فسائلوا النسر الرفيع المرتقى
علام يعلو للعلا فوق الجبال؟
ثم قال: «إن النسر شعار أميرنا المعظم بل ملكنا المبجل، وهو يعلو على كل الطيور.» فقال المركيز: «ولكن الأسد وثب وثبة فعلا فوق النسر.» فاحمر وجه الدوق والتفت إلى المركيز، فقال النديم: «المعذرة يا مولاي، ما من أسد طار فوق النسر؛ لأن الأسد لا جناح له!» فقال المهرج: «إلا أسد البنادقة.» فقال الدوق: «معاذ الله أن يرتفع أسد تجار البنادقة فوق نسرنا.»
فنظر إليهم المركيز، وقال: «ما عنيت أسد البنادقة، بل آساد إنكلترا الثلاثة؛ فقد قيل إن هذه الآساد كانت نمورا والآن صارت آسادا، وفي نيتها أن تتسلط على كل الوحوش والطيور والأسماك!»
فقال الدوق: «هل تظن أن ملك الإنكليز يدعي السيادة علينا نحن معاشر الملوك والأمراء المحالفين له في هذه الحرب؟»
فقال المركيز: «هذا دليل الحال، أفما ترى علمه مرتفعا في وسط المحلة كأنه الملك المالك على هذا الجمهور كله؟»
فقال له الدوق: «وهل تصبر على ذلك وتتكلم عنه بدم بارد؟» فقال المركيز: «وهل يحسن بي أن أتشكى من أمر خضع له ملك فرنسا ودوق النمسا؟ فالعار الذي تلتحفان به لا ألام إذا جاريتكما عليه.» فضرب الدوق المائدة بيده وقال: «طالما قلت لفيليب (ملك فرنسا) إن هذا يحط شأننا وشأن الأمراء الذين معنا، فكان لا يكترث لكلامي، بل يقول لا يليق بنا أن نلتفت إلى هذه الأمور في مثل هذه الحال.»
فقال المركيز: «إن فيليب ملك حكيم، ولذلك يعد خضوعه لملك الإنكليز من السياسة، أما أنت فلا بد من سبب آخر لخضوعك.» فحملق الدوق وقال له: «ماذا تقول؟! أنا دوق النمسا العظيم، أفأخضع لهذا النرمندي؟! لا وقبة السماء. هلم يا رجالي لنضع نسر النمسا حيث لا يعلو عليه علم من أعلام الملوك والقياصرة.» قال ذلك وقام من ساعته، واختطف علمه من أمام خيمته والجميع يضجون بأصوات الفرح والحبور. فاعترضه المركيز وقال له: «ليس من الحكمة يا مولاي أن تشوش المعسكر في هذه الساعة من النهار، فاصبر قليلا.» فقال الدوق: «ولا دقيقة.» ثم هرول نحو الأكمة التي عليها العلم الإنكليزي وتبعه أهل بلاطه، فلما بلغها وضع يده على الرمح الذي عليه العلم الإنكليزي، وهم أن ينزعه من الأرض فتقدم إليه النديم وقال له: «احذر يا مولاي، فإن للأسد أنيابا.» فقال الدوق: «وللنسر مخالب.» فقال النديم: «النسر ملك الطيور، والأسد ملك السباع، فدع علم الأسد في مكانه، وانصب علم النسر بجانبه.» فالتفت الدوق ليرى المركيز ويستشيره في الأمر فلم يجده بين الجماعة؛ لأن المركيز لم يرافقه، بل سار بين العساكر وجعل يخاطب كل من يراه من أهل المقامات ويتأسف من إقدام الدوق على هذا العمل في ظهيرة النهار. فلما رأى الدوق أن المركيز لم يتبعه رفع يده عن العلم الإنكليزي وقال: «ليس من غرضي أن أنتقم من ملك الإنكليز، بل أن أبين حقي وأرفع علمي إلى المقام الذي يستحقه.» ثم أمر أن يؤتى بزق خمر وفتحه وسقى الحضور فطربوا وجلبوا حتى ملأت ضوضاؤهم المحلة.
وفي تلك الساعة استيقظ الملك ريكارد فوجد الطبيب أن الحمى زالت تماما، وأنه لا يحتاج إلى جرعة أخرى من الدواء، فجلس في فراشه وقال للبارون: «قدم لهذا الحكيم كل ما في الخزانة من النقود، وإن كانت لا تبلغ ألف دينار فزده قيمتها جواهر.» فقال الطبيب: «معاذ الله أن أبيع حكمتي بالمال والجواهر.» فالتفت البارون إلى الملك وقال: «هذا أعجب من قوله لي أن عمره مائة سنة!» فقال الملك: «أنت تظن أن لا بسالة إلا بالسيف ولا شهامة إلا عند فرساننا، فصدق مقالي، إن شهامة هذا الحكيم العربي أرفع من شهامة الذين يعدون أنفسهم زهرة الفرسان.» فوضع الحكيم يده على صدره وقال: «حسبي، فهذا خير جزاء أناله من الملك. والآن أطلب إليك أن تنام وتتوقى كل ما يزعجك؛ لأن النكس شر من العلة.» فقال الملك: «سمعا وطاعة أيها الحكيم، ولكن ما هذا الصوت الذي أسمعه؟ وما هذه الجلبة؟ علي بالخبر يا ده فو.»
فخرج البارون ده فو ثم رجع وقال: «هذا دوق النمسا ذاهب في المحلة مع ندمائه وهم سكارى.»
Неизвестная страница