في السلاطين الذين تولوها في هذا القرن وما كان في أيامهم (1) في ما كان بسورية في أيام السلطان أحمد الأول
بعد وفاة السلطان محمد خان الثالث خلفه ابنه أحمد خان الأول سنة 1603، ومما كان في أيامه بسورية خروج علي باشا جان بولاد الذي أصله من الأكراد، وتأويل اسمه ذو النفس التي من بولاد (فولاذ) لشدة بأسه، فهذا كانت حرب شديدة بينه وبين يوسف باشا ابن سيفا، فاستحوذ على حلب وأراد الاستقلال بولايتها، فعاجله مراد باشا المعروف بقبوجي باشا الصدر الأعظم بالعساكر السلطانية، فبلغ إلى حلب سنة 1607، فخرج جان بولاد من حلب لملتقى العساكر، فانذعر جان بولاد وتشتت عسكره، فعاد إلى حلب وحصن قلعتها، فتتبع مراد باشا أثره وحاصر المدينة وافتتحها وأقام المنجنيقات على القلعة، وراسل الحامية التي فيها واعدا إياهم بخلع ومناصب، فاستسلموا إليه وسلموه القلعة فقتلهم عن آخرهم، ونادى بقتل كل من كان من تبعة جان بولاد فقتل منهم كثيرون، وانهزم الباقون وتشتتوا، وأسرت عيال جان بولاد وجواريه ووالده وفر هو إلى القسطنطينية، فعفا السلطان عنه ونصبه واليا في إحدى ولايات المغرب، ولجأ بعض آله إلى الأمير فخر الدين المعني والي الشوف، وينسب إليه آل جنبلاط.
وكان في أيام هذا السلطان أيضا الأمير فخر الدين المعني، فمعن جد هذه الأسرة هو من رؤساء العشائر التي أسكنها سلاطين المسلمين بسورية لمقاومة الإفرنج، وحل معن وعشيرته بالشوف، وكانوا مسلمين على الأصح، واتفقوا مع التنوخيين حكام الغرب بلبنان، ومع الأمراء الشهابيين الذين احتلوا وادي التيم، وكانت بين هاتين الأسرتين مصاهرة وقام فيهم أمير يسمى يوسف تولى الشوف، وخلفه الأمير فخر الدين ابن أخيه عثمان، وكان في وقعة مرج دابق بين الغوري والسلطان سليم الأول بمعية الغزالي نائب دمشق، ويعرف بفخر الدين الأول وتوفي سنة 1544، وخلفه ابنه الأمير قرقماس وتوفي سنة 1584 في مغارة تيرون تحت جزين فارا من وجه إبراهيم باشا، وله ولدان صغيران يونس وفخر الدين خبأتهما أمهما عند الشيخ إبراهيم الخازن ببلونة كما مر، ثم أخذا إقطاع والدهما بالشوف ... وفخر الدين هذا يوصف بالثاني والشهير، وفي سنة 1605 كانت له وقعة أخرى بجونية مع يوسف باشا سيفا والي أطرابلس وغزير وكان الظفر فيها للأمير فخر الدين، وانهزم يوسف باشا فأقام فخر الدين الشيخ يوسف بن الأسلماني حاكما من قبله في غزير، وفي سنة 1606 حارب أحمد باشا حافظ دمشق الأمير يونس الحرفوش، ثم الأمير أحمد الشهابي واستمد الأميران فخر الدين علي الحافظ، وأمدهما فاضطر الحافظ أن ينكف عن حربهما.
وكان الأمير فخر الدين حليفا لجان بولاد المار ذكره ، ولما قهره مراد باشا أظهر حنقه على فخر الدين، فأرسل إليه ابنه عليا واستعطف بخاطره بدفعه ثلاثمائة ألف قرش فعفا الوزير عنه وأنعم على ابنه بولاية صيدا وبيروت وغزير، وفي سنة 1609 كانت فتنة بين المسلمين سكان قرية مجدل معوش، واتفق الفريقان المتخاصمان على بيع القرية والخروج منها، فاشتراها الأمير علي بن فخر الدين باثني عشر ألف قرش، وأسكن النصارى فيها، ثم حضر يوحنا مخلوف بطريرك الموارنة، وأقام بها مدة وبنى فيها دارا وكنيسة، وفي سنة 1611 توفي مراد باشا وخلفه في منصب الصدارة نصوح باشا، فأرسل إليه فخر الدين خمسة وعشرين ألف قرش وخيلا جيادا، فلم يبد نصوح باشا البشاشة المعتادة لرسوله وإن قبل الهدية، ثم حضر إلى حلب فأرسل إليه فخر الدين خمسة وعشرين ألف قرش أخرى وخمسين ألف قرش خدمة للسلطان، ومع ذلك لم يصف خاطر الصدر الأعظم وكان آخذا عليه إنجاده للأمير يونس الحرفوش والأمير أحمد شهاب علي حافظ دمشق، وإرساله إليه الهدية أقل مما أرسله إلى مراد باشا.
وتوجه حافظ دمشق إلى حلب سنة 1612، فأوعز صدر الصدر الأعظم على فخر الدين وعاد إلى دمشق، فعزل الأمير حمدان بن قانصوه عن ولاية عجلون، والشيخ عمرا شيخ العرب المفارجة عن ولاية حوران، فنجد الأمير فخر الدين المعزولين حتى لم يتمكن حافظ دمشق من تنفيذ أمره، فرفع عريضة إلى الباب العالي يشكو بها الأمير فخر الدين بأنه غزا حوران وأنه محاصر دمشق، فجهز السلطان عسكرا بقيادة نصوح باشا الصدر الأعظم، ولما دخل الوزير دمشق استسلم الأمير يونس الحرفوش والأمير أحمد شهاب المذكوران، ولم يركن فخر الدين أن يستسلم إلى الوزير، ولم يشأ أن يحارب عسكر السلطان، وقصد أن يعتزل بالبرية فبلغه أن الأمير أحمد شهاب قطع عليه طريق جسر المجامع، ولما وصل إليه الأمير علي بن فخر الدين صده الأمير أحمد وقتل كثيرين من رجاله، فجمع فخر الدين رؤساء حزبه في الدامور، واستنهضهم للقتال فرأى عزيمتهم باردة فعزم على السفر إلى أوروبا، وحصن قلعة شقيف أرنون وقلعة بانياس، ومغارة نيحا ، وجعل فيها ما يكفي من المؤن والعدد وسلمها إلى بعض رجاله، وسلم ابنه الأمير عليا إلى الشيخ عمرو الذي كان قد استرجع ولاية حوران، وأوصى ذويه أن يكونوا يدا واحدة ولا يغتروا بعهود أو مواعيد، وسار إلى إيطاليا إلى أمير توسكانا ومعه بعض حاشيته وواحدة من نسائه، وسار أخوه الأمير يونس من بعقلين فاستقر بدير القمر فصارت مركزا لهم.
أما أحمد باشا حافظ دمشق فولى حسين باشا بن سيفا على بيروت، والشيخ مظفر رئيس اليمنية على الشوف، وابن البستنجي على صيدا، وزحف هو بعسكر على الشوف، وحاصر قلعة شقيف أرنون وقلعة بانياس، ولما لم ير له مطمعا في فتحها سرح عساكره إلى قرى البلاد تنهب وتحرق، فطلب الأمير يونس الأمان من حافظ دمشق وجرى القرار أن يدفع له الأمير يونس مائة ألف قرش كفلها بعض وجوه البلاد، فعاد الحافظ إلى دمشق ومعه الكفلاء، ثم أرسل المبلغ إليه إلا عشرين ألف قرش كانت مرسلة بيد أحمد بن العكس، ففر بها فعاد الحافظ إلى البقاع ثم دخل دير القمر بعسكره عنوة، وحرق منازل المعنيين وشتت رجالهم، وتحصن الأمير يونس مع أربعمائة رجل من وجوه الشوف بقلعة بانياس، وأرسل الحافظ فريقا من عسكره ليغزو وادي بسرة فحاربهم أهل الشوف، وقتلوا منهم ستمائة رجل، فجهز الحافظ ثمانية آلاف رجل وأرسلهم إليهم، فانتصر الشوفيون عليهم وأباح الحافظ عسكره أن ينهبوا قرى الشوف ويحرقوها ... فورد الخبر أن نصوح باشا الصدر الأعظم قتل فخاف الحافظ، وعاد إلى دمشق.
وفي سنة 1613 عزل السلطان أحمد باشا الحافظ عن منصبه في دمشق، وولى مكانه محمد باشا جركس، فأمن الفارين وأمر بعودهم إلى أوطانهم، وأرسل فرمان العفو ومنديل الأمان إلى الأمير فخر الدين، وولى الأمير عليا ابن فخر الدين على صفد وعمه الأمير يونس على صيدا وبيروت وما يليهما، وأمر حسين باشا ابن سيفا أن يرفع يده عن بلاد كسروان وبيروت، ولا يحامي الشيخ مظفر حاكم الشوف ولا الأمير محمد بن جمال الدين في الشويفات، ولا المقدمين بيت الصواف بالشبانية، فلم يمتثل حسين باشا الأمر بل اتفق مع الأمير شلهوب الحرفوش، وأمراء رأس نحاش وسرحوا ألفي مقاتل لمقاومة المعنيين، فجمع الأمير يونس والأمير علي ابن أخيه ثلاثة آلاف رجل، والتقى الفريقان عند عين الناعمة، وطرد المعنيون رجال حسين باشا إلى قرب الشويفات، وقتلوا منهم مائتي رجل، وجرت في ذلك اليوم مقاتلات في قرى كثيرة من الشوف بين القيسية واليمنية، فكان الفوز في كلها للقيسية الذين هم من حزب آل معن، وحمل الأمير يونس في اليوم التالي على بيروت، فاستسلم أهلها إليه فأمنهم ثم أباح عسكره أن ينهبوا قرى الغرب والجرد والمتن؛ لأن أهلها نهبوا قرى الشوف في أيام الحافظ، وحرق رجال الأمير يونس حينئذ دار الأمير محمد بالشويفات، ودار المقدمين بيت الصواف بالشبانية، وأخذ الأمير حسين عياله وعيال أخيه من غزير إلى عكار، فولى الأمير يونس الشيخ أبا نادر الخازن ومملوكه ذا الفقار على كسروان، ونصب عمالا في باقي البلاد وفر الشيخ مظفر الذي كان واليا بالشوف إلى الضنية، ثم توطن شدرا بعكار.
وسنة 1616 قتل والي حلب حسن باشا سيفا أخا حسين باشا المار ذكره، وعزل أحمد باشا الجوخ دار والي دمشق الأمير عليا ابن فخر الدين من ولاية صفد، وولى عليها حسين اليازجي، وشق ذلك على الأمير علي فكانت وقعة بينه وبين اليازجي قتل فيها اليازجي، وتشتت رجاله واسترضى الأمير علي والي دمشق فصدر أمر الباب العالي له بولاية صفد وصيدا وبيروت، وفي سنة 1617 عاد الأمير فخر الدين إلى لبنان بعد تغيبه خمس سنين، وفيها توفي السلطان أحمد خان الأول. (2) في ما كان بسورية في أيام السلطانين مصطفى الأول وعثمان الثاني
إن السلطان أحمد الأول عهد قبل وفاته بالملك إلى أخيه مصطفى؛ لأن ابنه كان صغيرا لكنه لم يستمر على عرش الملك هذه الدفعة إلا ثلاثة أشهر، وعزله أصحاب المطامع ونصبوا مكانه السلطان عثمان الثاني ابن أحمد الأول، فبقي على العرش مدة خمس سنين ثم خلعه الإنكشارية، وأعادوا السلطان مصطفى خان المذكور إلى الملك، وفي سنة 1618 تولى عمر باشا الكاتبجي أطرابلس، وبقيت ملحقاتها بيد يوسف باشا سيفا، فاستنجد عمر باشا الأمير فخر الدين على يوسف باشا، فجمع الأمير عساكره وزحف إلى يوسف باشا فاعتصم بحصن عكار وحاصرته العساكر فيه، فاستنجد نائب دمشق ونائب حلب فجمعا العساكر، وبلغا إلى حماة وكاتبا عمر باشا والأمير فخر الدين؛ ليرفعا الحصار عن يوسف باشا فلم يرفعاه حتى دفع إليهما مائة ألف قرش، ودون صكا آخر للأمير فخر الدين بمائة ألف قرش أخرى، وعاد الأمير فخر الدين فحاصر قلعة جبيل وهي بولاية آل عساف، ثم أمن من كانوا بها وأمر بهدمها، وولى على بلاد جبيل الشيخ أبا نادر الخازن وفتح قلعة أسمر جبيل ولم يهدمها، وولى على بلاد البترون المقدم يوسف بن الشاعر، ثم ورد أمر من الباب العالي بتقرير يوسف باشا سيفا في ولاية أطرابلس لكن لم يبق عليها إلا مدة وجيزة.
وفي سنة 1619 أقام والي دمشق على ولاية أطرابلس حسين باشا الجلالي، وجعل مصطفى أغا كتخدى الأمير فخر الدين على جبلة واللاذقية، وأمره أن يهدم القلاع التي كانت بيد يوسف باشا سيفا، وأن يضبط أملاكه التي هناك فأرسل يوسف باشا ابنه الأمير حسن إلى فخر الدين؛ ليستعطف رضاه عنه فلقيه فخر الدين بالترحاب، وعقد الأمير علي بن فخر الدين على ابنة الأمير حسن المذكور، وللأمير بلك بن يوسف باشا على بنت الأمير علي المذكور، ووجه يوسف باشا بعض أعوانه إلى الأستانة فنال الأمر بعزل حسين باشا الجلالي عن ولاية أطرابلس، وإعادة يوسف باشا إليها، وفي سنة 1620 أرسل حسين باشا الصدر الأعظم أمرا إلى الأمير فخر الدين بأن يستحصل من يوسف باشا ما يطلب للخزينة منه، فسار فخر الدين إلى أطرابلس ولما بلغ إلى البحصاص في خارجها انتقل يوسف باشا إلى جبلة، وأرسل ابنه الأمير حسنا إلى فخر الدين فباعه جميع مختلفات آل عساف ببيروت، ومزرعة أنطلياس ودار غزير ... وبعد أن تسلم صك البيع أرسل إلى يوسف باشا يطالبه بما عليه للخزينة، فأجبر يوسف باشا أن يدفع واستنجد بسليمان باشا والي دمشق وبعرب حمص والبقيعة، فحاصر فخر الدين أطرابلس وفتحها، ولكن لم يقو على فتح قلعتها، وخرج فخر الدين إلى النهر البارد والتقى الفريقان، فكانت موقعة هلك بها خلق كثير منهما، ثم ورد أمر سام للأمير فخر الدين أن ينكف عن مطالبته ليوسف باشا، فعاد فخر الدين إلى بلاده.
Неизвестная страница