والكاتب أو المفكر يخطئ إذا لام معارضيه على وقاحتهم في الرد عليه، أو النظر إلى فكرته بغير العين التي تستحقها؛ لأنهم معذورون فيما أرى، معذورون لأنهم لا يمكنهم التجرد عن غرائزهم، ولا يستطيعون نزع نفوسهم أو تنزع أرواحهم من جسومهم، وما قلمهم إلا أنبوب تصب فيه تلك النفوس سائلها فيجري على القرطاس، فأقلامهم لا ذنب عليها وأيديهم لم تأثم، وأذهانهم خفيف جرمها، إنما العيب كل العيب في نفوسهم فإنها مصدر الوحي للذهن واليد والقلم .
على عدد اختلاف أشكال البشر وألوانهم ومناهجهم تجد اختلافا في آرائهم ومعتقداتهم، يخطئ الأبيض إذا لام الأسود على حلكة لونه، كذلك يخطئ ذو الفكرة إذا عاب غيره لعدم رضائه عنها، ورحم الله البارودي إذ قال:
أسير على نهج يرى الناس غيره
لكل امرئ فيما يحاول مذهب
من العدل أن تترك الحركة لكل إنسان يعتقد في خلده ما يعتقد؛ لأن المصادرة لا تجوز في الأفكار والاضطهاد، إذا ضيق دائرة العمل والكلام، فلن يبلغ التضييق على الهاجس والوجدان.
فالفكرة ما دامت في الخلد خفي أمرها، ومن التحامل أن يتكهن قوم بمعرفة أسرارها والوقوف على حقيقتها، وإن العمل الذي يقصد به النفع هو بذاته ما يصح أن تقصد به الشهرة وحب الذكر، ألا ترى إلى المحسن كيف يتهمه أعداؤه وحساده بأنه لم يحسن ابتغاء وجه الله ولكن سعيا وراء المحمدة، ويقول أنصاره وعاضدوه: إنما أتاه لحب الخير المحض، كذلك السياسي وصاحب الصحيفة فقد يناضل عن مبدأ يعتقده صوابا، أو يرد على رأي مخالف، فيقول قوم: ما أصدق وطنيته! ويقول آخرون: إنه مأجور، ولم يخل عمل من الأعمال من العاضدين والمعترضين، ومذهبي أن العمل ما دام نافعا فسيان أن يعتبره قوم للمنفعة وحدها أو للشهرة، فإن فائدة حاصلة على أي حال، وقد تكون الشهرة وحسن الصيت جزاء وفاقا لصالح الأعمال، تأتي عفوا بغير قصد صاحبها فما حيلته؟ أيردها وقد لا تدفع، أم يترك عمله كي يبرهن لأعدائه أنه صادق، وأنه لم يقصد إلا الفائدة خالصة لوجه الله؟ أما الأفكار والكتابات أو الأعمال التي تظهر للملأ فيجب على من لا توافقه أن ينتقدها، وليس أحب للمنصف من أن ينتقده الناس بالحق فيصلح من خطئه ويقوم من معوجه، وإذ قد بينت أن الآراء تختلف بحسب الأشخاص والعقول، فما على المنتقد إلا تخطئة ما يرى فساده، على أن يقرع الدليل بالدليل والحجة بالحجة، حتى يقتنع صاحبه ويفحم، فلا يجد مناصا من الرجوع إلى الصواب، ويرى الناس صدق الأدلة أو كذبها، فيكونون حجة له أو عليه، أما من ينتقد بغير الدليل أو يشوب كلامه بالتهكم والسب القبيح فيخرج من عداوته بكلامه أن يضرب به عرض الأفق فهو هراء، وإذا كان الله - وهو يعلم صدق دينه وفي قدرته أن يجبر البشر على أن يدينوا بما ينزله لهم - لم يرض أن يذكر مسألة القرآن إلا وهو مبين أدلة نفعها وأوجه ضررها، وضارب لها الأمثال كي يقتنع من له عقل بصلاحها أو فسادها، إذا كان الله وهو القادر المتعالي يفعل ذلك؛ فهلا نفعله نحن عبيده الضعفاء؟!
ومن أدب الكتابة أن لا يخلط الكاتب الشخصيات بالعموميات؛ إذ ما علاقة انتقاد مبدأ مثلا بأم المنتقد أو زوجه أو فقره وغناه؟! وأين الشجاعة والشهامة في كيد الخصم من هذا الهذيان؟! لعلهم جعلوا مكان الأسنة الطوال ألسنة طوالا وبدل خضاب الدماء صبغة من قلة الحياء.
كل ذي رأي يجب قدر رأيه واحترامه وتمحيصه، حتى إذا ظهر فساده يحاج بالدليل إلى أن يقتنع، ومن البلاهة أن يتشبث كل بفكرته وحدها، ويزعم أنه علمها ومفردها، فيأبى قبول البرهان ويغمض عينيه على القذى.
الصياح والتحامل لا يجديان بل قد يزيدان المتشبث عنادا، واختلاف المبادئ والآراء لا يحمل على العداوة إلا من لا يفقهون، ثم إن العداوة لا تستلزم الهجر وفحش القول إلا من القوم السافلين، ومن لي بصلاح الدين الأيوبي يلقي على كل عدو درسا مما أتاه مع خصمه ريتشارد قلب الأسد ملك الإنكليز؟! ومن لي بمن يعلم الجهلة ما ورد في القرآن والإنجيل والتواريخ من مقابلة الأنبياء أعداءهم بالصبر والصدر الرحب؟!
ومما يجمل ذكره من آداب الانتقاد أن لا ينتقد الكاتب أمرا كان قد أتاه هو أو أتى شرا منه؛ لأنهم يقولون: من كان بيته زجاجا فلا يقذف الناس بالحصى.
Неизвестная страница