليه من عظمة ومجد، فلماذا نترك وقفاتنا تلك، التي كانت لتصلح كل الصلاحية للتفاعل المنتج مع العلم الحديث، ونقنع بإطار نأخذه من فترة العقم والظلام؟ ولست أعني بذلك - طبعا - أن يحدث التفاعل المطلوب بين مادة العلم الحديث ومادة العلوم التي شغل بها علماء مصر في الحقبة التاريخية التي أشرنا إليها، بل الذي أعنيه هو أن يحيى في نفوس الدارسين «علمية المنهج»، فهذا وحده يكفل لدارسينا أن يتلقوا علوم العصر بروح أخرى، غير الروح التي لا تعرف فيما تتلقاه إلا الحفظ والتسميع.
بقعة زيت على محيط هادئ
Неизвестная страница