فقال الملك: «ما أجنه! أما كان الأجدر به أن يبقى في خيمته ولا يجعل نفسه أضحوكة بين الناس؟!» وحينئذ دخل مركيز منسرات فقال له الملك: «ما قولك أيها المركيز في هذا الدوق؟» فقال: «أشكر الله على سلامتك أيها الملك، ولكن ما لنا وللدوق فإن قصته لا يحسن بي أن أشير إليها وقد كنت الآن في ضيافته.»
فقال الملك: «أكنت ضيفا على هذا السكير؟! فما دعاه إلى هذه الجلبة؟»
فوقف البارون ده فو خلف الملك، وجعل يشير إلى المركيز بيديه وعينيه؛ لكي لا يذكر شيئا من أمر العلم، ولكن المركيز عمي عن إشاراته أو تعامى، فقال للملك: «إن أعمال الدوق لا طائل تحتها، وقد بلغ الأمر مبلغا لا أريد أن يكون لي فيه ناقة ولا جمل، وهو أنه أتى لينزع علم إنكلترا ويضع علمه في مكانه!»
فصرخ الملك صرخة اهتزت لها أطناب الخيمة، ونهض من فراشه وجعل يلبس ثيابه وقال للحضور: «كل من ينطق بكلمة فهو عدو لي.» ثم تأبط سيفه وخرج يعدو كالنعام الجافل. فنادى البارون ده فو باثنين من الحرس وقال لهما: «امضيا حالا وأخبرا لورد سلسبري أن يتبعنا برجاله.» ثم خرج وراء سيده. وألقي النفير في معسكر الإنكليز وكان الجنود مقيلين في الظهيرة، فنهضوا إلى أسلحتهم. وهذا يقول: «هجم العرب علينا!» وذاك: «مات الملك!» وذاك: «قتله دوق النمسا!» ونحو ذلك من الأقوال. ومر الملك في طريقه بمعسكر الاسكتلنديين. فرآه السر وليم الفارس المتقدم ذكره، فاختطف سيفه وترسه وجعل يعدو وراءه، وكانت الأكمة مغطاة بالناس حتى لا يرى شيء منها، فاجتاز الملك ريكارد في وسطهم كأنه السفينة تمخر البحر الخضم إلى أن بلغ قمة الأكمة! فوجد الدوق واقفا بجانب رايته يتأمل فيما صنع، ويسمع ضجيج الناس الذين حوله، فوضع الملك ريكارد يده على راية النمسا ونادى بصوت كالرعد القاصف وقال: «من تجاسر أن يرفع هذه الخرقة النجسة بجانب علم إنكلترا؟!» فوقف الدوق مندهشا لا لقلة شجاعته، بل لأنه رأى شخصا لم ينتظر أن يراه في تلك الساعة. فكرر الملك ريكارد نداءه، فأجابه الدوق: «أنا، دوق النمسا.» فقال الملك: «سيرى دوق النمسا قيمة علمه في عيني ملك إنكلترا.» ثم نزع الرمح الذي عليه الراية وكسره كسرا، ورمى الراية وداسها برجليه، وقال: «هكذا أدوس راية النمسا، فهل بين فرسانك من يطالبني بما فعلت؟» فنادى جمهور من الفرسان الجرمانيين، وقال كل منهم: «أنا. أنا.» ثم تقدم أشدهم بأسا وأعظمهم هامة وقال: «أيها الإخوة والأشراف، قد داس هذا الرجل شرف بلادكم فهلموا لإنقاذه.» قال ذلك واستل سيفه وضرب الملك ريكارد ضربة كانت قضت عليه لولا أن السر وليم تلقاها بترسه! فقال الملك: «قد أقسمت بالله أن لا أضرب بسيفي فارسا من فرسان هذا الجهاد، فاحي يا هذا، احي لتراني وتندم.» ثم قبض عليه ورفعه بين يديه ورماه من فوق الأكمة كما يرمي الحجر الصغير، فوقع عند سفحها وقد تخلعت مفاصله. فلما رأى الدوق وأتباعه ما رأوا من قوة ريكارد وبأسه ارتعدت فرائصهم ووقعوا مبهوتين لا يدرون ما يفعلون. وحينئذ وصل سلسبري بجنوده، وكان النفير قد امتد إلى مخيم ملك فرنسا، فأسرع إلى الأكمة مع ثلاثة من خواصه، واندهش أشد الاندهاش عند رؤيته ملك إنكلترا واقفا هنالك يتهدد الدوق. فلما وقعت عين ريكارد عليه احمر خجلا؛ لأنه كان يهابه لأجل حكمته ورصانته ورفع رجله عن علم النمسا وتظاهر بالسكينة.
وكان ملك فرنسا حكيما حسن الرأي متبصرا في العواقب ساعيا في خير مملكته وترقيتها شجاعا مهابا، ولكنه كان يعتمد على سياسته أكثر مما يعتمد على شجاعته، كأنه يتمثل بقول القائل:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
ولربما طعن الفتى أقرانه
بالرأي قبل تطاعن الأقران
ولم يكن له رأي في هذا الجهاد، ولكنه حمل عليه بتحريض أمراء مملكته والكنيسة الرومانية. ولو لم تكن تلك الحرب حرب اقتحام وتهور لكانت السيادة فيها له لا لملك إنكلترا، فلما رأى انقياد الجمهور إلى ملك إنكلترا الخالي من الحكمة والتدبير ساءه ذلك، ولم يدع فرصة لإظهار حكمته وتعقله إلا اغتنمها، وهذه الفرصة من أحسن الفرص لإظهار فضل الحكمة والرصانة على الحدة والطيش. فقال: «ما معنى هذا النزاع بين أخوين متحالفين؛ بين رئيسين من رؤساء هذا الجهاد وعمودين من أعمدته؟!»
Неизвестная страница