تقدمة
ابتهال
مقدمة نخب العدو
سيرة المؤلف
أشخاص نخب العدو
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
تقدمة
ابتهال
Неизвестная страница
مقدمة نخب العدو
سيرة المؤلف
أشخاص نخب العدو
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
نخب العدو
نخب العدو
تأليف
سعيد تقي الدين
Неизвестная страница
تم تأليف هذه المسرحية في مانيلا - عاصمة جزائر الفلبين - في العام 1937.
وتم طبعها على مطابع الكشاف في بيروت في أول شهر أيلول من العام 1946.
المؤلف.
ما ترى حدثت رواتي بعدي
إن رماني التاريخ في ميزانه؟!
تقدمة
إلى الذي نهض بي حين كبا الدهر - شبابي، أقدم هذا الكتاب.
To the Holy, wise and fair “B. J. D.”
This deferred effort is dedicated
and
Неизвестная страница
to thee my alma mater
The American University of Beyrouth
with the fervent wish that you may never
lengthen the breadlines of world
with another campus hero.
Said Taky Deen
دور «الدكتور نجيب» أكرسه إلى رجل العلم النابغة، والإنساني العظيم، الذي عطر الاسم اللبناني السوري في الشرق الأقصى المرحوم الدكتور «نجيب متري الصليبي».
ابتهال
رب، يسر لهذه الرواية مخرجا يفهم الفن، وممثلين يحذقون الدرامة، ومسرحا غنيا، وجمهورا حشدا.
رب، أدخل على قلوب النساء من بني قومي الجرأة، فيمثلن أدوار النساء في «نخب العدو».
Неизвестная страница
رب، لقد أنشأت هذه الرواية قطعة فنية، وحادثة مسرحية، فلما أن جف حبرها، قرأتها، فإذا هي رسالة إلى بني وطني.
رب، طهر بها قلوبهم، فصير شيعهم شيعة، وطوائفهم طائفة، وجماعاتهم جماعة، فيمسي عداؤهم حبا، وتنازعهم تعاونا، وشرذماتهم كتائب، وقبضاياتهم جنودا.
رب، وسع آفاق أبصارهم؛ فيروا الضيعة فوق الحي، والمقاطعة فوق الضيعة، والوطن فوق الجميع.
رب، يدك في هذا الجهد في الناحية الضعيفة من أدبنا، فليقصف التصفيق كالرعد عند نزول كل ستار، ولتدو القهقهة لنكاتها، ولينسجم الدمع في فواجعها، ولتحبس الأنفاس في مآزقها، ولتجلس النظارة على أطراف الكراسي، توقعا لحوادثها.
رب، خلدها على المسرح، خلد.
مقدمة نخب العدو
كدت أن أفتتح هذه المقدمة بهذا القول: «أطرح الرياء، وأبتعد عن الخيلاء؛ فأصارحك أنني أدفع إلى المسرح العربي برائعة، يفتخر بها أي درامائي كان، في أية لغة وأي زمان. أقول هذا وورائي في اختبار الفن المسرحي، دراسة، وملاحظة، وتأليفا؛ خمسة عشر عاما، تعرفت خلالها إلى معظم البارزين في هذا الفن، على المسرح، وفي الكتاب، وعلى الشاشة البيضاء.
ولئن دار في خلدك أنه قد تدحرجت من فمي كلمة ادعاء ضخمة، فأنا أدعوك إلى المقابلة، فأت بأية رائعة إفرنجية، وقابلها «بنخب العدو» حادثة، ومواقف، ونكات، وأشخاصا، ومفاجآت، وحركة، وتضادا، وحبكة فنية، وسلاسة؛ تجد «نخب العدو» تضاهي أجملهن في كل شيء، وقد تكون دون بعضهن في روعة المأزق، ولكني واثق من أن نهايتها هي أجمل نهاية رواية تعرفها بدون استثناء، وعلى الإطلاق». «انتهى التبجح».
غير أني وجدت مثل هذا القول بعيدا عن سلامة الذوق والكياسة، وقد يكون غير صحيح، وها أنا ذا لا أملك وأنا أراجع قراءتها بعيدا عن المسرح، من أن أسائل نفسي: أهذه هي الرائعة الأوتوبيوغرافية التي كنت أهرع إليها، كلما أصابني فشل جديد، فأعزي نفسي بقولي: لا بأس، إن «نخب العدو» ستخلد اسمك؟! أسائل نفسي بكثير من الشك: أعظيمة هذه الرواية بقدر ما كنت أتمنى؟ أم هي عادية، أم هي - ويا للعياذ بالله - جهد فاشل؟! أتعرى من عواطفي، وأقول لك ولنفسي بصدق، وبالألم الذي يلابس الحيرة: لا أدري، لا أدري، فالدرامة خارج المسرح كالسمكة خارج المياه، والرواية التمثيلية - كما يدل عليها اسمها - هي أداة تمثيل، وليست أداة مطالعة، وليس للقارئ أن يقيم نفسه قاضيا عليها. هي ذا طاولتي تحمل أربعة مجلدات ضخمة، تضم كل درامة ناجحة بين عامي 1904 و1936. أذكر أنني لم أجلس لقراءة إحداها إلا شعرت كأنني مرغم على تجرع دواء كريه.
وبعد، فأنا ألفت هذه الدرامة، وبيني وبين مسرحي خمسة آلاف ميل، وبيني وبين جمهوري اثنا عشر عاما. ثم أين هي من المختبر العظيم - المسرح - تتكيف بالتمرين، وتصاغ على التجربة، فلا يراها الناس إلا بعد أن تمرن، وتهذب، وتراض؟ إنني لا أعرف في تاريخ الدرامة رواية كذا كانت ظروف إبداعها، فإن جاءت برغم هذه المصاعب ناجحة، وكان في حيويتها عناصر الخلود، وأعياني إذ ذاك المال، لقطعت الطريق أنهب لي ثمن تمثال أقيمه لنفسي. وما دام لكل قصة قصة، فهذه قصة «نخب العدو»: ألفت في صباي مهزلتين هما: «لولا المحامي» و«قضي الأمر»، كان من سوء حظي أنهما نجحتا، وهاجرت لبنان والأدب إلى التجارة، فكان من سوء حظي أني أصبت النجاح المالي عاجلا، ووحلت طريقا كانت مغبرة، فتبخرت الثروة، وأطفأ البعد والانقطاع عن الإنتاج اسما أدبيا كاد يلمع، فإذا لا خيل عندك ولا حمير، ولا أدب ولا مال. وخلال هذه الأعوام مر بي من الحوادث والاختبارات والأشخاص ما لا تحشده الأيام في عشرات السنين، وكنت أثناء ذلك غير مواظب على شيء إلا الدرامة، وفي مخيلتي عشرات القصص ومئات المشاهد، أكثرها بخار وضباب، وحدث أن المهاجر اللبناني بحروز معضاد ماتت له همة في «البلاد»، فجاء يستكتبني مقدمة لرسالة تعزية، يسميها المهاجرون «ترجومة»، فعجز بياني عن تلك المحاولة العظمى، وجاء من أخبرني أن المواطنين المهاجرين يتضاحكون، ويقولون إنني أجهل الكتابة، حتى لا أقوى على خط «ترجومي»، وأن أحاديثي عما كتبته في صباي هي من قبيل التباهي الكاذب. «سنرى!» قلتها لنفسي صارفا بأسناني.
Неизвестная страница
في تلك الساعة، عاهدت نفسي على أن أنتشلها من هوة الخمول. في تلك الليلة عقد دخان سكائري غيوما في غرفتي، وتذمر الجيران من رائحة البن في مطبخي، وتمخضت ب «نخب العدو». وجدت في تلك الليلة أن بين يدي ثروة من مذكرات دونتها في أحلامي النهارية، وفي أسفاري، ورجعت إلى أوراق صباي، أستوحيها ثقة بنفسي كادت تتلاشى، وكحلت عيني برؤية صورتي، يطرز إطارها في الصحف عبارات التقريظ، وناديت نفسي مشجعا: «إلى الأمام! تقدر أن تؤلف. تقدر أن تؤلف.» والله لأؤلفنها هذه الليلة! هذه حوادثها واضحة في رأسي، ومواقفها لا ينقص إلا أن أضعها على الورق. ها هي العبارات تثور، والمكالمات تتسابق إلى الجلوس على القرطاس. «لأؤلفنها هذه الليلة!» قلتها لنفسي وأنا أجتر انتصارات غابرة، ومشى بي بصري في مقالة مدح من قلم توفيق قربان إلي: «ونرجو أن يماشي سعيد تقي الدين في تآليفه المستقبلة مبدأ النشوء والارتقاء.» «النشوء والارتقاء» - ها! تلك العبارة كبحت جنوني، وردت المنطق إلى تفكيري. النشوء والارتقاء. تقدم على مهل. كن أمينا للذين تفاءلوا بك. درامة، لا تكتب في ليلة. إلى فراشك يا غلام! اذكر أن أحب خلانك إليك يقول لك إنك مجازف متهور. لولا هاتان الخصلتان لكنت اليوم غنيا. لا تجازف بأدبك كما جازفت بمالك. الرواية لا تكتب بليلة. كن صادقا لفنك، وتوجه إلى الناس بنهاية النهاية من مقدرتك. إن هذه المواد التي بين يديك قد تظهر لأول وهلة وافرة، فاقتطف منها أطيبها، وارم الحامض والمهترئ. قد تكون هذه آخر قفزاتك في الحياة، فتطلع قبل أن تقفز - حذار المهاوي.
وما زلت أحذف، وأكتب وأمزق، وأزيد وأنقص، إلى أن تجهزت هذه الدرامة.
فن مبذر مقامر
قد يكون ولعي بتأليف الدرامة أنه وقع مني على طبع مجازف. فالشاعر مثلا ينظم أبياته في لحظات أو ساعات، فإن جاءت شعرا، شعرا، رددها الناس عاما فعاما، وجيلا فجيلا. أما المؤلف المسرحي فيصب فنه وروحه وخبرته، ويقوس ظهره ناحتا حجارة قصر يشيده - لماذا؟ ليبيت فيه جمهوره ليلة، بل ساعتين أو ثلاث ساعات من ليلة. يا له من فن مسرف! القصاص يؤلف له نوفلة أو قصة قصيرة في وسعك أن تقرأها في فراشك، أو في القطار، أو حيث تستطيب، وحين تكون نفسيتك في شوق إلى قراءتها. أما الدرامائي فيشتغل، ويستشغل جيشا من مخرجين وممثلين ودهانين و، و، و... ويقول للناس: تعالوا إلي في الليلة الفلانية، واسمعوا إلى ما أحدثكم به، وانظروا ما أعرضه عليكم. أنتم القضاة، وليس لحكمكم استئناف، ولا تمييز. لا أبالي في أية حالة نفسية أنتم. أريدكم في الساعة كذا أن تجتمعوا، والساعة كذا أن تنصرفوا. أنتم لكم ذهنيات متباينة أفرادا، ولكم نفسية خاصة مجتمعين، ومن المحتم علي أن أفهمكم أفرادا وجماعة، وهو فرض لا يعترض طريق فنان سواي.
الدرامائي رجل الشارع
هو بحكم الحال فنان غير اختصاصي. فالمصور مثلا يقدر أن ينصرف إلى التصوير فقط، بل في وسعه أن يجنح إلى فرع من فروع التصوير، وله أن لا يفهم شيئا سواه، وليس في ذلك ما يعيبه، بل إن نوابغ الفن المجازي جاءوا فقراء في دراسة الدنيا وشئونها. أما الدرامائي، فتتنوع أشخاص روايته، واختلاف مشاكلها ومواقفها؛ يحتم عليه أن يفهم كل شيء من العلوم والناس والتجارب، إن لم يكن من الألف إلى الياء، فعلى الأقل من الألف إلى الباء، فلا تتخيلن الدرامائي فنانا كلاسيكيا تهدل شعره، وتاهت إلى ما وراء الأفق نظراته، بل هو ابن الأرصفة، يسحب الأرانب من القبعات، ومن حصافة الرأي إذا صافحته أن تعد أصابع يدك، لتتأكد أنها لا تزال في مكانها.
كنت في «نخب العدو» أسائل نفسي، وأسائل الشهيرين من الأطباء، هل العلم يضحك من نظريتي التي وضعتها على فم «الدكتور نجيب» من أن المفاجأة العظمى تشفي العمى العصبي؟ هي نظرية ولدها خيالي، أيمكن أن تكون أو تصير حقيقة علمية؟ ابتسم الأطباء، وقالوا: من حظ المرضى أنك لم تمتهن الطب. إلى أن وقعت بين يدي مجلة أميركية، فإذا بعض أنواع العمى الذي يسببه الغضب يشفيه الخداع، أو اليقين. وعقبها بحث آخر في مجلة ثانية، تذيع أن الموسيقى تشفي بعض العميان. ومن تبسط في درس تينك المقالتين يجد أن حادثة عمى «وسيم الحموي» في «نخب العدو» وشفائه ليست من الغرابة بقدر ما تبدو لأول وهلة، بل إنها ربما كانت أو صارت حقيقة علمية. اتركها في «نخب العدو» يا غلام، واسبح في أحلامك النهارية، وادع أنك أصبت في الطب فتحا جديدا. بل انظر إلى نفسك في مرآة مقعرة، وقل لقد تنبأ «جون فرن» بالغواصات والطيارات. أنا جول فرن الطب! وليس على الادعاء ضريبة.
ولماذا لم تنشأ عندنا الدرامة؟
أقول: إن في شعبنا مواهب أدبية وإلهاما صافيا. أقول: إن ما ينتجه اليوم بعض شعرائنا هو من أصفى الشعر وأبدعه. أقول لجماعة بيروت - وفيهم كل قريب وحبيب: لقد أصبحتم ولا يعجبكم العجب، فلا تقتلوا بمرارة نقدكم شاعرية إخوانكم. وبعد، فالنقد فن زائف ومهنة طفيلية. فاصرفوا همكم إلى الإنتاج، وشيدوا لنا القصور والجسور، نتعلم منها فن البناء أكثر من تعلمنا إياه في خرائطكم الزرقاء، ولماذا لا تتأكدون من وجود الغلال على البيادر قبل أن تقيموا فبارك الغرابيل؟!
أما طوفان النقد في سوريا ولبنان، فراجع إلى أسباب عدة، أترك منها ما هو معروف وشائع، وأذكر ما أعتقد أنه على القراء جديد. فالنقد يوهم صاحبه - ولو ضمنا - بالتفوق على المنقود. أنا أنقدك إذن أنا أفضل منك، وما دام حب التسود غريزة إنسانية، فلا عجب إذا تفشى داء النقد. ثم إن في قرارة النفس الإنسانية في كل شعب وقطر - ولا احتكار في الموبقات - حثالة لؤم يفسح النقد عنه؛ فلا عجب إذن إذا شاع. زد على ذلك أن النقد يضع بيني يدي الأديب أو المتأدب موضوعا جاهزا، فلا حاجة إلى حك الرأس والتنقيب عن موضوع يبحثه الكاتب. كذلك ليس من إنتاج - مهما عظم - إلا وفيه نواح ضعيفة، يسهل اكتشافها، فتسري نشوة الظفر في عروق الناقد مكتشفها. كذلك التطرف يولد التطرف. القياصرة خلقوا البلاشفة، والمديح بلا وزن سبب النقد الأعمى، وسيأتي يوم تتزن فيه خطواتنا، في الطريق الوسط السوي، ولكننا أغربنا عن الموضوع، وكان «لماذا لم يكن عندنا درامة؟»
Неизвестная страница
من معائب إرثنا الأدبي خلوه من الدرامة، ومن معائب حالتنا القومية أنه ليس عندنا جمهور، فشعبنا ليس موحد التاريخ، انظر إلى بعضنا يقول بالإسلام والعروبة، وآخرين بالمسيحية والفينيقية. هذه قريتنا فيها الفلاح الصلب الفطري، وفيها المتأمرك، والمتبرزل، والمتفرنس، إلخ ... عندنا ألف حزب وحزب، وألف دين ودين، وألف معبد ومعبد، وفي آخر الزمان فشت الروابط العائلية، «كالرابطة الشرندعية» لعائلة شرندع، والرابطة العلوشية لبني علوش، كأننا بدلا من أن نسير في نشوئنا وارتقائنا إلى صهر العائلات والطوائف في قالب الوطن، أخذنا نتقهقر في تهذيبنا القومي إلى فك سلسلة الوطن إلى حلقاتها الصغرى.
ثقافتنا ليست موحدة، فهي علمانية، لاهوتية، عربية، إفرنسية، أميركية، أو خليط من بعضها أو كلها. أثوابنا تتراوح بين العمامة والقبعة، وبين البنطلون والسروال. أعيادنا، وأيام الراحة عندنا ليست موحدة، كذلك لهجاتنا، وأساليب معيشتنا، وطرق تفكيرنا. تاريخنا يرشح بالحروب الأهلية، ونحن في بيروت - مدينة العلم والنور - تلك الشرفة التي نطل منها على الدنيا، والتي زيناها للدنيا، وفي عام 1936 «يلي ب.م، وليس قبله» تذابحنا مسلمين ونصارى - ويا للعار! - ونهبنا أموال بعضنا بعضا. أفي مثل هذا الشعب «جمهور» بمعناه المسرحي، الجمهور الموحد التهذيب والشعور والعاطفة، المتشابه الأذواق؟ المتحاكي العقليات؟! الجمهور الذي يضحك لنكتة، ويستفزه تلميح إلى حادثة؟! سل لي أربعة أو خمسة من عشرائك أن ينشدوا نشيدا، تسمعهم يبدأون موحدي النغمة والكلمات، فإذا انتهوا من المقطع الأول من الأغنية اختلط عليهم النغم، واختلفت الكلمات، وأصبح «كل يغني على ليلاه.» هل في القوم الذي يعجز أي أربعة منهم على الاتفاق ولو على إنشاد أغنية «جمهور»؟ تقول لي إن الدرامائي يجب أن يخلق الوحدة في جمهوره، بحيث يبدع له شيئا يستطيبه المعمم، والمطربش، والمبرنط، والسافرة، والمحجبة. أجيب: إن هذا التنافر بالأذواق والتربية والعواطف يجعل الأمور المشتركة بين جمهورنا ضئيلة، إلى حد أن توقع المؤلف في خطرين؛ فإما أن يرضي الجميع فيأتي بالسخيف، أو أن يرضي شيعة دينية، أو سياسية، أو طبقة فكرية دون أخرى، وفي ذلك هلاكه. وهذه المشكلة لا تواجه أي درامائي كان في أي بلد من بلدان الدنيا، وهذا أحد أسباب انعدام الدرامائيين عندنا، إذ إن خالق الرواية التمثيلية - بسبب عسر جمهورنا - يجب أن يخلق عبقريا لا عاديا، يتدرج هو أو من بعده إلى الإبداع؛ أي إنه يجب أن نظفر من لادرامائي بالمرة، إلى درامائي نابغة. أرجعت تتطلع إلى المرآة المقعرة يا مغرور؟!
والسبب الآخر الكسل. أين يقضي أدباؤنا أوقاتهم؟ أفي محترفاتهم ومكاتبهم؟ أغلب ظني أنهم في المقاهي والملاهي منغمسون، فهل تعجب إن جاء مجموع إنتاجهم - بقطع النظر عن نوعه - يوضع بين دفتي كتاب واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة؟
الأدب لا يطعم خبزا
جملة يقولها من حملة الأقلام، حتى من تعرف أنت أنه بغير الخبز يملأ معلفه. «الأدب لا يطعم خبزا»، ولكنه يطعم ما هو أشهى من الخبز؛ فهو يشبع كبرياءك ويذيع أمرك بين الناس، ويروي عطشك من الشهرة، وهذان الجوع والعطش هما مهمازا الإنتاج الأدبي. بلى، لو أن للإنتاج الأدبي ربحا ماليا عندنا، لوفرت محاصيلنا القلمية، وكذلك لو لم تتبذل وسائل الإذاعة الصحفية، إلى حديث يشتهر الكاتب بمقالة واحدة؛ لما وقف أدباؤنا في إنتاجهم عند هذه الدرجة الدنيا، بحجة أن الأدب لا يطعم خبزا، وإننا لن نستغل عقولنا وهممنا في نهاية مواهبها إلا إذا ابتعدنا عن الصحف، وابتعدت الصحف عنا.
قلت لك إن تأليف الدرامة فن مقامر مسرف، وأزيد: إنه ليس بالفن الذي يدر على صاحبه الربح الأدبي من صيت وشهرة. أنت تنظر إلى هذه الرواية، وتقول: أقرأها بساعة، وأشهد تمثيلها بساعتين، فمن المنطق أن تستنتج أن تأليفها سهل غير مجهد، ولكن صغر الساعة لا يعني أن صنعها هين. أقسم لك، إنني طرحت من مواد هذه الرواية ما يؤلف 17 رواية، وقرأت لها مجلدات تملأ مكتبة، وأفنيت في ميكانيكية صوغها الشهور. القصاص مثلا له أن يسرد حكايته في ألف صفحة أو مائة، وله أن يملأ أوراق المطابع إذا أراد. يقدر أن يقفز بك من مشهد تحت سنديانة الضيعة إلى غرفة على ظهر الباخرة. أما الدرامائي، فيجب أن يزحم في ساعتين أو ثلاث قصته ومشاهده، بحيث يجيء اختزالها واضحا وطبيعيا، وعليه أن لا ينسى أنه يكتب لمسرح فقير، ولمخرج وممثلين يجهلهم، ويجهل مكانهم، ومتى يجتمعون، وفي أي محفل. عليه أن يعرف كيف وأين يزرع الحادثة، وكيف وأين يستغلها، وعليه أن يحيك شبكة حوادثها، بحيث تأتي شبكة غير مشتبكة، والنكتة؟ والحركة؟ والفاجعة؟ والحوار؟ والأشخاص - وهؤلاء من هم؟ وما هي مظاهرهم الجسدية، وقواهم الروحية؟ وبماذا يفكرون، وكيف يتكلمون؟ وعليه أولا وفوق كل شيء أن يستوثق من نفسه أنه ملهم، موهوب تلك المنحة النادرة - النكتة.
الدرامائي يجب أن تكون له حنكة السياسي ودهاؤه. فإن كنت تبشر بنظرية جديدة، أو تدعو لعقيدة غير عادية، أو أحببت أن تصدم الناس بنتاج عقلي غير مألوف، فكن شاعرا يطير في طيات وحل الأثير، منشدا «تتهادى الرياح في مهجتيا.» أو فيلسوفا ينطق بمثل الحكمة «الحياة أغاريد الخنازير، وأغاريد الخنازير هي الحياة»، أو مصورا يصور قطيع فيلة، تتدلى خراطيمها من شعر الأقرع، وذيل الصورة ب «غمار الهرم»، أو فكن عالما يؤلف 14 مجلدا في «الدعوة إلى الزواج المختلط بين الإنسان والحيوان؛ لتحسين نسل السوبرمان»، ولكن لا تقترب من المسرح؛ فالدرامائي رجل الغوغاء ، ورجل العامة، ورجل النخبة من الناس معا، وهو كالصحافي رجل يومه، قد يلقي نظرة سريعة إلى خلفه فيلمح الماضي، وربما يمشي وراء أنفه قليلا، فيبصر من المستقبل ومضة، ولكن أفقه دائرة قطرها يداه، يقول: هذا عالمي أؤلفه اليوم؛ ليمتع به اليوم. بالطبع أستثني العبقري الذي يؤلف لليوم، فيتمسك بإنتاجه للغد، ويدفعه هذا إلى ما بعده، وهكذا دواليك، حتى يخلد.
اللغة
من الأبحاث ما تلوكه الألسنة، فتتقزز النفس لتبذله. من هذه الأبحاث هي اللغة، التي صارت في العالم العربي «فوتبول» الجدل في السنين الأخيرة، ولكن هذه المقدمة تستوجب أن ألبط هذه الطلبة ولو مرة واحدة بالرغم مني. فكلمتي في هذا البحث شطران؛ أولا: من الحمق مضغ الكلام، وسن الشرائع، والدعاية لهذه النظرية أو تلك. أنت تقول: يجب أن نؤلف بالعامية. الحق معك تفضل، وألف بالعامية، فإن راج مؤلفك، وثبت على الدهر وشاع؛ كانت العامية هي اللغة التأليفية المثلى. أنت تستنكر العامية، وتنتفض لذكر كلمة إفرنجية تسربت إلى الفصحى. هات قوانينك وجنودك تمنع الناس عن استعمال كلمة «الأفلام» و«الترامواي». لماذا التشاحن النظري، وعلام هذا الحرب بالنظارات إذن؟! في رأيي - وليس أسهل على المرء من إبداء الآراء - أنه من الجريمة أن نؤلف باللغة العامية؛ لسبب بسيط، هو أنه ليس عندنا لغة عامية شاملة. في الأقطار العربية مئات اللهجات واللغات، فأيها تعتمد؟! وأين الحكمة في طرح تراث مئات السنين، والتعلق بوراثة عامية معدمة! إذ ليس فيها كتاب واحد، وكيف تريد أن ننصرف عن عالم ثقافة عربي عدده ملايين إلى لغة شيعة قد لا تتجاوز الألوف؟! على أن الدفاع عن الفصحى في التأليف لا يعني منع التفاعل بين الفصحى والعامية. خذ مثلا في الفصحى:
قالوا اللقاء غدا بمنعرج اللوى
Неизвестная страница
وا طول شوق المستهام إلى غد
هذا ليس أفخم في ميكانيكية تركيبه من:
قالوا الكردي فز الحيط
هذا الكردي وهذا الحيط «خذ حذرك»، كنت أعتقد أنها عامية، حتى قرأتها في القرآن الكريم. في ظني أن أفعل عبارة سمعتها في حياتي تلفظ بها رجل حط به الدهر ؛ فاضطر إلى التعامل مع بعض سقط الناس، فالتفت إليهم في ساعة حنق، وصاح «لما كنت مكاري ما عاشرت هيك بغال.» ماذا عليك لو فصحت مثلا مثل هذه العبارة الجميلة، تناولتها من اللغة العامية بأصابعك من غير ملعقة، وأنا أكفل لك أنك لا تحتاج إلى غسل يديك.
في لغتي المسرحية تعمدت، وربما لم أتعمد لغة طبيعية سهلة، لها صدى موسيقى الأدب العالي، ولكن فيها جلبة الشارع وضجيج ساحة القرية. اللغة هي من المشاكل الكبرى في التأليف المسرحي عندنا، وهذه المعضلة لا تواجه فيما أعلم أي مؤلف مثلما تواجه المؤلف العربي؛ لسعة الخليج الذي يفرق العامية عن الفصحى، ولتعدد لهجات العامية. ولكننا سنتغلب على هذه المصاعب، نقهرها بالتأليف والإنتاج، وليس بعلم النظريات، ومضغ الكلام، ومط البديعيات، وبالتحذلق في كيف يجب أن نكتب، أو لا نكتب.
اللصوصية في الأدب
نلخص أجوبة الأدباء حتى الساعة، إذ يتهمون بالانتحال، أو الاقتباس؛ بكلمة واحدة هي: «بيكذبوا»، عساي أختط للكتبة طريقا جديدة، إذ «أعترف» بكيف آخذ عن الغربيين ما قد تكتشفه في هذا المؤلف.
أمامي كتاب ميخائيل نعيمة في «جبران خليل جبران». إن المتضلع من الإنكليزية، المنغمس في معاشرة الأميركان، المعجب بقوة إفصاح لغتهم العامية؛ يشعر إذ يقرأ كتاب نعيم، بصدى بعيد في نفسه يسائله: «أين قرأت هذه العبارة؟ متى مررت بتلك الاستعارة؟ من أسمعني هذا الرأي؟» أسمعه في صفحة 3 يقول:
أنا أستعد للانصراف من محل، أنحر فيه كل يوم ساعات بكارى من حياتي لعدد محدود من مومسات الريالات.
لا ريب أن المؤلف كان يسمع شتائم الدمغيين
Неизвестная страница
1
في الحملات الانتخابية في أميركا، يقولون في أخصامهم
You have prostituted the government
تعبير جديد قوي الإفصاح تاق نعيمة إلى تعريبه، فلما أن جلس يقص علينا آلام زمن أفناه في بيت تجاري، صرف بأسنانه وشتم: آ - شتيمة - عاهر - مومس - جاءت «مومسات الريالات.» ونعيمة ككل فنان، يدين بمذهب التضاد، ويحذق استغلال المعاكسات. ركضت إليه لفظة بكارى، وهي ضد مومسات، فجاء ظافرا في العبارة كلها. غير أنه فشل في صفحة 85 في قضية «عضاض»، فالجملة الإنكليزية الشائعة التي تقابل «برد قارس» هي
Biling Cold . قال نعيمة لنفسه لأدخلن على العربية تعبيرا جديدا «برد عضاض» ها! كلمة «عض» قادته إلى «ناب»؛ طبعا الناب للعض، والناب عضو من أعضاء الجسم، فزلق إلى «رجل»، فأتت الجملة «يوم برده عضاض ... أنيابه من ذهب ... رجلاه من زجاج ...» فشل على طول الخط؛ يبدأ ب «عض»؛ لأن الضاد حرف دافئ، ولفظة قارس أفعل في أداء معنى البرد من «عضاض». وأصغ إليه في صفحة 32، يقول:
كأنه محمول على سحابة.
فهذا التشبيه الجميل في العربية هو من عاديات الاصطلاحات الإنكليزية
Soiling on a Cloud .
وفي صفحة 48 يقول:
نجوت من الصرف، والنحو، والمعاني، والعروض والقوافي.
Неизвестная страница
فكأنه اختزل بسبع كلمات مقالة شهيرة لهزال أميركي نسيت اسمه، ولم أنس عنوان مقاله
You will get me your education ، والكتاب حافل بمثل هذه الاقتباسات، بعضها ناجح، والبعض - كما ينتظر - فاشل، فهل نتهم نعيمة بأنه نشال إذا حاول عمدا أو بغير عمد أن يغني العربية بهذه التعابير، والأفكار الوهاجة؟ بل هل في وسع نعيمة - أو أي من الناس - تثقف بالإفرنجية، ولعله عاش ودرس وفكر إفرنجيا، أن يجلس إلى ورقة فيتعرى من ثقافته ودراسته، ويخترع كل كلمة وعبارة وفكر؟! وهل من الحكمة أن يفعل كذلك إذا هو قدر؟ وهل من العار أن جاءت الاقتباسات وهي تكاد تكون من مبتذلات اللغة الإفرنجية؟ إن ابن القاهرة لا ينقص من شهيته للعنب كون العنب فاكهة مبتذلة في لبنان.
أريد أن أهمس إليك: إنك إذا كنت تحسب مثل هذا التعريب أو الاقتباس، أو الأصح التفاعل سرقة، فأنا في «نخب العدو»«حرامي».
تسألني: ولماذا اخترت كتاب نعيمة في جبران، واقتطفت منه الأمثال، فهل سندشت
2
اسمك بين كوكبين؛ ليستضيء بلمعان جاريه فيراه الناس، أم لتتحدى المقابلة، فيذكر اسمك وجبران ونعيمة في نفس واحد؟ أجيب - ولك أن لا تصدقني - أن «جبران خليل جبران» هو الكتاب العربي الوحيد الذي قرأته خلال ما يزيد عن عقد من السنين، فكان من الطبيعي أن تجيء منه استشهاداتي، وأنا لا يقتصر تكسبي على الكتب بل أتعداه، فإني مولع بمطالعة المؤلف الذي له قدمان وعينان وأذنان، والذي اسمه إنسان . لم أجئ بهذا الاعتراف اعتذارا عن جريمة اقترفتها، بل لأوضح ما يجب أن يكون أشيع من البديهيات، وهو أن الاختراع الصرف الطاهر، يكاد يكون مستحيلا. ذكر دوماس - وقانا الله شر الاستشهادات - وقد عيروه بتهمة الاقتباس أن أول المقتبسين هو الله، إذ خلق الإنسان على شاكلته، ولم يبتدع رجلا جديدا. فلا يقومن غدا لئيم يتهمني باللصوصية، إذ حتم الصدق علي هذا الاعتراف، و«نخب العدو» بالمعنى الشائع هو مبتكرة حوادثها وحوارها، وكل شيء فيها. ولئن مررت بعبارة تلبس الثوب الإفرنجي، فتأكد أن روحها عربية مثل «لو أمطرت الدنيا دولارات، للبس وسيم مشمعا»، هذه عبارة لي، بعتها لمجلة بثلاثة دولارات. بل إني أندب الكثير من الأفكار والعبارات التي تتسرب إلي بالإفرنجية، ولا يمكنني تعريبها، إما لتلاعب لفظي، أو لفقدان بعض الكلمات والاصطلاحات في العربية، يحضرني من هذه العبارات قولي:
History is libre money, it sometimes spoils people to inherit too much of it ، فهذه عبارة عن تعريبها؛ لعدم وجود ما يقابل
Too
بالإنكليزية.
لم أذكر كل هذا لأدل باضطلاعي من الإنكليزية، أو لأوهمك أنني في تلك اللغة كاتب؛ بل لأني أشعر، وبعض العبارات تتبرقع بالإفرنجية، بظنك أن هذه العبارت منهوبة، وما حيلتي في تعريبها، وقد ولدتها إفرنجية؟
Неизвестная страница
يلعن دين
هل أنا أول من وضع هذه الشتيمة على الورق؟! إن كنت ذلك الكاتب فأنا لست بخجول، لا أريد أن أبرئ نفسي أو فعلتي هذه بالقول: إن كبريات مجلات أميركا وصحفها بدأت في السنوات الأخيرة تطبع العبارات السفيهة، ولكني أقول: إن «يلعن دين» هي شتيمة، غير أنها ليست بالشتيمة القذرة، ومن منا لا يستعملها؟ وأنا إذا استعملت «يلعن دين الورق»، لم أشتم شخصا ولا دينا. فلماذا لا أذكر عبارة بليغة في تأدية المعنى، وأرجع إلى مثل «لحاك الله» بدلا منها؟! ألا لحاني الله حتى لأتعثر بلحيتي إن أمكنني استعمال «يلعن دين»، واعتضت عنها ب «لحى الله». أما كلمة «قحبة» فهي قاموسية، وهي «العاهرة» بعينها، ولكني آثرت الأولى؛ لأنها فصيحة وعامية معا؛ ولأن أنين القاف الصلبة إذا جاورت فحيح الحاء أقرب إلى أداء معنى الفحش والزنا من «عاهرة»، وهذه كلمة موسيقية عذراء، مثل «طاهرة، وشاعرة، وساهرة.»
والسبب الآخر في فشل الدرامة عندنا
هو أن هذا الفن يقتضي التعاون في أبلغ درجاته، فالنحات والشاعر والمصور والموسيقي لا يحتاج إلى رفاق. أما الدرامائي، فهو حين يفرغ من حبك درامته، ينتهي من بناء أول درجة من سلم ينطح الجوء، المخرج والممثلون والأوركسترا والخياطون، حتى والجمهور هم الرفقة المتممون لكل درامة. فالسبب الذي من أجله لم نتعاون ولم نصر أمة حتى اليوم، هو السبب الذي من أجله لم يثبت أمام جمهورنا مسرح ولا درامة. متى أردنا إخراج درامة، فالكل يريد دور البطل، ثم نتنافر، ثم لا نتمرن كفاية اعتدادا بأنفسنا، والاعتداد هو «سبور» قومي عندنا، ثم لا يتعاون الممثل ورفيقه الممثل، ثم لا نجتمع في ساعة الاجتماع، ثم - وكم ثم تطلب حتى تهدم رواية، وواحدة تكفي للهدم؟! لهذا لا يستغرب أن معظم الروايات يمثلها التلامذة؛ إذ إن الحسد والتباغض والكسل تكون على أقلها في عذارى نفوسهم. أما من الوجهة التجارية، فإن سوق الدرامة موجودة عندنا إذا قام عندنا مؤلف، وتعاونت معه فرقة، إذ إن شعبنا شعب متعطش للهو، متعشق للأدب، وهذه دور السينما والفرق الأجنبية تستغل شعبنا رابحة. الدرامة لا تشيع إلا بالتعاون، ونحن شعب متخاذل. خذ حملة الأقلام عندنا. لقد قردوا الأدب بحرب أهلية، أثاروها بينهم، وانصرفوا عن الإنتاج إلى التشاتم والانتقاص، وتهديم بعضهم بعضا. تسألني: وكيف تكتب؟ بل أنت لم تسألني، ولا تريد أن تسمع، ولكن صبرك لحظة، فلن أقول لك: إنني أكثر التدخين والقهوة، وإنني يجب أن أكون في حالة جسدية تامة، وأنني أروض ذهني بسماع الموسيقى، أو التطلع إلى حسناء، أو قراءة أدب عال، أو أستعيد ذكرى مفرحة أو ظفرا غابرا، أو أنغمس بحلم جميل. هذا كله ليس بالجديد عليك، ولكنك لعلك لم تسمع أن أجمل ما كتبته كان بعد لعبة بوكر خاسرة. فإن أعظم مثير لهمتي، وجامع لأفكاري، ودافع بي إلى العمل، هو توبيخ الضمير إذ أقترف موبقة، أو أقصر في تنفيذ واجب، فيصيبني من الندم والتحسر ما يهيجني إلى التكفير عن إثمي بإنتاج شيء أعتقده ثمينا. لا بأس عليك إذا سكرت مرة، بشرط أن لا تصبح سكيرا، وبشرط أن يبقى ضميرك حيا، فتتطلع بالمرآة في صباح اليقظة بعد مساء السكر، فتخاطب الوجه في المرآة: «هذا شحوب الضعة في اصفرارك، وهذه الحياة تتناثر من زئبق عينيك. هيا يا مجرم، كفر عن معاصيك بعمل مجيد.» أنا لا أجد من دافع إلى العمل مثل ضمير حي يشعر بالندم. فإن أنت أمنت من وجدانك بالصلابة، فليس أنفع لك من اقتراف الخفيف من الإثم حينا بعد حين.
غير أنني لا «أجلس لأكتب»، فكل ما أضعه على الورق أنقله من مذكرات في دفتري أو خاطري جاهزة أفكارا وعبارات وكلمات، ولست أقعد إلا لأؤلف بينها، وقد أزيد أو أنقص، ولكن الفكرة الرئيسية جاهزة بكل معداتها. أما «نخب العدو» فقد ولدت أشخاصها أجنة، وكبروا، وكبرت معهم، وعايشتهم هاتين السنتين، ففي مقدرتي أن أقص عليك سيرهم، ولو أني رسام لصورتهم لك. لا أنسى منذ أيام إذ لقيت في الشارع مواطنا، فهرعت إليه أسلم عليه سلام الأحباب. قال: «يا أفندي، أشكر لك بهجتك بلقائي، ولكنني أنا من جبال القدس، فيها قضيت كل حياتي، ولم أصل هذا المهجر إلا البارحة، ولا أعتقد أن الله أنعم علي بلقائك قبل اليوم»، فانصرفت أسائل نفسي: من هذا الرجل؟ يستحيل أن لا أكون أعرفه، إلى أن انبثق النور أمام عيني - بلى «هذا شمدص جهجاه»، كما تخيلته في «نخب العدو». حتى أحلام الليل صارت تهبط علي في شكل درامة - على مسرح وأمام نظارة، يرتفع الستار عن حادثة، وينزل على حادثة.
تسألني، وهل أنت تخلق أشخاصك خلقا، أم هم أحياء منقولون؟ أجيب: إن كلا الأمرين ميسور وموافق، فرب صورة فوتوغرافية لغادة يقصر عن استيحاء نظيرها من خياله أعظم الرسامين، ورب دون كيشوت تعرفه أشد إضحاكا في مهازئ مغامراته الحقيقية من دون كيشوت الأصلي، وما دام في وسعي أن أمسخ، وأشوه، وأن أكون من شخصيتين أو أكثر شخصية تلائم قصتي، فلماذا أسمر نفسي إلى طريقة واحدة ؟! ولعل أقرب أشخاص الرواية إلى الأشخاص الحقيقيين هو دور «الدكتور نجيب»، الذي كرسته لذكرى الرجل العظيم المرحوم الدكتور نجيب الصليبي.
أما الدرامة، فتنشب في رأسي غوغاء من مشاهد وأشخاص وحوادث، فقد يخلق المشهد شخصية، أو الشخصية حادثة، أو الحادثة عبارة، أو العبارة قصة. أي مؤلف يدري كيف يؤلف؟ أنا كثير الاستنجاد بعقلي الباطن، فكل ما صعب علي، لا أيأس منه، بل أودعه عقلي الباطن، وأقول: «المروءة يا هذا، أخوك الواعي عجز، وأنا في حاجة ماسة إلى تلك اللفظة أو الحادثة، فاشتغل بها، ومتى ظفرت نادني.» وفي هدأة الليل، أو في التاكسي، أو في أي مكان وزمان تفاجئني اللفظة أو الحادثة. أطلق لمخيلتي العنان، فتزخر أمامي مشاهد وأصوات ومواكب غريبة شتى؛ نابليون أمام الأهرام، لندبرغ يقطع الأتلانتيك، نعش حبيب حي، باخرة تغرق، حرب أهلية في السودان، معركة في حانة، سكير في مدرسة، طفلة بين عجلات الترامواي، مدرسة تحترق، أبيات من الشعر، حسن الزيلعي على المنبر، والمحامي صياح العبود مضرب عن الطعام في السجن. ومن هذه المشاهد الجنونية المتناثرة، تنبت جرثومة، فغرسة، فشجرة. أطلق لحصان فكرك العنان فقد يفر، ويكر، ويعرض، ولكنه في نهاية الأمر يركض بك إلى هدف معلوم.
ولئن تركت هذه الرواية في نفسي من حسرة، فهي أنني أرغمت على خلقها قزماء، ولم أتركها تنشأ هيفاء، ممشوقة القوام. ليت جمهورنا واسع الصدر، بعيد عن التعصب، إذن لجعلت «الحموي والحمصي» بيت «الخوري وعبد النبي»، مسلمين ونصارى، وحملتهم الأسلحة وتركتهم يتقاتلون ويتناحرون ويتشاتمون، ثم ألفت بين قلوبهم، فإذا هم عصبة دفنت الأحفاد، ولكنني أؤلف لمسرح، ولا أريد أن ألعب بالقذائف، فأي أحمق يجسر أن يضع على أفواه أشخاص روايته كلمة، قد يفسرها جاهل أنها تحقير لجماعة، أو مدح لمذهب على حساب مذهب؟ هذه الرواية - على ما أعلم - هي المحاولة الأولى في العربية لبث دعاية الألفة في مؤلف أدبي، ولا عجب إن جاءت المحاولة مبتورة بحكم الفن، مغمغمة بسبب توتر الأعصاب. «الحذر هو ثلثا البأس.»
تستفهمني سرا عن مذاهب أشخاص «نخب العدو ». أجيب : لو أني أعرف أنا دين أحدهم لعرفته أنت، وما اضطررت إلى سؤال. حينما شرعت أدون مذكراتي كان «الحموي والحمصي»، «الحداد والنجار»، وهما اسمان مشتركان بين جميع الطوائف، غير أني خشيت، وكل معارفي الحدادين مسيحيون، أن يأتي بنو الحداد في «نخب العدو» - ولو على الرغم مني - نصارى. فاستبدلت الاسمين، إذ أنا لا أعرف في الدنيا لا «حموي» ولا «حمصي». إن من بحث الأديان في لبنان وسوريا، وجب عليه أن يمشي على الأخمصين، ويضع المخمل في الكفين، ويطلي بالعسل الشفتين، فأين التسامح عندنا أين؟
هل هذه الدرامة محلية؟ أصيح بك بشراسة جبلية: لا! ففكرتها الرئيسية هي إنسانية شاملة طرقها قبلي - عفوك يا قارئ - شكسبير في روميو وجولييت، وعالجها الإغريق قبل شكسبير في روايات عدة، ولئن جاءت حوادثها في «وادي الأرز»، وفي مهجر من مهاجر بني وادي الأرز، فلا يعني أنها «أرزية»؛ إذ إن الحوادث تتطلب مكانا ما تقع فيه، والحكم على محليتها أو على شامليتها يكون بموضوعها وحوادثها وأفكارها، وليس بمكانها. غير أني لا أنكر أني لو أبحت لنفسي أن أشرد عن الفن قليلا، وأغراني من كثرة السذج تملقهم فخامة العبارة الجوفاء، ومواقف البطولة الفارغة، ونعتهم «بالولدنة» المجبون، وهو في نظري أرقى أنواع الأدب وأعسره؛ إذ فيه دراسة وعظة وترويح للنفس، لعريتها من حلاوة نكات، ونزعت عنها الكثير من مألوف الكلام، وأرسلتها في الناس طنطانة، وألبست كلا من أشخاصها حلة ذات لون واحدة، وحقا لقد نظرت في أن أفعل هذا، وقلت: لماذا أصور نفسي في عيون الكثيرين روائيا لبنانيا، أو سوريا، وفي أسهل ميسوري أن أحذف القليل، وأنقخ القليل، وأملح المشاهد بشيء من بديهيات القول، فيرضى الذين يحسبون الشحم عضلا - وهم كثرة - ويقولون: هذا درامائي عربي بل عالمي! وهممت أن أزين «نخب العدو» على النحو الذي ذكرت، فأبصرت حبري قد اصفر جبنا، ويدي بدم الإثم ترشح، وهتف بي ذلك الخفير القابع في زاوية نفسي: «ستأتي طنطنتك مزيفة، وللصدق حيلة على الظفر لا نفهمها، ولكنها فائزة في نهاية الأمر، فالزم النزاهة، وإن كان الإبداع نصيبك، فسيأتيك متفجرا من إلهام نفسك، لا حلة عارية منسوجة من خيوط تفكير سواك.»
Неизвестная страница
إلى المخرج
ليس أدعى إلى التفاهم من الصراحة، فأخبرك فيما يقرب الوقاحة أنني أمقتك. إن بيني وبينك من البغضاء الغريزية ما بين الأم وصهرها. تحدث الأم نفسها فتقول: هو ذا النفس التي انبثقت من نفسي، والتي ربيتها بدموعي وتنهداتي، وغمرتها بحنوي؛ يقصيها عني غريب. ويقول الصهر: هذه حبيبتي التي اخترتها من بين فتيات الدنيا، تحاول امرأة أنانية خرقاء أن تحتفظ بها دوني. هكذا أنا ألد هذه الدرامة، وأنت تتمتع بإخراجها، وهي طوع يديك، وليس لي بعد طبعها أمر ولا نهي.
أفهمت لماذا أبغضك؟
ولكن هذه القرابة بيننا قد فرضتها الطبيعة علينا، فلنحاول إذن أن نكون صديقين.
لك أن تتمدد باسمك على برنامج الحفلة قرب اسمي، وليكن بطوله وعرضه. فأنت شريكي في هذا الجهد الأدبي، لك قسمة النجاح، وعلى رأسك نصف عاقبة الفشل. لا أحسدك على مكانك؛ إذ إنك في مأزق أصعب من مأزقي. أنت تواجه قضاتك، وسيقرأون حكمهم عليه بحيث تسمعه. أما أنا، فأتلقى الحكم غيابيا، فهكذا يتضاعف عليك ألم الفشل، أو حلاوة الفوز، ولقد بعتك نصف الأمل بالفوز، بنصف الخشية من الخذلان. ارفع الستار عن سريرتك، واعترف أنك في باطن قلبك تكرهني، وتستخف بإنتاجي، وتعتقد بتفوقك علي. أنا من رأيك، فلا ريب أنك أخبر بالدرامة مني، وأن قلمك أكتب من قلمي. رجوتك إذن أن تتفضل وتخلق لنفسك درامة، من غير أن تشوه كتابي، فكل حرف في روايتي هو قطعة من روحي، فلا تعذبني ببتر حرف منها، وارفق بي، فلا تغير ولا تبدل فيها شيئا. لا تحاول تطبيبها، فهي صحيحة في عيني. أنا ولوع بالأحباء أولادك - حفظك الله وحفظهم - غير أني لا أود أن أتبناهم، فارحمني ولا تسندش أيتام أفكارك بين أبناء فكري وبناته. إن جمعية «الرفق بالأبالسة» هي جمعية نبيلة الغاية، من المروءة أن تتبرع لها بريع حفلة التمثيل، ولكن افعل ذلك سرا، ولا تذعه، فإني أريد من القوم أن يدفعوا ثمن تذكرة الحضور عن شوق؛ لمشاهدة «نخب العدو»، وثقة منهم أن أجرة الدخول تساوي لذة مشاهدتها، فلا أريدك أن تقول للناس: تبرعوا بمالكم للمشروع الفلاني، وهذه «نخب العدو»، تنكة، أجمع بها إحسانكم.
كذلك، أنا معجب بالآنسة مرتا - مدموازيل مارغو - البولاقي، وأتشنج نشوة إذ أسمع صوتها الملائكي، وأذوب طربا لعود الأستاذ جاد الله البحناوي، ويغمى علي ضحكا لطقطوقة صديقينا «حويشان وزيدي»، فأرجوك أن تقيم لهؤلاء الفنانين النابغين حفلة خاصة، يعرضون بها بضائعهم، واترك ليلة «نخب العدو» ل «نخب العدو».
تمنطق بمتراليوز، وتأبط رشاشة النار، فإذا نهض شاعر المدينة، وبلبل المغردين «صديقنا» سلوم الأندبوري، وارتجل بضعة أبيات تناسب المقام، فلقمه النار، وازرع بالرصاص جسده، ودمه في عنقي. زين المحفل بالألوية والأزهار، ولتشع في جوانبه الأنوار، وليكن مستقبلوك فتيانا عتاليت
3
بسامين، ولتعزف الأوركسترا حينا بعد حين، واخلق في القاعة جوا فرحا، كأن القوم في مهرجان، إذ لو قطب الجمهور لكان في عبوسهم مأتمك ومأتمي.
لا تضرب بالعصا على المسرح قبل رفع الستار، بل اخترع لحنا عسكريا هزليا، ينفخ من بوق قبل أن يسفر برفع المسرح عن مشاهدك. حذار القنابل حذار! فلا تنطق ممثليك بلهجات خاصة؛ إذ إن «نخب العدو» هي سلسلة عقد كفاح بين أشخاص، وفئات، ومبادئ، ومواقف، فلا تفسحن للئيم أو جاهل يقول: لقد أردتني، أو أردتنا بذلك الشخص أو تلك الكلمة.
Неизвестная страница
بقي أن تذكر أن البغضاء لون من ألوان المحبة، فاغسل بالعطر شاربيك، وهات منهما قبلة! ...
سيرة المؤلف
بقلم المعجب به حتى العبادة
سعيد تقي الدين
قلت للمؤلف، وقد ربض بما يزيد عن المائة وعشرة كيلو من جسده على كرسي، يهتز من تحته، ويصيح: حدثني عن حياتك من يوم أن بكيت لأول مرة إلى هذه الثانية، التي أراك بها باسما ب «نخب العدو» فخورا. أجاب: يؤلمني أن تكون الأيام قد اضطهدتني إلى حد أنني أحتاج أن أحدث الناس عن نفسي، بدلا من أن يتولى ذلك عني المؤرخون. قلت: خل عنك المرارة، ولا تصقعن قرائي بخيلائك، فأنا محسن إليك إذ أسألك أن تتحدث عن نفسك ، فليس في الدنيا من لا يجيد التحدث عن نفسه ويستطيبه، وعد بي إلى الخامس عشر من أيار سنة 1904، وأعلمني ما الذي حدا في ذلك الأحد بأهل «بعقلين» إلى الحداء؟ وما بال دوي البارود يهين القانون؟ ولأي جليل أمر هزجت الرجال، وزغردت النساء في فجر ذلك اليوم؟ قال: نبذت سائر الدنيا، وتخيرت بعقلين، الشوف، لبنان، بلدة أسقط بها رأسي، ولو أعطي لي أن أتقمص ألف مرة، لما نزلت إلا بعقلين دار مولد.
أما الهرج لقدومي فخطل ألفه الناس، إذ يفرحون بالطفل حين يولد، قبل أن يتثبتوا أنابغة سيكون أم أبله. على أننا بدأنا نفهم الأمور، فأنت اليوم لا تجد أن بني بعقلين أقاموا لي التماثيل في شوارعها، ولا علقوا صوري في متاحفهم، ولئن غيبني الموت في غدي، فقد تسمعهم يندبون مني الأسد والنابغة، ولكنك تحس في أجوف ندبهم مرارة الخيبة في طفل مرد نجيبا، وشب شبه نابغة، وجاء في موسم القطاف كأشجار زيتونهم في سنوات الجدب، تزهر ولا تثمر.
قلت: أنا طالب سيرتك لا فلسفتك.
فاطرد محدثا: ولدت من أبوين ينتميان إلى عائلتين طيبتين من عائلات لبنان. إن لم تكونا من ذروة الجبل، فهما بدون ريب من أعالي سفحه، ولكن تلك الرفعة ما أيدتها أموال ولا ممتلكات. فجاءت ألقابنا أكثر من نقودنا، فقد دعيت بال «بيك» و«الشيخ» منذ طفولتي، ولا ينفك أصدقائي عن اتهامي أني في تجارتي أهاود من يدعوني «مستر» و«سنيور»، وأسلخ بالسعر من يناديني باسمي عاريا.
قلت: لقد استقبلني رجال الضيعة بدوي البارود، فنشأت ولوعا بالدوي، ولو أنه قرقعة تنك فارغ، ولئن بدأت أحس مرارة الفشل المالي تستقر في نفسي، وتحرق جوانبها، فليس لما يجلبه المال من راحة وبذخ، بل لما يصحبه من «دوي».
شب أبي - وأبوه من قبله قاض - على حب الوظائف، شأن أبناء «العيال» من لبنان، وإذا أنا أغفلت ذكر بعض مزايا أبي من مثل إباء وشدة بأس وفروسية - شأن أكثر أبناء قومه - وأردت أن أذكر الصفة الغامرة نفسه لقلت: إنها الطموح، ولكن ضغط أبناء القمة سمر ساكن أعلى السفح إلى أعلى السفح حينا، ودحرجه إلى الوادي أحيانا، وأبي اليوم وقد بلغ من العمر مرحلته الهادئة، لا يزال يتطلع إلى القمة، ويهز قبضة جبارة، ويصرف بصفين من أسنان اصطناعية، ويقول: إن لم أكن قد بلغت الذروة أنا، فساري أحد أبنائي يدق بيرقنا هناك. فيجيبه صدى صامت: يمكن!
Неизвестная страница
جلس أبي على الكثير من كراسي الحكومة، فما علق بأثوابه شيء من أقذارها، وخرج طاهر اليد، ومن طهرت في وظائف الحكومة يده نظفت جيبه، فما ارتشى، ولا هاود متزعما، ولا حالف مجرما، وما اشترك بتهريب؛ لهذا لا أذكر أنه مر بنا يوم لم نكن به في حاجة قصوى إلى المال وما نزال، وإني لأذكر قولا سمعته من أمي - وهي الأمومة مجسدة: بني، إن الله ربط على باب دارنا ذئب الفاقة، وأكبر همنا في الحياة أن نطرده عن الباب. بلى، لم ينهشنا ذلك الذئب، ولكن لهاثه أبدا يحر سنا الوجوه، وعواءه يملأ منا القلوب، وفي أيام الحرب كاد يقبلنا بأنياب حداد. - ولماذا أشرق وجهك، إذ ذكرت أيام الحرب؟!
قال: لقد ذكرت عمنا أمين تقي الدين، وقد أشرف في ذلك الحين على تهذيبنا، حين نبت العشب في ملاعب المدارس الأجنبية، فإن جريمة اتجاه ميولي إلى الأدب تلقى عليه، إذ كان يملأ البيت شعرا وأحاديث أدباء، ويغرينا على ارتكاب الشعر، واقتراف النثر، وكم من ليلة أعوزنا الطعام، فأولم لنا عمنا أمين من «مختارات الزهور»، و«كليلة ودمنة» عشاء فاخرا، تجتره ترويقة في الصباح، وعنه أخذت وجهة نظري المالية، فهو يحسب أن المال قنينة ديناميت، إذا اشتبكت عليها أصابعك فارم بها إلى أقصى ما تقدر، مخافة أن تنفجر في يديك. وأغلب ظني، أنه اليوم في بيروت، ما برح يرى في المال سلعة يملكها سواه، ولا يغبطه عليها.
أما المدارس، فقد نزلت منها في بحور مشتبكة التيارات، متدافعة الأمواج، فمن رهبان يحفرون العلم حفرا وترتيلا، إلى شيوخ يهذبون بالفلق والعصا، إلى مدارس تبشيرية إفرنجية، تزيد بالرقة حتى التأنث، إلى راهبات يسألنني في صمت : لماذا لا تتنصر يا كافر؟ وقد حملت من هذه الجنائن الزهور ويابس العشب والتبر والتراب، ودفعتها إلى تلك المطحنة الكبرى في رأس بيروت، فصهرتها وصهرتني، إلى فتى صلب، براق، بالحياة فوار، يحاول الركض إلى كل الجهات في آن واحد، فيجد نفسه بعد العناء أنه لم يبرح مكانه. كثير الأصدقاء، كثير الأعداء، لا أعلم بلدا نزلته، وليس فيه من لا يفتديني حتى بروح حماته، أو من لا يود مصرعي، ولو شنقا بحبل يحيكه من شعر أسنانه، وفي، ودود، حقود، شديد الثقة بنفسي إلى درجة الاعتداد، مسرف حتى التبذير، كثير المطالعة والاطلاع، حتى لتكاد تضايقك وفرة معلوماتي. فكه الحديث، ولكني مبتور العبارة، فما أنا بالمتحدث القصاص. مغامر في التجارة، حتى أكاد أن أسمى فيها مقامرا. كثير الحركة ولو لغير فائدة. حشري من أعلى طبقة، أفضل أن أفك العقدة بأسناني من أن أفكها بيدي. متفائل، كثير أحلام اليقظة، عقلي كقطيع من الماعز منتشر على الهضاب والأودية، ولا يجتمع إلا ساعة المغيب، حين يقبل حبري ورقي. يقال لي لو أني لملمت قواه، وشددته إلى بئر في حقل مسيج؛ لجنيت من ثمار الحياة أكثر مما جنيت حتى الآن. سريع التنفيذ إلى درجة الهوس. عاطفي، كثيرا ما ترى الدمع في عيني لذكرى حادثة طمسها الزمن، أو شخص غاب.
قلت للمؤلف: لقد أعياني تتبع خطواتك يا أستاذ، فهلا بدأت الحروف الأبجدية بالألف بدلا من الياء، وهلا سرت في حديثك سيرا متسقا، فبدأت الطريق من أولها، فإني أراك تقفز من نصف الطريق إلى آخرها، ثم ترجع القهقري، ثم تدور على نفسك. أشفق عليك أن تصاب بدواخ. فسر في طريقك كما يسير الناس.
قال: أشكرك لتذكيري، فقد فاتني أنني لا أسلك طريقا ما كما يسلكها الناس.
قلت: إنك مصيب، فأنت أفضل من الناس جميعا، ولكن بربك تابع حديثك، وقلل من حكمياتك، وخفف من مضمن مباهاتك.
أجاب متابعا سيرته: «كنت في القرية بسبب مقام أهلي فوق معظم صبيان القرية، فحرمت من الاشتباك بقتالهم وألعابهم، فأنا في طفولتي «محمي». لم أكن بالغلام الصلب الذي تتوقعه ممن ربي في جبل لبنان، وفي الشوف من جبل لبنان، ونشأت بفضل هذه الحماية وديعا، وزادت وداعتي حتى الجبن؛ إذ كنت بعد ذلك التلميذ الدرزي الوحيد في مدرسة ساحلية، كل تلاميذها مسيحيون، وفي زمن كان الدين فيها الماركة المسجلة الوحيدة، التي بها تعرف الهوية. فلقيت من ضروب الاضطهاد قبل الحرب من تلامذة تلك المدرسة ما لا أزال أرجف لذكراه. لذلك شببت وأكبر طموحي أن أخضب يدي بدماء المسيحيين، وكنت أؤثر أن تكون ضحاياي من الموارنة، فإذا اعتبرتني اليوم وزوجتي مسيحية، وخلص خلاني يحملون أسماء مثل ميشال، مارون، عازار، جورج؛ علمت أي فشل لقيته في الحياة.
وكر ثالث صيف علي المجزرة العالمية، وأنا عن المدارس منقطع، وأبي منفي في الأناضول، وليس في سوريا ولبنان مدرسة مفتوحة أبوابها إلا الجامعة الأميركية، وليس عندنا مال، والجامعة عن بعقلين بعيدة، وحدث أنني كنت أسرع المشي في البيت، فعثرت قدمي بعتبة الباب، فوقعت، وطارت من شفتي شتيمة تجديف سمعتها أمي، فأكبرت أن يزلق كبير صبيانها إلى آداب صبيان الأزقة، وأن يشب على السفه والجهل، فصاحت: «لأرسلنك إلى المدرسة، ولو بعت سقف البيت.»
الخروف الذي سمناه تقدمت ساعة إعدامه، فكان لي من صوفه «سوتر (جرزي)»، وأهوت على سجف البيت فصيرت لي منها قميصين وستة مناديل، وذهبت ببعض ألبسة أبي وأعمامي إلى الخياط فقلبها، وقلصها إلى بدلات لي، وزرت الكندرجي، فدكتر بعض الأحذية إلى أن استقامت على قدمي، واقتطعنا قيراطين من أهرام طربوش خالي، فإذا الطربوش يتوج رأسي متقلقلا، كتاج ملك بعد ثورة، وبطنت بالورق بعض القماش، فصيرت منها محفظة دراهم، وإن لم يكن هناك من دراهم، على أنها محفظة على كل حال، هكذا تهيأت في خريف 1917 إلى الرجوع إلى الدراسة، متوهما أنني سأبهر بيروت بأناقة ثيابي.
حين يفخر اللبنانيون بتاريخهم، وينشدون الأغاني في أبطالهم، تراهم لا ينشرون صفحة مجيدة، يجب أن تكون من ألمع صفحاتها، تلك أسطورة لم يكن أبطالها أمراء ولا مشايخ ولا بكوات، لا عمقت جذورها في ظلام ماض بعيد ، ولا نفخها الغلو، وزركشتها الأكاذيب، بل هي بنت الأمس؛ أبطالها أكارون، أطعموا جياع جنوبي لبنان في زمن الحرب، حين سور الأتراك والألمان جبلنا بسياج من حراب وجنود، يمنعون الغلال والقوت عن أفواهنا، ويصدون ما قد يتسرب إلينا من مدن سوريا الداخلية وقراها. إذ ذاك شخص في جنوبي لبنان فتيان وكهول تزنروا بالرصاص، وشدوا على الدواب، وراحوا يتسلقون الجبال، ويقطعون السهول، لا يصدهم ثلج ولا حر، ولا عواصف ولا أوبئة، يتسترون بالليل عن عيون الجند وغزاة البدو، يتثعلبون اتقاء للخطر، ويستأسدون إذا الخطر واجههم، إذا بلغوا حوران بعد جهاد أربع ليال رجعوا إلى جنوبي لبنان بالحنطة، وزغردت أجراس بغالهم منشدة: «لا جوع في جنوبي لبنان، ونحن صبيانه»، ولا يزال بين أحيائهم من يحمل في صدره رصاصة بدوي، أو جرحا من جنود الأتراك، أو يغص بدمعة ذكرى لرفيق تخلف عن القافلة مجندلا برصاصة، وكانت «بريطانية» تلك القوافل قافلة بعقلين، ولست أدري كيف ندعي الأدب، ولا تستفزنا مغامرات تلك القافلة إلى ملحمة، أو رواية، أو قصة. من أشاوس تلك القافلة شيخ معمم، لنسمه «أبا سلمان»، خدع الهرم بصلابة جسد خفيف، وموه على الناس عمره بأن حلق شعر رأسه ووجهه فلم يبق لهم حجة بأن يقولوا له: لا تنضم إلى القافلة، فأنت شيخ مسن. كنا في ثالث أعوام الحرب، حين حزم «أبو سلمان» ضرفي زيت من نتاج أملاكنا، وبوأني بينهما أريكة بغلته «ذئبة»، وانحدر بي إلى بيروت؛ ليبيع الزيت، ويشتري لي به ثقافة سنة في جامعة بيروت الأميركية، رحم الله من قال لي حين رجعت إلى الضيعة في آخر تلك السنة المدرسية: «يا غبن الزيت.»
Неизвестная страница
حين ودعني «أبو سلمان» على بوابة الجامعة، وكنت أبري قلم رصاص بسكين صغيرة جزينية، قال مشوقا: «كن الأول في صفك، تحصل على وظيفة كبرى متى كبرت.» ثم هدد، فزاد: «إن لم تكن الأول في صفك، شمت بنا وبك أعداؤنا بنو ...» ولمح زمرة من أشقياء التلامذة البيروتيين يتغامزون علينا، ويتضاحكون، فصاح بصوت مخيف: «من لا تقوى عليه بالكف عاجله بالعصا ، وإذا تكاثروا عليك، فالسكين الذي تبري به القلم في وسعك أن تقطع به الوريد»، وغابت عني «الحماية» حين غيب منعطف الطريق تلك العمامة البيضاء، وهدأت تلك الزمرة حتى تلاشت أصوات أجراس «ذئبة»، فمشي إلي منهم فتى في يمينه سوط، وهو اليوم صديق لي حميم، وطرح علي ذلك السؤال العظيم، الذي يتلجلج على لسان البيروتيين متى أرادوا التهكم من جسمي: حضرة الشيخ، من أي ضيعة؟ ... تملقني تأدب ذلك الفتى، فأجبته: إني الشيخ فلان من بعقلين - أمير الضياع. قال: ولماذا لا ينبت للخنازير أجنحة؟ أجبت: لا أدري. فشتمني، فضربت سوطه برأسي ضربة خضبت يده بدمي، ففر الجبان، وثبت في ساعة العراك صريعا على الأرض.
ما أمر ذلك العام الأول في كلية بيروت، وما كان أوجع التحقير في ندائهم: «يا جبلي»، وما آلم ضروب الذل والقساوة التي سحقت نفسي. «يا جبلي!» عبارة تهز حتى اليوم كياني؛ لما رافقها من الهزء والتهكم والسخرية. فكم من مرة - وأنا منذ طفولتي كثير أحلام اليقظة - فررت إلى عالم الخيالات المؤنس المخدر من مظالم الحياة الواعية، فأقنعت نفسي أن هزة زلزلت جبل صنين، فقلبته على بيروت فطمس كل من فيها. أجلس اليوم ونفسي كئيبة، أتحسر في غربتي، إني بعيد عن الكثير من بهجات الحياة، وأزهى ما في الحياة من بهجة في نظري اليوم «بيروت». حقا، إن الحياة تسير على سنة لا تتغير، وهذه السنة هي التغير.
وفجأة، تفجر في صدري بركان لم أدر بوجوده، وانبثقت من جسدي شجاعة لا أعلم مصدرها، فانقلبت من فتى خجول، جبان، معتزل، إلى شرس، خشن، بطاش، حتى لقد دعيت لبدغنتي
1 «سعيد الانكشاري».»
قاطعت المؤلف متبرما قائلا: قص علي شيئا من حياتك الأدبية، وعفا الله عن بطولتك المدرسية. قال - بل اندفع، بل انقض علي - محدثا: كانت حياتي الأدبية في قصرها وجمالها شبه غمزة حسناء، وكان صامت وعدي بالاستمرار والإجادة كاذبا، كأكثر وعود الحسان. فأول كلماتي التي سحرتني رؤيتها مطبوعة، مقالة كتبت في السادسة عشرة من عمري، عنوانها «رياضياتنا ورياضياتهم»، أرسلتها إلى «البرق» ذات يوم خميس بتوقيع مستعار «حماد»، وقد كاد يغمى علي إذ جاء يوم الإثنين، فإذا بالمقالة افتتاحية بصدر «البرق»، ومنذ ذلك الحين، كثرت مقالاتي في صحف بيروت ودمشق، وفي بعض مجلات مصر، وأكثرها موقع ب «حماد» و«بشار»، ويسرني أنه قام في بيروت من يستعمل هذين التوقيعين. لذلك يسهل علي أن ألصق بهم جريمة مقالات ذلك العهد.
إلى أن كانت «لولا المحامي» - «رواية تمثيلية عصرية»، كما أعلنت عنها برامج الحفلات في عشرات المدن والقرى، إذ مثلت في العراق وسورية ولبنان وأميركا الجنوبية، وربما تكون قد مثلت في أميركا الشمالية. ولقد مدحتها الجرائد بمقالات ضافية، كتبتها أو استكتبتها، وبيننا وبين الصحافة صداقة قديمة، فنستعلنهم ولا ندفع، ويستكتبوننا ولا يدفعون، وربما مات من بني تقي الدين من لا يملك ذراع أرض يتمدد فيها، ولكن لم يمت منهم بعد من لم يملك حقلا في جريدة، يتمدد فيه مغمورا بعبارات مديح مزهرة.
ليس لي أن أبحث في «لولا المحامي»، وهي - ولك أن تقول فيها ما تريد - جهد مدرسي لتلميذ عمره 22 سنة، ولكنني أريد أن أتساءل أي جهد في سوريا ولبنان خلال عام 1923، بقي على هذه ال 14 سنة، إلا «لولا المحامي» التي لا تزال تمثل، وأريد أن أستدل من بقائها حية حتى اليوم أنها - على كثرة مواطن الضعف فيها - عاشت بسبب أنها جهد رئيسي، وأن الجهود الضعيفة المبعثرة هي جهود صحفية لا تعمر - يا أيها المتأدب، عن «المقالة» فاجنحن، إنها لإسفنجة معصورة. - وما الذي أوحى «لولا المحامي» يا أستاذ؟ - الذي أوحى «لولا المحامي»، هو الذي أوحى «نخب العدو». - يعني؟ - حب الظهور. وإن كانت الأولى إذا قيست بالثانية ... - فأرة إزاء جبل؟! - بل كوخ إزاء قصر. في وسعي أن أقول لك إنني درامائي بالفطرة، تغرد المشاهد أمام عيني، وتغمس المكالمات في أذني على غير علم مني، وفي مقدرتي أيضا أن أدعي وأتدلل بكثرة معلوماتي، وسعة دراستي في الفن التمثيلي، وأزركش عباراتي بالاستشهادات البراقة، ولكنني أصارحك - ولا يهمني ما تستنتج - أن السبب العاجل الذي أوحى «لولا المحامي» و«نخب العدو » هو حب الظهور. أستدرك فأقول: الحاجة، وحب الظهور. أما الحاجة؛ فلأنه أعوزتنا الروايات التمثيلية في أيام التلمذة، فاضطررت إلى تأليف «لولا المحامي»، وشجعني نجاحها الغريب على إتباعها بأختها «قضي الأمر»، وقد فاقتها نجاحا،
2
وها أنا أجد نفسي بعد اثني عشر عاما من غيابي عن لبنان، أكاد أن أصبح نكرة، فإن ذكرت صحيفة نبأ تمثيل «لولا المحامي»، شفعت كلامها بأن مؤلفها هو ابن فلان، أو أخو فلان. أرجو أن لا تتهمني بالقحة إذا أنا آثرت الصدق، وتنعتني بأني لست بالروائي الملهم، فلئن كنت ممن يحبون المقالات تتبرج بالاستشهادات الإفرنجية ...
قلت مقاطعا: وما الخطأ بالاستشهادات الإفرنجية؟ - أقوال الناس كشهود الزور، يمكنك أن تستنطقهم القول الذي تريد؛ فإذا أحببت مثلا أن تثبت أن السياسة هي موضوع شعري، لجاء في متناولك عشرة أعلام يقولون إن السياسة توحي الشعر، وعشرة في أهمية منزلة الأول ينكرون أن السياسة توحي الشعر، إذن فما الفائدة من الاستشهاد؟ ثم إن في كثرة دلف أقوال الغربيين إلى كتاباتنا اعترافا منا بضعفنا، كأن الحقيقة لا تكون مقنعة إلا إذا نطق بها ألكسندر طلبنوخسكي الروسي أو جون ج. م. ز. جونسون الإنكليزي، بل كأن الكاتب يقول للقارئ: «أنا رجع وضيع، وربما أكون كاذبا، فلا تصدقني، بل صدق فلانا، وهذا قوله.» وهل من الواجب أن أزيد أن الاستشهاد صار «تدللا من الكاتب بسعة اطلاعه.»
Неизвестная страница
قلت: كنت على همة أن تستشهد، فافعل ذلك على شرط أن تكون الأخيرة. قال: كدت أن أعلمك أن «جون ديوي» أعظم فلاسفة أميركا يقول: «إن أقوى محرك في طبيعة الإنسان هو حب الظهور»، أما الذي أحببت أن أخلص إليه، فهو أنه إذا سهلت وسائل الظهور انطفأت نار الإنتاج، فكم من ضحية أردتها صحفنا قتلا بالمديح.
أعرف مهاجرا في أزمة 1930، كان يفرح إذا انكسر مديون، وله عليه مبلغ ضخم؛ كي يظهر في مأتم المكسور، وهو أرفع الدائنين صوتا، وأعرف فتى تظاهر بالجنون استلفاتا للأنظار، وكان كلما عطف عليه أصدقاؤه وأقرباؤه بأنظارهم وآسوه، تنعم بالتفات الناس، وازداد تظاهرا بالجنون، حتى كاد يصبح التظاهر حقيقة، إلى أن أشار طبيب اختصاصي على ذوي «المجنون» أن لا تأبهوا له، فلما أعرضوا عنه «شفي» الفتى من جنونه. هذان مثلان عن الغلو في حب الظهور، وإنني أعزو قلة إنتاج أدبائنا إلى سهولة وسائل الإذاعة في بلادنا، فقصيدة واحدة، أو خطاب، أو ديوان، يكفي لأن تنشر ذكرى أحدنا بين الناس، وتظهر صورته في الصحف. فترتخي أنانيته، وتتخدر أعصابه، وتقعد به مظاهر النجاح عن الجد إلى الوصول إلى النجاح الحقيقي. إن قليلا من التشجيع ضروري، ولكني أراهن أنه لو اتفق الصحافيون على الإغضاء عن ذكر الأدباء سنة واحدة، لتضاعفت جهود مؤلفينا واغتنت مكاتبنا.
كنت بعد «لولا المحامي»، وبعد مئات الخطب والمقالات، أجهز المواد لرواية تمثيلية ثانية، إذ اتفق لي أن دخلت في عام 1924 مخزن أمين أبي ياغي في بيروت، وقبل أن تتعود عيناني ظلمة المخزن، بعد وهج الشمس، إذا بشخص فتان المظهر، يقفز من مقعده في زاوية المحل، ويمشي إلي ب «أهلا بالنابغة»، ويهز يدي بحرارة. فركت عيني - لا ما أنا بالحالم - هذا أمين الريحاني بعينه. خرجت من المخزن «مبنجا» ب «أهلا بالنابغة»، مورفين أنامني سنة كاملة من غير إنتاج أدبي؛ إذ رجعت عن خطة تأليف الرواية الثانية. ما تبقى بعد من الأدب يا سعيد، وقد دعاك أمين الريحاني «نابغة»؟! سنة من العمر أضاعتها عبارة مديح!
قلت: إن في نفسي لعجبا منك. أسمعك كثير التحدث عن الدكتور فيليب حتي، فما لك أغفلت الآن ذكره؟
قال: بلى، تلك زوبعة عقلية نزلت بي، فاقتلعت وزرعت، وقد تهذبت عليه ثلاثة أعوام، فعليه قوي تفكيري حتى كنت برهة من الزمن ببغاء من سرب ببغاواته، بعضها لا يزال في سماء بيروت، يطير ناصل الأجنحة، وأسطوانة من أسطواناته التي تردد ألحانه العديدة، ومنها من لا يزال يدور على نفسه منشدا أغاني حتي، غير أني ارتددت عليه، وها أنا أسجل تمردي على تعاليمه، فقد أفهمنا - في جملة ما أفهم - أن التاريخ لا يعيد نفسه، وها أنا شططت في هذه الديار منذ اثني عشر عاما ، خالي الوفاض مفلسا، وأرى التاريخ أعاد نفسه بي مرتين منذ ذلك العهد. •••
قال المؤلف: ينزل الستار على حياتي الأدبية بعد «لولا المحامي»، و«قضي الأمر»، ويرتفع فجأة، فإذا بطلنا - أي أنا - على مسرح أعددت نفسي لكل مسرح إلاه؛ التجارة، في جزائر الفلبين من الشرق الأقصى، يريد أن ينقص القوت من أفواه الأسود، ولو لم يكن هناك أسود. كان سلاحي في كفاحي الشباب والجد والطموح والذكاء - أي نعم الذكاء، وسأقص عليه أخباره - وكانت أعدائي الذكاء والجد والطموح متحالفة مع غدر الأيام وغدر الناس، وهوس الشباب وغلو التفاؤل، والإسراف، وائتمان الناس من غير روية، والإغراق في الطموح إلى تطلب المليون بالمجازفة بالألوف، فصعدت في عالم التجارة كأني راكب منطادا، وأهويت كأني قافز من طائرة، وأنا اليوم أصعد الجبل ألف ذراع في اليوم، وأزلقه ألف ذراع في لحظة. عيناي في الذروة وقدماي في الوادي - مهشم الجسد، سليم الروح، أعتاض عن نشوة الظفر بلذة الجهاد والأماني. أهل التجارة يعتقدون أني أديب كبير، وبنو الأدب يتوهمون أني تاجر ماهر، وأنا واثق أن الاثنين على خطأ وصواب.
صحت بصاحبنا: مهلا يا حضرة المؤلف، أهمزك بسؤال لتمشي خطوة، فإذا أنت ترمح ميلا. فهلا حدثت قراءك - إذا أوقع الله بين يديك من قراء - بشيء عن بركات الحياة. قال: لا أجيد الكلام عن البركات، وأعاف كلمة ب. ر. ك؛ لأنها تفكرني بشيء مستكن، ونفسي قلقة مشدودة إلى رفاص، ولكني أقص عليك أنباء اللعنات الأربع، التي غشيت روحي، ونشرت العشرات في سبيلي. - وما هي؟ - أولها لعنة «الذكاء».
قلت: تضايقني يا محترم؟! ألا تخاف أن يرمي قارئك بكتابك، إذ يراك تنعت نفسك بالذكي؟
أجاب: أصارحك أن قارئي ذكي، يعرف أن في رياء التواضع المصطنع من الخيلاء والتدلل ما هو أبشع من المصارحة، وإن كانت مباهاة، وأنا جاد إذ أقول لك إن الذكاء لعنة، والإنسان يفخر بما يكسب، وليس بما يوهب، والذكاء أحبه موهبة. أقول لك: إن الذكاء لعنة. ألا تسمعهم في لبنان أسبق ما ينعتون بالمديح أحدهم بقولهم: «فلان ذكي»، كأنهم قالوا إنه كامل بكل معاني الكلمة. إن الذكاء لعنة؛ لأنه أقل المزايا أهمية. فالمثابرة، والجد، والاقتصاد، والحرص، والحذر، والتوفير؛ هي أهم من الذكاء بكثير، ولكن الذكاء صفة وهاجة تبهر العيون، وأخصها عيني حاملها، عن التطلع إلى غيرها، وتوهمه أنه لا يحتاج إلى سواها، وبهذا كانت لعنتها.
كنت أماشي أحد ماليي مهاجرينا، ممن أصابوا النجاح المزدوج من ثروة واحترام الناس، فسألته في ساعة تشتاق فيها النفس إلى البوح إلى النفس بأسرارها، عما هو سر نجاحه، قال: يا بني، إن في سؤالك جوابي. فلو كنت شخصا غير عادي، ذا ذكاء ونبوغ خاص، لما سألتني هذا السؤال، بل لعرفت من ذكائي جوهر نفسي. أما وأنا رجل عادي بدماغه، فقد جئت متوازن الجهود، متسق التفكير، وحالفني شيء من الحظ إلى الوصول بي إلى النجاح الذي أنا فيه. انظر إلى فلان وفلان - وهنا كر علي مسبحة أسماء - كلهم أذكى مني، وأوفر علما. أين هم الآن؟ إن ذكاءهم ولد بهم ثقة نفس، صرفتهم عن تطلب الخصال الأخرى، التي هي في النجاح أكبر شأنا.
Неизвестная страница
قلت: اقفز بي إلى موضوع آخر، أو فاختصر.
أجاب المؤلف: حبا وكرامة، فأنا للاختصار محب، ولكني ككل درامائي، يفهم أن كتابه خليق ليمثل لا ليقرأ، ويجب عليه أن يعوض على شاري الكتاب بشيء يقرأ، فصبرك، إن وجدتني أمط هذه المقدمة، وها أنا أذكر تلك اللعنات الباقية، التي كبلتني؛ فثانيها: لعنة الطموح، ولا تنس أن هذا الحديث هو أوتوبيوغرافي؛ لذلك لا أقول شيئا في كيف أن الطموح قد يتعجل ضحيته إلى اختصار طريق النجاح، فيسبب أحيانا السرقة، والجريمة أو الاحتيال، ومرارة النفس، ويغمس عواطفك في سيال التحرق من الفشل. - يعني أن روحك تسكنها العذارى من بنات الطموح، لا بغايا فتياته؟ - اخرس ... - عفوك، أنا واثق من كذبك، ولكن سر في حديثك. قال: إن الطموح يتعجل خطى المرء، فيسبب في كثير من الأحيان هلاكه، وهذه أودية الحياة ملأى بالمهشمين من الطموحين الذين أرادوا أعمارهم أن تكون قفزا من قمة إلى قمة، وما فطنوا إلى أن معظم الذين يصلون القمة يتسلقونها مشيا على الأقدام. - وزحفا على البطون. - بل دبيبا على الذقون. وإن دودة الأرض في مثابرة دبيبها لأقرب إلى مرماها من الجندب في قلق قفزاته.
صحت: بربك! عجل مخافة أن تفلس من التشابه، فترجع بي إلى مثل الأرنب والسلحفاة.
والطموح - تابع صاحبنا - يشوش على الإنسان تفكيره، فهو بكل شيء غير راض، على الحياة ناقم، مجازف بالقليل والكثير.
قلت: عجل، واغسل يدك من اللعنتين الأخيرتين. قال: «لعنة الثقافة». - يا غبن الزيت؟! - ربما، فالمثقف اثنان؛ رجل مثقف نصف ثقافة، فهو بنفسه مغرور، يعتقد أنه فوق الناس، وهو دونهم بدرجات، غير أنه بعيد عنهم في كل حال، ورجل مثقف ثقافة صحيحة، فهو بذوقه، وأطباعه، ومطالعاته، وتفكيره، فوق الجمهور، أي عنهم قصي، والناس يتبرمون بالاثنين. ولا تنس أن الحسد - على الرغم من كتب علم النفس - غريزة شاملة، والمثقف محسود فهو مناوأ. بل إن حساد الثقافة أشد اندفاعا في مقاومتهم المثقف من حساد المال. يقاومون الغني؛ لأن الغنى ميسور، ولو نظريا عن طريق اليانصيب، أما الثقافة، فمن حرمها شابا فقدها على الإجمال كهلا وشيخا، وسلاح الغني يذل العدو، أما سلاح الثقافة فلا يقهر إلا حامله. قلت: لعنت ساعة تحدثنا بهذه اللعنات، فهات لعنتك الأخيرة، واختصر يا أستاذ، إن الاختصار هو روح الحكمة.
قال: بل سأختصر، ففي البحث في هذه المصائب ألم فرك الجراح، وها أنا ذا أذكر اللعنة الأخيرة عارية؛ لعنة النجاح الباكر.
ويمينا، لقد أخذت ببلاغة محدثي، وكدت أنصرف من بين يديه مشدوها بمظاهر عمق تفكيره، لولا فورة من النور غلبت على ناظري، فإذا بجليسي يظهر أمام بصري بحلة جديدة، فقلت: يا صاحب «نخب العدو»، من الناس من أوتي براعة تنسيق السفسطة، وإلباسها ثوب الحكمة، وحاشاك الله أن تكون منهم، ولكن هلا ذكرت الذكاء يقترن بسائر الفضائل، وهلا عرفت الطموح يذكي مزايا النفس، وينهض بها، وكيف غاب عنك أن الثقافة وحملتها ملايين، هم من قادة الدنيا، وكيف تفسر أن ألمع أسماء الدنيا من أحياء وأموات أصابوا النجاح الباكر، فشجعهم على الاسترسال والإنتاج ؟
أجاب - وقد بلع بريقه وحدجني بنظرة عداء: مكانك، فأنت تبحث في النابغين، ونحن نتكلم عن سعيد تقي الدين. - سؤال أخير يا أستاذ، هل أفهم منك أنك في الحياة ترفع العلم الأبيض، وتعترف بالانكسار؟ أنسيت لأعوام خلت كيف كنت تتطلع في الحائط، وتصيح بي: «بيني وبين الفوز هذه الروزنامة»؟ - ولا زلت أعيد هذا القول. - ولكن عبارتك هذه ترهلت، فأين هي اليوم تتدلى من فمك غثة منها بالأمس تندفع من شفتيك لاذعة بنار الاقتناع، مصقولة ببريق من عينيك؟! بل أين أنت اليوم، وقد برز بطنك، وهدأت خطواتك، وصارت كلمة «الحظ» تتسرب إلى حديثك، فهل أوفيت على مرحلة العمر، إذ يعترف المرء بفشله، بأن يلوم «الحظ» من دنياه؟ وهذه الذكريات التي أصبحت تلهج بها، أليست هي الدليل القاطع على هرمك؟! فمن شاخ أكثر التحدث عن ماضيه، أما الفتى، فحديثه أبدا عن غده. هذا مقياس العمر الوحيد. قال: غريب أمرك يا هذا! تشهد غماري في الجبال عن الذهب مفتشا، وتتهمني بالهدوء؟ أما رأيتني أقضي الأسابيع في الغابات، أخوض أنهارها، وألتحف سماءها، مقتاتا بقشر جوز الهند، أجر 110 كيلو من جسدي؟! إذا كان هذا هدوءا، فما هي الحركة؟!
قلت: يا محترم، أمندفع أنت في هذا الغمار، بذلك الإقدام الذي رافق فتوتك، أم أنت فاعل هذا تبرئة لضميرك أمام نفسك، كي لا تتهم همتك بالخمول؟
قال: أنت جائر، وأوقح من مخبري جرائد أميركا.
Неизвестная страница
وقد انتهت المحادثة.
فصافحت يمين المؤلف بيساري، وانصرفت تاركا محدثي ينعم بأوهامه - وما أرفق الجهل بأصحابه! - حاسبا أنه تمخض هذه السنين الطوال، فولد رائعة، وأنه نام عام 1924 قزما، ونهض سنة 1937 عملاقا، وهو لا يدري أنه: «ناخ نوخة جمل، وقام قومة هر.»
أشخاص نخب العدو
ليسوا وحدات مستقلة، ولكنهم أفراد من مجموع. كل واحد منهم له مزاياه الجسدية، والعقلية، والنفسية، وله تاريخ حياة حافل بالحوادث، فتعرف إليهم كما يظهرون لك. خذ.
أم وسيم
تعبد بعد الله - وربما قبله - ولدها وسيم، وتبغض قبل الشيطان «بني الحمصي» - قتلة أبي وسيم. شديدة العزم، شديدة الذكاء والإرادة، قوية الشكيمة ، جريئة، ورعة، تخاف الله وتستنجده، وتصلي له، وتأتمه، كأنه صديق قديم، والصديق يبغض عدو صديقه، فالله فاتك في نهاية الأمر ببيت الحمصي، حام لوسيم. تبغض كل من ليس من دينها، أو حزبها أو ضيعتها. عبثا تحاول تحويل اقتناعها، إذ إن قوة النفس قد أرهفته، فلا مساومة في معتقداتها، حريصة، حذرة، يقظة، كثيرة الجد، ذات أنفة وكبرياء، طاهرة من العجرفة، ضربة السيف لا تؤلمها، ولا تفهم كيف تؤلم سواها.
حلفت أن تخنق «هدى الحمصي» بغدائرها، ولو رجعت «هدى» غير مقصوصة الغدائر لماتت على وصفة «أم وسيم»، ثيابها جبلية، نظيفة، وكذلك أثاث بيتها، أمارة بحديثها، أبدا تصيح، مدمدمة، محتجة، كثيرة التحدث مع نفسها بصوت عال منذ الصغر، زادت بها هذه العادة بعد ذهاب «أبي وسيم»، فأي أرملة أحبت رجلها لا تشعر بالوحدة بعد فقده، وأي علامة للوحدة مثل تحدث الإنسان لنفسه بصوت عال؟!
خفيفة الخطى على شيخوختها، نحيلة الجسم، صلبته. أبغض الأمور إليها الأكل والنوم. أقامت لأبي وسيم تمثالا في عيني وسيم. فليس من مزية مستحبة في الدنيا لم يتحل بها «أبو وسيم». أما كيف كان أبو وسيم يضربها، فأمر لا تحدث به الناس.
ربما مثل «أم وسيم» أمهات قيصر، ووشنطن، ونابليون.
زليخة
Неизвестная страница
هيفاء كمحدلة الطريق، صوت كأنه زمور، بهيمة بشرية، ضخمة الصدر، هائلة الخدين، منبوشة الشعر، حولاء، متدلية الشفتين، عبدة النفس بلهاء، احتل أنفها زكام أبدي، فهي أبدا تمخط بتنوريتها، ولكن في قبحها وخشونة سلوكها تناسب يهم بأن يكون جمالا. قل عن زليخة ما شئت، ولكنها خفيفة الدم مهضومة.
أبو مرعي
يقول لك فتيان «وادي الأرز»، ويبتسمون: «أبو مرعي»، عمي أبو مرعي، بطل غير مجرب. قذيفة ديناميت لا تدري إذا كان بارودها مبللا، هائلة الجثة، أما الهمة فلا نعلمها. لماذا لا يأخذ بثأر أخيه أبي وسيم؟ وإن كانت الظروف غير مناسبة، فما باله أبدا يبصق كلمات من نار كلها توعد، ويدمدم كلمات من دمدم؟ من الذي شهد بطش أبي مرعي؟ أين كان حين «وقعة العين»، و«معركة السنديانة»، وحين تنادى الشبان في آخر الحرب، وقاتلوا مفرزة من جنود الأتراك مهزومة، أين كان أبو مرعي؟ وما هذه الواقعة في بيروت بينه وبين أربعة من «بني البترون»؟ من شهدها، وشهد البطش الذي يدعيه؟
وقد يكون شكاته على خطأ أو على صواب، ولكن إذا لم يشهد الناس منه بطولة، فمن هذا الذي عرف عنه جبنا؟ أبو مرعي - ككل رجل عظيم - فيه الكثير من اللغز والتناقض، غير أن المعترف به عن أبي مرعي هو أنه لبق في معاملة أبناء الحكومة. كل دعوى له أو عليه أبو مرعي يربحها، نبيل تجاه عائلته، يمونها، ويقوم بحاجاتها. يحمل عصا الناطور شهرا، وينتزعها منه أبناء الحمصي شهرا، والحرب بينه وبينهم سجال.
نار البغض لا تلتهب في نفس وسيم، وهذا نقص لا يسامحه عليه أبو مرعي. ليس فيه من عيب جسدي، إلا أنه ثقيل السمع.
الدكتور نجيب
تمشط الدنيا فلا تجد له مثيلا.
صعب على الناس أن يفهموا الدكتور نجيب؛ لأنه عاش تلك الخمس والستين من حياته، وانصرف عن الدنيا، ولم تظهر نفسه عارية أمام أحد. فنحن نستنتج خصاله بما نرى من أعماله. محاولة صعبة، وقد تكون غير مضبوطة، ولكن ما الحيلة، وفي الناس مئات يدعون صداقته، وليس فيهم واحد آخاه؟ نراه في آخر مراحل العمر، تطغى إرادته القوية على الجسم المتهدم، فيسير بمشية عسكرية مغصوبة توهمك القوة، حتى تلمح كتفين تهدلا، وفكا يتراخى في غير إبان الحذر، فتعلم أن الرجل يقترب من مرقده الأخير. يحدثك عن مستقبله، وعما سيقوم به من الأعمال، فهو سيزيد على المستشفى الكبير الذي يرأسه جناحا في السنة القادمة، وجناحا بعد خمس سنوات، وعلى المختبر أشعة إكس بعد شهرين، و... و... بعد عشر سنين، وعلى ألوف الكتب التي يقتنيها ألوفا أخرى. فتسائل نفسك، ترى، أيعتقد هذا الإنسان أنه سيعيش إلى الأبد؟ وتحاول أن ترمي عليه هذا السؤال، فتصطدم بنظرتين من عينين تصيحان «قف».
تحسبه مبشرا حتى يتكلم، فتسمع من صوته نبرة أمر طبيعية، كأنه خلق ليأمر، وشددت هذه النبرة سنوات قضاها أستاذا في جامعة ، وسنوات كان خلالها ضابطا في جيش.
لعل أعظم ما قام به عجيبتان؛ الأولى: أن الجرائد العربية دعته نابغة وعبقريا، وكان بحق نابغة وعبقريا، إذ إنه كان بدون ريب أعظم طبيب، وأمهر جراح عرفته بلاد سكانها 18 مليونا.
Неизвестная страница
والعجيبة الثانية، أن ألسنة مواطنيه لم تنله بهجو، فقد تعالى عنهم إلى حيث لا يطاله لبيطهم. يعمل الخير بدون مباهاة، كأنما فعل المروءة كتنظيف الأسنان شيء ضروري مألوف. يعاشر سكان الذروة من المجتمع، ويجلس إلى موائد العوام، ويفعل هذا غير متصنع.
ولكانت سيرة حياته ناقصة لو جاءت فوزا مستمرا لم يتخلله فشل. فالذي لا يعرفه الكثيرون أنه انقطع عن ممارسة الطب سنوات خمسا، وانزوى إلى منجم، كانت نتيجته المالية فاجعة. في برهة تلك السنوات، ابتدأ الناس يتحدثون عنه ك «رجل كان». لم تعد الأيدي ترتفع للسلام عليه بالعشرات حين يسير في الشارع، ومن عرف عنه كيف كان يزدري المال، وكيف كان ينفقه بأسرع مما يكسبه - وكان يكسبه بالألوف - تصور كم كانت أليمة عليه تلك السنوات. إنما هل شكا؟ هل تأوه؟ هل انزلق إلى عالم الذكريات؟ هل كان في لبسه وسخاء يده، ونظراته، شيء يدل على فشل؟ جاءته تلك السنون في غسق العمر، وفي غسق العمر قام الدكتور بأعظم أعماله، واسترد مكانته العلمية والاجتماعية، وقفز في سلم الحياة إلى أرفع درجاته، وقد ساعدته على ذلك - ولا عار - الأقدار؛ إذ إنه في الساعة التي كان الدكتور بها يفكر كيف يسترجع مكانه، كان مواطن يحمل المسدس لينتحر، فلما أن وصل الدكتور نجيب وجد ... قد أطلق الرصاص على رأسه، فاخترقت الرصاصة الصدغ الأيمن، وطارت من الصدغ الأيسر، وراح الدماغ يرشح من الجانبين. الدكتور نجيب شفاه، وشفى اسمه من صدأ بدأ يعلق عليه في هيكل الشهرة، وابتنى مستشفى، كان محجة كبار الأغنياء، الذين يبغون شراء أثمن ما في الدنيا، والمعدمين من الفقراء، الذين لا يدفعون إلا الشكر أجرة، وكان الدكتور يبهظ الأجرة على الغني، ولا يكتنز منها - على خطأ الناس في تقدير ثروته - إلا شكر الفقير. فلم يخلف من المال إرثا إلا مكتبته وأدوات طبه، وضمانة حياته. أرزانة تلك التي قطبت جبينه أم هي كآبة؟ ما هذا الذي يجلل شيخنا، كأنه حزن عميق؟ أي فاجعة مرت به لم يأت خبرها الناس؟ هو لم يقصر على الطب أعماله، بل ألف كتبا علمية، ونظم صفوف مواطنيه المهاجرين في جيش تفرق قبل أن يحتشد، ورجع إلى بلاده في محاولة سياسية لم يكللها النجاح. فهل استصغر ذلك العظيم محيطه، والحقل الذي اشتغل به؟ لقد احتك بشخصيات عالمية، فهل قايسها بصمت، بشخصيته فوجد في نفسه تفوقا، فتأوه وقال: لماذا أخذت زاوية أنيرها، وكان في وسعي أن أملأ الساحة شعاعا؟ أنا لا أدري الجواب، ولا أعرف أن في الدنيا من يدريه، ولكن استنتاجي يقودني إلى الاعتقاد أن قد كان في الرجل طموح إلى الظهور بمظهر عالمي كبحته الأيام، وأن هذا الحزن الذي غاص إلى أعماق نفسه هو نتيجة اقتناعه أن حياته - على شمول اعتقاد الناس بأهميتها - كانت فاشلة باقتصارها على ميدان صغير جال فيه.
تحدثه عن لبنان وسوريا، فيستسيغ الكلمات عنهما، كنهم يبطش بطبق حلوى، فإذا ما وصلت من تاريخهما إلى بعد الحرب، أجفل وصمت، شأن من فقد عزيزا لم يمض على وفاته وقت كاف، حتى يبيح لنفسه التحدث عنه. فهل كان بسبب حبه لوطنه وشدة مباهاته ذا أحلام سياسية عظمى، نكبته بها الأيام؟ اجتهاد في الاستنتاج، ولكنه محتمل.
أما المظاهر التي تطفو على نفسه، والتي يبصرها العميان، فهي ما شاع عنه: من لطف، وأنس، ولمعات غضب، وديمقراطية، وبذخ، وحب للتفاصيل متناه، ونهم في المطالعة، وغرام بقهوة «سوداء كالشيطان، ملتهبة كجهنم».
بالطبع كان يكثر من محاولة تنظيف نظارتيه بمنديله.
الآغا وابنه
يتقدم العصر، كما يتقدم البقرة ذنب البقرة. ليس من أحد يدري كم أردت «الزائدة المعوية» من نفس خفية! حتى اكتشفها الأطباء، وعلموا أنها بقية مصران، كان ذا نفع في الأجيال السالفة، وأنها اليوم مصدر كثير من الآلام، والالتهاب، والفساد، والاضطراب، وأن الوسيلة الوحيدة لمنع أذاها هو قطعها.
كذلك، لن يتسنى لبني الشرق الأدنى أن يعرفوا كم أنزل بهم البكوات والباشوات، والمشايخ، والمقدمون، والأغوات، والأمراء؛ من مكروه! ولن يقدروا أن يعدوا قتلاهم، حتى يفقهوا أن هذه الطبقة من الناس هي «زوائد»، كان لها نفع في الماضي، وأنها اليوم لا تقوم بعمل ما إلا المضرة، وأن الوسيلة الوحيدة لمنع أذاها، هو قطع نفوذها.
على أن بني الشرق الأدنى سائرون نحو التفلت من أذى هؤلاء الطفيليين سيرا هادئا، سيطول زمنه؛ لأن العنف لا يرافقه، ولكن نتيجته واحدة محتومة. «فالآغا» في هذه الحكاية طفيلي، يغزو موائد الشعب ويتصدرها؛ لأنهم لا يتفقون على من يتصدرها، وهو يعتقد أن تفوق مكانة عائلته على الناس أمر مسلم به، هكذا كانت الأمور، وهكذا يجب أن تكون. يتعلق بمكانته التي تدر عليه عيشه تعلقا غريزيا كأطفال الحيوانات بأثداء أمهاتها، ويتوسل إلى ذلك بتفرقة القوم وتضخيم أحقادهم، ولا يؤلمه ضميره، فهو يلعب لعبة هذه قوانينها المشروعة. أراد أن يعد للمستقبل وطوارئه، فأرسل ابنه إلى المدارس ليتثقف؛ حتى إذا تطال إلى مراكز الدولة رجل من العامة، كان ابن الآغا أحق بالوظيفة، ولكن ابن الآغا استهوته حياة المدينة وفسقها، فطير البقية من أراضي أبيه، ولم يتثقف بغير آداب المواخير، وكان خلال ذلك «العوام» من «وادي الأرز» أصابوا المال في المهجر، والثقافة في الوطن، فأين هو الآغا الآن؟
هو حيث يجب أن يكون ورفاقه «الباشوات»، و«المشايخ»، و«البكوات»، و«الأمراء»، و«المقدمون»، والطفيليون جميعا؛ في «لا مكان».
Неизвестная страница