خاف الملال إذا طالت إقامته ... فصار يظهر أحيانا ويحتجب
كأنه حين يبدو من مطالعه ... صبٌ يقبّل حبّا وهو يرتقب
وذكرت هنا قول بعض المتأخرين في زر ورد.
سبقت إليك من الحدائق وردةٌ ... وأتتك قبل أوانها تطفيلا
طمعت بلثمك إذ رأتك فجمّعت ... فمها إليك كطالبٍ تقبيلا
وهذا من محاسن التضمين الذي نقل عن أصله، لأن المتنبي قال في الناقة من جملة قصيدته:
ويغيرني جذب الزمام لقلبها ... فمها إليك كطالبٍ تقبيلا
على أنه أخذه من ابن بابك، وإنما حسن ذلك التضمين. فإن ابن بابك قال:
وافى الشتاء فبز النور بهجته ... فعل المشيب بشعر الّلمّة الرّجل
وردٌ تفتح ثم ارتدّ مجتمعا ... كما تجمّعت الأفواه للقبل
وما أحسن قول مجير الدين محمد بن تميم في اللينوفر:
غدا اللينوفر المصفرّ يحكي ... النّجوم فلا يغادرها شبيها
تغوص العين فيه إذا تجلّى ... النّهار وفي الظلام يغوص فيها
وقد استخدم العين هنا في معنين: أولهما العين الباصرة، والثاني العين الجارية وقول ابن حمديس الصقلي:
اشرب على بركة لينوفرٍ ... مصفرة الأوراق خضراء
كأنما أزهارها أخرجت ... ألسنة النار من الماء
وما ألطف قول التنوخي من جملة أبيات:
ألف المياه مشاكلا بلطافةٍ ... حتى يفارق شكله لم يصبر
فيقوم طورا ثم يرفع رأسه ... بتخنّثٍ وتأودٍ وتكسّر
وكأنه في الماء صاحب مذهبٍ ... أغراه وسواسٌ بأن لم يطهر
وقول الآخر:
كأن لينوفرها عاشقٌ ... نهاره يرقب وجه الحبيب
حتى إذا الليل بدا سجفه ... وانصرف المحبوب نحو الكئيب
غمّض عينيه عسى أن يرى ... في النوم من فاز به عن قريب
وبالغ الآخر في الظرف حين قال:
وكأنه إذ غاب وقت مسائه ... في الماء واحتجبت نضارة قده
صبٌّ يهدده الحبيب بهجره ... ظلما فغرّق نفسه من وجده
وقال الوجيه ابن الذروي يهجو اللينوفر المصري:
ولينوفرٍ أبدى لنا باطنا له ... مع الظاهر المخضر جمرة عندم
فشبهته لما قصدت هجاءه ... بكاسات حجّامٍ بها لوثة الدم
نموذج من إنشاء ابن الأثير
في ذم الشيب يدعي فيه الإبداع
قال: ومن ذلك ما ذكرته في ذم الشيب فقلت: والشيب إعدام لا يسار، وظلم لا أنوان، وهو الموت الأول الذي يصلي نارا من الهم أشد وقودا من النار، ولئن قال قوم إنه جلالة فإنهم دقوا به وما جلوا، وأفتوا في وصفه بغير علم فضلوا وأضلوا، وما أراه إلا محراثا للعمر ولم تدخل آلة الحرث دار قوم إلا ذلوا. ون عجائب شأنه أنه المملول الذي يشفق من بعده، والخلق الذي يكره نزع بدره، ولما فقد الشباب كان عنه عوضا ولا عوض عنه في فقده.
أقول: إنه أخذ بعد فراغه من هذا الفصل في الدندنة على العادة، وأن المعنى الذي ابتدعه هو تشبيه الشيب بآلة الحرث، وقد شبه الناس الشيب بأشياء منها اشتعال النار، وقد نطق القرآن العظيم به في قوله تعالى " واشتعل الرأس شيبا ".
وقال الأرجاني:
قد أشعل الشيب رأسي المبلا عجلا ... والشمع عند اشتعال الرأس ينسبك
فإن يكن راعها من لونه يققٌ ... فطالما راقها من لونه حلك
ومنها تشبيه بالصبح، قال:
وقالوا انتبه من رقدة اللهو والصبا ... فقد لاح صبحٌ في دجاك عجيب
فقلت: أخلاّني دعوني ولذّتي ... فإن الكرى عند الصباح يطيب
ومنها تشبيهه بالنجوم، قال:....
ومنها تشبيهه بالتبسم. قال أبو تمام:
رأت تبسّمه فاهتاج هائجها ... وقال لاعجها للعبرة انسكبي
فلا يؤرّقك إيماض القتير به ... فإنّ ذاك ابتسام الرأي والأدب
ومنها تشبيهه بالحبب. قال....
ومنها تشبيهه بالغبار قال ابن المعتز:
صدّت شرير وأزمعت هجري ... وضعت ضمائرها إلى الغدر
قالت كبت وشبت قلت لها ... هذا غبار وقائع الدهر
1 / 55