من معائب إرثنا الأدبي خلوه من الدرامة، ومن معائب حالتنا القومية أنه ليس عندنا جمهور، فشعبنا ليس موحد التاريخ، انظر إلى بعضنا يقول بالإسلام والعروبة، وآخرين بالمسيحية والفينيقية. هذه قريتنا فيها الفلاح الصلب الفطري، وفيها المتأمرك، والمتبرزل، والمتفرنس، إلخ ... عندنا ألف حزب وحزب، وألف دين ودين، وألف معبد ومعبد، وفي آخر الزمان فشت الروابط العائلية، «كالرابطة الشرندعية» لعائلة شرندع، والرابطة العلوشية لبني علوش، كأننا بدلا من أن نسير في نشوئنا وارتقائنا إلى صهر العائلات والطوائف في قالب الوطن، أخذنا نتقهقر في تهذيبنا القومي إلى فك سلسلة الوطن إلى حلقاتها الصغرى.
ثقافتنا ليست موحدة، فهي علمانية، لاهوتية، عربية، إفرنسية، أميركية، أو خليط من بعضها أو كلها. أثوابنا تتراوح بين العمامة والقبعة، وبين البنطلون والسروال. أعيادنا، وأيام الراحة عندنا ليست موحدة، كذلك لهجاتنا، وأساليب معيشتنا، وطرق تفكيرنا. تاريخنا يرشح بالحروب الأهلية، ونحن في بيروت - مدينة العلم والنور - تلك الشرفة التي نطل منها على الدنيا، والتي زيناها للدنيا، وفي عام 1936 «يلي ب.م، وليس قبله» تذابحنا مسلمين ونصارى - ويا للعار! - ونهبنا أموال بعضنا بعضا. أفي مثل هذا الشعب «جمهور» بمعناه المسرحي، الجمهور الموحد التهذيب والشعور والعاطفة، المتشابه الأذواق؟ المتحاكي العقليات؟! الجمهور الذي يضحك لنكتة، ويستفزه تلميح إلى حادثة؟! سل لي أربعة أو خمسة من عشرائك أن ينشدوا نشيدا، تسمعهم يبدأون موحدي النغمة والكلمات، فإذا انتهوا من المقطع الأول من الأغنية اختلط عليهم النغم، واختلفت الكلمات، وأصبح «كل يغني على ليلاه.» هل في القوم الذي يعجز أي أربعة منهم على الاتفاق ولو على إنشاد أغنية «جمهور»؟ تقول لي إن الدرامائي يجب أن يخلق الوحدة في جمهوره، بحيث يبدع له شيئا يستطيبه المعمم، والمطربش، والمبرنط، والسافرة، والمحجبة. أجيب: إن هذا التنافر بالأذواق والتربية والعواطف يجعل الأمور المشتركة بين جمهورنا ضئيلة، إلى حد أن توقع المؤلف في خطرين؛ فإما أن يرضي الجميع فيأتي بالسخيف، أو أن يرضي شيعة دينية، أو سياسية، أو طبقة فكرية دون أخرى، وفي ذلك هلاكه. وهذه المشكلة لا تواجه أي درامائي كان في أي بلد من بلدان الدنيا، وهذا أحد أسباب انعدام الدرامائيين عندنا، إذ إن خالق الرواية التمثيلية - بسبب عسر جمهورنا - يجب أن يخلق عبقريا لا عاديا، يتدرج هو أو من بعده إلى الإبداع؛ أي إنه يجب أن نظفر من لادرامائي بالمرة، إلى درامائي نابغة. أرجعت تتطلع إلى المرآة المقعرة يا مغرور؟!
والسبب الآخر الكسل. أين يقضي أدباؤنا أوقاتهم؟ أفي محترفاتهم ومكاتبهم؟ أغلب ظني أنهم في المقاهي والملاهي منغمسون، فهل تعجب إن جاء مجموع إنتاجهم - بقطع النظر عن نوعه - يوضع بين دفتي كتاب واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة؟
الأدب لا يطعم خبزا
جملة يقولها من حملة الأقلام، حتى من تعرف أنت أنه بغير الخبز يملأ معلفه. «الأدب لا يطعم خبزا»، ولكنه يطعم ما هو أشهى من الخبز؛ فهو يشبع كبرياءك ويذيع أمرك بين الناس، ويروي عطشك من الشهرة، وهذان الجوع والعطش هما مهمازا الإنتاج الأدبي. بلى، لو أن للإنتاج الأدبي ربحا ماليا عندنا، لوفرت محاصيلنا القلمية، وكذلك لو لم تتبذل وسائل الإذاعة الصحفية، إلى حديث يشتهر الكاتب بمقالة واحدة؛ لما وقف أدباؤنا في إنتاجهم عند هذه الدرجة الدنيا، بحجة أن الأدب لا يطعم خبزا، وإننا لن نستغل عقولنا وهممنا في نهاية مواهبها إلا إذا ابتعدنا عن الصحف، وابتعدت الصحف عنا.
قلت لك إن تأليف الدرامة فن مقامر مسرف، وأزيد: إنه ليس بالفن الذي يدر على صاحبه الربح الأدبي من صيت وشهرة. أنت تنظر إلى هذه الرواية، وتقول: أقرأها بساعة، وأشهد تمثيلها بساعتين، فمن المنطق أن تستنتج أن تأليفها سهل غير مجهد، ولكن صغر الساعة لا يعني أن صنعها هين. أقسم لك، إنني طرحت من مواد هذه الرواية ما يؤلف 17 رواية، وقرأت لها مجلدات تملأ مكتبة، وأفنيت في ميكانيكية صوغها الشهور. القصاص مثلا له أن يسرد حكايته في ألف صفحة أو مائة، وله أن يملأ أوراق المطابع إذا أراد. يقدر أن يقفز بك من مشهد تحت سنديانة الضيعة إلى غرفة على ظهر الباخرة. أما الدرامائي، فيجب أن يزحم في ساعتين أو ثلاث قصته ومشاهده، بحيث يجيء اختزالها واضحا وطبيعيا، وعليه أن لا ينسى أنه يكتب لمسرح فقير، ولمخرج وممثلين يجهلهم، ويجهل مكانهم، ومتى يجتمعون، وفي أي محفل. عليه أن يعرف كيف وأين يزرع الحادثة، وكيف وأين يستغلها، وعليه أن يحيك شبكة حوادثها، بحيث تأتي شبكة غير مشتبكة، والنكتة؟ والحركة؟ والفاجعة؟ والحوار؟ والأشخاص - وهؤلاء من هم؟ وما هي مظاهرهم الجسدية، وقواهم الروحية؟ وبماذا يفكرون، وكيف يتكلمون؟ وعليه أولا وفوق كل شيء أن يستوثق من نفسه أنه ملهم، موهوب تلك المنحة النادرة - النكتة.
الدرامائي يجب أن تكون له حنكة السياسي ودهاؤه. فإن كنت تبشر بنظرية جديدة، أو تدعو لعقيدة غير عادية، أو أحببت أن تصدم الناس بنتاج عقلي غير مألوف، فكن شاعرا يطير في طيات وحل الأثير، منشدا «تتهادى الرياح في مهجتيا.» أو فيلسوفا ينطق بمثل الحكمة «الحياة أغاريد الخنازير، وأغاريد الخنازير هي الحياة»، أو مصورا يصور قطيع فيلة، تتدلى خراطيمها من شعر الأقرع، وذيل الصورة ب «غمار الهرم»، أو فكن عالما يؤلف 14 مجلدا في «الدعوة إلى الزواج المختلط بين الإنسان والحيوان؛ لتحسين نسل السوبرمان»، ولكن لا تقترب من المسرح؛ فالدرامائي رجل الغوغاء ، ورجل العامة، ورجل النخبة من الناس معا، وهو كالصحافي رجل يومه، قد يلقي نظرة سريعة إلى خلفه فيلمح الماضي، وربما يمشي وراء أنفه قليلا، فيبصر من المستقبل ومضة، ولكن أفقه دائرة قطرها يداه، يقول: هذا عالمي أؤلفه اليوم؛ ليمتع به اليوم. بالطبع أستثني العبقري الذي يؤلف لليوم، فيتمسك بإنتاجه للغد، ويدفعه هذا إلى ما بعده، وهكذا دواليك، حتى يخلد.
اللغة
من الأبحاث ما تلوكه الألسنة، فتتقزز النفس لتبذله. من هذه الأبحاث هي اللغة، التي صارت في العالم العربي «فوتبول» الجدل في السنين الأخيرة، ولكن هذه المقدمة تستوجب أن ألبط هذه الطلبة ولو مرة واحدة بالرغم مني. فكلمتي في هذا البحث شطران؛ أولا: من الحمق مضغ الكلام، وسن الشرائع، والدعاية لهذه النظرية أو تلك. أنت تقول: يجب أن نؤلف بالعامية. الحق معك تفضل، وألف بالعامية، فإن راج مؤلفك، وثبت على الدهر وشاع؛ كانت العامية هي اللغة التأليفية المثلى. أنت تستنكر العامية، وتنتفض لذكر كلمة إفرنجية تسربت إلى الفصحى. هات قوانينك وجنودك تمنع الناس عن استعمال كلمة «الأفلام» و«الترامواي». لماذا التشاحن النظري، وعلام هذا الحرب بالنظارات إذن؟! في رأيي - وليس أسهل على المرء من إبداء الآراء - أنه من الجريمة أن نؤلف باللغة العامية؛ لسبب بسيط، هو أنه ليس عندنا لغة عامية شاملة. في الأقطار العربية مئات اللهجات واللغات، فأيها تعتمد؟! وأين الحكمة في طرح تراث مئات السنين، والتعلق بوراثة عامية معدمة! إذ ليس فيها كتاب واحد، وكيف تريد أن ننصرف عن عالم ثقافة عربي عدده ملايين إلى لغة شيعة قد لا تتجاوز الألوف؟! على أن الدفاع عن الفصحى في التأليف لا يعني منع التفاعل بين الفصحى والعامية. خذ مثلا في الفصحى:
قالوا اللقاء غدا بمنعرج اللوى
Неизвестная страница