وماذا تنتظر أن يقلب أبدا بين يديه إلا مسبحته الصفراء؟
راجي البيروتي
الفتى النحيل، المنرفز، القلق، الضجر؛ راجي البيروتي، هو ابن «أبي راجي»، ولا أقول «أبو راجي البيروتي»؛ إذ إن بيروت منذ فتحها العرب إلى أن أقفلها الأرمن، لم ينشأ بها إلا «أبو راجي» واحد؛ هو رئيس البحارة، ورئيس المينا، وهادي البواخر إلى أمين مراسيها. ويظهر أن «أبو راجي» هذا نبت من نفسه، فليس في بيروت عائلة تدعى البيروتي، سوى عائلته، وعائلته هذه هي هو وابنه، وما عاب أبا راجي أنه قصير القامة، نحيلها، فأبو راجي «قبضاي» صبوح الوجه ، سموح الكف، قاضي البحارة إذا اختلفوا، دائنهم إذا أفلسوا، قائدهم إذا مشوا في أمر، محاميهم إذا نشأ بينهم وبين القانون سوء تفاهم، وهو بلا ريب أمهر بحار عرفته بيروت. أما كيف شيد أبو راجي قصره ذا الأربعة طوابق؟ وكيف ملك عدة مراكب شراعية؟ وكيف عاش باذخا كالأمراء؟ فليس من الصعب تفهمه، فبنو لبنان وسوريا يعشقون الأسلحة، وفي مصر حشاشون، ورجال الأمن بعضهم متساهل، وبعضهم يغمض عينيه إذا امتلأت يده، وفي المآزق «هم رجال ونحن رجال، ولعينيك يا أبو راجي.»
وراجي طبعا لم يخلق من أبي راجي وحده، فأين هي أم راجي؟ سؤال إذا ألقيته على حلقة بحارة يدخنون النراجيل في مقهى «الأنيلوتي» صمتوا، فإذا ألححت، قالوا: «الموت غير نقاد، ولكنه في بعض الأحيان عادل، والمدعي العام لم يثبت أن جثة المرأة كانت جثة أم راجي، ولا أن جثة الفتى كانت جثة «خرطبيل الأقتمي»، ولعن الله كل من عابت - ويبصقون - ولعن الله النساء أجمعين - ويبصقون ثانية. وأبو راجي رجل شريف، وبخاطرك يا أفندي.»
كان راجي في الثالثة من عمره، حين فقد أمه، وأعاضه أبوه عنها بممرضة، ولكن شديد عناية الممرضة، وكثرة الدمى التي أعطته إياها المرأة اليونانية «طمارة»، تلك التي تسكن الطابق الأعلى مع أبيه، لم تعوض عن حنان الأم، خصوصا وقد نبا عن راجي «أبو راجي»، ومن يدري إن لم يكن في أعماق نفس الأب شك عظيم، مع أن راجي صورة أبيه المصغرة، ولكن يكفي أن يكون الطفل من دم تلك التي عابت، «ابصق معي» حتى يكرهه أبوه، وهنالك «طمارة» الفتاة اليونانية، تشغله لياليه، وفي المرفأ بواخر، وفي عرض البحر عاصفة، وفي مخدعه عواصف، غير أن أبا راجي جواد، ولعله أراد رشوة الخفير في نفسه، حين أغدق على راجي المال، فشب أنيقا يلبس على الكاتلوك كثير السيارات، والعشراء، مسرفا، خليعا، يقال أن ليس في مواخر بيروت مومس تجهل ألوان بيجاماته، وهو ربيب المدارس بالطبع. كان في المدرسة كغريب يساهم في مأتم شخص لا يعرفه، غير أن راجي ذكي الفؤاد، فكان يماشي دروسه، فما وبخه أستاذ، ولا أعجب به أستاذ. أما اندفاعه في ملذاته، فكان تهربا من بيت فقد الروح العائلية، ولإشباع عطش في نفسه، ولكل شيء نهاية؛ فقد تبرم بعيش البذخ والترف، والخنا، ومل عشراءه، وحياته، ومومساته، وسياراته، وحجر عواطفه، وطوح به إلى الاستخفاف بفواجع الحياة ومهازلها فاجعة أبيه؛ «فطمارة» هربت مع ظابط في الجيش فتي، وماذا تريد «طمارة» - ابصق معي - بعد من أبي راجي، وقد كنزت ثروة من نقوده وجواهره؟ وشاء تهكم الدهر أن يهربا على باخرة يقودها «أبو راجي» من المرفأ إلى عرض البحر، ولأبي راجي عيون على البواخر، فما أفاد الحبيبين تسترهما في غرفة منعزلة. أما كيف انفجر صندوق الديناميت؟ وكيف غرقت الباخرة بطمارة وبحبيبها، وبأبي راجي؟ فلغز ما حله البوليس البحري، وفي بيروت اليوم بحري شيخ يدخن الأراكيل، ويعرف الكثير، ويقول لك: من هتك العرض وفاته السكين، يناله الطوربيل.
وكان بيت أبي راجي من تلك الصروح التي تنهار مع بناتها، وكأنما قيل لراجي إن سعر المشمش ارتفع، أو إن الأمطار هطلت في الزنجبار، حين قيل له إن أباه هلك؛ فالدنيا ما عادت تخبئ لراجي دهشة أو انذعالا، كذلك لم يبغته حجز «إسحق إبراهيم السلطي» على أملاكه؛ تسديدا لسند ضخم ادعى أن أباه وقعه، فحينما دخل مأمور الحجز من الباب، قفز راجي من النافذة، ففي بيروت غرف كثيرة، يستطاب النوم فيها.
وطبعا، لم يسكت رجال أبي راجي على تسلطن إسحق إبراهيم السلطي، فكثرت الأحاجي حول ذلك المالي. من أرسل له تلك الجمجمة في البريد؟ من سمم لكلبيه الشهيرين؟ لماذا كثر دوي الديناميت - وبيته على البحر - قرب بيته؟ لماذا يكويه البحارة بنظراتهم، ويبصقون؟
إلى أن نادى إسحق راجي، وقال له: لك مني 100 ليرة شهرية، تستلمها ما حييت، فأذع الخبر بين الناس، فأنا لأبيك وفي.
هكذا كان راجي، حين عانقت نفسه نفس وسيم الحموي. فوسيم - كما سترى - هو نقيض راجي في كل شيء، وللنفس انعطاف على النفس، إذ تحس أن فيها تماثلا، ولكنها تندمج، وتتلاشى في النفس النقيضة، إذ تستشعر أنها وقعت على ما ينقصها من خصال، فتنجذب النفس إلى النفس ولا تنفصلان، كأنهما أوكسجين الماء وهيدروجينه، فلا عجب، إذا رأيت راجي ووسيم بلغا في الألفة ذروة الأخوة، إذ يصبح حديث الصديق للصديق شتيمة، وسخرية، وتهكما، ودعابة، وقد يكون راجي أشد اندفاعا في صداقته من وسيم، إذ إنه حرم حب الأم، وما وقع في حب امرأة، وطافت عليه العطايا، فما هو بطموح؛ أي إن كل منازع نفسه مكبوحة، فلما جاءت أخوة وسيم، طفت عواطف نفسه في مسالكها، وانصبت في أخوته لوسيم. وراجي هذا ليس من المرح كما يريد أن يظهر، فهو يتستر بالمزاح؛ كي لا يظهر أثر جرح عميق، وهو في جوهر نفسه دهري،
1
Неизвестная страница