الوضعية المنطقية أو التجريبية العلمية (فهاتان عبارتان مترادفتان) تصب اهتمامها كله - لا أقول «بعض» اهتمامها أو «معظم» اهتمامها - بل أقول: إنها تصب «كل» اهتمامها في مجال التفكير «العلمي»، وليس التفكير العلمي هو كل النشاط الذهني للإنسان، وإنما هو جزء، وقد لا يكون هو الجزء الأكبر من ذلك النشاط، فهنالك إلى جانب التفكير العلمي ضروب الوجدان بشتى صنوفها، ومن أهمها الجانب الديني من الإنسان والفن والشعر وسائر ألوان الإبداع الأدبي، ومنها الحياة العاطفية والانفعالية التي يحياها الإنسان كل يوم، ويعبر عنها قولا وسلوكا، لكنه هو التفكير «العلمي» وحده الذي يستوعب اهتمام الوضعية المنطقية، وهذه نقطة هامة؛ لأن الشروط التي يتطلبها التفكير العلمي قد لا تكون هي التي تتطلبها الحياة الوجدانية عندما تعبر عن نفسها بصورة من الصور الكثيرة التي ذكرنا بعضها، فإذا قلنا - بناء على منهج التجريبية العلمية: إن عبارة كهذه «الشعور الوطني قيمة أخلاقية عليا» هي «بغير معنى» فإنما يكون المراد أنها عبارة لا تندرج في نوع العبارات التي تخضع لمنهج التفكير العلمي، لكن ذلك لا يخرجها من مجال العبارات الوجدانية المحركة لمشاعر الإنسان، ونقول ذلك لأن الخلط بين النوعين من الكلام سريع الوقوع، وما أهون على القارئ المتسرع أن يتهم الكاتب بزيغ في إيمانه الديني أو بضعف في عاطفته، إذا وجده يخرج هذه الجوانب من مجال العبارات ذوات المعنى العلمي، ولقد عانيت من أمثال هذا القارئ المتسرع عناء الله وحده أعلم بمداه.
إذن فهو مجال التفكير العلمي وحده الذي نعنيه بكل ما سوف نذكره عن التجريبية العلمية ومقاييسها المنهجية التي على أساسها تقبل من أنواع الكلام ما تقبله وترفض ما ترفضه، ولعله كان أعظم كشف فلسفي في عصرنا هذا ذلك الكشف الذي ميز به فلاسفة العلم بين نوعين من العبارات العلمية ذاتها، هما: العبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الرياضية، والعبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الطبيعية؛ فلكل من المجموعتين أسس خاصة بتكوينها، وبالطريقة التي يحكم بها على صدقها أو كذبها.
ولقد جاء هذا الكشف الفلسفي الهام في عصرنا (وسنوضح للقارئ مواضع أهميته البالغة بعد قليل) بعد أن مرت بالإنسان عصور طوال منذ بدأ فكرا فلسفيا وإلى أمس القريب يحسب أن الوقفة العلمية واحدة في جوهرها، لا فرق بين أن يكون الموضوع المطروح للتفكير ذا خصائص تجعله رياضي الطابع أو ذا خصائص تجعله من قبيل العلوم الطبيعية، ولما كان الفكر الرياضي - كما هو معلوم - يبلغ بنا درجة «اليقين» الذي لا يحتمل أدنى ظل من الشك؛ فقد اتجه معظم الفلاسفة فيما مضى بجهودهم نحو البحث عن الوسيلة التي يخضعون بها العلوم الطبيعية لمنهج الفكر الرياضي، لعلها تبلغ ما يبلغه هذا الفكر الرياضي من «يقين»، ولم يعدم تاريخ الفلسفة رجالا ينشدون عكس ذلك؛ إذ ينشدون إخضاع الفكر الرياضي لمنهج التجربة في العلوم الطبيعية (ومن هؤلاء جون ستيورات مل).
أما وقد كشفنا عن الفرق الشاسع في بنية التكوين ذاتها في حالة الفكر الرياضي من جهة، وفي حالة الفكر الطبيعي من جهة ثانية؛ فقد عرفنا ألا مجال لاختلاط أحدهما بالآخر، فأولهما (الفكر الرياضي) تحليلي وثانيهما تركيبي، بعبارة أخرى: العبارة الواحدة من عبارات المجال الرياضي (كالمعادلة مثلا) فيها تكرار للحقيقة الواحدة مرتين: وإن تكن واردة في كل مرة منها برموز غير الرموز التي ترد بها في المرة الثانية، فانظر إلى قولنا: «2 + 3 = 5» تجد أن الحقيقة الواردة في الشطر الأول «2 + 3» هي نفسها الحقيقة الواردة في الشطر الثاني، وإذن فالجملة تحصيل لحاصل، ومن هنا جاء يقينها؛ إذ من أين يجيء الخطأ إذا نحن قلنا: إن «س» هي نفسها «س»؟ وما كذلك العبارة من عبارات العلم الطبيعي بكل فروعه (ومنها العلوم الإنسانية)؛ لأنها وليدة «تجربة»، وبالتالي فهي تحمل إضافة جديدة إلى الموضوع الذي نتحدث عنه، من هنا يجيء احتمال الخطأ، فإذا قلنا عن الماء: إنه يتجمد في درجة الصفر المئوية كنا بمثابة من يضيف معرفة جديدة عن الماء، وما دام الأمر كذلك فهنالك احتمال أن يكون الباحث التجريبي قد أخطأ القياس، فبينما الجملة الرياضية - منطقيا - لا بد أن تكون صحيحة؛ لأن الخبر فيها لا يضيف إلى المبتدأ شيئا جديدا، بل يكرره هو نفسه برموز أخرى، نرى الجملة في العلوم الطبيعية - منطقيا - تحتمل الخطأ؛ لأنها معتمدة على «التجربة» التي تحمل في طيها معرفة لم نكن نعلمها عن الموضوع الذي نتحدث عنه.
ولهذا الفرق بين النوعين من العلوم كان لكل من المجموعتين منهج يختلف عن منهج النوع الثاني؛ فالرياضة منهجها «استنباطي» بمعنى أننا نضع «فروضنا» في صدر العملية الاستدلالية، ومنها نستولد النتائج، فإذا سئلنا عن إحدى هذه النتائج: كيف تبرهنون على صدقها؟ كان جوابنا هو أن نبين كيف أنها نتيجة متولدة من الفروض توليدا منطقيا سليما؛ أي إن برهان صوابها لا يعتمد على أنها منطبقة على وقائع العالم الطبيعي، وأما العلوم الطبيعية فيبدأ منهجها بمعلومات نجمعها من الواقع الذي نبحثه، محاولين جهدنا أن تكون تلك المعلومات معتمدة على مشاهدات دقيقة وعلى تجارب محكمة، ثم نستخرج من تلك المعلومات المتجمعة فكرة تضمها معا وتفسرها جميعا، فتكون هذه «الفكرة» التي نجحت في تفسير الظواهر المشاهدة بمثابة قانون من قوانين الطبيعة يمكن أن يتغير فيما بعد لو ظهرت شواهد جديدة يتعذر تفسيرها به، وهكذا كانت قوانين العلوم الطبيعية «احتمالية» الصدق، بينما حقائق العلوم الرياضية بالغة دائما درجة اليقين.
3
ونسأل الآن: ما أهمية هذه التفرقة بين مجموعتي العلوم الرياضية والطبيعية في مواقفنا الثقافية العامة؟ النقطة الأولى في جوابنا عن هذا السؤال هي: أن مجال التعبير الوجداني بكل أشكاله لا هو من قبيل الفكر الرياضي موضوعا ومنهجا، ولا هو كذلك من قبيل الفكر الطبيعي موضوعا ومنهجا؛ ولذلك نخطئ إذا نحن عاملناه بمقياس أي من المجموعتين.
هب قائلا زعم لك أن منظر الغروب عند البحر رائع، وكنت أنت ممن ينقبضون لرؤية الغروب أينما كان، فماذا أنت قائل عن هذا الاختلاف؟ أتقول: إن صاحبك قد «أخطأ» وإنك أنت على «صواب»؟! أم أن موقفا كهذا ليس مما يوصف بصواب هنا وخطأ هناك؟ لو كانت هذه العبارة من قبيل المعاملات الرياضية لوجدنا «الروعة» هي نفسها العناصر المكون منها «الغروب»، ولكن الواضح هنا أن أحد الطرفين لا ينحل إلى الآخر، ثم لو كانت العبارة من قبيل الكلام في العلوم الطبيعية لوجدنا المرجع الخارجي الذي يفصل بين الحكمين السالفين عن ساعة الغروب؟ وحقيقة الأمر أن كلا من المتحدثين يستند إلى شعوره الباطني الخاص الذي لا يؤيده ولا يفنده شعور باطني آخر عند شخص آخر.
فإذا قلنا باصطلاح التجريبية العلمية: إن العبارة السالفة - «منظر الغروب عند البحر رائع» - هي بغير معنى، كان المراد هو أنها لا تخضع لمقاييس العلوم بمجموعتيها، وأنها بالتالي لا يجوز أن توصف بأنها صادقة صدقا عاما ضروريا، ولا بأنها كاذبة كذبا عاما ضروريا؛ إذ إن صدقها «خاص» بقائلها، وكذبها «خاص» كذلك بمن ينقبض لمنظر الغروب ... وقل شيئا كهذا في جميع العبارات التي يقولها أصحابها تعبيرا عن وجدانات خاصة أو اعتقادات خاصة أو ما إلى ذلك من الجوانب الشعورية التي لا غنى عنها في حياة كل إنسان لكنها في الوقت نفسه لا تلزم أحدا غير صاحبها.
والنقطة الثانية في جوابنا على السائل: وما أهمية التفرقة بين علوم الرياضة وعلوم الطبيعة موضوعا ومنهجا في حياتنا الثقافية العامة؟ هي أن شرائح عريضة من البنيان الثقافي أيا كان وأينما كان تنصب في قالب الفكر الرياضي، وإن لم تكن فكرا رياضيا بالمعنى المحدود لهذه العبارة، وأعني بقالب الفكر الرياضي ذلك الترتيب المعين في مراحل التفكير الذي يضع في الصدر «فروضا» يجعلها مسلمة بغير حاجة إلى برهان؛ لتكون هي نفسها السند الذي يعتمد عليه في البرهنة على صدق النتائج التي تتولد منها ومن تلك الشرائح الثقافية، بل ربما كان أهمها علوم الدين في أي دين؛ لأن لكل دين كتابه الذي يبدأ منه، ويجعله أمرا مسلما لا يقام عليه برهان؛ إذ يكفيه عند المؤمنين به أنه من قلوبهم موضع «إيمان،» ومن هذا الكتاب يستخرج أنصاره - أو الفقهاء منهم - أحكام ذلك الدين المعين، فإذا سئل أحدهم عن حكم من تلك الأحكام: ما برهانك على صوابه؟ كان جوابه أنه يرد الحكم إلى الأصل الكتابي الذي استخرجه منه، وفي هذا ما يحسم الرأي، لكنه يحسمه عند أصحاب ذلك الدين، أما غير أصحابه فهم غير ملزمين بقبول السند نفسه الذي يرجع إليه عند الاحتكام.
Неизвестная страница