فلو أدركنا هذه البنية الرياضية في مثل هذا المجال؛ لانتفى الخلاف بين مجموعتين إحداهما تتبع كتابا والأخرى تتبع كتابا آخر، والشيء نفسه يقال عن شريحة ثقافية أخرى تنصب كذلك في القالب الرياضي وهي شريحة الفكر السياسي؛ لأن كل مذهب من مذاهب السياسة يتخذ لنفسه بادئ الأمر «مبدأ» معينا - وانظر إلى كلمة «مبدأ» ومعناها إذ يعني: النقطة التي يبدأ منها التفكير، ومن المبدأ نستخرج النتائج والأحكام ووجهات النظر، فإذا كانت نقطة البدء عند جماعة هي الديمقراطية الليبرالية، وكانت نقطة البدء عند جماعة أخرى هي الديمقراطية الاشتراكية، كانت كل جماعة منهما ملتزمة لمبدئها عند قبول الأفكار ورفضها، وبالتالي فإن ما هو واجب التنفيذ عند إحداهما لا يكون ملزما للجماعة الأخرى، ونستطيع أن نسوق أمثلة كثيرة من حياتنا الثقافية لضروب من اختلاف الرأي القائم أساسا على اختلاف في الفروض، فلا يجوز في هذه الحالة أن يتهم أنصار فكرة بعينها أنصار فكرة أخرى بالضلال إذا كان كل من الجماعتين مستندا إلى «مبادئ» غير المبادئ التي تستند إليها الجماعة الأخرى.
النقطة الثالثة التي نذكرها جوابا عن سؤال السائل: وما أهمية التفرقة بين بنية الفكر الرياضي وبنية الفكر الطبيعي في حياتنا الثقافية العامة؟! هي أن نكون على وعي تام بأن كل من يسوق لنا كلاما زاعما أنه بكلامه ذاك إنما يصف جانبا من الوجود الخارجي الواقع، عليه أن يقبل إخضاع ما يقوله لمقياس التجربة الحسية عند الآخرين من بصر وسمع ولمس وغيرها، أما أن يزعم لأقواله بأنها وصف للواقع الفعلي، ويعجز عن بيان المطابقة الحسية بين ما يقوله وبين ما هو محسوس لنا، بل إنه أحيانا يثور غاضبا إذا طالبناه بالرجوع إلى تجربة حواسنا معيارا للصدق، فذلك ما نرفضه رفضا لا تردد فيه إذا كنا على إدراك واضح بما أسلفناه عن طبيعة الكلام المقبول في مجال العلم الطبيعي.
كان الفيلسوف البريطاني ديفد هيوم (في القرن الثامن عشر) قد أقام ميزانا منهجيا للتفكير العلمي ، ولخصه في عبارة مثيرة قال بها ما معناه: تناول الكتب الموجودة كتابا كتابا، واسأل عن كل كتاب منها: أهو من العلم الرياضي؟ لا، أهو من العلم الطبيعي؟ لا، إذن فألق به في النار ... ولقد أراد هيوم بقوله هذا أن أي كلام يريد به صاحبه صدق العلوم ودقتها لا بد له أن يكون إما خاضعا لمنهج الفكر الرياضي، وإما خاضعا لمنهج العلم الطبيعي، ولا ثالث لهذين البديلين، وإننا لنخطئ فهمه إذا ذهب بنا الظن إلى أنه يريد الكتب جميعا على إطلاقها؛ لأنه إذا كان ذلك كذلك فهو يرفض الكتب الدينية ودواوين الشعر والأدب القصصي والمسرحي بأكمله، ولا يرفض هذا كله إلا مجنون، وكان هيوم من أعقل العقلاء، فهو إذن لا يصرف عبارته المذكورة إلا على الكتب التي يدعي أصحابها أنها من «العلم» وهي ليست منه، ومرة أخرى ألفت الأنظار إلى أن ما نورده من مقاييس تضبط القول إنما يراد بها مجال التفكير العلمي دون سواه، وأما مجالات القول الأخرى فلكل منها مقاييسه الخاصة به.
4
كانت مادة «المنطق» - من سائر فروع الدراسة الفلسفية - هي نصيبي منذ ألحقت بقسم الفلسفة من كلية الآداب بجامعة القاهرة (جامعة فؤاد الأول في ذلك الحين) في خريف عام 1947م، لا لأن «المنطق» هو موضوع دراستي المتخصصة؛ إذ لو كان مجال التخصص أساسا للاختيار لكان نصيبي الفلسفة الحديثة والمعاصرة، بل إني كلفت بتدريس المنطق؛ لأنه المادة التي لا يقبل على درسها وتدريسها إلا الأقلون، وأغلب الظن أن السادة الزملاء أرادوا التخلص منها، فألقوها على عاتق ذلك الوافد الجديد.
لا بأس، فواقع الأمر في التيار الفلسفي المعاصر الذي اتخذ من «التحليل» مداره الأساسي، هو في حكم تيار جعل درع الفلسفة بأسرها تحليلات منطقية لموضوعاتها بدل أن كان التحليل المنطقي نفسه منظورا إليه على أنه فرع من الفلسفة، فما لبثت أن نظرت إلى المنطق الذي كلفت بتدريسه من زاوية التجريبية العلمية التي كانت شراراتها قد اشتعلت في رأسي منذ تلك اللحظة المشهورة التي قضيتها في المكتبة الرئيسية لجامعة لندن أدرس فلسفة «الوضعية المنطقية» على نحو ما أسلفت عنه الحديث؛ فالمنطق شأنه في ذلك شأن فروع الفلسفة جميعا، يتشكل بالاتجاه العام الذي يتجه إليه الفيلسوف ليس هو بالشيء الذي ينصب في صورة واحدة بعينها كائنة ما كانت مذاهب الفكر الفلسفي ، وعلى هذا تراه يجيء على يدي فيلسوف مثالي مختلفا عن الصورة التي يجيء بها على يدي فيلسوف تجريبي، وعلى سبيل المثال من العصر الحديث: لم يكن منطق هيجل متجانسا مع منطق جون ستيوارت مل (وكلاهما من رجال القرن التاسع عشر).
وكانت الفكرة قد تحددت وتبلورت في ذهني على مدى ثلاثة أعوام أو أربعة من تدريس المنطق من زاوية الفلسفة الوضعية الجديدة، فأصدرت الجزء الأول من كتابي «المنطق الوضعي» في أوائل سنة 1951م، وكان السر في صياغة عنوانه على هذه الصورة - كما هو واضح مما ذكرته الآن - أنه دراسة لموضوعات المنطق من وجهة النظر التي تأخذ بها «الوضعية المنطقية» (أو التجريبية العلمية): وكان مما قلته - في مقدمة الطبعة الأولى من ذلك الكتاب - هذه العبارة الدالة على اتجاهي: «أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئا، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية - يكثر أو يقل - بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه ... ولما كان المذهب الوضعي بصفة عامة والوضعي المنطقي بصفة خاصة هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرة للروح العلمي كما يفهمه العلماء الذين يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم؛ فقد أخذت به أخذ الواثق بصدق دعواه، وطفقت أنظر بمنظاره إلى شتى الدراسات، فأمحو منها - لنفسي - ما تقتضيني مبادئ المذهب أن أمحوه ... وإنما يحتاج الأمر إلى تحليل منطقي ... ولقد أعددت نفسي للقيام بشيء من هذا التحليل ... لكن الأمر يحتاج أولا إلى وضع قواعد المنطق الذي ينتهي بصاحبه إلى مثل هذه النظرة العلمية ...»
وأسوق هنا أمثلة قليلة من الأفكار الجديدة التي أوردتها بين الأسس المنطقية التي من شأنها أن تنتهي بالدارس إلى نظرة علمية لم يكن قد عني بغرسها أحد من قبل، وأقول ذلك ليحمل عني شيئا من الرد على زملاء جعلوا مهمتهم «العلمية» الأولى أن يسخروا من «المنطق الوضعي» وصاحبه سخرية لو كانت على دراسة لقبلناها شاكرين، لكنها سخرية الغيظ ينفثها العاجزون عن اللحاق بالركب.
ومن تلك الأفكار الجديدة تحديدنا لطبيعة الأسماء الكلية، والاسم الكلي هو ذلك الذي نطلقه على مجموعة أفراد متجانسة تندرج تحت نوع واحد، مثل شجرة، نهر، منزل، إنسان إلخ. وواضح أن الكثرة الغالبة من مفردات اللغة هي من قبيل هذه الأسماء الكلية، وإذا فهمت فهما جديدا كان لذلك أعمق الأثر على تطوير المنهج الفكري، ولقد كان السائد منذ المنطق الأرسطي - وهو نفسه السائد في العرف العام - أن أمثال هذه الأسماء التي نطلقها على «أنواع» إن هي إلا حدود بسيطة يلم السامع بمعناها كاملا فور سماعها، ما دامت اللفظة المستخدمة قد سبق لذلك السامع أن عرفها وعرف استعمالها فيما عرفه من مفردات اللغة، وكيف لا يعرف ما يقصد بقول القائل - مثلا: في الوادي «نهر» وعلى جانبيه «أشجار»؟
لكننا - وقد سلطنا أدوات التحليل الحديثة على تلك الأسماء الكلية - وجدنا كل اسم منها في حقيقة أمره إنما هو «تركيبة» مضمرة فيه، تشبه التركيبة الرياضية التي تحمل بين رموزها رمزا لمجهول، كقولنا مثلا: «س عدد فردي» فإذا سئلنا عن هذه العبارة: أصادقة هي أم كاذبة؟ أجبنا بأننا لا بد أن نعرف أولا إلى أي عدد يرمز الرمز «س»، فإذا كان يرمز للعدد 3 - مثلا - كانت العبارة صادقة، وإذا كان يرمز إلى العدد 4 (أو غيره من الأعداد الزوجية) كانت العبارة كاذبة، أما والتركيبة الرمزية على حالها، والرمز «س» المجهول الدلالة بين رموزها، فلا يمكن الحكم عليها بصدق أو بكذب، وبمعنى آخر فهي لم تكتمل فكرة من الناحية المنطقية؛ لأن «الفكرة» (أو ما يسمى في المنطق بالقضية) هي ما يمكن وصفه بالصدق أو بالكذب.
Неизвестная страница