فنحن، بعد أن قضينا مائة وثمانين عاما، منذ انفتحت أبوابنا على أوروبا. فبدأت بذلك الانفتاح نهضتنا الحديثة، لو أننا استثنينا قلة قليلة مما أنتجناه خلال تلك الفترة، لوجدنا إنتاجنا أشبه شيء ببيوت النمل، فهو إنتاج يمكن أن يلخص في هذه الصيغة: قال أسلافنا كذا، وقال الغرب عن أسلافه ومعاصريه كيت، فلا نزال ، حتى في الموسيقى والشعر، اللذين لا يكونان شيئا إذا لم ينبثقا من صميم الموسيقار والشاعر. وأقول إننا حتى في هذا الميدان لا نزال بين رجلين: أحدهما يقول: هكذا يكون الفن كما عرفه أسلافنا، والآخر يقول: بل هكذا يكون الفن كما عرفه الغرب. ولا أقول شيئا عن موقفنا في ميادين الفكر والعلم والنظم على اختلافها، فواضح أننا في ذلك كله ننحصر في إطار الصيغة التي أشرت إليها، وهي أن صوتا ينادي بما أخذ به السلف، فيرد عليه صوت آخر: بم يسود الغرب؟ ولم تتبلور لنا بعد وجهة. •••
إنه لا بأس في أن نصغي بآذان مرهفة لما قاله أسلافنا، وما قاله الغرب من أسلافه إلى معاصريه، بل هو أمر ضروري محتوم لمن أرادوا لنهضتم أن تعتدل على ساقين، ولكن البأس كل البأس هو في أن نقف من ذينك المصدرين موقف النمل في الجمع والتخزين وكفى، إذ يبقى بعد ذلك دور النحل في التمثل والتحويل، ليتاح لنا أن نقول:
هذا كتابنا بيميننا، وعلى أساسه يكون الحساب، ولقد تحقق لنا هذا بالفعل في كثير من الإبداع الأدبي، وفي قليل من الفن، ولكنه لم يتحقق في الفكر بشتى جوانبه، لا كثيرا ولا قليلا، اللهم إلا قطرات لا تطفئ ظمأ العصفور.
ما لهذه الشجرة لا تنمو؟!
أصدقائي من علماء الزراعة كثيرون، أزداد من علمهم علما كلما دارت بينهم وبيني أحاديث. وفي آخر لقاء بيننا، حدث لي أن تمتمت لنفسي قائلا - على إثر سرحة خاطفة جريت فيها مع خواطري: «ما لهذه الشجرة لا تنمو؟» فسألني محدثي: ما هذا الذي تقوله؟ فأعدت عليه عبارتي بصوت مسموع، فسأل: وأي شجرة تعني؟ فقلت: إنها شجرة في حديقتنا لا تنمو، رويناها بالماء آنا وبالدماء آنا، ولو كانت شجرة كسائر الشجرات في حديقتنا، لهان خطبها، ولكنها عندنا بمثابة الشجرة الأم، غرسناها منذ قرن ونصف قرن، ثم أخذنا من بذورها لنزرع في الحديقة أشباها لها، ولم يكن في حسابنا أنها لعلة فيها لن تنمو إلا لبضعة أقدام، فجاءت سائر الشجرات مثيلات لها.
قاطعني محدثي قائلا: ما هذا الكلام العجيب الذي أسمعه؟ إنني ما عرفت لكم حديقة ولا أشجارا، فأجبته ضاحكا: إنما أردت شجرة العلم في بلادنا يا صديقي، فعلاقة القربى وثيقة بين الأشجار والأفكار، كلتاهما تبذر لها البذور فتنمو وتتفرع وتورق وتثمر، فشجرة طيبة ككلمة طيبة، والكلمة فكرة، وشجرة خبيثة ككلمة خبيثة، فقل لي: لماذا لا تنمو شجرة في علم النبات؟ أقل لك لماذا لم تنم شجرة العلم في حياتنا؟
قال صديقي: أما في علم النبات فالشجرة يصيبها مثل هذا الشلل، إما لأنها غرست في غير تربة صالحة، وإما لأنها أحيطت بمناخ غير صالح، وفي الحالة الأولى قد تصلح حالها لو حرثت الأرض حرثا عميقا يصل بجذورها إلى طبقة أرضية خصبة، وفي الحالة الثانية قد تزول عنها عوائق النمو إذا استطعنا أن نزيل عن المناخ عوامل الفساد. هذا هو ما عندي عن نبات الشجر، فهات أنت ما عندك عن شجرة العلم في بلادنا.
قلت: سأقص عليك قصتي مع تلك الشجرة: بدأت القصة معي سؤالا يحيرني كما يحير غيري، هو: لماذا وقد بدأنا النهضة الحديثة منذ مائة وثمانين عاما، نلحظ في حياتنا الفكرية بصفة عامة - والجانب العلمي منها بصفة خاصة - أنها وإن تكن تتطور وتتسع بوثبات ملحوظة، فذلك لا يتجاوز مجال «الكم»، وأما «الكيف» فباق على حاله، لم يتغير عما كانت عليه الحال في القرن الثامن عشر، أعني الحالة التي كنا عليها عندما طرقت أوروبا أبوابنا ودخلت ربوعنا. مهلا، أرجوك ألا تفزع لقولي هذا، على ظن منك - فيما أرى من ملامح وجهك - أنني قد بالغت وأسرفت في المبالغة، فسأبين لك ما قصدت إليه.
أما التطور الكمي فذلك ما لا يستطيع أحد أن ينكره، وماذا ينكر إذا كنا قد انتقلنا في عدد المتعلمين على المستوى الأعلى، من مئات أو آلاف إلى ملايين؟ وإذا كنا قد ارتفعنا في عدد المدارس على مستوى التعليم العام هذا العدد الضخم الذي أوشك أن ينال جميع أبنائنا وهم في سن التعلم، وإذا كان قد أصبح لدينا من الجامعات عشرات، ثم أضفنا إلى هذا كله أكاديمية للبحث العلمي، ومراكز قومية للبحوث في شتى فروع العلم؟ إنك إذا سرت في هذا الخط - خط الأعداد - فسوف تجد ما يشرفنا بأي مقياس نختاره للحكم، وكان من نتيجة ذلك أن بات منا مئات الألوف من الأطباء والمهندسين ودارسي العلوم بكل فروعها، وبينهم عشرات الآلاف من حملة الدكتوراه والماجستير في ميادين تخصصاتهم. لا ليس لأحد ما يشكو منه في حياتنا العلمية إذا كان الأمر أمر أعداد، لكن تجول بنظرك إلى «الكيف» تجد أمام عينيك ما أعنيه حين أقول إنه قد تحجر عند حالته التي كانت إبان القرن الثامن عشر، وتسألني: وماذا تقصد بكلمة «كيف» هنا؟ وأجيبك بأنني أقصد إلى ما هو أبعد جدا مما يقصد إليه من يتحدثون في أيامنا هذه عن تدهور التعليم من حيث الكيف، بمعنى ضعف التحصيل، وقلة الاهتمام وضيق الأفق، على أن هذا كله صحيح، ولكنه ليس ما أردته، فما أردته أبشع من ذلك وأشد هولا؛ لأن تلك العلل التي ذكرناها يمكن معالجتها إذا أخذنا أمورنا بعزيمة أمضى. وأما الجانب المتحجر الذي أعنيه، فالله أعلم بأي الوسائل يزول، فهو هو الجانب الذي أوقف شجرة الحياة العلمية في بلادنا، ولم يأذن لها بأن تنمو، فها نحن أولاء نرويها كما نرويها، ولكنها لا تنمو، ونسمد لها الأرض بأطيب السماد، ولكنها لا تنمو، وإنما أردت بذلك الجانب الكيفي المتحجر، الذي يكرث حياتنا العلمية بكارثة ليس لها إلا الله لتنزاح، إننا مهما حصلنا من العلوم، فنحن «حفاظ» علم، لا علماء، نحفظ علوما أنتجها غيرنا، ولا نبلغ أن نكون علماء نضيف مع هؤلاء الآخرين جديدا يبيح لرجالنا أن يسيروا معهم كتفا إلى كتف في موكب واحد، إلا أن فداحة الخطب لتحتاج منا إلى روية في التفكير وأناة في التحليل، لعلنا نرد النتائج إلى أسبابها، فينفتح أمامنا طريق العلاج.
لنعد معا بخيالنا إلى مصر القرن الثامن عشر، لنرى - عندما فتحت علينا أوروبا أبوابنا، ودخلت بثقافتها العلمية الجديدة - كيف التقت ثقافتان بينهما من الاختلاف ما بين الأبيض والأسود من تضاد؟ فهل تفاعلتا لتخرج لنا من ذلك التفاعل صيغة ثالثة اجتمع فيها العنصران معا؟ أو أن مثل ذلك التفاعل قد استعصى، فسارت كل منهما في طريقها؟ وإذا كان أمرهما كذلك من استقلال الواحدة عن الأخرى، فكيف انقسم شعبنا بين ذينك الضدين؟ لكننا قبل أن نحاول الجواب عن أسئلة كهذه، يجمل بنا أن نقدم وصفا موجزا لكل من الثقافتين.
Неизвестная страница