على أن ابن حمديس أتى بالمعنى كاملا في بيت واحد، وإدريس اليماني إنما أتى به في بيتين. ولكن نظم إدريس أعلق بالقلب، وأوقع في النفس، وأعذب في السمع.
وقريب من هذا المعنى قول أبي العلاء المعري في اللزوميات:
لم يكن الدنّ غير نكرٍ ... سلافة الراح عرّفته
كآدمٍ صيغ من ترابٍ ... ونفخة الروح شرفته
وكلاهما تسلق على هذا المعنى، ونقله إلى الثقل والخفة، وإلا فهو هو.
وعلى ذكر الخفة في الخمر والطيران، فما أحلى قول أبي الحسين الفكيك:
بكرٌ خطابٌ إذا ما الماء خالطها ... أبدت لنا زبدا في سورة الغضب
كادت تطير نفارا حين واقعها ... لولا شبابيك ما صاغت من الحبب
نماذج من إنشاء ابن الأثير يدعي فيها السمو
قال: وقد جاءني في الكلام المنثور شيء من هذا الضرب، وسأذكر ههنا منه نبذة. فمن ذلك ما ذكرته في وصف صورة مليحة فقلت: ألبس من الحسن أنضر لباس، وخلق من طينة غير طينة الناس، وكما زاد حسنا فكذلك زاد طيبا، واتفقت فيه الأهواء حتى صار إلى كل قلب حبيبا، فلو صافح الورد لتعطرت أوراقه، ولو مر على اللينوفر ليلا لتفتحت أحداقه.
أقول: أي غريب في هذه المعاني، وأي إبداع حتى يثبته ويتعجب له ويروقه.
أما الأول فمأخوذ من قول:
ربيب ملكٍ كأنّ الله صوّره ... مسكا، وقدّر إنشاء الورى طينا
ولا يخفى أن هذا أمدح وأحسن.
وأما الثاني، فمأخوذ من قول البحتري:
أفرغت في الزجاج من كل قلبٍ ... فهي محبوبةٌ إلى كل نفس
وقول ابن لنكك.
عصرت من دم القلوب فما تب ... صر إلا تعلقت بالقلوب
وأما قوله فلو صافح الورد لتعطرت أوراقه، فأي مزية لهذا الموصوف بهذه الصفة والورد ما زال عطرا، سواء صافحه زنجي أو غيره، وهذا من باب تحصيل الحاصل. ولو قال: فلو صافح الأثل تضوع منه نشر البان، ولو مر على اللينوفر في الليل لأيقظ طرفه الوسنان لكان أحسن. فإن الورد لو صافحه أبو الأسود الدؤلي أبو عبد الملك بن مروان، لكان طيب العرف، والمدح إنما يكون بأن الإنسان يكسب الطيب ما ليس له طيب ويفيد الحسن ما لم يكن معروفا بحسن.
ألا ترى أنهم عابوا على كثير عزة قوله:
وما روضةٌ بالحزن طيبة الثرى ... يمجّ النّدى جثجاثها وعرارها
بأطيب من أردان عزة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها
وقيل له: لو كانت هذه أمة زنجية ووقود نارها مندل رطب، لطاب ريحها وتعطر ردنها. وهلا قلت كما قال امرؤ القيس.
ألم تر أني كلما جئت طارقا ... وجدت لها طيبا وإن لم تطيّب
ولهذا استحسنوا قول القائل:
وريحها أطيب من طيبها ... والطيب فيه المسك والعنبر
فانظر إلى هذا الشاعر لما أثبت أنها تتطيب جعل ريحها أطيب منه.
وبالغ بشار بن برد في قوله:
وإذا أدنيت منها بصلا ... غلب الطيب على ريح البصل
لكن هجن هذا المعنى بذكر البصل.
ويحكى أن بعض الشيعة أنشد أبا مجالد قول السيد الحميري:
أقسم بالله وآياته ... والمرء عمّا قال مسؤول
أنّ عليّ بن أبي طالبٍ ... على الهدى والبر مجبول
ذاك الذي سلّم في ليلةٍ ... عليه ميكالٌ وجبريل
ميكال في ألفٍ وجبريل في ... ألفٍ ويتلوهم سرافيل
في يوم بدرٍ بددا كلهم ... كأنهم طيرٌ أبابيل
فقال له أبو مجالد: يا هذا إن الشاعر لم يمدح صاحبك، وإنما هجاه في موضعين أحدهما أنه زعم أن عليا كرم الله وجهه مجبول على البر والهدى، ومن جبل على أمر لم يمدح عليه، لأنه لم يكسبه بسعيه.
وثانيهما أنه ادعى أن أيد في حروبه بالملائكة، ولا فضيله له حينئذ في الظفر، لأن أبا حية النميري لو أيد بهؤلاء لقهر الأعداء.
ذكر ذلك أبو عمر الزاهد في كتاب الياقوته فثبت بمثل هذا أن لا مدح في قوله: لو صافح الورد لتعطرت أوراقه. ويؤيد هذا أنه تنبه لهذا في السجعة الثانية فقال: ولو مر على اللينوفر ليلا لتفتحت أحداقه فاحترز بالليل لأنه في النهار يكون مفتوح الأوراق.
ومن طريف ما جاء للشعراء في اللينوفر قول الخبز أرزي:
1 / 54