Зов истины: С тремя текстами о правде Хайдеггера
نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر
Жанры
قد يقول قائل في النهاية: إن هيدجر يقف من العلم والتقنية الحديثين موقفا يسهل وصفه بالرجعية أو التزمت إذا قيس بالحلم الذي ساد الحياة العقلية ابتداء من فلسفة التنوير وحتى ماركس ودعاة التنمية التقنية والعلمية المعاصرين، وأقصد به الحلم بتحرير الإنسان من «الضرورة» عن طريق العلم وتطبيقاته الصناعية. والرد على هذا القول بسيط؛ فهيدجر لم يؤمن قط بهذا الحلم، وإنما آمن بضرورة الرجوع إلى التفكير في قدر الوجود نفسه، وسط عالم يتزايد اغترابه على الدوام، وذلك لكي يجد الإنسان الإمكانية الوحيدة للتحرر من أسر العلم والتقنية، ويهتدي للإنقاذ الذي سيأتي من داخلهما عندما يتم رجوعهما إلى أصلهما وأساسهما الأول الذي طال نسيانه والتخلي عنه والتنكر له.
من خلال هذه الآفاق التأويلية الرحبة استطاع هيدجر أثناء سنوات الحرب أن يفهم ما يعنيه العلم والتقنية واستهلاك العالم وأشكال القيادة والتنظيم والإدارة ل «عجلة العدمية» في الصناعة والحرب والعالم الذي تم «وضعه» والهيمنة عليه، ثم أمكنه أن يتوسع في فهمه لتاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية، وأن يستقر عليه بوصفه تاريخا لنسيان الوجود، وأن يحقق بذلك تلك المرحلة المتأخرة على طريقه الفكري، وهي مرحلة «الرجعة» إلى الوجود ذاته، ولقد مهدت كذلك لهذه الرجعة تفسيراته لشعر هلدولين، وتأملاته العديدة في مشكلة الحقيقة التي سبق أن بدأها - في الفقرة الثانية والأربعين من «الوجود والزمان» - عندما أرجع المفهوم التقليدي للحقيقة أو للصدق - وهو تطابق العبارة مع الشيء والفكر مع الموضوع - إلى الظاهرة الأصلية للحقيقة (راجع ماهية الحقيقة وأليثيا في هذا الكتاب)، وقد تبين له من خلال هذه البحوث والرسائل ضرورة انتقال الموجود من التحجب إلى اللاتحجب والظهور حتى يمكن الحديث عن مسألة الحقيقة، ومنذ ذلك الحين أصبح «اللاتحجب» (أي التكشف والظهور من طوايا الحجب والخفاء) هو الترجمة التي صكها هيدجر لمصطلح الحقيقة في منطوقه اليوناني (وهو أليثيا)، بل أصبح هو الافتراض الأساسي الذي لم تتدبره الميتافيزيقا الغربية في تاريخها الطويل، ولم تفكر في أنه الشرط الأولي الذي تقوم عليه كل التفسيرات الممكنة لحقيقة الوجود، بما يترتب على ذلك من تحول من التركيز على الإنسان - كما حلل «أنطولوجياه» في الوجود والزمان - إلى فهم الإنسان والعالم من جهة الوجود والحقيقة، كما أشرنا لذلك أكثر من مرة.
لقد كان الشرط الأساسي لهذا التحول أو لهذه الرجعة هو «التغلب» على تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية أو تجاوزهما «بالرجعة» إلى أساسهما الأول، وهو التفكير في الوجود نفسه لا في مجموع الموجودات أو في موجود منها بعينه مهما يكن أسمى الموجودات، هل انتهت الفلسفة لكي تفتح الطريق لفكر الوجود؟ لقد تحدثنا من قبل عن نهاية الفلسفة وبداية فكر آخر يتجه صوب الوجود نفسه، وسوف تظل هذه البداية، وتلك النهاية من الأسئلة المطروحة على بساط البحث في تفكير هذا الفيلسوف، وهو تفكير يريد في نهاية المطاف أن يرعى ويصون، وأن يفهم من جهة الحقيقة والوجود لا أن تفهم الحقيقة والوجود من جهته.
هل مهد لهذه الرجعة تاريخ سابق داخل تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا الغربية ذاتها التي أعلن هيدجر عن نهايتها أو موتها؟ لا شك عندي أن «التنوير الآخر» (الذي يوصف به تفكير عدد من الفلاسفة والكتاب مثل: باسكال، وشافتسبري، وفيكو، وهيردر، وهامان، وياكوبي، وفلاسفة وشعراء الرومانسية المبكرة الذين انتقدوا مفهوم العقل والفلسفة المذهبية في عصر التنوير) أقول: لا شك في أن هذا «التنوير الآخر»، بالإضافة إلى عناصر من فلسفة الحياة وأفكار من الشعراء الذين اهتم هيدجر بشرح قصائد من شعرهم وسبق ذكر أسمائهم، قد مهدت كلها لهذه الرجعة إلى «الأصل» و«الباطن» والتحقق المباشر بالحقيقة والوجود وانتظار حضورهما أو حدوثهما، وتجاوز تراث فلسفة الوعي الذاتية والإرادية والعقلانية التي طبعت العصر الحديث منذ ديكارت حتى هيجل وهسرل، ولا بد أن ينظر إلى «رجعة» هيدجر في سياق تراث ذلك التنوير الآخر، وإن كان من واجبنا القول بأن الفيلسوف قد تجاوز هذا التراث بدوره وتوسع فيه من خلال نقد العقل والوعي والذاتية في تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة الغربية منذ أفلاطون حتى ماركس ونيتشه، وذلك بالصورة الحاسمة التي عرفناها وبلغت عند بعض الشراح حد القول بموت الفلسفة وبداية فكر الوجود، هل نفسر هذه الرجعة أيضا بدخول عناصر صوفية ورومانسية في تفكير هيدجر المتأخر كما فعلنا من قبل؟ ألم تكن هذه العناصر كامنة في تفكيره ولم تظهر ظلالها الغامضة إلا مع التقدم في العمر؟ وهل يكون الحنين القديم إلى الدين و«الإشراق» الباطني قد فرض نفسه - بعد أن طال أسره وكبته بالعناد المنهجي الصارم! - في هذه المرحلة؟ إنها كما ترى أسئلة تدور في أفق الظن والاحتمال والاختبار، ولعلها ستبقى إلى أمد طويل موضع الجدل والأخذ والرد والحوار بين المؤيدين والمعارضين.
اختلفت الرؤى والآراء حول شخصية هيدجر وفلسفته وما تزال مختلفة، فهناك من يرفع من شأنه ويبالغ في ذلك إلى حد القول بأنه هو أعظم فلاسفة القرن العشرين، وأعمق من سأل السؤال الفلسفي عن الوجود بعد أفلاطون وأرسطو، وأنه قد عكف على تراثه الفلسفي قديمه ووسيطه وحديثه وتمكن منه إلى الحد الذي يندر أن نجد له نظيرا (وتشهد على هذا مجموعة أعماله التي زادت على الستين مجلدا!) وأنه هو «فيلسوف المحنة» الذي ظل يلح على سببها الرئيسي - وهو نسيان الوجود وتنكب الطريق الوحيد المنقذ وهو الرجوع للأصل الأول - كما تجسدت له محنة العالم والحضارة الحديثة في هيمنته التقنية على الأرض والإنسان، وهناك من «خسف به الأرض» وأنكر أن يكون أعظم فلاسفة القرن الذي عرف عددا كبيرا من الفلاسفة العظام (مثل: راسل ووايتهيد وتوينبي وفتجنشتين وبوبر وبرجسون وسارتر وغيرهم)، وجرده من العمق تماما بحجة أن هذا العمق المزعوم ليس سوى وهم ملتف في ضباب الغموض الفكري واللغوي، كما اتهمه - فوق اتهامه بالاستسلام للوعي النازي الزائف ولو لفترة محدودة - بأنه ظل يقوم بدور القائد الروحي والدليل العابس المتجهم في متاهات القلق والهم والموت، وأنه سحر شباب بلاده بمشكلات عقيمة وعبارات ملتوية وشائكة أشبه بأقوال العرافين والمتنبئين، وأن ما يسميه فكر الوجود شيء غير واقعي ولا علمي ولا مثمر ولا مؤثر، فضلا عن فقره وافتقاره لأي وعي تاريخي بالحاضر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وخلوه من أي إشارة للدور الذي يمكن أن يقوم به العلماء والهيئات والمؤسسات العالمية والعلمية والجهات المعنية «بإنقاذ» الأرض (كأحزاب الخضر مثلا)، بل إنه ليؤكد أن هذا الفكر كله لا يخرج عن كونه مناجاة أو مونولوجا «أنا وحديا» أخذ يجتره شخص عصابي ومنطو على نفسه طوال ما يربو على الستين عاما دون أن يتمخض عن شبكته العنكبوتية خيط واحد موجه ولا أي نتيجة واضحة أو ملزمة للإنسان الفرد أو للجماعة المحلية أو الإنسانية، هذا فضلا عن أن الفكر الجديد الذي أهاب به في سنواته الأخيرة لا هو بالجديد ولا هو بالفكر الواضح المعالم.
ومع ذلك فهناك فريق ثالث حاول وما يزال يحاول أن ينقده نقدا علميا وموضوعيا «من داخله» بعيدا عن مزالق الاتهام والإدانة والتشهير الغوغائي سيئ النية، فمنهم من يوجه أسئلة لا تخلو من بعض الشكوك والانتقادات، ومنهم من يدرس علاقة التأثير أو التأثر بين فلسفته والفلسفات الأخرى، كالماركسية التقليدية والجديدة (وبالأخص مدرسة فرانكفورت)، وفلسفة الحياة من نيتشه إلى دلتاي التي رأينا كيف دخلت عناصر منها في تفكيره المبكر والمتأخر، والكانطية الجديدة التي نبهته - تحت تأثير أستاذه ركرت - إلى الاهتمام الملحوظ بكانط، والظاهراتية التي بين هو نفسه - في مقال مشهور - كيف كافح في شبابه لفهمها - لا سيما من خلال كتاب البحوث المنطقية لأستاذه هسرل، وألف رسالتيه الأولى والثانية للدكتوراه - عن نظرية الحكم في النزعة النفسانية ونظرية المقولات والمعنى عند دنس سكوتوس - بوحي منها وتحت تأثيرها قبل أن يبتعد بنفسه عن مرحلتها الذاتية المتعالية والشديدة المثالية - ثم تأثيره الذي لا ينكر على مسيرة فلسفة التأويل «الهيرمينوطيقا» التي أعطاها - بعد شلاير ماخر - أقوى دفعة ممكنة، بحيث تعلم التفكيكيون المعاصرون والنقاد الجدد على وجه العموم من قراءاته للنصوص الفلسفية والشعرية كيف يقرءون النصوص من داخلها ومن حولها ومن تحتها.
12
وكيف يكشفون عن قصد المفكر أو الشاعر «من خلال ذلك الذي لم يقله في ثنايا قوله»، ومن الأسئلة المثارة على فكر هيدجر - وما أكثرها! - أسئلة من هذا النوع:
عرف عن هيدجر شغفه الشديد بالرجوع إلى الفلاسفة قبل سقراط، ولا سيما أنكسمندر وبارمنيدز وهيراقليطس، ليلتمس عندهم العلاقة الأصلية المباشرة بين الفكر والوجود (لا سيما في عبارة بارمنيدز) والإنارة من طوايا التحجب (في مقالته عن الأليثيا)، ولكن هل ساعدته هذه الرجعة لآباء الفلسفة الغربية والنزعة الإنسانية المبكرة على العثور على الأساس و«الأصل» الذي بحث عنه؟ وهل تتسق تلك العودة للآباء مع مطالبته «بالتغلب» على تاريخ الميتافيزيقا والفلسفة أو تحطيمه وتجاوزه؟ ألم يكن من الأوفق الرجوع لأفكار وأساطير وحكايات عصور أسبق، في الحضارة الكريتية والمينوية أو في حضارات الشرقين الأدنى والأقصى القديمة؟
دعا هيدجر - كما سمعنا حتى الآن أكثر من مرة - إلى تجاوز تاريخ الفلسفة والميتافيزيقا «الغربية»، بل أكد نهايتهما على الرغم من أنه بقي بطبيعة الحال مقيدا بهما ولا يمكن فهم تفكيره المبكر ولا المتأخر إلا في سياقها، ولكن ألم يكن فهمه لهذا التاريخ فهما ضيقا محدودا؟ وهجومه المتواصل على فلسفة الوعي والذاتية الحديثة - من ديكارت إلى نيتشه - ألم يكن هجوما أحاديا متسرعا؟ ثم ألم تكن أرض هذا التاريخ المترامي هي التي نمت منها أشجار المعرفة النظرية والعلمية، ومروج الفلسفة والتصوف المسيحي، وبدائع فلسفة النهضة والتنوير، وروائع الفن والأدب والتقدم والاستنارة والإنسانية المتنوعة الأزهار والثمار والأوراق؟ وحتى إذا صح أن هذا التاريخ هو في صميمه تاريخ العدمية المتنامية، وبخاصة في القرن العشرين الذي أوصلت كوارثه وآلامه وفظائعه الإنسان الأوروبي الحديث - والإنسان الدائر في فلك مدنيته الصناعية - إلى مهاوي القلق والهم واليأس والاغتراب، فهل يصح أن ننسى أن هذه العدمية نفسها قد تولدت عنها ثروة هائلة من الإبداعات والرؤى والأفكار والاجتهادات التي لا يمكن أن نصفها بأنها عدم؟ وهل خلت الساحة المضطربة بالضحايا والأشلاء والأطلال من أصوات تدعو إلى الحب والشجاعة والكبرياء والمسئولية والأمل وتمجيد الحياة؟ وحتى ذلك الحديث القاتم عن القلق والهم وبقية العائلة المشئومة، ألم يقدم لنا حصادا وافرا من الأعمال والإنجازات الفكرية الخصبة التي تستحق الحرص عليها، ومنها فلسفة هيدجر نفسه؟!
Неизвестная страница