زحام هو الفرح، والعريس والعروس دمى تحركهما أيد يعرفانها ولا يعرفانها، وكل من في الفرح يجد له شأنا يلهيه.
يتصل الحديث إن هدأت الموسيقى وينقطع إذا هدرت، إلا ملحوظة عابرة أو نكتة رفضت أن تنتظر الهدوء، ولكن الرجل لا يكلم أحدا ممن حوله ولا حتى زوجته، فهي لا تدري أنه جاء لمهمة، وإنما تظن أنه لبى دعوة زميله في العمل وأبى أن يتخلف، وكلما ازداد الفرح إمعانا في السعادة ازداد الرجل إمعانا في الشقاء، والأستاذ درديري إسماعيل لم يأت من أجل الفرح ولا من أجل أن يهنئ زميله مجدي، ولا ليرفه عن زوجته التي لا تكاد تخرج، لشيء آخر بعيد كل البعد عن هذا جميعا، جاء دردير وكان شأنه عجبا، كيف تصورت أنني سأستطيع أكلمه اليوم أهذا معقول، أيمكن أن أكلمه في أمر كهذا في فرح هو فيه العريس، أليس الأجدى أن أقوم الآن، يا ليلة سوداء أقوم إلى أين، وإذا قمت أين أجده بعد هذا، لا يعقل أن أكلمه الليلة وهو عريس، فالمستحيل المؤكد أنني لن أكلمه غدا، وأين يمكن أن أكلمه غدا ثم هو بعد ذلك في شهر العسل، عسل أسود، والرجل ما ذنبه، أكان لا بد أن يتزوج الليلة، الليلة بالذات، الليلة التي عرفت فيها الحقيقة السوداء، كله أسود والدنيا كلها سواد، في أفراحها سواد وفي صباحها سواد وفي مستقبلها سواد، أهذا جزائي، كل هذه السنوات من الطهارة وعفة اليد والسمعة الكريمة.
نحن جيل لا مثيل له في سوء المصير، استقبلنا شبابنا في الظلام حين فرضت الحرب منع الإضاءة، وحين انتهت الحرب العالمية دخلنا نحن حرب 48، وحين انتهت جاءت الثورة فتعلقت بها آمالنا، فإذا هي تخذلنا في الحرية أعز آمالنا، ثم أفقرت الأغنياء ولم تغن الفقراء، وهاجمت السرقة وعدم الأمانة وكان رجالها من أكبر رجال العصابات في السرقة وعدم الأمانة، وقلبت القيم عند أبنائنا وأصبحت عفة اليد والسمعة الكريمة التي أتغنى بها خرافة عند ابني، ما دمت لا أستطيع التغني بالشرف بالأموال الطائلة، وجيلنا نحن أغلبه عرف الشرف قيمة يلتزم به؛ لأنه جزء من كيانه وخلقه لا يتصنعه أو يرغم نفسه عليه، بل هو جيل في أغلبه يتصور أن الشرف هو الأصل والجريمة استثناء في خلق المجتمع لا أصل فيه، ويضحك أبناؤنا من أفكارنا، ونتقزز نحن من أفكارهم فلا هم قادرون على قبولنا ولا نحن قادرون على فهمهم، وكنت تعلقت بأمل أن يتثقف ابني ويعرف أن الشرف غاية في ذاته، وليس من الحتم أن يكون وسيلة، وأن الشريف يستطيع أن يكون شريفا دون أن ينتظر على شرفه جزاء أو شكرا؛ لأنه نال الجزاء براحة الضمير وهدوء النفس وأمن المشاعر، ولكن ابني رفض الثقافة أيضا، وكان أملي الوحيد أن تنقذه من السمات الغالبة على جيله، وكان هذا الذي جئت من أجله إلى هنا، وكان مجيئي نوعا من السذاجة فقد ظننت في سذاجة أن الإنسان يمكن أن يكلم عريسا في يوم فرحه، إنها على كل حال تجربة لم أحاولها من قبل، ففي كل الأفراح التي حضرتها أخيرا كنت أدخل مع الداخلين وأخرج مع الخارجين، ولا يدور بذهني أن أكلم العريس، فمنذ قرابة عشر سنوات لم أحضر فرحا العريس فيه هو الصديق الداعي، إنما يكون الداعي دائما أبوه، فكيف كنت أتصور أنني سأفشل هذا الفشل، وما العمل الآن؟ لا شيء إلا الصبر، وهل أستطيع؟ وهل نملك شيئا آخر؟ فما بقائي الآن؟ أما الفرح فلا يصلح لي وأما الضجيج فكارثة بالنسبة لي، وأما العريس فلن أستطيع محادثته وحسبي الله ونعم الوكيل. - قومي يا روحية. - إلى أين يا درديري؟ - إلى بيتنا. - ونترك الفرح؟ - وهل سنرقص فيه؟ لقد دعينا فأجبنا وجاملنا زميلنا. - ففيم كان لبسي وتجميلي؟ - اغسلي وشك يروح كل شيء لحاله، قومي بنا. •••
كانت ألفت ضمن الراقصات في الفرح، واستطاع فكري أن يخلو إليها لحظات. - متى سترقصين؟ - الآن. - ثم؟ - سأذهب إلى الكباريه. - الليلة أبي وأمي سيسهران هنا حتى الصباح أنتظرك في الشقة؟ - الليلة لا يمكن. - لماذا؟ - عندي موعد آخر. - ماذا؟ - ماذا؟ - ماذا تقولين؟ - لا شك سمعت. - ألا تخجلين؟ - مم؟ - ألا تقدرين هذا الذي تقولين؟ - أولا لا ترفع صوتك، وكلمة أخرى سأتركك أو سأفضحك.
وهمس في غضب مجنون: أمعقول هذا؟ - ألم تعرف صنعتي من أول يوم؟ - راقصة. - وحين ذهبت معك إلى الشقة كنت راقصة؟ اسمع، الكلام هنا مستحيل. - لا يمكن أن تذهبي إلى موعد الليلة. - أكنت تعتقد أنك الوحيد طوال هذه المدة؟ أما عجيبة، غدا، غدا ألقاك في الشقة. مع السلامة.
وتركته ومضت، بنت الكلب كيف تجرؤ، منذ يومين فقط أحضرت لها هدية بخمسمائة جنيه، وتقول إنها تحبني، أي نوع من الحب هذا، بنت الكلب، لا أراها بعد ذلك أبدا، النسوان أمثالها على قفا من يشيل، بنت الكلب ولكني أريدها هي، أحبها، وهي تعلم، وكيف سأراها غدا؟! لن أذهب إليها، وماذا يهمها هي، إن ذهبت أو لم أذهب، ما بقائي في الفرح الآن، إنه عندي أصبح مأتم حبي. عامل لي أديبا يا حبيبي، حبك لم يمت ولكنك لم تعرف الغيرة قبل اليوم والله لا يمكن، لا يمكن أن أسمح لها أن تلعب بي مطلقا، كيف أستطيع أن أتحكم فيها، أقتلها، هائل، وما له ألم تصبح مجرما محترفا، نترقى ونصبح قتلة أيضا، هائل، سترى. سترى بنت الكلب. •••
هذا الفرح وهذه السعادة على وجه العروسين أنا التي صنعتها، أنا وحدي التي جعلت هذا الفرح قائما معلنا، لا يتخفى ولا يحزن فيه أهله ولا أهلي، لم يكن مجدي بالنسبة لي حبيبا. كان يمكن أن يكون عريسا ولم أرفضه في أول الأمر ولم أقبله؛ لأنني مع أهلي أخذت الأمر قضية مسلما بها، ولكن ما لبثت أن أفقت على الحقيقة، لقد كنت أرى تقربه لسميحة وتقربها له، وانتظرت لأن الكلام في الزواج كان في غير موعده على كل حال، وحين نال مجدي الشهادة أدركت أنني لا بد أن أعلن رأيي، فقد كنت أصبحت موقنة أنه يحب سميحة وأنها تحبه، ولم أشعر أنا نحوه إلا بمثل حبي لفكري أخي لا أكثر، ولا أظن أن الحب يمكن أن يكون كذلك، إن ما صنعته لم يسمع أحد بمثله، وما أظن أنني سأكون سعيدة في يوم فرحي سعادتي اليوم بنظرات العروسين لي كلما التقت منا النظرات، أرى في ضيائها الوضيء الشكر والحب والعرفان والإعجاب، أي شيء أجمل من كل هذا.
الفصل الخامس عشر
قبل أن تجلس سألها: هل ذهبت إلى موعد الأمس؟
وجلست في هدوء وأشعلت سيجارة وقالت: اسمع أنا لم أذهب إلى موعد الأمس؛ لأنني أحبك ولم أرض أن أكسر كلامك. - هل متأكدة أنك لم تذهبي؟ - أنت غبي. - هل جننت؟ - لو كنت أكذب عليك ما قلت لك بالأمس إنني ذاهبة إلى موعد، هناك آلاف الأعذار. أستطيع أن أختلقها. - لك حق، ربنا يطيل لي عمرك. - لا، انتظر، الأمر لم ينته بعد. - كيف؟ - أتظن أنني لن أذهب إلى مواعيد أبدا. - إذن تنوين أن تذهبي؟ - لا شك في هذا. - أهذا معقول؟ - هذا أكل عيش. - ألا يكفيك الكباريه؟ - فكر في الكلام الذي تقوله، أي شيء يمنعني الآن أن أقفل في وجهي بابا من رزق مفتوحا على مصراعيه، ما الذي يمنعني؟ - الحب. - الماذا؟ - الحب طبعا. - وما شأن الحب بهذا، الحب في القلب، وأنا أحبك الآن ولكن لا أدري غدا ما مصير هذا الحب. - ماذا تعنين؟ - أعني أنك ما دمت لست بزوجي فأنا عرضة لأن أحب غيرك طبعا، حبي لك الآن هواية، ولكن أنا امرأة، الحب عندي حرفة ولا أدري ربما أجد هوايتي مع شخص آخر. - إذن فأنت تريدين الزواج؟
Неизвестная страница