الأظهر أن شيركوه وأيوب أبا صلاح الدين ابني شاذي أصلهما من الأكراد، وخدما في الشحنة السلجوقية ببغداد، وأعطاهما عماد الدين زنكي إقطاعات جليلة، ولما ملك زنكي بعلبك جعل أيوب مستحفظا لها، ولما حاصره عسكر دمشق بعد موت زنكي سلم القلعة إليهم وأعطوه إقطاعا كبيرا، وبقي من أكبر أمراء عسكر دمشق، وأما شيركوه أخوه فبقي في عسكر نور الدين، فأرسله مع ابن أخيه صلاح الدين إلى مصر كما مر.
ولما كان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين صغيرا مقيما بدمشق، كان كثير من الأمراء في حاشيته يتنازعون تدبير المملكة، فأرسل شمس الدين بن الداية المقيم بحلب يستدعي الملك الصالح إلى حلب؛ ليكون مقامه بها فسار إليها ومعه سعد الدين كمشتكين مدبرا لملكه، ولما تمكن كمشتكين بحلب قتل ابن الداية وبعض أعيان حلب، واستبد بتدبير الملك فخافه ابن المقدم الذي كان يدبر الملك بدمشق، واستدعى صلاح الدين إلى دمشق، فسار إليها وخرج إلى لقائه كل من كان فيها من العسكر، ونزل بدار والده أيوب المعروفة بدار العقيقي، وسلم إليه القلعة ريحان مستحفظها من قبل الملك الصالح، وبعد أن قرر أمور دمشق، واستخلف فيها أخاه الملقب سيف الإسلام طغتكين سار إلى حمص، فملكها وترك حول قلعتها من يحافظ عليها ورحل إلى حماة فملكها، ثم سار إلى حلب وفيها الملك الصالح المذكور فحاصرها، وقاتله أهل حلب فنزل الإفرنج على حمص فترك صلاح الدين حصار حلب، وعاد إلى حمص فهزم الإفرنج عنها وسار إلى بعلبك وملكها، وأرسل الملك الصالح يستنجد ابن عمه سيف الدين صاحب الموصل، فجهز جيشا انضم إلى عسكر حلب وقصدوا صلاح الدين، فراسلهم بأن يبذل لهم حمص وحماة وتبقى بيده دمشق، فيكون فيها نائبا للملك الصالح فلم يجيبوه إلى ذلك، وساروا إلى قتاله في جهة حماة، فانتصر عليهم وغنم أموالهم وتبعهم حتى حصرهم بحلب، وقطع خطبة الملك الصالح وأزال اسمه عن السكة، واستبد بالسلطنة بمصر وسورية، فصالحوه على أن يكون له ما بيده من سورية وللملك الصالح ما بقي بيده، فأجابهم إلى ذلك ورحل عن حلب سنة 1175.
وفي سنة 1176 كانت وقعة بين صلاح الدين وسيف الدولة صاحب الموصل ابن عم الملك الصالح، فظهر صلاح الدين وانهزم سيف الدولة ومحازبوه، وأخذ صلاح الدين بزاعة ومنبج وإعزاز وعاد إلى حصار حلب، واستقر الصلح بينه وبين الملك الصالح وسيف الدولة صاحب الموصل وغيرهما، وتحالفوا على أن يكونوا عونا على الناكث، وأعطاهم صلاح الدين إعزاز، وقصد بلاد الإسماعيلية فنهبها وأحرقها وحاصر قلعة مصياف، ثم صالح الإسماعيلية وعاد إلى مصر بعد أن استقر له ملك سورية.
أما الإفرنج فقام فيهم بعد موت أموري ملكهم ابنه وسمي بودوين الرابع، ولم يكن عمره حينئذ إلا ثلاث عشرة سنة، وكان يدبر الملك ريموند كنت أطرابلس فغزا في هذه الأثناء الأعمال التي وراء لبنان، واتصلوا إلى داريا على مقربة من دمشق، ثم دخلوا بقاع العزيز ثانية وبلغوا إلى بعلبك، ولما عاد صلاح الدين إلى مصر غزوا بعض الأعمال في ناحية أنطاكية، فاغتنم صلاح الدين هذه الفرصة فسار إلى عسقلان، فنهب وتفرق عسكره في الإغارات، وكان بينه وبين الإفرنج قتال شديد كانت نتيجته انهزام صلاح الدين، وقتل كثيرين من جيشه وأسر بعضهم فتقوى الإفرنج، فحصروا حماة ونائبها شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين، وكادوا يملكونها، ولكن جد المسلمون في القتال، فرحل الإفرنج إلى حارم وحصروها، فأرسل الملك الصالح صاحب حلب إليهم مالا فصالحوه، ورحلوا عن حارم.
وفي سنة 1179 سير صلاح الدين ابن أخيه تقي الدين عمر إلى حماة وابن عمه محمد بن شيركوه إلى حمص، وأمرهما بحفظ بلادهما واستقر كل منهما ببلده، وفي سنة 1180 عاد صلاح الدين إلى سورية وفتح حصنا للإفرنج قريبا من بانياس، ودكه إلى الأرض، وفي سنة 1182 توفي الملك الصالح بن نور الدين بحلب، وأوصى بملك حلب إلى ابن عز الدين مسعود صاحب الموصل، وبعد أن استقر بها كاتبه أخوه عماد الدين صاحب سنجار أن يعطيه حلب، ويأخذ سنجار واتفقا على ذلك.
وفي سنة 1183 عاد صلاح الدين مرة أخرى إلى سورية، وسار من دمشق إلى قرب طبرية وشن الإغارة على بلاد الإفرنج مثل بانياس وجنين والغور فغنم وقتل، فخرج عليه الإفرنج فقاتلهم صلاح الدين وقتل منهم جماعة كثيرة، وأسر منهم صاحب الرملة ونابلس وصاحب جبيل وصاحب طبرية، وغيرهم من كبار فرسانهم ونجا ملكهم، وكان صلاح الدين قد أمر الأسطول المصري أن يأتي، فيضرب بيروت ووافاهم إليها فحاصرها عدة أيام، لكنه خاف اجتماع الإفرنج عليه فعاد إلى دمشق، ثم سار إلى الجزيرة فأخذ حران وحصن كيفا والرها والرقة ونصيبين، وحاصر الموصل وملك سنجار، وعاد إلى سورية فاستولى على تل خالد من أعمال حلب وحاصر عيتاب وملكها، وسار إلى حلب فسلمها صاحبها إليه على شرط أن يعوض عنها بسنجار ونصيبين والخابور وغيرها ... فاستلم صلاح الدين حلب، واستلم حارم أيضا واستخلف بحلب ولده الملك الظاهر غازي، وعاد إلى دمشق غانما ظافرا، فدانت له مصر وبلاد العرب والجزيرة وأكثر أعمال سورية، ولم يبق من يخالفه إلا الإفرنج محصورين في وسط أملاكه وله أسطول في شواطئ مصر. (2) وقعة حطين بين الإفرنج وصلاح الدين
ابتلي بودوين الرابع ملك الإفرنج بالبرص، وأمسى أعمى لا يستطيع حراكا، فاختار كوي لوسنيان كنت يافا مدبرا للملك، ثم خلفه وتخلى عن الملك لابن أخته، وسماه بودوين الخامس، ولكن لم يكن عمره إلا خمس سنين، وعين ريموند كنت طرابلس مدبرا للملك وتوفي بودوين الرابع سنة 1185، ثم توفي بودوين الخامس سنة 1186، فاختار البطريرك وبعض الأعيان بأورشليم سيبيلا امرأة لوسنيان المذكور بنت أموري الملك ملكة، وهي أشركت في الملك معها زوجها لوسنيان المذكور، وخالف ذلك كنت طرابلس وغيره من الأعيان واختاروا همفروا زوج إيزابل ابنة أموري الثانية ملكا فأبى، فأغضى المخالفون مكرهين على تمليك لوسنيان وامرأته، فهذه كانت حالة الإفرنج وصلاح الدين واقف لهم بالمرصاد، ومضى ريموند كنت أطرابلس فأقام في طبرية التي كانت لامرأته، وهادن صلاح الدين واتفق معه.
وفي سنة 1187 خالف البرنس صاحب الكرك الهدنة وسطا على قافلة من المسلمين، وأسرهم وطلب صلاح الدين إطلاقهم بحكم الهدنة فأبى، فجمع صلاح الدين سنة 1188 عسكره وسار بفريق منها إلى الكرك وضايقها، وسير ابنه الملك الأفضل بالفريق الآخر إلى جهات عكا، فنهبوا وغنموا كثيرا، ونزل صلاح الدين على طبرية وفتح المدينة، واجتمع الإفرنج فالتقى الجمعان في حطين واشتد بينهم القتال، وأحدق المسلمون بالإفرنج وأبادوهم قتلا وأسرا، وكان من جملة الأسرى الملك لوسنيان صاحب الكرك، وصاحب جبيل وغيرهم، وقتل صلاح الدين بنفسه صاحب الكرك الذي كان سببا لهذه الحرب، وأمر بقتل الفرسان الذين أسروا فقتلوا.
ثم أخذ صلاح الدين قلعة طبرية، وسار إلى عكا وخرج أهلها وطلبوا الأمان، فأمنهم وخيرهم بين الإقامة والرحيل، فاختاروا الرحيل وحملوا ما أمكنهم حمله من أموالهم، وغنم المسلمون ما بقي منها، ودخل عكا وسير عسكره فرقا إلى الناصرة وقيصرية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف وغيرها، فملكتها العساكر وأسروا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، وأرسل ابن أخيه تقي الدين على تينين ؛ ليقطع الميرة عنها وعن صور، وسير حسام الدين بن لاجين إلى نابلس فدخلها، وحصر قلعتها واستنزل من بها بالأمان، ثم سار صلاح الدين إلى تينين وضايقها حتى طلب أهلها الأمان، فأمنهم وسار إلى صيدا فتسلمها دون ممانع وكذلك صرفند، وبلغ إلى بيروت فقاتله أهلها قتالا شديدا لكنهم أرغموا أخيرا أن يطلبوا الأمان فأمنهم ودخل المدينة، وأما جبيل فكان صاحبها في جملة الأسرى، فأحضره صلاح الدين مقيدا فسلم قلعتها، وأطلق الأسرى المسلمين فأطلقه صلاح الدين.
وكان صلاح الدين بعد قهره الإفرنج بحطين قد أرسل يبشر أخاه العادل بمصر، ويأمره بالمسير إلى بلاد الإفرنج فتسارع إلى فلسطين، فأخذ مجدل بابا ويافا، وأجرى على أهلها شديد القسوة، وسار صلاح الدين إلى عسقلان وحاصرها مع أخيه العادل، فامتنع أهلها وصبروا على الدفاع، وكان ملك الإفرنج الأسير معه، فقال له: «إن سلمت إلي هذه المدينة أطلقتك.» فأمر الملك الإفرنج بتسليمها فعصوا أمره، ولكن أكرهوا أخيرا على طلب الأمان، فأمنهم صلاح الدين وسيرهم جميعا إلى بيت المقدس. (3) فتح صلاح الدين بيت المقدس
Неизвестная страница