Диалоги Альфреда Норта Уайтхеда
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
Жанры
فأبو حيان في إجاباته البارعة الرائعة عن أسئلة الوزير، هو هوايتهد في إجاباته البارعة الرائعة عن أسئلة طلابه وأصدقائه؛ وأبو الوفاء المهندس الذي كان له فضل تسجيل تلك الأحاديث، هو لوسيان برايس الذي كان له فضل تسجيل محاورات هوايتهد، والحديث في كلتا الحالين مكتوب من الذاكرة بعد أوان حدوثه؛ والوزير في قصة أبي حيان يقابله المجتمع المثقف في قصة هوايتهد؛ وقصر الوزير الذي دارت فيه تلك الأحاديث في القرن الحادي عشر الميلادي، يقابله مسكن متواضع من أربع حجرات لهوايتهد، هو الذي جمع الأصدقاء وشهد الحوار في القرن العشرين.
والطريقة في الكتابين واحدة؛ ففي حالة أبي حيان كان الوزير أحيانا يعد سؤالا يلقيه ويترك أبا حيان يجيب له عنه دون أن يضيف هو من عنده شيئا أو يعترض على شيء، لكنه أحيانا أخرى كان يعترض ويحاور، وكذلك الحال بالنسبة إلى هوايتهد؛ والموضوعات في كل من الكتابين قد تنوعت تنوعا شمل صنوفا متباينة من المسائل، وأتاح الفرصة لصاحب الإجابة أن يعبر عن نفسه من شتى نواحيه؛ فما أظن أبا حيان قد ترك جانبا من جوانبه لم يظهره في الجواب عن هذا السؤال أو ذاك، وكذلك كانت الحال بالنسبة إلى هوايتهد، فلو قد ترك هوايتهد لمؤلفاته الفلسفية وحدها، لما عرف عنه الناس إلا أحد جوانبه دون سائرها.
إن الليالي السامرة التي قضاها أبو حيان مع وزيره، والليالي السامرة التي قضاها هوايتهد مع أصدقائه وطلابه، لتذكرنا بشهرزاد وأحاديثها في ألف ليلة وليلة، فحلاوة الحديث هي المحور في هذه الأمثلة الثلاثة جميعا، والفرق هو أن أحاديث شهرزاد قد ركبت متون الخيال، وأما فيلسوفانا أبو حيان وهوايتهد فقد أعملا فيها الفكر وتعرضا لأعوص المشاكل وأعقدها، مع خفة الحديث وانسيابه وطلاوته.
وإنه لمما يجلو أمام أبصارنا مواضع الشبه ومواضع الخلاف بين هذين المحدثين العظيمين، التوحيدي وهوايتهد - وما الشبه والخلاف بين رجلين كهذين إلا انعكاس لأوجه الشبه والخلاف بين عصرين وثقافتين - أقول إنه لمما يجلو أمام أبصارنا مواضع المقارنة بينهما، أن نتعقب فكرة بعينها كيف وردت في سياق الحديث عند التوحيدي من جهة، وعند هوايتهد من جهة أخرى، وكيف كان الرأي فيها، فانظر - مثلا - إلى رأيهما في الشعر خاصة، وفي الأدب عامة.
أما هوايتهد فبعد أن يلفت النظر إلى قصور اللغة دون التعبير الكامل عن خبرة الإنسان الباطنية، يستطرد فيقول (الليلة الرابعة والعشرون من محاوراته): إن الإمساك بالخبرة الوجدانية قبل أن تفلت وتختفي هو من أخص خصائص الشعر الرفيع، فهو عندئذ يكاد يوفق إلى تصيد إحدى لحظات السعادة النشوى أو الألم الأليم، يتصيدها في أحبولة الكلمات على نحو يقربها إلى القارئ أو السامع؛ لأن اللفظ - على كل حال - هو صوت، والعلاقة بين الصوت من جهة وبين الوجدان الذي تضطرب به النفس من جهة أخرى هي علاقة متكلفة معتسفة، وإذا شئت فاستخرج معاني كلمات القصيدة كما وردت في المعجم، واجمع تلك المعاني بعضها إلى بعض، تجد البون شاسعا بين حصيلتها وبين ما قصد إليه الشاعر؛ لأن الشاعر قد أضاف إلى معانيها المعجمية نغمات عاطفية، وكثيرا ما تنضاف هذه الإضافة إلى معنى الكلمة فيما بعد ، فتصبح جزءا منه ؛ وبهذا يغزر معنى الكلمات بفضل الشعراء، على أنه مهما بعدت الألفاظ عن كوامن النفس، فهي في الشعر أقرب ما تكون إليها، ففي الشعر وحده تتجلى البواطن النفسية الخوافي، حتى لنحس ونحن نقرأ الشعر أو نسمعه أننا نجد فيه أنفسنا.
ويعود هوايتهد في محاورة أخرى (الليلة الثالثة بعد الأربعين) فيتناول موضوع اللغة وعجزها عن التعبير عما تكنه النفس، فيقول: إنه ليدهشني كم تقصر اللغة دون التعبير عما يدور في فكرنا الواعي، ثم كم يقصر هذا الفكر الواعي دون التعبير عما يختلج به اللاوعي في أعماق نفوسنا، لقد أقامت الفلسفة بناءها على أساس افتراضها بأن اللغة وسيلة تعبيرية مضبوطة، فترى الفلاسفة يجرون الفكرة المعينة في عبارة لفظية ثم يحسبونها قد استقرت في صورتها الدقيقة إلى الأبد، مع أن هذه الفكرة - حتى على فرض الدقة التامة في العبارة التي استخدمها الفيلسوف للتعبير عنها - تتغير أبعادها فتحتاج إلى إعادة التعبير عنها في كل قرن مرة، بل في كل جيل مرة؛ لأن الفكرة تنمو، ولعل أفلاطون وحده بين الفلاسفة جميعا هو الذي تنبه إلى ذلك ولم يقع في فخ الكلمات، فتراه على بينة تامة من هذا الجانب المراوغ في الأفكار، ولذلك إن استعصت الفكرة على اللفظ استخدم للتعبير عنها الأساطير، والأسطورة بطبيعتها لا تدعي دقة التعبير بقدر ما يراد بها إثارة التأمل.
ويمضي هوايتهد في حديثه هذا فيقول: إن الرياضة أدق من لغة الكلام، وهي أقرب إلى الحق؛ ولذلك فلا يبعد أن يجيء يوم بعيد فتصبح الرياضة هي وسيلة الناس في التفاهم بدل الكلام المألوف لنا اليوم، والحق أن كل ما يدور به الفكر الواعي، وما نصوغه في عبارات اللغة، هو - بالقياس إلى الكامن الدفين في نفوسنا - سطحي ضحل تافه، وأما الأعماق العميقة فلا تتبدى أمام الوعي أو تنطلق في عبارات اللغة، إلا في اللحظات النادرات، وهي هي اللحظات التي لا تنسى من حياتنا، وفي تلك اللحظات نشعر - أو قل إننا عندئذ نعلم - أننا إنما نستخدم أدوات لقوة أعظم منا؛ لنحقق لها أهدافا أعلى من أهدافنا، وإن أمثال هذه اللحظات لتكثر عند العباقرة، لكن ليس منا من لم تمر بحياته لحظات كهذه، وفي الإمساك بهذه اللحظات الإشراقية تكون عظمة الشعر والشعراء؛ لأنهم هم الذين يعبرون عنها بلفظ قمين أن يقرأه القارئ أو يسمعه السامع فيحس بدوره أن تلك اللانهاية في آماد الفكر والشعور قد لمحها في حياته الداخلية لمحا، لكنها اندثرت لولا أن جاء هذا الشاعر فأخرجها له لفظا.
إن هذا الشعر الذي يفصح عن اللانهاية بلفظ محدود، لا يحتاج إلى علم واسع، بل إن قلة العلم كثيرا ما كانت هي علة ارتفاع الشاعر، كما هي الحال في شكسبير، الذي لو ازداد علما لقل ارتفاعا في شعره، على عكس ملتن الذي كان شعره ليزداد ارتفاعا لو قل علما.
وأما محدثنا العربي أبو حيان التوحيدي، فيتناول الموضوع نفسه (في الليلة الخامسة والعشرين من الإمتاع والمؤانسة) فيفرق نفس التفرقة التي أشار إليها هوايتهد، بين الوعي واللاوعي؛ فالأول يرتكن إلى عقل محدود ولغة قاصرة، والثاني يرتكن إلى لمحات الروح في إدراكه وفي التعبير عنه، لكن التوحيدي يقول هذا بلغته فيقول: «الكلام ينبعث في أول مبادئه إما عن عفو البديهة وإما عن كد الروية، وإما أن يكون مركبا منهما، وفيه قواهما بالأكثر والأقل؛ ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى، وفضيلة كد الروية أنه يكون أشفى، وفضيلة المركب منهما أنه يكون أوفى؛ وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقل، وعيب كد الروية أن تكون صورة الحس فيه أقل، وعيب المركب منهما بقدر قسطه منهما؛ على أنه إذا خلص هذا المركب من شوائب التكلف وشوائن التعسف، كان بليغا مقبولا رائعا حلوا، تحتضنه الصدور وتختلسه الآذان.»
في هذه العبارة المركزة يقدم لنا التوحيدي مقارنة بارعة بين إدراك العقل - وإن شئت فقل إدراك العلم والفلسفة - وبين إدراك البصيرة الفطرية - وإن شئت هنا أيضا فقل إدراك الشعر والفن - فلمحة الشاعر والفنان ببصيرته ترى جوهر الحق «أصفى» لأنها تزيل شوائب الجزئيات العابرة لتغوص إلى الجوهر الدفين، لكن نظرة العالم أو الفيلسوف «أشفى» لأنها تعنى بحياة الناس العملية فتقدم إليهم ما ينفعهم في مجرى السلوك اليومي، وما أجمل وأنفع أن نجمع في حياة واحدة بين علم وشعر!
Неизвестная страница