الفصل الأول
المشهد الأول («علية» في بيت من بيوت «وادي الأرز»، لبنان، وهذه «العلية» اللبنانية ليس لها نظير في أي مسكن من مساكن الدنيا. فهي إذا مدت فيها المائدة أصبحت غرفة طعام، أو اصطفت فيها الكراسي صارت غرفة استقبال، وإذا تثاءبت فيها الفرش أمست غرفة نوم. في حيطانها عنابر صغيرة، كل واحدة تدعى الكوارة، اختبأت فيها مئونة الشتاء من غلال وما أشبه، وأنت لا تعرف أن في الحائط كوارة، لولا الثقب المدور الكبير، تسد فوهته كمامة من خرق. يتوسط هذه العلية عمود، يتهدل منه مغزل صوف، وتتوجه روزنامة كبيرة واضحة، تستلفت الأنظار، تعرف منها أننا في 27 أيلول من سنة 1930.
كذلك، على العمود «مدك»، ومرآة وساعة دقاقة، يسميها الإفرنج «ساعة جدي». في الحائط الذي على يمين النظارة مكتبة صغيرة، أما الحائط المقابل للنظارة فعليه صور العهد القديم من رجال تقصفت شواربهم، وصور ملكات، وبين هذه الصور واحدة لجنرال ممتط حصانا أزرق. كذلك يوجد «مشكلة» مثلثة الزوايا، عليها أسلحة قديمة من جفت، ويطقان، وسيوف، وحراب. يتوسط هذا الحائط نافذة عليها آنية زهور فيها نبات الفل، والورد، والزنبق، والحبق. حصيرة وبساط وسجادة تغطي الأرض. قرب العمود «دهليز»، بابه جزء من أرض العلية يفتح ويغلق. كل شيء نظيف بل أنيق، وعلى فقر متاع «العلية»، يشعر الناظر أن وراء مظاهر هذا الفقر كبرياء صلبة، وقوة معنوية هائلة. تسألني: وكيف لأثاث بيت أن يظهر «قوة معنوية هائلة»، أو ضعة سكان؟ أجيبك: وكيف لعين في صورة يبرق منها شعاع الحياة ، وثانية يخبو فيها الضياء! وقوفا من أن نسترسل إلى فلسفات، نجيل النظر ثانية في العلية، فنجد أنه ليس من جو تلك الغرفة حقيبتان استندتا إلى العمود، يعرف الناظر إليهما من جدتهما وجودة صنعهما أن صاحبهما ابن مدينة. في زاوية العلية جرتان، ودويك، وإبريق. يرتفع الستار، وقد آن له أن يرتفع، فإذا بأم وسيم تهيئ ثياب شاب؛ فتعد الكلسات وتكوي القمصان، وهي تتمتم، مهمومة، نزقة، ثم تمشي إلى الروزنامة، وتقف أمامها تعد الأيام، وتقلب الورقات.)
أم وسيم :
27 أيلول سنة 1930، 27 أيلول سنة 1930، (ويعثر نظرها على صورتها في المرآة فتقول):
ما بقي من العمر أكثر مما مضى، (وترجع تحوم في زوايا العلية، مقومة حاجة هنا، مرتبة متاعا هناك، إلى أن تنتهي إلى الجرتين، فترفع الأولى ثم الثانية، وتقلبهما، فإذا هما فارغتان، فيشتد حنقها، وتنادي):
زليخة. زليخة. زلخك الله أيتها اللعينة النهمة. أفتنامين النهار كله إلا ساعات الأكل؟ (لا مجيب)
زليخة، أفيقي يا عاهرة، (تدق بعصا على الأرض) ، انهضي من نومك يا خائنة، أدجاجة أنت، فتنامين قبل المغيب؟! (صوت خافت من يسار النظارة، وكلمات مخنوقة، يعرف منها أن مصدر الصوت شخص كسول، أرغم على الإفاقة من نوم هنيء). (تدخل زليخة متكلمة، متثائبة، فلا يفهم من كلماتها المخنوقة شيء، ثم تمخط في مريولها، وتتطلع إلى المرآة تصلح من شأنها، وأم وسيم خلال ذلك منفعلة، منرفزة، تصب شتائمها على تلك القطعة الهائلة الباردة من حيوان.)
أي نجم جهنمي كان يشع، عندما وسخت وجه الأرض بهذه السحنة الشمطاء، يا لئيمة، أنزل الله عليك التيفوس، والجدري، والعمى، والطرش، والشلل، والسرطان والاستسقاء. (تشدها بغدائرها)
أفيقي يا خاملة. أفيقي.
Неизвестная страница