مقدمة
فاتحة
المحاورات
المحاورة الأولى
المحاورة الثانية
المحاورة الثالثة
المحاورة الرابعة
المحاورة الخامسة
المحاورة السادسة
المحاورة السابعة
المحاورة الثامنة
المحاورة التاسعة
المحاورة العاشرة
المحاورة الحادية عشر
المحاورة الثانية عشرة
المحاورة الثالثة عشرة
المحاورة الرابعة عشرة
المحاورة الخامسة عشرة
المحاورة السادسة عشرة
المحاورة السابعة عشرة
المحاورة الثامنة عشرة
المحاورة التاسعة عشرة
المحاورة العشرون
المحاورة الحادية والعشرون
المحاورة الثانية والعشرون
المحاورة الثالثة والعشرون
المحاورة الرابعة والعشرون
المحاورة الخامسة والعشرون
المحاورة السادسة والعشرون
المحاورة السابعة والعشرون
المحاورة الثامنة والعشرون
المحاورة التاسعة والعشرون
المحاورة الثلاثون
المحاورة الحادية والثلاثون
المحاورة الثانية والثلاثون
المحاورة الثالثة والثلاثون
المحاورة الرابعة والثلاثون
المحاورة الخامسة والثلاثون
المحاورة السادسة والثلاثون
المحاورة السابعة والثلاثون
المحاورة الثامنة والثلاثون
المحاورة التاسعة والثلاثون
المحاورة الأربعون
المحاورة الحادية والأربعون
المحاورة الثانية والأربعون
المحاورة الثالثة والأربعون
خاتمة
مقدمة
فاتحة
المحاورات
المحاورة الأولى
المحاورة الثانية
المحاورة الثالثة
المحاورة الرابعة
المحاورة الخامسة
المحاورة السادسة
المحاورة السابعة
المحاورة الثامنة
المحاورة التاسعة
المحاورة العاشرة
المحاورة الحادية عشر
المحاورة الثانية عشرة
المحاورة الثالثة عشرة
المحاورة الرابعة عشرة
المحاورة الخامسة عشرة
المحاورة السادسة عشرة
المحاورة السابعة عشرة
المحاورة الثامنة عشرة
المحاورة التاسعة عشرة
المحاورة العشرون
المحاورة الحادية والعشرون
المحاورة الثانية والعشرون
المحاورة الثالثة والعشرون
المحاورة الرابعة والعشرون
المحاورة الخامسة والعشرون
المحاورة السادسة والعشرون
المحاورة السابعة والعشرون
المحاورة الثامنة والعشرون
المحاورة التاسعة والعشرون
المحاورة الثلاثون
المحاورة الحادية والثلاثون
المحاورة الثانية والثلاثون
المحاورة الثالثة والثلاثون
المحاورة الرابعة والثلاثون
المحاورة الخامسة والثلاثون
المحاورة السادسة والثلاثون
المحاورة السابعة والثلاثون
المحاورة الثامنة والثلاثون
المحاورة التاسعة والثلاثون
المحاورة الأربعون
المحاورة الحادية والأربعون
المحاورة الثانية والأربعون
المحاورة الثالثة والأربعون
خاتمة
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
تحرير
لوسيان برايس
تقديم
زكي نجيب محمود
ترجمة
محمود محمود
مقدمة
عملية الفكر تنحل - آخر الأمر - إلى وحدات أولية بسيطة، قوام الوحدة الواحدة منها سؤال وجواب، وقد يكون الشخص الواحد - إذ يفكر لنفسه - سائلا ومجيبا في آن معا، فهو الذي يلقي السؤال على نفسه، وهو الذي يحاول الجواب، وقد يكون السائل شخصا والمجيب شخصا آخر، فلا فرق بين هاتين الحالتين في الجوهر والأساس، ففي كلتيهما «محاورة» هي أس الفكر ولبابه؛ فالفكرة الواحدة بالغة ما بلغت من البساطة كان يستحيل عليها أن تنشأ في ذهن صاحبها، ما لم يكن صاحبها هذا قد وقف من الأمر موقف المتسائل، سواء أخرج سؤاله في صياغة لفظية صريحة، أم لبث مستكنا يظهر في «الوقفة» وفي «النظرة» إن لم يظهر في اللفظ المسموع، قل لنفسك: «إن الشمس طالعة»، أو «إن السماء غائمة» يكن هذا القول جوابا منك عن سؤال أضمرته: «كيف حالة الجو الآن؟»
أساس الفكر حوار، ولقد عبر الإنسان عن نفسه محدثا ومحاورا قبل أن يعبر عن نفسه كاتبا، بعشرات الآلاف من السنين، فمهما بلغ تاريخ الكتابة من القدم، فقد سبقها الكلام، لا، بل إنه محال على الكتابة أن تقاس إلى الكلام في التعبير عما تضطرب به النفس من مشاعر وما يدور في الرأس من خواطر؛ فأنت تعرف الشخص من حديثه أكثر جدا مما تعرفه من كتابته، ذلك بالطبع إن أرسل كلامه على سجيته، ولا عجب أن قال سقراط إلى جليس له ذات مرة إذ رآه صامتا: كلمني لكي أراك.
ولعل الحديث لم يبلغ أوجه إلا على لسان سقراط، ذلك المحدث العظيم الذي كان أول من سجل تاريخ الآداب مثلا للحديث يكون فنا ولا يكون لغوا، نعم ففن الحديث له علائمه وشروطه كأي فن آخر؛ فهو فن إذا خرج منه المتحدثان أخصب فكرا وأصفى نفسا وأرحب أفقا وأغزر شعورا. إن الواحد منا ليحس أحيانا كأنما يريد أن يقول شيئا ولا يعرف كيف يقوله، فالفكرة عندئذ تكون كأنما هي الجنين الذي لم يكتمل خلقا، أو كأنما هي النسمة المبعثرة تسري في كيانه ولم تجتمع أطرافها بعد لتسلك سبيلها إلى اللسان والشفتين ألفاظا مرتبة في أنفاس معبرة، فالحديث فن إذا ترجم لصاحبه عن شعوره ترجمة تحيل ذلك الشعور عقلا؛ أعني أنها تحيله شيئا فشيئا مفهوما لسامعه. ترى ماذا كانت تعني الطبيعة وكيف كانت تكون آثار الفن إذا لم تجد هذه وتلك من في مقدوره أن يتأثر بها ثم يفصح لنا عما تأثر به في كلام بليغ نفهمه فنفهم به الطبيعة والفن جميعا؟ ترى كيف كانت تكون حالة العلوم نفسها إذا لم يكن بين العلماء أحاديث، فهذا يسأل وذلك يجيب، وهذا يعترض وذلك يشرح ويوضح؟ ترى هل كانت تقوم للجماعة قائمة بغير حديث يربط أفرادها كأنما هو الخيوط يشد بعضهم إلى بعض؟
وأعجب العجب أن يكون للحديث الفني هذا الخطر البالغ، ثم لا يفسح له تاريخ الأدب مكانا ملحوظا بين سائر صوره، فقل أن تجد في شتى اللغات أحاديث مسجلة كما وقعت. ومن الأمثلة القليلة التي ترد على الذهن محاورات أفلاطون التي تعد آية في طلاوة فنها وغزارة فكرها، لكنها إن بدت في ظاهرها حديثا تلقائيا بين المتحاورين فهي في حقيقتها مسيرة ملجمة لتبلغ كل محاورة منها هدفها المقصود، فبرغم ما قد ورد على لسان سقراط في إحدى المحاورات وهو يخاطب محاوريه قائلا: فلنتبع الحديث إلى حيث يسوقنا، إلا أن فيلسوفنا لم تغب عنه أهدافه أبدا؛ وبهذا جاءت المحاورات الأفلاطونية في صورة الحديث، لكنها تخلو من خصائص الحديث العابر المنساب.
ومن الأحاديث المسجلة في تاريخ الأدب كذلك، حديث «جونسن» كما صوره مرافقه «بوزول»، وكذلك حديث «جيته» كما سجله «أكرمان»، وعندنا في الأدب العربي أمثلة أقربها شبها إلى المحاورات التي نحن الآن بصدد تقديمها إلى القراء، هي أحاديث أبي حيان التوحيدي التي جمعت في كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، وهو من ثلاثة أجزاء. وهنا نقف وقفة قصيرة نقارن فيها بين الرجلين.
تتألف محاورات هوايتهد من ثلاثة وأربعين حديثا دارت في بيته بينه وبين طلابه وأصدقائه في الأمسيات التي كان يخصصها لمثل تلك الاجتماعات وهو أستاذ بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة، وكان من هؤلاء الأصدقاء صحفي أديب هو «لوسيان برايس»، فكان - بحكم حرفة الصحافة - يسجل لنفسه تلك الأحاديث كما كانت تقع حتى اجتمعت له منها مجموعة، فاختار منها ثلاثة وأربعين حديثا؛ أولها حديث السادس من أبريل عام 1934م، وآخرها حديث الحادي عشر من نوفمبر عام 1947م (مات هوايتهد في الثلاثين من ديسمبر عام 1947م وهو في السابعة والثمانين من عمره).
وتتألف أحاديث أبي حيان التوحيدي الواردة في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» من سبعة وثلاثين حديثا، وقع كل منها في ليلة ساحرة من الليالي التي قضاها في حضرة الوزير أبي عبد الله العارض، وقصة ذلك اللقاء هي أن أبا الوفاء المهندس - وهو من الأئمة المشهورين في علم الهندسة - كان صديقا لأبي حيان وصديقا للوزير أبي عبد الله العارض، فقرب أبو الوفاء أبا حيان من الوزير، ووصله به ومدحه عنده، حتى جعل الوزير أبا حيان من سماره، فسامره سبعا وثلاثين ليلة، كان الوزير يطرح عليه أسئلة في شتى الموضوعات فيجيب عنها أبو حيان، ثم طلب أبو الوفاء من أبي حيان أن يقص عليه كل ما دار بينه وبين الوزير من حديث، فأجابه أبو حيان إلى طلبه، ودون كل ما دار بينه وبين الوزير في تلك الأماسي السامرة؛ فكان من ذلك كتاب «الإمتاع والمؤانسة».
فأبو حيان في إجاباته البارعة الرائعة عن أسئلة الوزير، هو هوايتهد في إجاباته البارعة الرائعة عن أسئلة طلابه وأصدقائه؛ وأبو الوفاء المهندس الذي كان له فضل تسجيل تلك الأحاديث، هو لوسيان برايس الذي كان له فضل تسجيل محاورات هوايتهد، والحديث في كلتا الحالين مكتوب من الذاكرة بعد أوان حدوثه؛ والوزير في قصة أبي حيان يقابله المجتمع المثقف في قصة هوايتهد؛ وقصر الوزير الذي دارت فيه تلك الأحاديث في القرن الحادي عشر الميلادي، يقابله مسكن متواضع من أربع حجرات لهوايتهد، هو الذي جمع الأصدقاء وشهد الحوار في القرن العشرين.
والطريقة في الكتابين واحدة؛ ففي حالة أبي حيان كان الوزير أحيانا يعد سؤالا يلقيه ويترك أبا حيان يجيب له عنه دون أن يضيف هو من عنده شيئا أو يعترض على شيء، لكنه أحيانا أخرى كان يعترض ويحاور، وكذلك الحال بالنسبة إلى هوايتهد؛ والموضوعات في كل من الكتابين قد تنوعت تنوعا شمل صنوفا متباينة من المسائل، وأتاح الفرصة لصاحب الإجابة أن يعبر عن نفسه من شتى نواحيه؛ فما أظن أبا حيان قد ترك جانبا من جوانبه لم يظهره في الجواب عن هذا السؤال أو ذاك، وكذلك كانت الحال بالنسبة إلى هوايتهد، فلو قد ترك هوايتهد لمؤلفاته الفلسفية وحدها، لما عرف عنه الناس إلا أحد جوانبه دون سائرها.
إن الليالي السامرة التي قضاها أبو حيان مع وزيره، والليالي السامرة التي قضاها هوايتهد مع أصدقائه وطلابه، لتذكرنا بشهرزاد وأحاديثها في ألف ليلة وليلة، فحلاوة الحديث هي المحور في هذه الأمثلة الثلاثة جميعا، والفرق هو أن أحاديث شهرزاد قد ركبت متون الخيال، وأما فيلسوفانا أبو حيان وهوايتهد فقد أعملا فيها الفكر وتعرضا لأعوص المشاكل وأعقدها، مع خفة الحديث وانسيابه وطلاوته.
وإنه لمما يجلو أمام أبصارنا مواضع الشبه ومواضع الخلاف بين هذين المحدثين العظيمين، التوحيدي وهوايتهد - وما الشبه والخلاف بين رجلين كهذين إلا انعكاس لأوجه الشبه والخلاف بين عصرين وثقافتين - أقول إنه لمما يجلو أمام أبصارنا مواضع المقارنة بينهما، أن نتعقب فكرة بعينها كيف وردت في سياق الحديث عند التوحيدي من جهة، وعند هوايتهد من جهة أخرى، وكيف كان الرأي فيها، فانظر - مثلا - إلى رأيهما في الشعر خاصة، وفي الأدب عامة.
أما هوايتهد فبعد أن يلفت النظر إلى قصور اللغة دون التعبير الكامل عن خبرة الإنسان الباطنية، يستطرد فيقول (الليلة الرابعة والعشرون من محاوراته): إن الإمساك بالخبرة الوجدانية قبل أن تفلت وتختفي هو من أخص خصائص الشعر الرفيع، فهو عندئذ يكاد يوفق إلى تصيد إحدى لحظات السعادة النشوى أو الألم الأليم، يتصيدها في أحبولة الكلمات على نحو يقربها إلى القارئ أو السامع؛ لأن اللفظ - على كل حال - هو صوت، والعلاقة بين الصوت من جهة وبين الوجدان الذي تضطرب به النفس من جهة أخرى هي علاقة متكلفة معتسفة، وإذا شئت فاستخرج معاني كلمات القصيدة كما وردت في المعجم، واجمع تلك المعاني بعضها إلى بعض، تجد البون شاسعا بين حصيلتها وبين ما قصد إليه الشاعر؛ لأن الشاعر قد أضاف إلى معانيها المعجمية نغمات عاطفية، وكثيرا ما تنضاف هذه الإضافة إلى معنى الكلمة فيما بعد ، فتصبح جزءا منه ؛ وبهذا يغزر معنى الكلمات بفضل الشعراء، على أنه مهما بعدت الألفاظ عن كوامن النفس، فهي في الشعر أقرب ما تكون إليها، ففي الشعر وحده تتجلى البواطن النفسية الخوافي، حتى لنحس ونحن نقرأ الشعر أو نسمعه أننا نجد فيه أنفسنا.
ويعود هوايتهد في محاورة أخرى (الليلة الثالثة بعد الأربعين) فيتناول موضوع اللغة وعجزها عن التعبير عما تكنه النفس، فيقول: إنه ليدهشني كم تقصر اللغة دون التعبير عما يدور في فكرنا الواعي، ثم كم يقصر هذا الفكر الواعي دون التعبير عما يختلج به اللاوعي في أعماق نفوسنا، لقد أقامت الفلسفة بناءها على أساس افتراضها بأن اللغة وسيلة تعبيرية مضبوطة، فترى الفلاسفة يجرون الفكرة المعينة في عبارة لفظية ثم يحسبونها قد استقرت في صورتها الدقيقة إلى الأبد، مع أن هذه الفكرة - حتى على فرض الدقة التامة في العبارة التي استخدمها الفيلسوف للتعبير عنها - تتغير أبعادها فتحتاج إلى إعادة التعبير عنها في كل قرن مرة، بل في كل جيل مرة؛ لأن الفكرة تنمو، ولعل أفلاطون وحده بين الفلاسفة جميعا هو الذي تنبه إلى ذلك ولم يقع في فخ الكلمات، فتراه على بينة تامة من هذا الجانب المراوغ في الأفكار، ولذلك إن استعصت الفكرة على اللفظ استخدم للتعبير عنها الأساطير، والأسطورة بطبيعتها لا تدعي دقة التعبير بقدر ما يراد بها إثارة التأمل.
ويمضي هوايتهد في حديثه هذا فيقول: إن الرياضة أدق من لغة الكلام، وهي أقرب إلى الحق؛ ولذلك فلا يبعد أن يجيء يوم بعيد فتصبح الرياضة هي وسيلة الناس في التفاهم بدل الكلام المألوف لنا اليوم، والحق أن كل ما يدور به الفكر الواعي، وما نصوغه في عبارات اللغة، هو - بالقياس إلى الكامن الدفين في نفوسنا - سطحي ضحل تافه، وأما الأعماق العميقة فلا تتبدى أمام الوعي أو تنطلق في عبارات اللغة، إلا في اللحظات النادرات، وهي هي اللحظات التي لا تنسى من حياتنا، وفي تلك اللحظات نشعر - أو قل إننا عندئذ نعلم - أننا إنما نستخدم أدوات لقوة أعظم منا؛ لنحقق لها أهدافا أعلى من أهدافنا، وإن أمثال هذه اللحظات لتكثر عند العباقرة، لكن ليس منا من لم تمر بحياته لحظات كهذه، وفي الإمساك بهذه اللحظات الإشراقية تكون عظمة الشعر والشعراء؛ لأنهم هم الذين يعبرون عنها بلفظ قمين أن يقرأه القارئ أو يسمعه السامع فيحس بدوره أن تلك اللانهاية في آماد الفكر والشعور قد لمحها في حياته الداخلية لمحا، لكنها اندثرت لولا أن جاء هذا الشاعر فأخرجها له لفظا.
إن هذا الشعر الذي يفصح عن اللانهاية بلفظ محدود، لا يحتاج إلى علم واسع، بل إن قلة العلم كثيرا ما كانت هي علة ارتفاع الشاعر، كما هي الحال في شكسبير، الذي لو ازداد علما لقل ارتفاعا في شعره، على عكس ملتن الذي كان شعره ليزداد ارتفاعا لو قل علما.
وأما محدثنا العربي أبو حيان التوحيدي، فيتناول الموضوع نفسه (في الليلة الخامسة والعشرين من الإمتاع والمؤانسة) فيفرق نفس التفرقة التي أشار إليها هوايتهد، بين الوعي واللاوعي؛ فالأول يرتكن إلى عقل محدود ولغة قاصرة، والثاني يرتكن إلى لمحات الروح في إدراكه وفي التعبير عنه، لكن التوحيدي يقول هذا بلغته فيقول: «الكلام ينبعث في أول مبادئه إما عن عفو البديهة وإما عن كد الروية، وإما أن يكون مركبا منهما، وفيه قواهما بالأكثر والأقل؛ ففضيلة عفو البديهة أنه يكون أصفى، وفضيلة كد الروية أنه يكون أشفى، وفضيلة المركب منهما أنه يكون أوفى؛ وعيب عفو البديهة أن تكون صورة العقل فيه أقل، وعيب كد الروية أن تكون صورة الحس فيه أقل، وعيب المركب منهما بقدر قسطه منهما؛ على أنه إذا خلص هذا المركب من شوائب التكلف وشوائن التعسف، كان بليغا مقبولا رائعا حلوا، تحتضنه الصدور وتختلسه الآذان.»
في هذه العبارة المركزة يقدم لنا التوحيدي مقارنة بارعة بين إدراك العقل - وإن شئت فقل إدراك العلم والفلسفة - وبين إدراك البصيرة الفطرية - وإن شئت هنا أيضا فقل إدراك الشعر والفن - فلمحة الشاعر والفنان ببصيرته ترى جوهر الحق «أصفى» لأنها تزيل شوائب الجزئيات العابرة لتغوص إلى الجوهر الدفين، لكن نظرة العالم أو الفيلسوف «أشفى» لأنها تعنى بحياة الناس العملية فتقدم إليهم ما ينفعهم في مجرى السلوك اليومي، وما أجمل وأنفع أن نجمع في حياة واحدة بين علم وشعر!
وإن التوحيدي ليتناول في هذه الليلة موضوع النثر والشعر من شتى نواحيه؛ ليبين متى يفضل كل منهما الآخر، وإنا لنحيل القارئ إلى كتاب الإمتاع والمؤانسة ليقرأ عرض الفكرة مفصلا. •••
ونضرب مثلا آخر بفكرة أخرى يتعرض لها الرجلان؛ فكرة الخوارق التي تميز شعبا من شعب، والمفاضلة بين خصائص الشعوب، فأيها يكون أرقى، وأيها يكون أحط منزلة من الآخر؟
أما هوايتهد فخلاصة الراي عنده هي أن خير المدنيات هو ما جاء من شعب اختلطت في نسيجه خيوطه العنصرية، وكلما صفا الجنس عنصرا ولم تدخله أخلاط من الخارج، كان أقرب إلى الانحلال، ويضرب لذلك أمثلة كثيرة ترد هنا وهناك في محاوراته، وأقرب الأمثلة لذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي الليلة الحادية والعشرين من هذه المحاورات، يتعرض هوايتهد لهذه الفكرة، ثم يمضي في حديثه ليقول إن وراء هذه الفكرة فكرة أعوص، وهي كيف نصون المجتمع من الركود؛ فقد ترى جماعة من الناس سارت في حضارتها سيرا هينا لينا بضعة قرون، لكنها صائرة إلى موت محقق إذا أعوزها عنصر الجدة يدخل في كيانها فيضمن لها الاستمرار في التقدم، وأحسب أن النمل والنحل مثلان جيدان لأنظمة تسير سيرا حسنا، لكنه لا يتغير، ولو قدر لجماعة من الناس أن تقفل على نفسها لانتهت إلى حالة لا تتميز مرتبة من عالم النمل والنحل، ذلك لو فرضنا أنها ستظفر من دقة النظام بأكمل درجاتها.
لكن هوايتهد كثيرا ما يتعرض للموازنة بين ثقافتين؛ السامية من جهة، والهلينية من جهة أخرى - أي الشرق الأوسط والغرب - فيضع إصبعه على فوارق أساسية، وتشم من كلامه دائما أنه يفضل الثانية على الأولى، ومن أهم ما يهتم له في ذلك هو ما يتسم به الأولون - الساميون - من جهامة وصرامة، وما يتسم به الآخرون - ورثة الثقافة اليونانية - من روح فكهة متبسطة حرة.
وهو يتخذ التوراة مرآة تصور الأولين، والإلياذة مرآة تصور الآخرين؛ ففي التوراة تنعدم روح الفكاهة وتسود الجهامة، وتفسير ذلك عنده هو أن اليهود الأقدمين كانوا دائما في حالة من اليأس والهزيمة والتشريد، بعكس اليونان فإنهم كانوا يشعرون شعور المرح النشوان، فإله التوراة جاد لا يضحك ولا يهزل، وليس من حق الأفراد أن يقرءوا التوراة لتعجبهم فيأخذوا بتعاليمها، أو لا تعجبهم فيتركوها، بل الأمر أخطر من مثل هذه الحرية الفردية في الاختيار، فهي مبادئ لا بد أن تأخذ بها كرهت أو رضيت. وأما الإلياذة فتجعل آلهتها يضحكون ويمرحون، وللقارئ أن يتلوها ليأخذ ما يأخذه ويرفض ما يرفضه، فلئن كان الهدف في التوراة هو التوجيه والإرشاد والهداية والتقويم، فالهدف في الإلياذة هو المتعة والنشوة، فالفرق بينهما هو الفرق بين المعلم والفنان.
وأما أبو حيان التوحيدي فيقف كعادته وقفة تحليلية يذكر بها جوانب الأمر كلها، فليس لأمة واحدة فضيلة تخلو من نقص، ولا نقص يخلو من فضيلة، وأكاد أقول إن التوحيدي لو سئل: أي الحالات تبلغ الكمال؟ لقال - كما قال هوايتهد - هي الحالة التي تندمج فيها الشعوب كلها لتلتقي الفضائل كلها في شعب واحد. يقول أبو حيان (في الليلة السادسة من الإمتاع والمؤانسة): «... لكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير، ويقضي هذا بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق ... فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللروم العلم والحكمة، وللهند الفكر والروية والخفة والسحر والأناة، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان ...» ويمضي التوحيدي في حديثه محللا، فيحذر من أن تفهم خاصية الشعب على أنها شاملة لكل أفراده، بل هي مأخوذة على سبيل التعميم والشيوع، ولو شاء القارئ أن يطالع عرضه البديع، فلا مناص من الرجوع إلى حديث تلك الليلة كما ورد في الكتاب المذكور.
ويلاحظ أن الموازنة بين الروم والعرب عند أبي حيان هي نفسها الموازنة بين الهلينيين والساميين التي جذبت اهتمام هوايتهد، ولو أنعمت النظر إلى قول أبي حيان إن الروم يتميزون بالعلم والحكمة، وأما العرب فيتميزون بالنجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان، وجدت أن الفرق بينهما من وجهة نظره هو الفرق بين أهل التفكير النظري وأهل الأخلاق العملية، وكذلك هو الفرق بين العقل من ناحية والوجدان من ناحية أخرى، وهو فرق لا يتعارض مع ملاحظات هوايتهد عن هاتين الجماعتين، غير أن هوايتهد يضيف فرقا آخر، وذلك بأن جعل الروم (اليونان) أهل مرح وتفاؤل وسماحة نفس، على حين جعل الساميين أهل تزمت وجهامة عابسة.
وكما يزهي هوايتهد بهلينيته، لا يفوت أبا حيان - بعد أن ينظر نظرة الإنصاف إلى شتى الأمم والشعوب - لا يفوته أن يزهي بعروبته، فيقول عن العرب: «إنهم مع توحشهم مستأنسون، وفي بواديهم حاضرون؛ فقد اجتمع لهم من عادات الحاضرة أحسن العادات، ومن أخلاق البادية أطهر الأخلاق ... ثم لما ملكوا الدور والقصور والجنان والأودية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبر والبحر، لم يتعدوا عن شأو من تقدم بآلاف السنين، ولم يعجزوا عن شيء كان لهم، بل أبروا عليهم وزادوا، وأغربوا وأفادوا. وهذا الحكم ظاهر معروف وحاضر مكشوف، ليس إلى مرده سبيل، ولا لجاحده ومنكره دليل.»
ألا إن هذه الأحاديث القليلة التي سجلتها لنا الصحائف أحرفا مطبوعة، لتزداد قيمتها أضعافا مضاعفة في عصرنا هذا الذي حل فيه الصمت المستمع محل الحديث الحي المتبادل، أو لعلنا على كل حال في طريقنا إلى هذه النهاية المحتومة؛ فالتليفزيون يتسلل إلى الدور، وقد سبقه أخوه الراديو، حيث أصبح على الأصدقاء المجتمعين أن ينصتوا لما يجيء إليهم مرتقبا أو غير مرتقب؛ ففي ساعات العمل آلة تعمل، والعامل مراقب لها في صمت، وفي ساعات الفراغ آلة تحدث والناس حولها يستمعون في صمت ... ترى أيكون زمان الحديث الحي الطلي قد ولى؟ إذن فقد أضاعت الإنسانية على نفسها أمتع وسائل التعبير.
لقد شهد هوايتهد في مواضع كثيرة بما هو مدين به في حياته الفكرية لمحاوراته مع أصدقائه؛ فمما قاله في ذلك أن الشطر الأعظم من نموه العقلي قد جاءه من جيد الحديث، وكثيرا ما أسعفه الحظ في أن يهيئ له المحدث الممتاز، وكذلك يقول في موضع آخر بأنه يؤمن إيمانا شديدا بقيمة المحاورة والمحادثة في التثقيف، حتى ليعترف بأن ما كسبه منها لا يقل عما كسبه من الكتب، وفي هذا الكتاب الذي نقدمه للقراء صورة لهذا المحدث البارع في حديثه المنساب، في بيته وبين أصدقائه. •••
ولد ألفرد نورث هوايتهد في الخامس عشر من فبراير عام 1861م، في مدينة رامزجيت من مقاطعة كنت في إنجلترا، من أسرة اشتغل معظم أفرادها بأعمال تتصل بالتربية وبالكنيسة وبالإدارة المحلية، فكان جده ناظرا لمدرسة خاصة في رامزجيت، ثم جاء أبوه فخلف جده في منصبه ذاك، غير أن أباه قد تحول فيما بعد إلى المناصب الكنسية. ويقول ألفرد هوايتهد عن أبيه إنه لم يكن عميق الثقافة بقدر ما كان قوي الشخصية، فكان كبير الأساقفة في وقته قد صادقه صداقة جعلته ينفق معه ساعات طويلة إبان أشهر الصيف التي كان يقضيها في منطقة هوايتهد الوالد، وكانا يتحدثان أحاديث طويلة تمثل - كما يقول ألفرد هوايتهد - القرن الثامن عشر في أنصع جوانبه، وقد أخذت ثقافة ذلك القرن عندئذ تختفي رويدا رويدا لتحل محلها ثقافة القرن التالي - القرن التاسع عشر - وكان الغلام يستمع إلى تلك الأحاديث، فكان بهذا يشهد - كما يقول - تاريخ إنجلترا نابضا حيا في أشخاص جده وأبيه وأصدقائهما، وكان يشهد تاريخ بلاده حيا في هؤلاء الرجال بوعيه الباطن لا بعقله الظاهر، حتى لقد وجد نفسه في أيام نضجه يفهم ثقافة بلاده عن طريق ما كان قد سمعه ورآه في هؤلاء الرجال.
وكذلك شهد في صباه تاريخ بلاده قائما في آثار كثيرة تحيط بمسقط رأسه رامزجيت، فعلى بعد ستة عشر ميلا تقع كاتدرائية كانتربري بجلالها وبما تحوي من ذكريات التاريخ، وفي جوار بلده تقوم قلعة رتشبره التي بناها الرومان، وهنالك ترى شاطئ البحر في نفس الموضع الذي نزل فيه السكسون، والذي نزل فيه أوغسطين، وعلى مسافة ميل واحد تقع كنيسة الدير محتفظة بلمسات من العمارة الرومانية، لكن تغلب عليها العمارة النورمندية، وها هنا ألقى القديس أوغسطين أولى مواعظه الدينية (كان البابا جريجوري الكبير قد أوفد القديس أوغسطين للتبشير بالمسيحية في بريطانيا)، وهكذا كان الصبي يتنفس في بيئته الأولى أنفاسا تفوح بعطر الماضي التليد، حتى لقد كان يضيق صدرا - لما كبر - بملاعب «الجولف» في ذلك المكان؛ لأنه كان يرى تلك الملاعب نهاية رخيصة لقصة مجيدة.
وجاءت تربية هوايتهد كلاسية الطابع على غرار ما كان سائدا في القرن التاسع عشر؛ فقد بدأ اللاتينية وهو في العاشرة، وبدأ اليونانية وهو في الثانية عشرة، فلو استثنيت أيام العطلة الدراسية، ألفيت فتانا لا يفوت يوما واحدا - حتى انتصف العام العشرون من عمره - دون أن يقرأ بضع صفحات من تراث اللاتين واليونان، يقرؤها قراءة الدارس المتفحص نحوا وصرفا ومعنى، وعن طريق دراسته لتلك النصوص صاحب رجال الفكر الأقدمين مصاحبة تركت في نفسه أثرها إلى آخر حياته الفكرية.
وتخلل دراسته الكلاسية دروس الرياضة، حتى لقد أعفي في المدرسة من بعض الدراسات القديمة لينفق في الرياضة وقتا أطول؛ وذلك لما أبداه من استعداد واضح في هذا الاتجاه، انتهى به إلى أن يجعل الرياضة موضوع تخصصه وهو في الجامعة، على أنه لم يكتف في دراسته الثانوية بما كانت تقتضيه الواجبات الرسمية، بل رأى نفسه مشغوفا بالشعر، فراح يقرأ للشعراء في أوقات فراغه، لا سيما «وردزورث» و«شلي».
ودخل جامعة كمبردج في خريف 1880م، وهو يعترف بما هو مدين به لهذه الجامعة في تكوينه الثقافي اعترافا يقول فيه إنه لا سبيل إلى الإسراف في وصف ذلك الدين، الذي لم يرجع فقط لما تلقاه في قاعات الدرس، بل جاوز تلك القاعات إلى ما كان هناك من تدريب اجتماعي وعقلي معا؛ فأما قاعات الدرس فكان التعليم فيها يلتزم نطاق التخصص في أضيق حدوده، وكانت الرياضة مادة تخصصه، فدرسها على أساتذة أكفاء حتى ألم بجانبيها، البحت والتطبيقي، لكنه لم يستمع إلى درس واحد - خلال سنوات الجامعة الأربع - فيما لا يمس الرياضة مسا مباشرا، لكن المحاضرات لم تكن في جامعة كمبردج إلا جانبا واحدا من تربية الطالب، فكان هناك مصدر آخر بالغ الخصوبة بعيد الأثر في تكوين أبناء الجامعة، ألا وهو حلقات النقاش التي لم تنقطع بين الطلاب والأساتذة؛ ففي كل مساء كان العشاء يقدم للطلاب في نحو السادسة أو السابعة، وبعد الفراغ منه، يتحلق الطلاب بعضهم مع بعض، أو مع من شاءوا من أساتذتهم، حلقات، حلقات، يناقشون فيها ما طاب لهم أن يناقشوه حتى ساعة متأخرة من الليل.
لم تكن جماعات الأصدقاء تربطها وحدة التخصص في الدراسة؛ إذ كانت الموضوعات التي تناقش في اجتماعاتهم الخاصة تتناول كل شيء، السياسة والدين والفلسفة والأدب، فكان هذا التنوع حافزا على تنوع القراءة. ويسوق لنا هوايتهد نفسه في ذلك مثلا، فيقول إنه وهو المتخصص في الرياضة كاد يحفظ أجزاء من كتاب «نقد العقل الخالص» لكانط عن ظهر قلب، ويضيف إلى ذلك قوله: «لقد نسيته الآن؛ لأن سحر كانط قد زال عني وشيكا، وأما هيجل فلم أستطع قط قراءته، فقد بدأت دراسته بالنظر في ملاحظاته التي أبداها عن الرياضة، فأدهشني أن أجدها كلها هراء في هراء.»
ويمضي هوايتهد وهو يروي عن قصة حياته في إيجاز مختصر (راجع كتابه: مقالات في العلم والفلسفة) فيقول: «إنني إذ أرجع ببصري أكثر من نصف قرن [كتب هذا سنة 1941م] أرى تلك الأحاديث التي كانت تدور بيننا ونحن في كمبردج قريبة الشبه بالمحاورات الأفلاطونية ... وهكذا كانت تعلم كمبردج أبناءها، فهي تجري على المنهج الأفلاطوني ... إن أفلاطون لو شهدنا في كمبردج نمزج بين تخصص في الرياضة ومناقشات حرة تدور بين الأصدقاء لأبدى رضاه.»
فرغ هوايتهد من دراسته الجامعية سنة 1885م، فعين في نفس الجامعة مدرسا، حتى كان عام 1910م استقال من منصبه ذاك لينتقل إلى لندن.
وفي ديسمبر من عام 1890م تزوج فيلسوفنا من زوجته التي تراها بارزة الأثر في المحاورات التي نقدمها إليك اليوم، وعنها يقول: «إن أثر زوجتي في تشكيل وجهة نظري إلى العالم كان من العمق بحيث لا يجوز إغفاله، فهو أحد العوامل الجوهرية في إنتاجي الفلسفي.» فلقد نشأت في محيط يختلف كل الاختلاف عن المحيط الذي نشأ فيه زوجها؛ فهي من أسرة يكثر بين أفرادها العسكريون والساسة، وهو من أسرة يكثر بين أفرادها المعلمون والقساوسة، يقول الزوج عن زوجته: «إن حياتها الناصعة قد علمتني أن الجمال بشطريه، الخلقي والفني، هو الغاية من الوجود، وأن وسائل بلوغه هي الرحمة والحب والنشوة الفنية. وأما المنطق والعلم فيقتصران على أن يكشفا لنا عما هو ذو صلة بالموضوع الذي نكون بصدد بحثه، كما يعاوناننا على اجتناب ما ليس ذا صلة بذلك الموضوع. وعندي أن هذه النظرة تنقل ما قد ألفناه من اهتمام فلسفي بالماضي؛ إذ توجه التفاتنا إلى الفترات التي ازدهر فيها الفن والأدب، باعتبارهما أفضل أداة تعبر عن القيم الجوهرية في الحياة، إلا أن بلوغ الإنسان أعلى ذروة يستطيع الإنسان بلوغها، ليس مرهونا بنشوء مذهب عقلي متسق البناء (وهو ما يقدمه لنا العلم والمنطق معا) على الرغم من أن اتساق الفكر قد أدى واجبا خطيرا في نشأة الحضارة.»
وأنجب ذلك الزواج ثلاثة أبناء، اشتركوا جميعا في الحرب العالمية الأولى؛ أما الابن الأكبر فقد اشترك في الحرب من أولها إلى آخرها، وأما الابنة وهي الوسطى فقد خدمت في وزارة الخارجية، وأما الابن الثالث فقد كان طيارا وأصيبت طائرته في سماء فرنسا فقتل في مارس 1918م. وأنا أذكر هذه الحقيقة الأخيرة لأن حزن الوالد على ولده قد أدى إلى تغيير وجهة نظره الفلسفية بعض الشيء؛ مما يدل على أن فلسفة الرجل وليدة ظروفه، مهما بلغ من تدريب على التفكير الرياضي العلمي الموضوعي الذي يتجرد عن النفس ونوازعها.
وكان أول مؤلفات هوايتهد العلمية كتابه «رسالة في الجبر العام»، فاختير بسبب هذا الكتاب عضوا في الجمعية الملكية سنة 1903م، وأما عمله الفلسفي فلم يبدأ إلا بعد ذلك بزمن طويل؛ وعلى أساسه اختير عضوا سنة 1931م زميلا في الأكاديمية البريطانية.
وحدث في سنة 1903م أيضا أن نشر برتراند رسل كتابه «أصول الرياضة» على أن يكون الجزء الأول يتلوه جزء ثان، كما كان كتاب هوايتهد في الجبر جزءا أول يتلوه جزء ثان؛ فاستكشف الرجلان، هوايتهد ورسل، أن الجزء الثاني المعتزم صدوره عن كل منهما يتناول موضوعات هي هي بعينها، فاتفقا على أداء عمل مشترك، وحسبا أن عاما واحدا يكفيهما لإخراج ما تصديا لإخراجه، لكن أفق الموضوع أخذ يتسع أمام ناظريهما، فاستغرقا ثماني سنوات أو تسعا يعملان معا، حتى أخرجا كتابهما «أسس الرياضة» (برنكبيا ماثماتكا). وكان رسل قد التحق بجامعة كمبردج في العشار الأخير من القرن الماضي؛ أي بعد أن دخلها هوايتهد بعشر سنوات أو نحوها، وارتبط الرجلان بروابط الصداقة الوثيقة، وفي هذا يقول هوايتهد: «لقد نعمنا كما نعم العالم كله بألمعية رسل، تلميذا أولا فزميلا ثانيا، ثم صديقا آخر الأمر، فكان عاملا قويا في حياتنا إبان مقامنا في كمبردج، لكن وجهة النظر الأساسية - فلسفية واجتماعية - قد تفرقت بيننا، فتفرقت تبعا لذلك اهتماماتنا، وكان ذلك خاتمة طبيعية للتعاون معا على عمل واحد.»
قلنا إن هوايتهد ترك منصبه في كمبردج عام 1910م، وانتقل إلى لندن، وفي السنة الأولى من مقامه هناك أخرج كتابه «مدخل إلى الرياضة»، ولبث هوايتهد في الكلية الجامعة (بجامعة لندن) حتى سنة 1914م، وعندئذ ظفر بالأستاذية في الكلية الإمبراطورية للعلوم والتكنولوجيا (بجامعة لندن أيضا)، وفي أواخر تلك الفترة عين عميدا لكلية العلوم بالجامعة، ورئيسا للمجلس الأكاديمي الذي كانت مهمته رسم خطة التعليم لمدينة لندن، كما عين عضوا في مجلس الجامعة، وغير ذلك من جمعيات ولجان لا عدد لها، ولقد كان اشتراكه في النشاط التربوي على هذا النطاق الواسع، موجها لاهتمامه نحو مشكلة التعليم العالي في الحضارة الصناعية الحديثة، فقد كان المبدأ المأخوذ به - ولا يزال قائما في بلاد كثيرة - هو أن مهمة الجامعات مقصورة على مجالات التخصص الأكاديمي، وهي تؤدي مهمتها تلك على أنماط مختلفة؛ فمنها النمط الذي رسمته جامعتا أكسفورد وكمبردج، ومنها النمط الذي رسمته جامعات ألمانيا. أما إذا جددت جامعات في التعليم الجامعي، فخلقت نمطا آخر - كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية التي وسعت من نشاط الجامعة حتى جعلته يتناول كل صنوف الإعداد للحياة العملية - فكان ذلك ينظر إليه بعين المزدري، وكان معنى هذا أن الدراسة الجامعية تصب أكثر اهتمامها على الماضي، ولا تدير بصرها إلى مشكلات تربوية خلقتها الحضارة الصناعية المحيطة بها، فلم يدخل في حساب الجامعات أبدا أن هناك ملايين الصناع الذين يتوقون إلى استنارة عقلية في رحاب الجامعات، وملايين الشباب من كل صوب يطلبون حظهم من المعرفة العليا.
فكان أن حاولت جامعة لندن في عهد هوايتهد مواجهة الظروف الناشئة، بأن ضمت في نطاقها معاهد كثيرة تتنوع أنماطها، يؤدي كل نمط منها ما يراد له أن يؤديه فتتحقق الأغراض جميعا.
وأما مؤلفاته التي أصدرها إبان مقامه في لندن (1910-1924م)، فأولها هو الذي أسلفنا ذكره «مدخل إلى الرياضة» (1910م)، وتلاه «تنظيم الفكر» (1916م)، ثم «بحث في أصول المعرفة الطبيعية» (1919م)، و«فكرتنا عن الطبيعة» (1920م)، و«أصول النسبية مع تطبيقات على علم الفيزياء» (1922م).
وفي 1924م - وكان عمره ثلاثة وستين عاما - تلقى دعوة من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة ليكون أستاذا للفلسفة بها، وهناك أخرج أهم كتبه الفلسفية على الإطلاق؛ فأخرج «العلم والعالم الحديث» (1925م)، و«الدين في طور التكوين» (1926م)، و«المنهج الرمزي: معناه وأثره» (1927م)، و«أهداف التربية» (1928م) - وقد ترجم إلى العربية هذا الكتاب الأستاذان قدري لطفي ومحمد بدران - و«التطور وعالم الواقع» (1929م)، و«مهمة العقل» (1929م)، و«مغامرات أفكار» (1933م) - وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية الأستاذ أنيس زكي حسن - و«الطبيعة والحياة» (1934م)، و«صنوف الفكر» (1938م)، و«مقالات في العلم والفلسفة» (1947م).
ومات ألفرد نورث هوايتهد في الثلاثين من ديسمبر سنة 1947م، بالغا من عمره سبعة وثمانين عاما.
وكتبت زوجته في وصف موته تقول:
في يوم عيد الميلاد اجتمعت الأسرة كمألوف عادتها، وفي اليوم التالي لم يكن «ألفرد» مكتمل العافية، وفي ذلك اليوم نزلت به النازلة، ورأيتها وهي تنزل به، فقد رفع يده اليسرى وتركها لتسقط؛ كي ينبئني أنه يدري ما حدث، فقد سار الشلل عندئذ نصف طريقه، وأدركت أن النهاية لم تكن بعيدة الوقوع.
وهنا قد يطفر إلى الذهن ما قاله «فيدون» ل «أشقراط» وهو يقص عليه قصة سقراط في سجنه ويصف له كيف ختم الأجل: «هكذا يا أشقراط قضى صديقنا الذي أقول عنه بحق إنه أحكم من قد عرفت من الناس، وأعدلهم وأكثرهم فضلا.» •••
بدأ هوايتهد حياته العلمية رياضيا من الطراز الأول، وعالما من علماء الطبيعة؛ ولذلك جاءت أولى محاولاته الفلسفية الكبرى متأثرة بتلك الدراسة الأولى، وذلك حين تعاون مع رسل - كما أشرنا - في إخراج مؤلف ضخم في منطق الرياضة يعد بداية عهد جديد في الدراسة المنطقية، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن لهذا المؤلف - وأعني به «أسس الرياضة» - أبعد الأثر وأعمقه في توجيه تيار الفكر الفلسفي كله في هذه العشرات الخمس الأخيرة من أعوام القرن العشرين؛ إذ وجه ذلك الفكر الفلسفي نحو التحليل على نموذج ما ورد في «أسس الرياضة» من تحليلات ولو جعلنا للفلسفة المعاصرة صفة واحدة غالبة لقلنا إنها الانتقال من «التأمل» الميتافيزيقي إلى «تحليل» القضايا العلمية، وكان من أئمة هذا التحول في تاريخ الفلسفة المعاصرة فيلسوفنا هوايتهد.
وأهم ما يطبع فلسفة هوايتهد هو رأيه بأن الجانب الهام من حقيقة الشيء - ومن حقيقة العالم بصفة عامة - هو بنيته؛ أي هو شبكة العلاقات الرياضية التي تكون له بمثابة الإطار الذي ينبني عليه وفي حدوده، وليس الجانب الهام هو المضمون الكيفي - الذي يملأ ذلك الإطار - فلو تناولت شيئا ما وفككت أجزاءه وأبطلت بنيته، لفسد الشيء ولم يعد هو هو، برغم احتفاظ الأجزاء بالمضمونات الكيفية؛ لأن قوام الشيء هو - كما قلنا - في العلاقات الرابطة بين أجزائه.
ومن هذا نفهم لماذا سميت فلسفة هوايتهد فلسفة البناء العضوي؛ فكل شيء، وكل واقعة، وكل موقف، هو في الحقيقة بناء ذو هيكل معين، ولو تغير هيكله لأصبح شيئا آخر، فالأمر في أي شيء هو كالأمر في الكائن العضوي من أنه ليس كومة من خلايا أو مجموعة من أعضاء اجتمعت كما اتفق، بل هو فوق ذلك «تركيبة» معينة أو «بنية» خاصة تنتظم بها الأجزاء في شبكة معينة من علاقات، وما قلته عن كل شيء على حدة ، تقوله عن الوجود بأسره.
غير أن هذه العلاقة الشبكية التي تمسك بأطراف الوجود فتجعله ذا بنية معلومة، لا تقتضي أن يظل الوجود على حالة واحدة لا يتغير ولا يتطور، بل إن العالم لفي تغير دائب دائم، تغيرا يحتفظ فيه بذاتيته، بفضل عملية يطلق عليها هوايتهد اسم «التشرب».
فهو يرى أن الشيء - أو الوجود بأسره - يشرب ماضيه شربا يسري في كيانه كله، ثم يسقيه إلى ما سيتلوه في مراحل تاريخه، فعلى الرغم من أن كل كائن هو فريد في ذاته وصفاته، إلا أنه في الوقت نفسه حلقة في سلسلة ممتدة، ورثت سالف الحلقات، وستورث خصائصها المتجمعة فيها لما سيجيء بعدها من حلقات، وهكذا يشعر الفرد الواحد - في مجرى خبرته الحية - بشعورين في وقت واحد؛ يشعر بفرديته التي يتفرد بها، ثم يشعر بأنه رغم فرديته جزء من كل واحد، هو الوجود.
إننا في العادة نتصور الثبات في أنفسنا، حتى إن تصورنا التغير الدائب في الأشياء التي تدركها، لكن هوايتهد يجعل التغير شاملا للذات وللأشياء معا، فلا ينفك ما حولنا يتغير، كذلك ما تنفك الذات المدركة تتغير، فإذا كانت الأشياء الخارجية لا تظل لحظتين متتابعتين على حالة واحدة، فكذلك الذات المدركة لا تثبت على حالة إدراكية واحدة لحظتين متتابعتين. كان هرقليطس - وهو من فلاسفة اليونان السابقين على سقراط - يذهب مذهب التغير في الأشياء، وقد صور ذلك في عبارته المشهورة: «إنك لا تعبر النهر الواحد مرتين.» ومعناها أنك حين تعبر النهر للمرة الثانية يكون قد أصبح نهرا آخر؛ فليس الماء هو نفسه الذي كان أول مرة، وجاء هوايتهد فوسع من المبدأ نفسه بحيث شمل الذات أيضا، حتى ليصح أن يقال عنها عبارة شبيهة بتلك، فنقول: «إنك لا تفكر الفكرة الواحدة مرتين» أو «إنك لا تمارس الخبرة الواحدة مرتين»؛ لأنك في كل لحظة تتغير ذاتا بتغير موضوع إدراكك، وهكذا يكون العالم كله - ذاتا وموضوعا - جديدا أبدا، لا يدوم على حالة واحدة لحظتين متتابعتين.
لكن الشيء إذا تغير تغيرا لا يقف تياره، فهو إنما يفعل ذلك باطراحه لصفات، واكتسابه لصفات جديدة، هذا بديهي؛ إذ لو دامت للشيء صفاته لما طرأ عليه تغير، فلنا أن نسأل: ومن أين للشيء المتغير صفاته الجديدة التي بها يتغير؟ إن تفسير ذلك محال إلا إذا افترضنا وجود تلك الصفات بالإمكان لا بالفعل، لا بد أن يكون هناك عالم الممكنات إلى جانب هذا العالم الفعلي؛ لكي يتسنى للكائنات الفعلية أن تلبس من عالم الممكنات ثوبا، وتخلع ثوبا خلال سيرها وتطورها.
أفيكون هوايتهد - إذن - أفلاطونيا صريحا، يفرض عالمين، عالم المثل - أو إن شئت فقل عالم الإمكان - من جهة، وعالم الموجودات الفعلية من جهة أخرى؟ عندما ذهب إليه بعض الشراح لفلسفة هوايتهد، لكننا نفضل على هذا الشرح شرحا آخر يفاضل بين هوايتهد وأفلاطون، وهو أن عالم الإمكان عند هوايتهد عالم رياضي صرف؛ أي أنه عالم من علاقات صرفة، ليس يملؤها مضمون كيفي، شأنه في ذلك شأن الصيغ الرياضية التي نراها في قوانين الطبيعة كقانون الجاذبية - مثلا - أو قانون الغازات، فالصيغة الرياضية في كل من هذه الحالات تصور عالم الإمكان، الذي يجيء الواقع الفعلي على غراره، دون أن يكون في الصيغة الرياضية إلا شبكة العلاقات الصورية خلوا من مضمونها الكيفي، هذا هو ما يريده هوايتهد بعالم الإمكان الذي يستمد منه الواقع صوره التي ما تنفك تتغير مضمونا، وأما المثل عند أفلاطون فهي لا تكتفي بمجرد الصيغة الرياضية، بل إنها لتبث فيها كذلك حشوها الكيفي، «فالبياض» مثلا مثال من المثل الأفلاطونية، مع أنه كيفي الطابع، وأما عند هوايتهد فالكيف لا يكون في عالم الإمكان الأزلي الأبدي الذي يقرر وجوده.
تلك لمحة موجزة سريعة، قد تفيد قارئ هذا الكتاب في إلقاء الضوء على بعض ما قد ورد خلال المحاورات من آراء. •••
أما بعد، فإن لي مع كتاب «محاورات هوايتهد» لقصة طريفة أرويها في ختام هذه المقدمة: كنت أستاذا زائرا بجامعة أمريكية في ولاية واشنطن، وهي في أقصى الشمال الغربي من الولايات المتحدة، في العام الدراسي 1953-1954م، وفي ربيع عام 1954م نشرت مجلة «آتلانتك» الأدبية فصولا عن هوايتهد توطئة لإصدار كتابه هذا، فتابعت هذه الفصول، ولفت نظري في أحدها رأي غريب عن المسيح؛ إذ يقول عنه إنه يتصف بسماحة النفس التي لا نعرفها في أبناء البلاد التي ظهر فيها، ونعرفها في اليونان، وإذن فالأرجح أن يكون المسيح من عنصر هليني كان قد انتقل إلى الموطن الذي ظهر فيه ...
عجبت لهذا الخطأ المنطقي المنهجي يقع فيه علم من أعلام المنطق والتفكير الرياضي الصارم؛ لأن أبجدية المنطق السليم في النظرة العلمية هي أن نبني النظرية على أساس الواقع، لا أن نحور في الواقع حتى يتفق مع النظرية؛ فإذا كان الفرض النظري عند هوايتهد هو أن أهل الشرق الأوسط لا يعرفون سماحة النفس، كما عرفت هذه الصفة عند اليونان، ثم وجد نبي التسامح يظهر بينهم، فالأدنى إلى الصواب أن يغير من نظريته حتى تتفق مع الواقع المشهود - والواقع هنا هو ظهور المسيح في الشرق الأوسط - لا أن يحتفظ بنظريته كما توهمها ثم يلف الواقع لفا تتحقق به نظريته المزعومة.
وبعد قراءة هذا المقال في المجلة، جاء موعد محاضرتي - وكان دائما من الحاضرين عدد كبير من الأساتذة - فبدل أن أحاضرهم في الموضوع الذي أدير حوله محاضراتي، وهو الفلسفة الإسلامية، فاجأتهم بأن أجعل موضوع المحاضرة تعليقا على هذه النبذة التي وردت في المقال المذكور.
ومضت الأيام، وجاء يوم الأربعاء 26 من مايو سنة 1954م، وهو اليوم الذي ألقيت فيه آخر محاضراتي في تلك الجامعة، فماذا حدث؟ ها أنا ذا أنقل إليك أسطرا من مذكراتي اليومية: «... بعد أن
- بما فيها من طلبة ومستمعين - إلى حفلة صغيرة أعدوها توديعا، بمناسبة انتهاء الشوط الدراسي، وهناك قام الدكتور «ه» أستاذ الأدب الإنجليزي - وقد حضر لي جميع محاضراتي بغير تخلف - فألقى كلمة تقدير اهتزت لها نفسي، ثم قدم إلي هدية كتاب «محاورات ألفرد نورث هوايتهد» الذي صدر هذا الأسبوع، وقد وقع الحاضرون على غلافه من الداخل، بعد أن كتب نيابة عنهم الدكتور «ه» عبارة على الغلاف، سأعتز بها ما حييت ... هذا نصها:
إلى الأستاذ زكي نجيب محمود
إننا نقدم إليك هذا تقديرا عميقا لمحاضراتك الوضاءة التي ألقيتها علينا في الفكر العربي، فبرغم أنك تحدثت إلينا بلغتنا، وهي لغة تختلف عن لغتك اختلافا بعيدا ، فقد بهرتنا أبدا، وسحرتنا بهذه السيطرة الجميلة التي سيطرت بها على اللغة الإنجليزية، في كل لفتة من لطائف لفتاتها، وفي كل موضع من مواضع سياقها.
اللهم اجعل الشمس والغيث لك مددا، فيثمران لك ثمرا موصولا من رصانة الحكمة وخصوبة الحياة.
ثم شاء الله لقصتي مع هذا الكتاب الرائع أن تنتهي بفصل مشرق بهيج، وهو أن يتولى ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية شقيقي الأستاذ محمود محمود، الذي مهما اقتضت صلتي به أن أقتصد في عبارة التقدير، فلن يمنعني ذلك من القول بأن الترجمة قد جاءت للأصل البديع صنوا بديعا.
زكي نجيب محمود
الجيزة في 27 يناير 1961م
... عن هذا المصدر أخذنا الفلسفة،
وإن الآلهة لم - ولن - تقدم خيرا أعظم منه للإنسان الفاني.
أفلاطون - تيماوس ... هذا المكان مقدس، في جميع مظاهره،
يكسوه الغار والزيتون والكرم،
وفي قلبه تشدو فرقة مريشة من طيور العندليب،
فاجلس هنا، فوق هذا الصخر الأصم.
سوفوكليس: أوديب عند كولونس
فاتحة
يزخر القرن الذي يقع بين عامي 1850م و1950م بمجموعة من السير يعجز عن ابتكارها أي كاتب من كتاب القصص الخيالية، وهذه الوفرة البالغة من مختلف الشخصيات ترتبط عادة برجال العمل، ولكنها يمكن كذلك أن ترتبط برجال الفكر، بل لقد كانت ثورة الفكر في القرن الماضي أشد عنفا. أي روائي يستطيع أن يتخيل سيرة تبلغ ما بلغت سيرة هوايتهد من تشابك بعصر أشد تفجرا من العصر الذي عاش فيه؟ هل يستطيع ذلك أنتوني ترولوب؟ ربما استطاع ترولوب أن يرسم البداية؛ لأن القصة تبدأ بشخصية إنجليزية، ولكن عندما تغادر هذه الشخصية بيئة كاتدرائية كانتربري وتيت - رئيس الأساقفة - الذي اعتاد أن يذهب إلى أبرشية القديس بطرس لتناول العشاء مساء كل يوم من أيام الآحاد، يقصر خيال ترولوب - كما يقصر عقله - عن مجاراتها، وكأن ترولوب نفسه كان يدرك ذلك حين قال:
ينبغي أن يكون الأدب قابلا للتصديق إلى حد كبير، في حين أن خبرات البشر في الواقع تفوق كل قوى الخيال؛ ومن ثم كان «الأدب الاجتماعي» مطابقا للعرف، بينما يتخطى التاريخ «كل حدود العقل».
وتقع حياة هوايتهد في ثلاثة مجلدات، يشمل المجلد الأول جامعة كامبردج، ويشمل الثاني لندن، والثالث كامبردج في ماساشوست. وقد قال أيضا إنه يحس كأنه عاش ثلاث حيوات في ثلاث فترات متتابعة؛ الأولى من عام 1861م إلى عام 1914م، والثانية خلال الحرب من عام 1914م إلى عام 1918م، والثالثة بعد هذه الحرب العالمية الأولى.
وتبدأ قصة «المدن الثلاث»
1
هذه بداية هادئة؛ فهو ابن أستاذ مدرس وحفيد أستاذ مدرس كذلك؛ ثم أصبح أبوه قسيسا فيما بعد، وفي حياته كقسيس كان يتقيد بنصوص العهد القديم، خطبه ومواعظه يرن صداها تحت قبة كنيسة نورمان، والمنظر كله آية في الروعة؛ رامزجيت التي تواجه البحار الضيقة بين إنجلترا والقارة الأوروبية، تلك البحار الضيقة التي تولدت عنها كل الحكومات الحرة في العالم، هولندا وإنجلترا والولايات المتحدة، وقد كان «الآباء المهاجرون» من أبناء هذه البحار. وعلى مقربة منها تقع تلك الأسوار العابسة، أسوار قلعة رتشبره، التي شيدها الرومان. وعلى بعد ميل من ساحل إبزفليت، حيث رسا السكسون في غابر الزمان، يقع المكان الذي ألقى عنده أوغسطين أولى مواعظه. وعلى بعد ستة عشر ميلا فقط تقع كاتدرائية كانتربري، حيث كان يستطيع الطفل الصغير منذ تسعين عاما - ولا يزال يستطيع حتى اليوم - أن يشهد البقعة التي قتل عندها توماس بكت، ويرى العدة الحربية التي كان يدرعها «الأمير الأسود». إن التاريخ لهذا الصبي لم يكن شيئا يتعلمه من الكتب، بل كان شيئا يحتك به كل يوم، تكتحل به عيناه ويستنشقه مع الهواء.
ومع أن هوايتهد كان يعد نفسه دائما إنجيليا شرقيا، ومع أن صورته كانت مثالا لذلك - إذ كان أشقر اللون، أحمر الوجنتين، أزرق العينين - إلا أنه كان يلحظ في تاريخ أرومته خلطا خفيفا يجعله مخالفا بعض الشيء لهؤلاء الإنجيليين؛ فقد كانت إحدى جداته من ويلز، تنتمي إلى أسرة وليامز، وكان يختلف عن إخوته اختلافا يرجع إلى الدم الكلتي الذي كان ينبض في عروقه.
ولد في الخامس عشر من شهر فبراير من عام 1861م، وكان طفلا ضعيف البنية، فعلمه أبوه في البيت، وقضى جانبا كبيرا من وقته في الخلاء مع بستاني عجوز حمل له طوال حياته العرفان بالجميل؛ لأنه كان أول من جعله يرى النور الذي يضيء في الظلام. وفي الشتاء كان يزور جدته في لندن، وكانت أرملة لخائط عسكري، تقطن بيتا في المدينة، يحمل رقم 81 بيكادلي، ومن نوافذ هذا البيت التي كانت تطل على «الحديقة الخضراء» اعتاد أن يرى الملكة فكتوريا، وهي تمر في عربتها، وكانت آنئذ أرملة في منتصف العمر، ولم تكن محببة كثيرا إلى النفوس، وكانت جدته سيدة ثرية، بيد أنها - كما تقول - «قد أخطأت إذ أنجبت ثلاثة عشر طفلا» مما أدى إلى انخفاض نصيب كل منهم في الميراث، ولا بد أن تكون الجدة كذلك رهيبة الجانب؛ لأن المحور الذي كانت تتماسك الأسرة من حوله كان يتركز في مدبرة شئون المنزل جين وتشلو، وهي التي كانت تقرأ روايات دكنز جهرا للطفل الصغير، وهو يجلس على مقعد قليل الارتفاع متكئا على ركبتيه إلى جوار موقد النار.
ولم تكن حياته المدرسية بأقل من ذلك روعة؛ التحق بشربرن مراهقا يبلغ الخامسة عشرة من عمره إلا أربعة أشهر. وجدير بالذكر أن هذه المدرسة قد احتفلت بعيدها المائتين بعد الألف في عام 1941م، فتاريخها يرجع إلى عهد القديس أولدلم، وتزعم أن ألفرد الأكبر كان من بين تلاميذها، وما زالت مباني الدير تستعمل حتى اليوم، وبيت الرهبان به من أفخم المباني القائمة، وما برحت قبور الأمراء السكسون ماثلة للعيان. وفي خلال العامين الأخيرين في هذه المدرسة لهوايتهد كانت حجرة درسه الخاصة تشتهر بأنها كانت مأوى رئيس الرهبان، وكان الفتى يعمل على مسمع من أصوات أجراس الدير - «الأصوات الحية للقرون الغابرة» - تلك الأجراس التي أتى بها هنري الثامن من «ميدان الثوب الذهبي» وأهداها للدير.
وكان منهج الدراسة - كما ذكر هوايتهد بعد ذلك بسنوات - يسترعي ذهنه بملاءمته لمكانه وزمانه. «كنا نقرأ اللاتينية والإغريقية باعتبارهما سجلات تاريخية للشعوب الحاكمة التي كانت تقطن إلى جوار البحر وتبسط نفوذها البحري، لم نعتبرهما لغتين أجنبيتين، بل لقد كانتا مجرد لاتينية وإغريقية، ولم يكن بالإمكان أن تعرض علينا آراء لها أهميتها بأية وسيلة أخرى، فكنا نقرأ العهد الجديد بالإغريقية، ولم أسمع عن أحد قرأه بالإنجليزية في المدرسة - اللهم إلا إن كان ذلك في كنيستها، ولم يكن ذلك أمرا ذا بال - فإن ذلك معناه عقلية دينية ينقصها التهذيب. كنا متدينين، بذلك الاعتدال الذي يتصف به قوم يأخذون دينهم عن اليونانية.» ولم يذاكر هوايتهد قط الآجرومية الإنجليزية، وإنما كان يتعلمها عن طريق الآجرومية اليونانية واللاتينية.
ولم يكن الفتيان في هذه المدرسة مرهقين بالعمل؛ فقد كان يتوافر لهم الوقت للألعاب الرياضية والمطالعة الخاصة، وهي عنده الشعر، وبخاصة وردزورث وشلي، وكان يقرأ كذلك كثيرا من التاريخ، وكان رياضيا ممتازا، وأمسى أخيرا «عريفا»، واحدا من كبار الطلبة الستة المكلفين بالتبعات الإدارية، وبحفظ النظام. وأكبر هؤلاء الطلبة هو رئيس المدرسة، وبهذه الصفة دعي هوايتهد ليضرب طالبا سرق مالا «وكان لا بد من ضربه أمام التلاميذ أو طرده من المدرسة. ولا أقول إني أصبت فيما فعلت، ولكني ضربته.»
وبعدما تلقى هوايتهد بذور الدراسة الكلاسيكية، تابع تنميتها بقية حياته. ولما تقدم القرن العشرون، وظهر أن كثيرا من رجال العلم ينقصهم التوازن الثقافي بدرجة مؤسفة، صار هذا التوازن المحمود عند هوايتهد بين العلم والدراسات الإنسانية مزية من مزاياه الفريدة، وشاع أن «هوايتهد يلم بالطرفين.» •••
ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره التحق بجامعة كمبردج، وقد حذق الرياضة من قبل، وكانت طريقة التدريس في كمبردج في تلك الأيام أفلاطونية إلى حد كبير، والجدل حر بين الأصدقاء، فتعلم - كما يقول - من المحادثة بقدر ما تعلم من الكتب. سئل مرة كيف استطاع أن يكتب «العلم والعالم الحديث» فصلا في كل أسبوع خلال العام الدراسي، وهو يلقي في الوقت نفسه محاضراته المقررة بجامعة هارفارد؟ فأجاب «بأن كل ما في الكتاب قد نوقش في الأربعين سنة الماضية.»
وأصبح زميلا في ترنتي في عام 1885م، في سن الرابعة والعشرين الناضجة، وكلية ترنتي بكمبردج من أعظم المؤسسات التعليمية فوق الأرض، ثم كانت بعد ذلك تلك التجربة الكبرى التي وجد فيها تلك الجوهرة النادرة، وأقصد بها التواضع الحق .
في القرنين السابقين كان العالم يرتاح إلى القول بأن سير إسحق نيوتن قد كشف قوانين الكون الطبيعي النهائية، ثم حدث أمر هام، وسأحاول أن أذكر كلمات هوايتهد بنصها بقدر ما تسعفني الذاكرة.
كنا نعتقد أن كل أمر هام تقريبا في الطبيعة قد بات معروفا، ولم تبق إلا بعض النقاط القليلة الغامضة، بعض الشواذ الغريبة التي تتعلق بظاهرة الإشعاع، والتي كان علماء الطبيعة يتوقعون تفسيرها بحلول عام 1900م، وقد أمكن تفسيرها فعلا، بيد أن العلم كله خلال هذا التفسير قد تقوض، وتبددت طبيعة نيوتن التي كان يظن أنها نهاية الأرب. أجل، إن طبيعة نيوتن كانت - وما تزال - نافعة كطريقة من طرق النظر إلى الأشياء، ولكنها لم تعد صادقة باعتبارها وصفا نهائيا للحقيقة، فقد تبدد اليقين.
وما زال الأمر كذلك، ولكن كم غيره قد تعلم هذه الحقيقة؟ إن تبدد اليقين - حينما كان يظن أن اليقين لا يتعرض للهجوم - قد أثر في تفكير هوايتهد بقية أيام حياته. تبددت نهاية الأرب، ومع ذلك فقد لاحظ هوايتهد أن رجال العلم أنفسهم الذين يعرفون قصة هذا التبديد كثيرا ما يتقدمون بمستكشفات يعرضونها وكأنهم يقولون: وأخيرا بلغنا اليقين! «إن العالم فسيح، وليس هناك أعجب من ذلك الجزم القاطع الذي يوهم به الإنسان نفسه في كل عصر من عصور تاريخه، فيتوهم أن طرائق المعرفة عنده نهائية، والمؤمنون والمنكرون في ذلك سواء، والعلماء والمتشككون هم في الوقت الحاضر أكبر اليقينيين، يسمحون بالتقدم في التفاصيل، وينكرون كل تجديد في الأساس، وفي شيوع اليقينية هذا قضاء على المغامرات الفلسفية. إن العالم فسيح.»
وهكذا نبلغ ما سماه هوايتهد «مغالطة النهائية اليقينية»، وهو أقل تعاليمه شيوعا، وعندما يثار هذا المذهب في حديث أو في مطبوع للجمهور، سرعان ما يرى فيه الناس البدعة والضلال، فالمرء قد لا يعرف حقيقة ما لا يحب، ولكنه يعرف أنه لا يحبه؛ فيغضب ويزمجر كلما بدا له الشبح. •••
والمنظر الثاني هو «بيت» دكنز «المكشوف»، لم يكن بيتا خياليا، إنما هو منزل من حجر الصوان، يقع على رأس بارز في البحر عند برود ستيرز، وهو بيت مكشوف فعلا، تهتز جدرانه من تلاطم الأمواج في عواصف الشتاء، وهنا التقى ألفرد هوايتهد بأفلن ويد، وهي سليلة أسرة أيرلندية عسكرية، نشأت في بريتاني، وتلقت دراستها في دير للراهبات، وأتت في صباها إلى إنجلترا لتعيش فيها، واقترن بها هوايتهد في ديسمبر من عام 1890م، وعاشا في كمبردج عشرين عاما من هذا التاريخ، قضيا ثمانية منها من 1898م إلى 1906م في بيت مل بجرانشستر، وهو بيت ريفي من القرن السابع عشر مسقوف بالغاب، يقع موقعا جميلا وسط حديقة غناء، وعلى مقربة منه البركة التي ورد ذكرها في شوسر.
ولم تكن هنا فجوة بين الحياة المدنية والحياة الدينية، وقد شاركا في حياة القرية مشاركة حية، وضربا لأهل القرية مثلا بالامتناع عن شرب الخمر، وكان أهل القرية في ذلك الحين يدمنون الشراب، وحملا على عاتقهما إغاثة المحتاج وعول الخدم؛ فكان في سلوكهما هذا بقية من سلوك الأمراء في القرن الثامن عشر، بل سلوك الإقطاعيين في القرن السابع عشر. وقد ساقت هذه التجربة هوايتهد إلى إدراك الخلق الإنجليزي والعادات الشعبية الإنجليزية التي استطاع أن يربطها بتعميماته الفلسفية، والتي عاونت على صبغ تفكيره المجرد بالمسحة الإنسانية، وانغمس كذلك في سياسة الأحرار «وكان عملا مثيرا ... كان البيض الفاسد والبرتقال من الأسلحة الحزبية الفعالة، وكثيرا ما رميت به، ولكنها كانت دلائل القوة أكثر من دلائل الشعور السيئ.»
سئل مرة: «في أية فترة من فترات حياتك بدأت تحس أنك ملكت زمام موضوعك؟»
فأجاب في خشونة غير معهودة فيه: «لم يحدث ذلك قط.»
ولمدة ستة عشر عاما في كمبردج - فيما يظهر - كان في صراع دائم مع الأرق، وكلما حل شهر سبتمبر بعد قضاء عطلة الصيف في الريف الإنجليزي، في كنت، أو في قرية صغيرة على البحر، ساوره الشك أن يحتمل عاما دراسيا بعد ذلك، بيد أن الأرق لم يؤثر قط في عمله، وأخذ يزول في لندن، وبرأ منه نهائيا آخر الأمر. وخلال ثماني سنوات من سني كمبردج كان يطلع على علوم الدين، وكانت مطالعاته كلها في هذه العلوم خارج المنهج الدراسي، بيد أنها كانت شاملة بحيث أمكنه أن يجمع مكتبة دينية ضخمة، وفي نهاية هذه السنوات الثماني طلق الموضوع وباع الكتب، وعرض عليه أحد باعة الكتب في كمبردج مبلغا طيبا نظير هذه المجموعة، ولكن تبين له أن هوايتهد يريد أن يبيعها لقاء كتب من مكتبته، واسترسل هوايتهد في شراء الكتب حتى أنفق فيها أكثر ما يمتلك من مال. •••
وفي منتصف حياته، بعدما أنجب ثلاثة أطفال، حزم وزوجه أمرهما على الهجرة إلى لندن، وكانت مغامرة صادرة عن إيمان، ولكنها بغير هدف معين، وفي جامعة لندن «اشتغلت بغسل الزجاجات» على حد تعبيره، ولبث على ذلك ثلاث سنوات، ثم أنشئ له بعد ذلك كرسي أستاذية، وبعد اثني عشر عاما أصبح رئيس مجلس الجامعة. «وهذه الخبرة بمشكلات لندن، التي مارستها أربعة عشر عاما (من 1910م إلى 1924م) حورت آرائي في مشكلات التعليم العالي في مدينة صناعية حديثة، وكان السائد في ذلك الحين ضيق الأفق في النظر إلى وظيفة الجامعات، بل إن هذا الأفق الضيق ما يزال قائما. كان هناك طراز أكسفورد وكمبردج من ناحية، والطراز الألماني من ناحية أخرى ... غير أن الكثرة الهائجة المائجة من أرباب الحرف، الذين يبحثون عن الاستنارة العقلية، وذلك الشباب الناهض من كل مستوى اجتماعي الذي يتشوق إلى المعرفة الشافية، والمشكلات المتنوعة التي ترتبت على ذلك - كل هذا كان عاملا جديدا في المدنية، ولكن دنيا العلماء كانت غارقة في الماضي السحيق.»
وانتهى القرن التاسع عشر في 4 من أغسطس من عام 1914م. واشترك ولداه نورث وأريك في الحرب العالمية الأولى، ومات أصغرهما أريك في الحرب وكان طيارا، والتحقت ابنته جسي بوزارة الخارجية. ولا تستطيع أن تدرك إلا إدراكا طفيفا جدا كيف أثر فقدان أريك في والديه، وذلك بعدما تتعرف إليهما شيئا فشيئا عاما بعد عام، واستطاعا في نهاية الأمر أن يتحدثا عنه في حماسة وبابتسام، ولكن هوايتهد قال مرة إن الكلمات التي تعبر عن الحزن مهما بلغت حيويتها، ومحاولات العزاء حتى حينما تصدر عن أساتذة اللفظ، عن الشعراء الإنجليز، ليست عنده إلا محاولات مخفقة «تجعل من العاطفة الحقيقية شيئا تافها.»
وبهذا انتهى المجلد الثاني من حياة هوايتهد. •••
وكانت دعوته لجامعة هارفارد في عام 1924م مفاجأة تامة، سلمته زوجته الخطاب ذات مساء مقبض في الداخل وفي الخارج، وقرأ الخطاب وهما يجلسان إلى جوار الموقد، ثم رده إليها، فقرأته، ثم سألته: «وما رأيك فيه؟» ولشد ما كانت دهشتها حينما قال: «إني لأوثر هذا على أي شيء آخر في الدنيا.»
أما طريقة مجيئهما فلم تعرف بعد على وجه عام. صدرت الدعوة - بطبيعة الحال - من المستر لولي باعتباره رئيسا للجامعة، غير أن فكرة الدعوة قد نبتت أولا في ذهن لورنس هندرسن وأمدت أسرة هنري أوزبرن تيلر المبالغ اللازمة لكرسي هوايتهد، ولم يعلم بذلك هوايتهد وزوجه نفسهما إلا بعد سنوات عدة.
والآن يبدأ المجلد الثالث من حياته.
في عام 1924م يبدأ ألفرد نورث هوايتهد وهو في الثالثة والستين من عمره في أرض جديدة حياة جديدة، وهي في سيرته أشد سني حياته بريقا وإنتاجا، وقد شع هذا الضوء العظيم فوق هارفارد في رفق وفي هدوء، وبدأت السماء تضيء بإشعاع الخلود الأبيض الناصع، وتحدث الناس مرة أخرى عن قسم الفلسفة كما كانوا يتحدثون عنه قبل ذلك بعشرين عاما، إبان ازدهاره في عهد وليم جيمز وجوسيا رويس وجورج سنتايانا وهوجو مونستربرج، وبدأت مؤلفات هوايتهد الكبرى تتوالى واحدا في إثر آخر؛ «العلم والعالم الحديث» في عام 1925م، و«التطور والحقيقة» في عام 1929م، ثم أشق مؤلفاته ولكنه المؤلف الذي قال عنه صاحبه إنه «أشد ما يكون حاجة إلى كتابته»، وهو «مغامرات الأفكار» في عام 1933م، وهو كتاب فيه قطعا من نفس هوايتهد أكثر مما في غيره من المؤلفات، وفي عام 1938م أخرج «طرائق التفكير» ... وقائمة الكتب المنشورة أطول من ذلك بكثير بطبيعة الحال.
وكان المتوقع أن يكتب في هارفارد ولا يعلم إلا قليلا. وقد قام بالعملين معا؛ فكان يحاضر ثلاث مرات كل أسبوع، ولم يكفه أن يسمح لطلابه بالاجتماع به عشرين دقيقة، بل كان يخصص لهم فترة ما بعد الظهر بأسرها أو فترة المساء كلها، «ومن وحي هذه الاجتماعات يعود المرء بنغم جديد.» وكانت الأفكار تسير في اتجاهين متقابلين؛ لأن هوايتهد كان يحس أنه بحاجة إلى الاحتكاك بالعقول الشابة كي تبقى ينابيعه في تدفق مستمر، وهو يقول: «من الخطأ الفاحش أن نظن أن الكبار لا يستطيعون التعلم من الصغار.»
ولم تكن هذه الاجتماعات علمية فحسب، بل كانت شخصية كذلك. ولمدة ثلاثة عشر عاما على الأقل منذ منتصف العقد الثالث بعد عام 1900م إلى ما بعد منتصف العقد الرابع، كنا نسمع عن السهرات في بيت هوايتهد، ليلة كل أسبوع يفتح فيها البيت للطلاب، وإن يكن صاحب البيت يرحب بأي زائر، وكانت هذه الحفلات غاية في البساطة؛ أحاديث، وشراب الشوكولاتة الساخنة، مع قليل من الكعك، وكان التلاميذ يعاونون في عمل الشوكولاتة وفي الخدمة. أما الحديث فحديثهم يشجعهم عليه بمهارة مضيفهم ومضيفتهم. وبالجملة كانت الأمسيات أمسيات الطلبة، ولم تكن أمسيات آل هوايتهد. وقد كان الطلبة يحضرون في أول الأمر حذرين مثنى مثنى؛ كي يحمي كل منهما الآخر، ثم اعتادوا أن يأتوا زرافات. وقد طلب إليهم هوايتهد أن يصحبوا زميلاتهم، وكانوا بالفعل يصحبونهن، ثم كانوا في نهاية الأمر يأتون في جماعات كبيرة، وقد يبلغ الحاضرون من ستين إلى ثمانية وتسعين في الليلة الواحدة؛ فكان بيت هوايتهد «صالونا» بالمعنى الفرنسي في القرن الثامن عشر، يقوم في بلد علمي ويروده الشبان والشابات، يتناولون فيه الكعك الخفيف والشوكولاتة الساخنة، وكانوا يصبون إلى جانب هذا ذلك الرحيق العقلي الذي ينعش ولا يسكر، وهو الحديث مع آل هوايتهد، مع الرجل وزوجه، وقد قال بنفسه مرة: «إنني وحدي أستاذ من الأساتذة، ولكني مع إفلن أستاذ من الطراز الأول.» •••
وذات صباح في شهر مايو من عام 1932م دق التليفون بمنزلي، وكانت المتكلمة مسز ثاديوز دي فريز، التي راح زوجها الشاب ضحية وباء الحرب في معسكر حربي في عام 1918م، والذي كان رئيس تحرير «بوستن جلوب»، قالت: «لقد دعوت آل هوايتهد للعشاء عندي غدا. فهل تستطيع أن تحضر؟» - «آسف؛ فقد حزمت متاعي استعدادا للسفر إلى آل بركشير.» - «إنهم ضعاف، وقد تقدمت بهم السن، وخير لك أن تعدل عن رأيك.» (وعدلت عن رأيي.)
وأخذت معرفتي بهوايتهد تنمو ببطء، وكنت في السنوات الست الأولى من عام 1932م إلى عام 1938م واحدا من عشرات، بل من مئات، ممن يقصدون هذا المسكن ويغادرونه، وقد قال مرة إن الحديث ينبغي أن يبدأ بنغم هادئ، «يجب أن يسمح للناس أن يتحدثوا في الأمور العامة حتى يكتسبوا حرارة الحجرة، والطقس موضوع ملائم، والحديث في الجو يكفي.» وقد عكست صورة هذا الرأي في الصفحات الافتتاحية من هذه المحاورات، وسوف تنمو كذلك معرفة القارئ بهوايتهد شيئا فشيئا.
ولكن بعد نحو عامين بسطت شخصيته نفوذا عجيبا، وكأن شخصه وأفكاره قد تخللت كل شيء، وبلفتة عجيبة من لفتات الخيال طابقت شخصيته إحدى المقطوعات الموسيقية الرائعة، تلك الصفحات من خاتمة سمفونية براهمز الرابعة، تلك «الباسا كجليا» العظيمة، حيث تردد الأبواق الموضوع في نغمات ذهبية متدفقة متصلة فوق «الأربجياي» الرنان، مع الجوقة و«فيولونسلي» و«فيولا» - أي الكمان الجهير والكمان الأوسط - (والمقاييس من 113 إلى 129)، ويبدو أن وجه الشبه يبن شخص هوايتهد وهذه المقطوعة الموسيقية هو الجلال في كل.
ثم اختفى شخصه بعد ذلك، وبقي صوته واضحا، رنانا، رفيقا، حازما، دقيق النطق، بريطانيا في نغمته ونبرته؛ وبقيت صورة وجهه جادا، مشرقا، باسما في أغلب الأحيان، وبشرته بيضاء في تورد، وعيناه زرقاوان براقتان، صافيتان بريئتان كعيني الطفل، ولكن في عمق الحكماء، ضاحكا في أكثر الأحيان، أو مرحا بالفكاهة؛ قوامه نحيل، ضعيف، احدودب من مشقات البحث العلمي الذي شغله طوال حياته؛ وكان دائما حليما، لا يضمر مثقال ذرة من شر؛ وبرغم تسلحه باللفظ المريع، لم يجرح قط امرأ بكلمة، وكأن وجوده المادي لم يكن إلا موصلا، لاستغراق الحاضرين كلية في أفكاره، وكأن هوايتهد المفكر قد اختفى في محيط أفكاره، ولم يحدث ذلك مرة واحدة، ولكنه كثيرا ما حدث، وبغير انقطاع. وحدث شيء غير ذلك أيضا؛ فكم من مرة توجهت إلى كمبردج مجهدا بعد عمل يوم كامل لا أستطيع أن أحتمل حديثا متصلا، فأجدني عائدا في منتصف الليل بعد أربع أو خمس ساعات من تبادل الحديث معه ملتهبا بنار الحياة المشتعلة. فهل كانت تشع منه كهرباء الروح؟
وكان يحيرني أن زائرين آخرين كانوا يتلقون ذلك الفيض من الآراء القوية المبتكرة في برودة بادية. فهل كان مجرد فرد من كثيرين، وهل لم يحدث شيء غير عادي؟ هل كان يمكن لهؤلاء الزائرين أن يظفروا بمثل هذا الحديث في مائة موضع آخر؟ أما عني، فلم أستمع إلى حديث يشبهه في أمريكا أو في أوروبا، وأستبعد أن أستمع إلى مثله مرة أخرى. إن كان هذا الحديث في الكتب، فما عناوين تلك الكتب؟ كلا، إنه حديث لم تتضمنه الكتب، بل لم تتضمنه كتبه عينها كما ذكر فيما بعد.
وقد يسأل سائل بعد قراءة هذه المحاورات: «ما هو وجه العجب الشديد فيها؟» أحسب أن تفكير هوايتهد بطيء التأثير، إنه كالموعظة في السلوك، ليست لها قيمة إلا باتباعها، أو كالموسيقى، صامتة قبل أدائها؛ أو كالبذور، عقيمة ما لم تبذر وتزرع. يقول الناس عن كتب هوايتهد: «لقد قرأناها، فهزتنا وأمتعتنا، ولكنا لم نذكر فيما بعد ما قاله فيها.» ويصدق مثل هذا القول على نغمات «ديابلي المتنوعة» لبيتهوفن، وعلى «جمهورية أفلاطون». •••
ولكن حذار، فإن بعض ما في هذه المحاورات يدعو إلى الجدل الشديد. ومن الكتب ما يحوي شيئا يسر كل إنسان، وأرجو ألا يكون هذا الكتاب منفرا على إطلاقه، ومع ذلك فأعتقد أنه يمكن القول، في شيء من التواضع، إن في الصفحات التالية ما يزعج كل قارئ، وأنا واحد من هؤلاء. إن ساكن الحدود لا يستمتع في الوقت عينه بلذة المغامرة والراحة المستتبة التي تتوافر لأفراد المجتمع المستقر. إن كان من القراء من لا يعبأ بنقده للعقائد المسيحية، أو انحرافه عن الفكر العبراني، فأنا لا أعبأ كذلك ببعض أحكامه في الموسيقى والشعر، وهما مما أدين به، والفارق هو: أي الديانتين محل الطعن؟ أما هوايتهد فكان يسير نحو مرتفع رصين يعلو على الجدل. - «إن لهيبي مزيج من النيران يعلوها جميعا.»
لم يكن هوايتهد ممن يجمدون الرأي؛ لأنه كان يمقت اليقينية النهائية، ولم أكن أعارضه (وعلى أية حال كنت أعجز عن ذلك عجزا تاما)، إنما كانت مهمتي أن أعاون على استمرار الحديث وتدفق الأفكار. لم أعارض قط «لأن أسوأ ما في المعارضة هو أنها تفسد البحث الجيد»؛ ومن ثم فإن كان بعض ما يصدر من أفكار جارحا، لم يسعني إلا أن أردد ما قال تودجر فيرميل في قصة «ماجور باربرا»، كما روي بل ووكر.
يقول إنه ينظر إلى السماء ويقول: «أتمنى أن أكون جديرا بالمهانة في سبيل الله!»
ثم إن الأرجح أن تسجيل حديث رجل من البارزين عمل لا يحمد عليه فاعله، بل إن خير رواة الأحاديث لم يكتسبوا سوى نعتهم لمائة عام أو مائتي عام بالحمير الأذلاء الأتباع المتزلفين. أضف إلى ذلك أن كل امرئ في الوقت الحاضر يحسب أنه في امتياز غيره من الناس، إن لم يفقهم جميعا؛ ومن ثم فإن تقديري لغيري سوف يصمني بالنقص في احترامي لذاتي، بيد أني أخالف في الرأي مخالفة قاطعة هذه المساواة المزعومة. إن راويتكم لم يبلغ مبلغ هوايتهد، والمفارقة العقلية بيني وبينه قائمة كذلك.
مثلي مثل صبي إنجليزي في السادسة عشرة من عمره، عامل على ظهر حاملة البضائع «دفونيان» التابعة لشركة لاي لاند، التي اعتادت قبل حرب 1914-1918م أن ترسو عند إيست بوستن قريبا من منزل سنت ماري للملاحين. كان الصبي لندني المولد، واسمه شارلز بيلي «وينادى كول بايلي»، وكان حسن التربية، إذا اشتدت معرفتك به وأمكنك أن توجه إليه السؤال، فتقول له: «قل لي يا شارلز،
فيجيبك شارلز في تواضع جم: «لقد تعلمت أن ألزم حدود الأدب في حضرة من يفضلني.»
إن هذه الكلمات الذهبية كالعملة الصحيحة، لا تزال تحتفظ ببريقها كما كانت يوم صدرت عن دار سك النقود، والآن ونحن قادمون على المحاورات أقول: «اسمع يا كول، سوف ألزم حدود الأدب في حضرة
•••
وليست «المحاورات» إلا عنوانا ملائما، وإن يكن هو العنوان الذي يجب اختياره، وأي نزوع إلى منافسة «محاورات أفلاطون» التي سبقتها ضرب من السخف، بل إن هذه المحاورات وتلك على طرفي نقيض؛ فمحاورات أفلاطون قد صيغت لكي تبدو حديثا تلقائيا، أما محاورات هوايتهد فهي في الواقع حديث تلقائي، حتى لمختلف المتكلمين الذين كثيرا ما يطيعون وصية سقراط: «أن يتابعوا الجدل إلى حيث ينتهي.» وحتى في هذه الحالة يجب قراءة بعض ملاحظات هوايتهد في محيطها التاريخي المحدد مع مراعاة التاريخ المضبوط الذي أبديت فيه، وهو شرط من الشروط التي حتمها هوايتهد صراحة؛ وذلك لأن ما يشوق عصرا متأخرا في هذه المحاورات هو كيف كان الناس يحسون، وفيم كانوا يفكرون بشأن الحوادث وهي جارية وقبل إمكان صدور حكم نهائي فيها؟ وهو أمر قلما يذكره القارئ؛ لأن الجنس البشري، الذي يفتقر إلى بعد النظر إلى الأمام، يغرم غراما شديدا بالنظر نظرة تنبؤية إلى الوراء. وكم من عالم في التاريخ، عالي التأهيل، يطلع على بعض هذه الصفحات بعد طبعها، تراه يقع فورا في هذا الفخ، ويحتج قائلا: «كان ينبغي له حقا أن يكون أكثر
- «ولكن هل كنت أنت أكثر من ذلك علما في عام 1934م أو عام 1944م؟»
بيد أن هذا الجانب من المحاورات ليس كبيرا؛ لأن الجزء الأكبر من هوايتهد لا يتحدث عن أمور زائلة. كان اهتمامه بالحوادث اليومية يشغل ذهنه، وكان دائما يفكر تفكيرا مبتكرا في كل حادث، غير أن شعاع تفكيره الحق كان يتسلط على مدى قرون.
ويلاحظ أن بعض الموضوعات يظهر في هذه المحاورات من بدايتها إلى نهايتها، ومن السهل معرفتها، ولكن العودة إلى هذه الموضوعات بين حين وآخر ليس من قبيل التكرار؛ فكلما عاد ذكر الموضوع تعرض الفكرة من وجهة جديدة. وكان من الميسور أن يضم شتات الموضوع في عرض واحد شامل للفكرة، ولو فعلت ذلك لحرفت الأصل تحريفا لا يغتفر، وبدلا من أن أفعل ذلك رضيت أن أعود إلى الموضوع مرة بعد أخرى، وكل مرة أعرضه بشكل جديد يختلف باختلاف المناسبة، كأنه نغمة موسيقى تعلو حينا وتنخفض حينا آخر وفقا للجو الفني، وهذا العرض الذي يشبه العرض الموسيقي أقوى في النفس أثرا، وإن يكن من غير تدبير سابق (وكأني أستعد لصيد معين، ثم أطارده حتى أبلغ نهاية الشوط). ولا أجد بأسا من عرض الموضوع وما يناقضه، كأنه حركة موسيقية، حتى تأتي اللحظة التي يتملك فيها هوايتهد الزمام، كما يحدث كذلك عندما تعزف الموسيقى؛ وبهذه الطريقة تبلغ الحركة قمتها، وتأخذ الآلات الموسيقية في الهبوط تدريجا حتى يتم صمتها في هدوء.
وثمة تشبيه آخر بصري لمسز هوايتهد: «تفكيره كمنشور الضوء، يجب ألا تنظر إليه من جانب واحد فقط، ولكن من جميع الجوانب، ثم من أسفل، ومن أعلى، والمنشور - حينما تنظر إليه بهذه الطريقة وأنت تدور في حركتك - يمتلئ بالأضواء والألوان المتغيرة؛ فإن أنت نظرت إليه من جانب واحد فقط فكأنك لم تنظر إليه البتة.» فالرؤية من جانب واحد هي ما يسميه هوايتهد «نصف الحقيقة»: «ليست هناك حقائق كاملة، كل الحقائق أنصاف، ومن الضلال أن تحاول أن تعاملها باعتبارها حقائق كاملة.» (وقد صيغت من قديم ألغاز رياضية لإثبات ذلك.)
ولذا فإن الاعتقاد بأن العودة إلى الموضوع الواحد في أكثر من مكان تكرار لا فائدة منه اعتقاد ليس له محل. فلم تكن مهمتي أن أبتر أو أقتلع أو أقطع، وإنما كانت مهمتي تسجيل ما قيل.
إذن فماذا قيل؟ وإلى أي حد يعتبر النص هنا موثوقا به؟ عند الاشتغال بتدوين المحاورات من الذاكرة بنصها تقريبا حرفيا بقدر ما يستطيع الكاتب، نجد أن الثلاثين السنة الأولى هي أشق السنوات جميعا، وقد بدأت ممارسة التدوين وأنا تلميذ بالمدرسة في أول يناير من عام 1901م، تابعتها كما يتابع كاتب الاختزال المحاضرات، ثم كما يتابع الصحفي الأخبار (وسرعان ما يدرك الصحفي أنه إذا أخرج القلم والورق على مرأى من شخص لم يتعود المقابلة، فإن هذا الشخص المنكود يكاد يتجمد لتوه). ثم تلت ذلك سنوات اختزنت فيها أحاديثي عن كل أنواع الرجال وكل ظروفهم، المشهور منهم والمغمور. ولما حل عام 1932م، حينما بدأ اجتماعي هذا بهوايتهد، بات تسجيل المحادثات عندي شيئا أكثر من ذلك، وربما يجدر بي هنا أن أضيف أن الذاكرة تكون أقرب إلى الدقة بعد ثمان وأربعين ساعة منها بعد أربع وعشرين ساعة، كأن الفترة الطويلة تكسب المادة من الوقت ما يغرقها إلى الأعماق لكي تطفو مرة أخرى إلى مستوى الوعي. وما أشبه ذلك بتجربة المستمع إلى حفلة موسيقية، فإن الموضوعات بعد العزف مباشرة يشق تذكرها، أما في اليوم التالي، أو الذي يليه، فإنها تعود من تلقاء نفسها، بيد أن هوايتهد توقع الشك في دقة التسجيل (ولا أضمن صحتها مائة في المائة) فقال عما دونت في الأمسيات الأخيرة، حينما كنا معا: «يجدر بك أن تدون ملحوظة بأن هذه المحاورات قد قرأناها معا، وأنها تطابق ما قيل، وألا تشكك الناس فيها، بل أنا نفسي ربما لا أعتقد في صحتها ...»
وما مبلغ اعتقادي في دقتها؟ في الأحاديث العامة التي لا تعدو أن تكون انتهازا للمناسبات ومتابعة للفكر، تكون المحاورات حرفية في أغلب الأحيان، مع التنبه إلى التعابير المميزة خاصة. أما في أحاديث هوايتهد المطولة، فإن استخدامه للغة ينم عن دقة رياضية، وسيطرته على الإنجليزية كاملة، والتفكير ذاته يتركز أحيانا إلى درجة تجعلني أصغي إليه في ذهول خفي: «كيف أستطيع الاحتفاظ بكل هذا؟ وكيف آمل أن أدونه في صورة شبيهة - ولو إلى حد - بالوضوح الذي يتميز به وهو يلقيه شفاهة؟» والجواب أني كثيرا ما أعجز عن ذلك. وفي هذا الصدد أردد ما جاء باللافتة المرفوعة على إحدى قاعات الرقص في معسكر غربي للتعدين: «لا تقتل عازف البيانو،
•••
واستمر الحال على ذلك تسع سنوات، من عام 1932م إلى عام 1941م، وقد دونت نصف الكتاب، دون أن يعلم أحد - دون أن يعلم الكاتب نفسه - أنه سيخرج على صورة كتاب، ولم يعلم آل هوايتهد أني كنت أسجل أحاديثهم، ولم يكن هناك ما يدعو إلى علمهم، «إن ذلك من حسن التدبير يا هوراشيو.» ثم قدمت الأحاديث للصحف، وكنت أرسل صورا مما ينشر إليه في حينه (ولم يذكر اسمه قط في مطبوع) وذلك إنصافا من ناحية، ولكي أتأكد من ناحية أخرى إن كنت قد احتفظت بالمادة صحيحة وفهمتها فهما جيدا.
ثم كانت الحرب الثانية، وكانت زوجه وابنهما في لندن تحت القنابل، وكان حفيدهما في إنجلترا كذلك عرضة لوابلها، كما قالت مسز هوايتهد. وقد طبعت هذه المحاورات حتى خريف عام 1941م، وبعثت بها إليهم من قبيل التسلية، ولم أذكر شيئا عن نشرها حتى ديسمبر من ذلك العام، وسيجد القارئ في حديث ذلك التاريخ رأي الفيلسوف في إمكان الانتفاع بها. هل كان العلم بالاحتفاظ بها يوهن من تلقائيتها؟ إن أحدا لم يفكر في ذلك؛ فقد كان هناك الكثير غير ذلك مما يثير الاهتمام.
وبعدما تقاعد هوايتهد في عام 1937م، كان لا بد من أن يتناقص عدد زائريه. وقد واظب كثير من زائريه على الحضور، وبعضهم من أقاصي أركان المعمورة، ولكن تقدم السن والصمم جعلا المؤانسة على المستوى الأول غير ممكنة التحقيق. ومع هذا، فبالرغم من أن الاجتماعات الكبرى ربما استخلصت أوجها أكثر من أفكاره، وأظهرت جوانب أكثر من شخصيته، فإن مرور الزمن واقتصار المحاورات على أربع أو حتى على ثلاث جعله يوغل في الأفكار التي كان يتميز بها بصفة خاصة؛ فقد كان من قبل لا يحب أن يسأل عما جاء في كتبه المنشورة، ولا يود المساس بموضوعها، فهي مطبوعة يطلع عليها كل قارئ، وقد بذل أقصى جهده في عرضها في صيغة مفهومة، فكان يحب الخوض في شيء جديد.
والآن جاوز الثمانين من عمره، ولم يبد عليه البتة ما يدل على ضعف قواه العقلية، بل لقد أخذ التيار في الصعود. وفي سنواته النهائية، حينما كان يتخذ فندق أمباسادر مسكنا له، لما كانت جلساتنا تبدأ مبكرة في السابعة والنصف مساء، وتستمر حتى منتصف الليل، كان ينتهي من الحديث وهو أوفر نشاطا مما بدأ، وكان اسم الفندق - أمباسادر أو السفير - كثيرا ما يذكرني برواية هنري جيمس «السفراء»؛ لأن هوايتهد كان حقا سفيرا بأروع ما تحمل الكلمة من معنى.
وهو يدين باحتفاظه بقواه لاعتداله في كل أمر من الأمور؛ كان شديد الإمساك، يتعفف فيما يأكل، ويسمح بالنبيذ، ولا يدخن، وكأنه لم يشته المنبهات قط. إن منظر هذا الرجل الذي جاوز الثمانين من عمره ولا يزال متورد الوجه، صافي العينين، نقي البشرة، لا تبدو عليه سمة من سمات الانهماك التي يتميز بها الرجال عامة، هذا المنظر - كلمات تقدمت به السن - لم يكن أوهى عوامل تأثير شخصيته. وعامل آخر من عوامل التأثير أقوى من هذا، رؤيته وهو يعيش في مسكن من أربع حجرات حياة أبعد مدى وأكثر حرية وأوسع أفقا في العقل والروح من حياة الكثيرين في بحبوحة ورغد. إن المرء يعتاد التسامح مع المسنين في ولاء بنوي لما يبدر منهم من انفعال وشذوذ، بيد أن هوايتهد لم يتصف بما يدعو إلى التسامح؛ فقد كان هدوءه وجلاله واتساع أفقه يرد توافه الحياة اليومية إلى قيمتها الحقيقية، ولكن المبادئ العامة عنده كانت ترتفع إلى قضايا هامة ينبغي الدفاع عنها بحرارة شديدة. لم يعل هوايتهد على ميدان المعركة، ولكن ميدان المعركة كان رفيع المستوى؛ ومن أجل هذا كان يتميز بصفات عجيبة؛ فقد قابل مشكلات كثيرة وأوجد لها الحلول، وهي مشكلات لم يدرك وجودها قط أكثر الناس. كنت تحس في حضرته أنك أمام رجل لا يخاف، لا يخاف من أعداء البشرية المألوفة؛ المرض والفقر والشيخوخة وسوء الحظ والموت، بل ولم يخش ما في مصير البشرية من ألغاز عويصة، أو ما في الكون من متاهات. في تلك المجالات المريعة كان مطمئن النفس مرتاح الضمير، وهذا معنى أن يكون المرء فيلسوفا؛ أن يصادق العدو، وأن يروض المجهول في دخيلة نفسه. كان الناس يرون فيه اعتياد النصر، وكل انتصاراته - التي نسيها من أمد بعيد - كانت إلى جانبه تعمل وتجاهد، دون أن يراها أحد، وإذا بالناس يفاجئون عندما يتطلعون إلى قمته بكثرة ما يملك من العربات الحربية والفرسان.
قال مرة إن الكتاب المقدس بدلا من أن ينتهي بسفر الرؤيا للقديس يوحنا، كان ينبغي أن ينتهي برثاء بركليز. وفي هذا الرثاء عبارتان؛ إحداهما تليق بفاتحة هذه المحاورات، والأخرى بنهاية حياته، وهما: «ليس لدينا لجارنا نظرات سوداء أو كلمات ساخطة إذا كان يستمتع بحياته على طريقته الخاصة.»
و«الأرض كلها مقبرة لمشاهير الرجال، وقصة حياتهم لا تنقش على الحجر في أوطانهم فحسب، ولكنها تحيا كذلك بعيدا، دون أن يكون لها رمز يرى، متغلغلة في تاريخ حياة غيرهم من الرجال.»
ذلك لأن شخصا جديرا بعهد بركليز كان يعيش في عصرنا.
المحاورات
المحاورة الأولى
6 من أبريل 1934م
الذكرى السابعة عشرة لدخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى. كان إعلان الحرب في يوم مقدس هو يوم الجمعة الحزينة، وهي سخرية من سخريات التاريخ لم يلتفت إليها أحد في حينها على ما يبدو، وكان هذا الأمر يشغل أذهاننا في أحد مؤتمرات هيئة التحرير، وما برح عالقا بخاطري وأنا أقصد كانتون لأتناول العشاء مع آل هوايتهد، وكان ابنهم الأصغر أريك الطيار قد لاقى حتفه في الحرب.
وعرفت من إشارة تليفونية أن العشاء في الساعة السادسة، فسارعت إلى ميدان ماتابان بالقطار، ثم استأجرت سيارة حتى منزلهم بشارع كانتون المطل على «التلال الزرقاء»، وعندئذ علمت أن العشاء لن يكون قبل الساعة السابعة، فخففوا بذلك ارتباكي بلباقة. وقابلني الدكتور نكيولاس، وهو طبيب شاب في أحد المستشفيات الكبرى بلندن، قدم مع زوجته إلى بلادنا لأول مرة في اليوم السابق فقط، وقد علمت أنهما يمتان إلى آل هوايتهد بصلة القربى، ثم أبلغت رسالة في الحال.
قال الرسول: «تفضل بالذهاب إلى المكتب لكي تتحدث مع مستر هوايتهد حتى يحين موعد العشاء.»
وكان هوايتهد جالسا إلى مكتبه بجوار نافذتين، وضاء الجبين محمره من أثر أشعة الشمس التي كانت تغمره إلى وقت متأخر في الأصيل.
فنهض وقال: «ما أسعدني بقدومك مبكرا! كان وقتي بعد الظهر متقطعا، وكنت أتسكع حتى يحل موعد العشاء.»
وانتقينا مقعدين كبيرين إلى جوار الموقد، وأخذ يتحدث عن الصحف.
قال: «إن الصحف الأمريكية تترك في القارئ من عناوينها انطباعا خاطئا تماما، فإذا ما شرع القارئ في الاطلاع على ما ورد تحت العناوين وجد أن محرريه قوم معقولون جدا، وهم فيما يسمح لهم به من مجال أشد إنصافا من المحررين الإنجليز لخصومهم في السياسة. إن الصحف الإنجليزية أحسن تحريرا على وجه الإجمال، ولكن عندما يرتفع مستوى الكتابة في الصحف الأمريكية، فإني أعتقد أنه يعلو المستوى الإنجليزي.»
قلت: «ذلك يتفق مع بعض خبرتي؛ في الصيف الماضي كنت أحرر مقالا عن معرض مخطوطات فاجنر في بيروت لصحيفة «تايمز» اللندنية، ولم أجد تحريره كما لو كتبته ل «بوست جلوب»؛ لأن التايمز تريد أن يتخلص الأسلوب من كل زبرجة.»
والظاهر أن هوايتهد كان كذلك يعلم أن اليوم يوافق يوم الذكرى، وأخذ يتحدث عن بعد الكتب - التي ألفها الأساتذة عن الحرب العالمية - عن الواقع: «إنهم يفحصون الأوراق الرسمية
إن التاريخ الحقيقي لا يكتب لأنه ليس في عقول الناس، ولكن في أعصابهم وقلوبهم.» - «هب أن ثقافتنا الأمريكية قد محيت، فمن ذا تظن أننا قد أنجبنا حتى الآن ممن يستطيع أن يكون عونا دائما للعالم؟» - «والت هويتمان.» - «أليس أمرسن؟» - «لقد أمعنت في قراءة أمرسن في شبابي، ولكني أستسمح جيراني الطيبين، أسرة فربيز وهم «حفدة أمرسن» في أن أقول إنه لم يكن شديد الابتكار، في حين أن هويتمان قد أدخل في الشعر شيئا لم يكن فيه من قبل، وكثير من أقواله فيه من الجدة ما كان يضطره إلى اختراع صيغة جديدة للتعبير. يبدو لي أن هويتمان كان واحدا من عظماء الشعراء القلائل الذين وجدوا في التاريخ. إنه يستطيع أن يقف بسهولة إلى جوار الشعراء الأوروبيين العظماء حقا ... إذا اندثرت المدنية الإنجليزية قبل عام 1500م، ما كانت الخسارة فادحة، فإن شوسر لا يبلغ قامة دانتي أو هومر، ومع أنه لدينا بعض الكاتدرائيات الجميلة، إلا أن الفن الغوطي الإنجليزي لا يبلغ من الجودة مبلغ الفن الغوطي الفرنسي، ولكنك لو حطمت الحضارة الإنجليزية من عام 1500م إلى عام 1900م أفقرت العالم كثيرا؛ لأنها أضافت شيئا هاما إلى تقدم الروح البشري.»
قلت: «لاحظت في كلية ونشستر في الصيف الماضي شيئا اعتقدت أن له قيمته؛ فقد ساقني رجينولد كوبلاند كما ساق سام موريسون من أكسفورد لكي يرينا أين كانت مدرسته، وأثناء مرورنا بحجرات الصفوف العليا من التلاميذ لاحظت على مكاتبهم نصوص أيسكلس، وثيوسيديد، وغيرهما من «العصر العظيم»، ولم تكن نصوصا دراسية مجموعة لتلاميذ المدارس، وإنما كانت الأصول العريقة بعينها. فسألت كوبلاند: «هل يدرس هؤلاء التلاميذ المؤلفين المسرحيين والمؤرخين في القرن الخامس في هذه السن؟ وأجابني: كلا، إنهم يقرءونهم من تلقاء أنفسهم. أما في هارفارد فيحسن بالطالب أن يقرأ هؤلاء المؤلفين في العام الثاني من دراسته الجامعية، لشد ما كان ذهولي.»
فقال هوايتهد محذرا إياي: «يجب أن تذكر أن التلاميذ في ونشستر مجموعة مختارة، يخضعون لنوع فريد جدا من التدريب، يتأثرون به غاية التأثير. إنهم يكتسبون في هذه الناحية مهارة فائقة، فإن جاوزوها كانوا على جهالة شديدة. إنهم يعرفون الكثير عن عادات الرومان في عصر حروب قرطاجنة، ولكنهم قليلا ما يعلمون - بل قد لا يعلمون شيئا - عن المشكلات الراهنة في بلدهم وزمانهم. إنهم يتفوقون في الجامعات، ويشتهرون في المهن، ويذيع صيتهم كرجال إدارة في المستعمرات، أو موظفي حكومة، ولكن ما نصيبهم من الفنون المبتكرة؟ لا أحسب أنك تجد منهم الكثير متفوقين في هذا الميدان. إنهم يحسنون الكتابة، ولكن بخيال محدود. الطلبة الأمريكان أقل معرفة، ولكنهم أشد شغفا بالتعلم. أما التلاميذ الإنجليز فهم أقل شغفا وأكثر علما. الطالب الأمريكي قليل المعرفة فيما يهمه، والطالب الإنجليزي كثير المعرفة فيما يبدو أنه لا يهمه كثيرا.» قال هوايتهد ذلك وبريق الضحك يترقرق في عينيه الزرقاوين اللامعتين.
فوافقته وعقبت بقولي: «أجل، ولكن التربة الثقافية في أوروبا بأسرها أشد خصوبة.» - «إنك شديد الاهتمام بالتربة. ليس الأمر أمر التربة، فأنتم من الشعب الأوروبي عينه، وتستطيعون تناول التاريخ الأوروبي بأسره، غير أن الأمريكان شديدو الخجل.» - «يسترعي نظري أن كتابنا لا يعرفون ما يكفي.» - «حقا إن أكثر عظماء الكتاب كانوا يعرفون الكثير، ولكن من الجائز أن يعرف الإنسان أكثر مما ينبغي، إنما المراد «إحساس» عميق بالأشياء. والخطر الكامن في المدنيات القديمة هو أن تعاليمها ربما كانت «أطيب» مما يجب، وذلك يثبط من همم التلاميذ. إنهم يعرفون الكثير عما تم عمله، وهم يحسنون الكتابة، ولكن بغير جدة. من السهولة القاتلة لعصر من
لقد لبثت أكسفورد تعلم الأدب القديم قرونا عدة، ورفضت كمبردج قرونا عدة رفضا باتا أن
- «لا يستطيع أحد - على الأقل - أن يشكو أن عصرنا لا يمدنا بالمثيرات الكثيرة ليكتب فيها الكتاب. أما المشكلة في التاريخ فهو أنه يمدنا بأكثر مما نتطلب.»
قال هوايتهد: «لو أردت مثلا قويا لزماننا اقرأ حياة «الملكة إليزابث»
1
لمؤلفه نيل. إنها مثل حياتنا دقة بدقة، فيها الشك، ولم تخطر ببال أحد أية فكرة عما عساه يحدث، وقد كانت فرصة الاغتيال لإليزابث سانحة، ثم كان دور ماري ستيوارت، ولو أنها عاشت بعد إليزابث لحدث أحد أمرين؛ فإما أن تكون ملكة وينهار ما تم في عهد الإصلاح الديني، أو تنشب حرب أهلية طاحنة، ومع ذلك فإن ذلك العصر قد تمخض عن عمل رائع.» - «هل عصور الانقلاب ملائمة للخلق؟» - «أحسب أنها كذلك، إذا لم يطل أمدها ولم يشتد عنفها. في عصر إليزابث، كانت تمر بعض الأسابيع الهادئة لا يحدث فيها الكثير، فكان الشاعر يستطيع أن ينصرف إلى تأليف مسرحياته، ثم هناك أيضا الحافز الذي يصدر عن شخصية كبيرة تؤدي عملا طيبا، فتتلوها شخصيات أخرى كثيرة.» - «وهل يمكن أن يستنفد فنان واحد - أو فنانان عظيمان - عصرا بأسره، أو أن يستأثر وحده بصورة من صور الفن؟ إن عصر النهضة يضمحل بعد مشيل أنجلو، والأوبرا العظيمة بعد فاجنر صورة هزيلة.» - «أجل، إن ذلك قد يحدث، وأمثال هؤلاء الرجال يظهرون في نهايات العهود، وموضع الخطر أن تكون الموضوعات الكبرى قد تم أداؤها بصورة رائعة، فلا يجد الفنان المتأخر سوى الموضوعات الثانوية، أو أن يجمل فيما سبق أو أن يزيد من تفاصيله، فينساق الفن أو الفكر إلى الأماكن الضحلة. وما أيسر أن يتم ذلك، وما أفتكه بالفن. أقصد الموضوعات التي هي
مبتذلا، ومع ذلك فقد استطاع النحاتون في العصر الوسيط والمصورون في عصر النهضة أن يعبروا عنها تعبيرا جميلا يفوق التصور، ومن العبث أن تحاول تقليدهم. إنني أحس أن أعظم الفنون لا يبتكر إلا في العصور، وفي الموضوعات، التي يشتد لها التحمس والذيوع، وينعقد عليها الإجماع. إنها تخاطب العامة من الناس، وعندما يبدأ الفن في التصدع إلى حلقات خاصة تقل أهميته، وعندما تقول هذه الحلقات: «إن هذا الفن أرفع من أن تفهمه العامة.» حينئذ أشك في جودة الفن وفي عظمته.» - «وعصرنا عصر تصدع، وربما لم يهتد مفكرونا بعد إلى اتجاهاتهم في العهد الجديد، وربما كان ذلك سببا في تخلفهم. لقد تزعزعت عقائد القرن التاسع عشر؛ ومن دلائل ذلك كتابة السير بروح التهكم. إن ليتن ستراتشي - الذي عرفته واستمتعت به - يكتب عن شخصيات عصر فكتوريا في ألفة بهم وحماسة بالغة لهم، ولكن عندما يقول أحد المعاصرين: «دعنا نجلس ونسخر في هدوء من هذه المخلوقات الغليظة، دكتور توماس أرنولد والملكة فكتوريا.» عندما يقول ذلك ربما كان مسليا، وربما مس مواطن الضعف فيهم، ولكنه لا يكتب عما كان يمدهم بالروح المعنوية، أو عما كان يدفع القرن الذي عاشوا فيه إلى الأمام، والمحصول الثاني الذي نحصده من مثل هذه السخرية قد يدعو إلى الرثاء. وأظن أن جيلك قد قاوم التصدع أكثر من الجيل الصاعد. إنه لا يعرف عالما غير عالمه، ولكن جيلك قد عرف. خذ مثالا هذه الدقائق الخمس عشرة التي نقضيها في الحديث الآن، إننا نتكلم جادين، أما هم فيقولون: «ما يميز خمس عشرة دقيقة عن مثلها ، ما دام المرء يقضيها في متاع؟ ولماذا يكون هناك أي فارق؟ وما هو الهدف؟ وما هي القيمة؟ وما هو الغرض؟»»
قلت مؤكدا: «ولكنك ولكني لا نعتقد أن هذه الدقائق الخمس عشرة ليست بأكثر أهمية من مثيلاتها.» - «ذلك لأننا ننتمي إلى جيل كان يشعر أن بعض الخبرات أعلى قيمة من غيرها، وكان عندنا حس بالاتجاه الذي تسير فيه.»
ثم أثير موضوع العلم - أو العصر العلمي - وهل هو يعادي الشعر؟
قال: «أعتقد أن بعض عظماء الشعراء لو عاشوا في زماننا ربما كانوا علماء ولم يكونوا شعراء. شلي - على سبيل المثال - أظن أنه كان بالإمكان أن يصبح كيمويا أو عالما من علماء الطبيعة. وخذ مثالا آخر، الأستاذ آمز الدارتموثي، لقد اشتهر اسمه في أوروبا وأمريكا بكشوفه في ميدان علم النفس والبصريات، لو تحدثت إليه لتبين لك على التو أنك تتحدث إلى شاعر أو صوفي.» (وتنبهت إلى أن هذا بعينه يحدث في مسرحية «أجنحة فوق أوروبا» لصاحبيها روبرت نيكولاس وموريس براون؛ العالم فيه شاب شاعر مثالي يؤمن بشلي.)
وهنا دخل علينا مستر جورج أجاسز، وبينما كان يبحث على عجل مع الأستاذ هوايتهد بعض شئون جامعة هارفارد، التي كان مستر أجاسز مراقبا عليها، تهيأ لي الوقت لأتفرس في الغرفة؛ إنها حجرة كبيرة ذات سقف مدبب يستند إلى دعائم مكشوفة، بها موقد من الطوب يتسع لكتل خشبية يبلغ طول الواحدة منها ثلاث أقدام، وهذه الحجرة الدراسية تغطي جدرانها الكتب، والأريكة والمقاعد حول الموقد مكسوة باللون الأخضر الفاتح، وثيرة باردة، ولكن لهيب الكتل الخشبية كان يشع دفئا مستحبا في برودة أبريل الفاترة المتخلفة من فصل الشتاء، والمكتب وحافظة الأوراق تستقبل ضوء النهار استقبالا حسنا، ولكن مكان عمله كان بالتأكيد ذلك المقعد الكبير المنخفض بجوار النافذة الجنوبية الغربية، وكان معدا بلوح للكتابة يمكنه أن يضعه فوق حجره.
ومن تلك النافذة يطل المرء على رقعة فسيحة من سلاسل التلال والمراعي والغابات، وكان الوقت بعد ساعة الغروب، فكانت التلال المتشابكة تبدو في الأفق أرجوانية كالشفق، تحت سماء صافية في ربيع باكر. •••
وكانت مسز هوايتهد في حجرة الجلوس على مقعدها المتمدد، وما أكثر ما وقع من حوادث؛ لقد انقصمت رقبة ابنتهما جس وهي تنزلق فوق ثلوج جبل واشنجتن، وظلت أسابيع معلقة بين الحياة والموت، ولما تقشع هذا الهم أصيبت مسز هوايتهد بنوبة قلبية؛ فكانت شاحبة اللون، ولكن ما برحت تتقد فيها شرارة الحياة. كانت بقامتها المديدة وقدها النحيل وشعرها الأبيض وردائها الأسود تبدو سيدة جليلة أكثر مما تبدو سيدة عليلة، وإن كانت تتناول عشاءها على نضد «طاولة» في مرقدها. أما نحن فقد اتجهنا نحو مائدة الطعام، ولكن الباب بيننا وبينها كان مفتوحا بحيث تستطيع أن تشارك في الحديث، وكانت تفعل ذلك الفينة بعد الفينة.
وقبل البدء في العشاء كانت تطالع بصوت مرتفع، وفي حماسة بالغة، بعض الفقرات الأولى من «جون بروانز بودي» التي قرءوها جميعا وأحبوها جميعا. ودخلت علينا مسز نيكولز وقدمت إلينا، وهي سيدة إنجليزية أنيقة شابة من الطراز ذي الشعر الأسود والعيون الزرقاء، صريحة ودود.
وعلى مائدة الطعام، واصل الإنجليز الثلاثة موضوع الأدب الأمريكي مجاملة فيما يبدو لي، ثم اتجه الحديث وجهة أخرى عندما قال أحد الحاضرين إن «البيت المكشوف» إحدى روايات دكنز القليلة التي تعالج بعض الشيء المدى الفسيح والتنوع في الحياة الاجتماعية (مثل ما جاء في قصائد هويتمان من ذكر مطول لمختلف الحرف).
قال دكتور نيكولز: «أجل، كلها إلا في البداية.»
قال مستر أجاسز: «كان دكنز جيدا في نهاياته وأوساطه، ولكن ضعيف في بداياته. أما ثاكري فكان جيدا في البداية، ضعيفا بعد الوسط.»
وقال هوايتهد: «عندما كنت في كمبردج (وكان ذلك في سنة 1883م) لم يكن هناك من يقرأ دكنز، كان لا يستحق الاعتبار.»
فسألت مسز نيكولز: «وهل ذلك لضعف كتابته؟» - «إلى حد كبير فيما أحسب.» - «إن ثاكري يستطيع بالطبع أن يكتب.»
ثم ذكرت برأي تشسترتن فيه؛ ذلك أن «ثاكري» كان يعتقد أن أمورا كثيرة ستبقى، في حين أنها كانت فانية. «إنه لم يعرف من الجهلاء عددا يمكنه من معرفة الحقيقة.»
وقال هوايتهد: «لم يشرع رجال الجامعة والطبقات المثقفة في الاطلاع على دكنز بوجه عام - فيما أظن - إلا بعد عام 1890م.» - «وما الذي أظهره آنئذ؟ هل عاونه الاشتراكيون؟» - «كلا، لم يعاونوه البتة فيما أحسب.» - «كنت أفكر في الفابيين، وقد بدأ نشاطهم في عام 1884م.» - «كلا، بل لقد ظهر بنفسه، مع ظهور قانون معونة الفقراء، وإصلاح المساكن.»
ثم اتجه الحديث نحو إزالة أحياء الفقراء، وانتصار الاشتراكيين في الانتخابات لتولي مجلس لندن البلدي؛ مما دفع الحكومة إلى وضع مشروع ضخم لإزالة المساكن القديمة، وهو مشروع - كما يقول الأستاذ - «كانوا يلوحون به ولكنهم لم يقصدوا فعلا أن ينفذوه.» وجرت مقارنة بين أحياء لندن القديمة وأحياء نيويورك القديمة، وقيل إن أحياء لندن تتميز على الأقل بمبانيها التي تصلح للبقاء أكثر مما تصلح نظائرها في نيويورك، وإن أخطار النار فيها قليلة أو معدومة، وتعجبوا من وجود منازل خشبية، ولكنهم رأوا أنها أليق بطبيعتها بمناظرنا الطبيعية، ثم أضاف هوايتهد إلى ذلك قوله: «إن من أبرز ما يميز المدينة الأمريكية - كما لاحظت - براعة رجال المطافئ بها.»
ثم تساءلت قائلا: «قبل أن نترك موضوع الروائيين، ماذا حدث لجورج إليوت؟»
فأجاب الأستاذ: «لقد تدهورت، وإني لأعجب لماذا حدث ذلك، وقد كان كتابها «مدلمارش» كتابا عظيما.»
وتكلمت مسز هوايتهد من غرفة الجلوس قائلة: «هل حاولت قراءتها أخيرا؟»
قلت: «أجل.»
قالت: «وكذلك فعلت، ولقد كانت جليلة فيما أذكر، وما زالت في بعض مواضعها، ولكن ألم تجد لديها فقرات طويلة مملة ثقيلة؟»
قلت: «ما أحرج هذا السؤال! أجل لقد وجدت، بيد أني كنت في العقد الثالث من عمري أقسم بها، وهي لا تزال ترفع النصل بيمينها على الأقل.»
قالت مسز هوايتهد: «وكذلك كان الأمر معي، ولقد كففت عن حث صديقاتي في حماسة على مطالعتها.»
وقال هوايتهد: «هذا أمر خطر. لقد لبثت أعواما أمجد أنبياء العهد القديم، وحقا لم أطالعهم حديثا، ولكني أذكر أنهم كانوا في قمة المجد، ثم حاولت أن أقرأ أشعياء فلم أستطع أن أتابعه.» - «ماذا لمست فيه؟ هل صرفتك عنه الطريقة التي دونت بها التراجم المختلفة للعهد القديم؟» - «كلا، إنما صرفني عنه اللغو والابتعاد عن الموضوع، ولقد وجدت أني عندما أتحدث عن أنبياء العهد القديم ينبغي لي أن أسير في طريق آخر غير طريقي.» - «هل تذكر ما قال ستراتشي عن الأنبياء؟» - «كلا.» - «ذلك في مقاله عن كارليل؛ حيث يقول إن كارليل لا يقدر الفنانين، وإنه ليؤثر أن يذكر كنبي من الأنبياء. ولكي يكون المرء اليوم نبيا ينبغي أن يتحلى بصفات ثلاث؛ صوت مرتفع، ووجه جسور، وحدة غضب (وقد اقتبس ستراتشي هذه الصورة الفكاهية من أرستوفان، غير أن قيمتها لم تقل من أجل هذا). ولكن ستراتشي يتساءل: من ذا الذي يذكر الأنبياء على أية حال؟ ربما ذكرنا أشعياء وأرميا، ولكنهما كانا محظوظين جدا؛ إذ نقلتهما إلى الإنجليزية لجنة من الأساقفة في عهد إليزابث!»
وقالت مسز هوايتهد: «أذكر لهما ما قاله ستراتشي في بيتنا عن جين أوستن.» - «كان ذلك عندما كنا نقطن كامبردج، في نهاية عهدنا بها، وكان ستراتشي يقيم معنا، وقال: إنه قرأ جين أوستن. فقلت له: أنت تقرأ جين أوستن! ماذا عندها لك؟ فأجاب ستراتشي: «العاطفة!»
وقال أجاسز، وكأنه يفكر بصوت مرتفع: «إني أرى أن السخرية - برغم ما تقولون - لا تكون إلا عند الفشل في تحقيق الشفقة الإنسانية.»
وعلق الدكتور بقوله: «إن الإنجيل يخلو من الفكاهة بدرجة ملحوظة، وإني لأعجب لماذا؟»
وأجاب هوايتهد جادا: «وإنك لتكتئب أيضا إذا كان «يهوه» فوق رأسك دائما.»
وقال مستر أجاسز: «على النقيض التام للإغريق وفكاهتهم.»
وسألت مسز نيكولز قائلة: «وأين ذاك ؟» - «أرستوفان.»
وقال هوايتهد: «نعم، ولكني أعتقد أن الفكاهة جاءت متأخرة عن المرحلة التي ينتمي إليها الأنبياء. أعتقد أن الفكاهة أمر جاء أخيرا، وأن أرستوفان برع فيها خاصة، فهل عند هومر من الفكاهة قليل أو كثير؟»
وأضاف الدكتور قائلا: «وكتاب اليهود المقدس - فوق ذلك - كان أدبا دينيا.»
وقال هوايتهد: «أجل. وعندما تكون الكتابة جديدة لا يدون الناس ما يحسبونه تافها، وما برحت القبائل البدائية تعد سوء الحظ من التوافه. ويحدثنا بعض إخواننا الذين كانوا في أفريقيا مع الزنوج خلال الحرب كيف أن الزنوج قصدوا مرة جدول ماء في طلب شيء معين ثم عادوا وهم يقهقهون ضاحكين.
ماذا أضحكهم؟ لقد أطل من الماء فجأة تمساح واختطف أحد زملائهم، ولم يكن المخطوف من البيض، وإنما كان من زملائهم هم.»
وكان هذا الحديث يدور حينما كنا ننهض عن مائدة الطعام، ورذاذ الربيع يتساقط، ونسمع نغمه الموسيقي فوق رءوسنا؛ لأن سقف حجرة الجلوس، كسقف المكتب، يستند إلى دعامات من البلوط، ملونة باللون الأسود، يفصل بينها دهان أبيض، والأبواب الزجاجية الثلاثة ذات الشقين تفتح على بهو يواجه الغرب، وتطل عبر الأرض الخضراء والحديقة على «التلال الزرقاء» التي اشتقت ماساشوست اسمها الهندي منها، والغرفة فسيحة بهيجة، بها مدفأة ضخمة، ومقاعد وأرائك منتقاة من الماهوجاني، مكسوة بالحرير الفرنسي رمادي اللون؛ مما يشير إلى الطراز الإمبراطوري، والأزهار على الموائد الجانبية ورف المدفأة من السوسن والنسرين والنرجس وزنبق الوادي.
وقالت مسز هوايتهد، وقد انضمت إلى الحديث عند عودتنا إلى حجرة الجلوس:
لمس وردزورث عن ليدي مرغريت هول:
لو كان كل طيب من الناس ماهرا،
وكل ماهر منهم طيبا،
لكان هذا العالم أجمل مما نحلم أنه يمكن أن يكون،
ولكن الظاهر أنه قلما، بل يستحيل
الجمع بينهما كما ينبغي؛
فالطيب عند الماهر جاف،
والماهر عند الطيب فظ قليل الأدب.»
وتساءلت مسز نيكولز قائلة: «إذن فهل يجب على المصورين الماهرين أن يداهنوا من يصورونهم من الأشخاص الطيبين برغم غبائهم، بل وبساطتهم؟»
وهنا أبدى مستر أجاسز هذه الملاحظة: «إنه لما عرضت في نيويورك صور جون سارجنت لأشخاص أثرياء - ولكنهم غير مقبولين - ممن جلسوا للتصوير، همس في أذني أستاذ من هارفارد قائلا: «هذا هو الخلود الزائف».»
وعندئذ قالت مسز هوايتهد: «إن للجالسين للتصوير كذلك حقوقهم.» وتحدثت عن مغامراتهم الحديث مع أحد المصورين، وقالت: «إنه رسم لي صورة أولا، وجلست أحد عشر صباحا مميتا، حتى سألني أأود أن أرى سير عمله؟ وكنت بطبيعة الحال أعلم أن أمثال هذه الخطوط الأولى لا تسر البتة ، ولذا فلم أتوقع أن أرى شيئا يذكر. وسألني رأيي فيها. قلت: المرء - بالطبع - لا يعرف منظره. واستمر في عمله، وكأنه يعد شعرات رأسي واحدة واحدة، ولما أتم الصورة أطلع عليها زوجته، فقالت له: «إنها مزعجة! إنها لا تشبهها قط، ماذا تريد أن تفعل بها؟»» - «أريد أن أضعها في إطار وأقدمها لمستر هوايتهد على سبيل التذكار.» فقالت له: «لن تفعل، ولا بد أن تمزقها.» ولم أعلم قط ما انتهى إليه أمر الصورة، ولكنه أسر إلي بعد حين قائلا: «اعلمي أنني لم أكن قط مهتما بموضوع الصورة، إنما كان كل اهتمامي بوسيلة التعبير!»
ثم سأل مستر هوايتهد قائلا: «وماذا كان من أمر الصورة التي صورها لي؟»
فأجابت مسز نيكولز: «إنها تظهرك في السادسة من سنك.»
وقالت مسز هوايتهد: «أجل، ولقد ظل على هذه الصورة عشرين عاما بعد ذلك عندما تزوجت منه، ولعدة سنوات بعد هذا.» وابتسمت ابتسامة تدل على الذكريات القديمة، مشوبة بشيء من الكآبة الخفيفة، واستمرت قائلة: «وقد فهمت معناها، ولزمت الصمت!»
وقال الفيلسوف متلطفا: «كنت أتحدث إليه وهو يقوم بالتصوير، ولكنه كان يتوقف ليخط على الورق مذكراته، حتى اضطررت إلى أن أوجه إليه هذا السؤال: «هل أنت فنان أو سكرتير كاتب؟»
فأراد أن يحيرني إلى جدل يخصه.
قال لي إنه سافر إلى الخارج وعاد ومعه ضريح إيطالي، آية في الجمال فيما أحسب، وقد وضعه وسط المتحف، ثم غاب عن البلاد مرة أخرى لمدة عام، ولما عاد وجد أن الضريح قد اختفى، وأخيرا وجده في الطابق السفلي، ولكنه لم يستطع أن يرفعه مرة أخرى، وحاول أن يكسب تأييدي قائلا: «لو انضممت إلي أظن أن تأثيرك سيكون من القوة بحيث يكفي لرده إلى مكانته التي يستحقها.»
فسألته: «وأي فائدة مني؟ إنني لا أعرف شيئا عن الفن. كل ما أعرفه أن ضريحك آية في الجمال.» - «ذلك كل ما يعنيك أن تعرفه.» (مقتبسا سطرا من كيتس.) - «تعال وقل لهم ذلك.» - «ولكني أستطيع أن أقول هذا هنا دون أن أذهب إلى المتحف، ثم إن قولي لن يعينك؛ لأن المصلحة تميل إلى الحفريات، وضريحك قد يكون جميلا، ولكن إذا لم يثبت أن تاريخه يقع في حدود عشر سنوات من الفترة المطلوبة، فلن يخرج من الطابق السفلي».»
وقالت مسز هوايتهد: «ولكن لا تخطئ فهمنا، إنه عزيز علينا، ونحن به جد مغرمين.»
ثم اتجه الحديث إلى حركة بوشمان، التي كانت في طريقها إلى الظهور في ذلك الحين، صوتها مسموع، وإن يكن بغير ضجيج.
وسأل سائل: «ما هذه الحركة التي تجعل الكتوم ينتفض؟»
وقال هوايتهد شيئا عن حقيقتها في تعبير لا يخالجه التردد.
وقالت مسز هوايتهد: «هل سمعت عن زيارة الدكتور رتشارد كابوت وزوجه لجماعة المعترفين؟» - «كلا.»
في اللحظة الملائمة أومأ مستر بوشمان برأسه - وهو لا يعلم من هما - مشيرا إلى أن دورهما قد جاء ليؤديا الشهادة. فنهض الدكتور كابوت وقال في حزم: «أنا الدكتور رتشارد كابوت،
قلت: «الظاهر أنها ضرب من ضروب جيش الخلاص للطبقة العليا. في أوقات الاضطراب الاجتماعي يخرج الناس على العقائد القديمة ويتمسكون بالأوهام، والاعتراف الجنسي نقطة من نقاط المساومة.»
ثم عقبت على ذلك مسز هوايتهد قائلة: «وكذلك الأمر مع علماء التحليل النفساني. أليس مما لا مفر منه أن يتكون لديهم ذوق خاص من كل هذا التقصي البعيد لأسرار اللاشعور؟ أظنهم قد انتهوا بالتقصي لمجرد لذة التقصي. وما جدوى الفقير منه، الذي هو بحاجة إليه - بل أشد حاجة - من الغني، إن كانت به فائدة؟ إنني لا أرى عيادات مجانية لعلماء التحليل النفساني.
ومما يذهلني أن الأطباء النظاميين كثيرا ما يتناولون مرتبات ضعيفة، في حين أن هؤلاء العلماء النفسانيين يكسبون كثيرا. أليس التحليل النفساني نوعا من الشغف الشديد بنبش ما في عقول الآخرين، وحملهم على الإباحة بما ربما كان من الواجب عليهم أن يبوحوا به، ولكن لغير هذا الذي ينبش ويحاول أن يحمل الناس على الإباحة ؟»
ودافعت زوجة الدكتور نيكولز عن المهنة في غياب أصحابها بكفاية وجدارة، والظاهر أنها كانت تعرف الكثير عنها.
ثم قال الفيلسوف: «إن «كنيسة الملك» في بوسطن فريدة بين جميع فروع المذاهب البروتستانتية التي أعرفها. إنهم يسمحون لكل إنسان بالدخول ثم يعظونه - حتى أنا على سبيل المثال - إنها محترمة إلى درجة لا تصدق.»
ثم وجه إلي السؤال قائلا: «هل تعرف مكانا أكثر منها احتراما، حتى في بوسطن؟» - «ليس هناك مكان آخر غير شارع جبل فرنون، ألا يقول عنه هنري جيمس إنه أكثر شوارع أمريكا احتراما؟»
وقال الفيلسوف: «أخشى ألا يعيننا ذلك؛ لأن كنيسة الملك - كما أعلم - ملك لقوم يقطنون في شارع جبل فرنون، إنها نادرة الامتياز. إن هناك دينا خاصا لكنيسة الملك، دينا فريدا في نوعه في هذا الوجود، وأعتقد أن هذه الكنيسة هي المكان الصحيح الذي يتزوج فيه الإنسان.»
وعلقت مسز هوايتهد بقولها: «لقد ذهبنا إلى هذا المكان المقدس، وجلسنا جميعا، ثم اعتلى «أولتي»
2
منبرا عاليا، وتوقعنا بطبيعة الحال أن ننشد نشيدا دينيا، أو أن نتلو وردا، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، وأشهد أن أولتي قد انفجر بعد ذلك بالحديث، وهو أروع ما يكون.»
قال: «إننا في حرية مطلقة، كحرية هارفارد. هل تعرفون أن لهارفارد محاضرة موقوفة يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر؟ وكان المفروض أن يتحدث المحاضر بإسهاب في الأخطاء اللعينة لكنيسة روما، بل لقد دعوا قسيسا كاثوليكيا لكي يقوم بإلقائها.» - «وكيف يتغلبون على الشروط؟» - «في يسر شديد! ربما لا يستطيع المحاضر أن يكشف أي خطأ لعين في كنيسة روما، فلا ينتظر في هذه الحالة أن يتحدث فيها.» - «إن أحد أصدقائي القدامى يستسيغ ذلك. إنه الآن قسيس ولكنه كان فيما سبق أستاذا للتاريخ في هارفارد، وكان بعيد الصيت، وكنا نطلب العلم في الجامعة معا، واشتهرنا بتفوقنا، وكلانا من الغرب الأوسط وآباؤنا دكاترة، وكان حتى في ذلك الحين متعمقا في حكم الكنيسة الأنجليكانية العليا.»
فقال الفيلسوف: «لا بد أن يكون هو ذلك الرجل الذي كثيرا ما ألقاه في المكتبة. إننا على وشك أن نتبادل التحية.» - «أرجو أن تتبادلاها في المرة القادمة.» - «ألا يرجع انتماؤه إلى الكنيسة إلى عهد بعيد؟» - «حتى منذ ثلاثين عاما كنت أعجب - بجهالتي الدينية - كيف كان يحتفظ بعقيدته في الكنيسة الأنجليكانية العالية ومعرفته بفلاسفة ما وراء الطبيعة الألمان كل في ركن ذي منطق محكم.»
فقال الفيلسوف: «إنني لا أتصور ذلك من الصعوبة كما يبدو، كلنا يفعل ذلك، إنما العسير أن تحتفظ بهما في ركن واحد.»
المحاورة الثانية
22 من أبريل 1934م
انقضى أسبوعان آخران من فصل الربيع، وقد انتشر فوق غابات تلك الأرض الجبلية بساط من أوراق البراعم الخضراء على طول الأميال الأربعة التي تمتد من ماتابان إلى بيت آل هوايتهد، وبلغت الدار هذه المرة قبل السابعة بقليل، وطلبت إلى سائق العربة - كالمرة السابقة - أن يعود في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة؛ حرصا على صحة مسز هوايتهد الضعيفة. وهو طلب ألغيته فيما بعد.
وقد جيء بها منذ برهة إلى أريكتها الممتدة في حجرة الجلوس على مقعد ذي عجلات، وقام بذلك بهمة ونشاط الأستاذ هوايتهد وهو في العقد الثامن من عمره، ثم أخذ يتحرك هنا وهناك بأمرها، يرتب المقاعد والأضواء.
وعتبا علي انصرافي مبكرا في المرة السالفة. - «وقال «أولتي»: هل أثقلنا عليه؟ وهل نفدت قدرته على احتمالنا؟»
وقلت له: «ربما كان عليك أن تحرر مقالا للغد، وإن المرء ليتوقع ذلك حينما يحضر صحفي للعشاء، ولكن جريس دي فريز تقول لي: إنه لا بد لك أن تأوي إلى فراشك مبكرا.» - «ولكن جريس دي فريز أخبرتني أنك أنت التي لا بد أن تأوي إلى فراشك مبكرة، أو ما يشبه ذلك. لقد تحاملت على نفسي كثيرا حينما طلبت إلى سائق العربة أن يعود في الساعة التاسعة وأربعين دقيقة.» - «إذن لا تفعل ذلك مرة أخرى!» - «ولكني فعلت ذلك مرة أخرى.» - «إذن ألغ هذا الأمر.»
وألغيته بالتليفون.
وعلى شيء من التعجل قالت لي: «إن زوجة الأستاذ مورجان سوف تحضر (أما المسكين فلن يستطيع الحضور، فهو في المستشفى، يعالج من السل كما تعلم) وستحضر أيضا مسز نيكولز التي التقيت بها هنا في المرة الماضية (أما الدكتور فقد رحل إلى آن أربر للدراسة) والأستاذ روزنستك هسي، وهو ألماني، ومستر أجاسز وزوجه، وقد كانا هنا أيضا في المرة الثانية، وزوجه سيدة مهذبة محترمة من إنجلترا الجديدة، وهي نموذج لطرازها من السيدات. أما هو فكما أقول له (في فكاهة بيننا) فيبدو كرجل الشارع الباريسي، وهو بيوريتاني مستقيم من بوسطن، وعضو بطبيعة الحال في هيئة الملاحظين بهارفارد، وهو قدير على رد الفكاهة بالفكاهة، بل يردها بأحسن منها، فهو يقول: عندما أكون في باريس يكون ضميري ببوريتانيا، ولكن ذلك لا يصلح في بوسطن؛ ومن ثم فأنا أتحمل المثالب دائما.»
وسرعان ما التأم الجمع، وقدم العشاء لمسز هوايتهد ومسز أجاسز على مائدة صغيرة في حجرة الجلوس، أما بقيتنا فقد توجهنا إلى غرفة الطعام.
وقال أحد الضيوف للمضيف: «عرفت أنك تشبه الرئيس روزفلت بأغسطس قيصر، ولكني جمهوري، لا أحتمل هذا الرجل.»
وتلفت هوايتهد إلى المتكلم وفي نظرته تردد واضح، ثم أجاب بنغمته اللطيفة: «لم يحدث في التاريخ إلا مرتين - فيما أعلم - جلس فيهما على العرش رجل مهذب.» فقالت مسز نيكولز في لطف؛ لأنها رعية بريطانية: «العرش، يجب أن يرضي أي جمهوري معاد.»
وتساءل روزنستك هسي، ولم يغب عن ذهنه ولهلم من أسرة «هوهنزلرن» الذي يمت إلى إدوارد بصلة قرابة، قال: «ألم يكن الملك إدوارد السابع رجلا مهذبا؟» وأجاب الفيلسوف بقوله: «ما أبعد ذلك عن الصواب، وقد نشأ نشأة سيئة، ولم يستطع أن يجاري قيصرا.»
قالت مسز أجاسز: «إن أحدا لا يستطيع أن يجاري قيصرا، ثم إنه كان خال قيصر. كانت مسألة عائلية، وكانت علاقة الخال بابن أخته تجعل الأمر مستحيلا.» - «ليس هذا لب الموضوع، إنما كان من واجب إدوارد أن يجاري قيصرا؛ ومن أجل هذا دفعنا له المال، ودفعناه بوفرة وسخاء. كلا، لقد كان سيئ التربية! لما ذهب إلى الهند وهو أمير ويلز ثار في وجه قائد عجوز جاء إلى الاستعراض في زي غير ملائم، وقال في ثورته: أنتم أيها القدامى تتحللون في عاداتكم هنا. فقال الجندي العجوز وهو يقرع ذراعه الخشبية بيده الأخرى السليمة: بما في ذلك هذه الذراع يا صاحب الجلالة!»
وعلقت مسز مورجان بقولها: «وكأن إدوارد هو الرجل الذي يتحدث عن العادات المنحلة.» - «أستطيع أن أتسامح معه في هذا؛ فقد كانت أمه على شيء من الصلف، وإنما كان من الواجب عليه أن يرعى قواعد الآداب أمام الجمهور. يؤسفني أن أقول إني لم أعبأ به كثيرا. وقد كانوا يعرفون الآداب الملكية خيرا من ذلك القرن الثامن عشر؛ كان هناك رجل من الوجهاء الأقوياء يدعى توم كوك، وكانت له ضياع شاسعة، وكان يمقت جورج الثالث، وفي حفل عشاء ضخم اقترح أحد الحاضرين أن يشرب المحتفلون نخب الملك، فانفجر توم كوك قائلا: لن أشرب نخب ظالم مستبد! وكان قولا مثيرا، وتطلع الحاضرون في شغف إلى ما عساه يحدث، ولكن لما كان العرش في ذلك الحين قد بدأ يترنح قليلا، فإن كل ما حدث أن وصل إلى توم كوك خطاب من جلالة الملك ينبئه بأنه لن يقدم إلى المحاكمة؛ لأن جلالته قد فهم «الروح» التي أبديت بها الملاحظة!»
وانتقل الحديث إلى إخراج جرانفل باركر ل «نساء طروادة» ليوربديز على مسرح هارفارد في عام 1915م، ثم تجمع حديث المائدة في هدوء صامت لحماية الرجل الألماني الموجود من القلق الذي كان يساور كل عقل في ذلك الحين، القلق من أن المسرحية كانت أداء معاصرا لرواية «النساء البلجيكيات»؛ ومن أجل هذا مثلت.
وقال قائل : «إن المأساة أشعرت المشاهدين بالإثم المشترك في جميع الحروب.»
وسأل هوايتهد: «هل شاهدها أحد من الحاضرين؟» - «نعم، ولقد قال أحد أساتذتي القدامى في قسم اللغة اليونانية، وكان يجلس إلى جواري: هذه هزيمة مطلقة لي، لقد قرأت «نساء طروادة» مرارا وتكرارا، وعلمتها، ولو سألتني هذا الصباح لقلت لك إنها مليئة بالأخطاء، وإنها ليست في الحق مسرحية غاية في الجودة، ولكن ها هي ذي الآن، جد رائعة، إنك لا تعرف المسرحية إلا بعد أن تشهد تمثيلها.»
وقال مستر أجاسز من غرفة الجلوس: «ومع ذلك فقد قيل إن قوة الأداء يرجع خمسة وعشرون في المائة منها إلى يوربديز، وخمسة وسبعون في المائة إلى جرانفل باركر.»
وقالت مسز أجاسز: «بل إني لأرى عكس هذه النسبة.»
وقال هوايتهد: «إني أعرف يوربديز، وأرى أن خمسين في المائة من الأداء يرجع إليه.»
وانسحبنا من المائدة إلى غرفة الجلوس لنتناول القهوة، واتجه الحديث إلى كيفية الوصول إلى حكومة جيدة، وقال أحدهم إنه قد وجدت دول كثيرة تستند إلى القوة. والواقع أنه لم يوجد من الدول غير هذا النوع، على صورة من الصور، ولكن لماذا لم توجد دولة ثقافية، فتستبدل بحكومة المالكين حكومة الخالقين؟
فقال الأستاذ هوايتهد: «هذا حق! ولما كان المالكون يهتمون بالشئون المادية، فإنهم يستطيعون الاستيلاء على الحكومة.»
وسألت: «أليس ذلك هو السبب في أنهم يديرونها عادة إدارة سيئة، والسبب في وجود طبقات أنانية حاكمة، والسبب في أنهم يقومون بأعمال تهورية، ولا يأبهون بالفن إلا قليلا، ويتبعون سياسات ضعاف العقول؟ ولكن ذلك لأنهم إنما يعبرون عن غرائز التملك. كيف نستطيع أن نجعل الدوافع الخلاقة تدير دفة الحكومة؟»
فقال هوايتهد: «لا بد لذلك أن يكون الحكم شائقا، ومن رأيي أن سياسة الدولة في الوقت الحاضر ليس فيها من التشويق ما يكفي لاهتمام الشاعر أو الفنان، لا بد أن يكون الحكم شائقا كالشعر.»
وقال روزنستك هسي: «أعرف قصيدة واحدة تهتم بمثل هذه الموضوعات، وهي لجيته، ولم تترجم قط إلى الإنجليزية فيما أعلم، وهو في هذه القصيدة يروي استمتاعه بالعمل الإداري الذي قام به في ويمار، كتعبيد الطرق، والتنظيم الحربي، وأعمال التعدين.»
وسألت: «وما عنوانها؟» - «إلمناو.» - «ألم تكتب لعيد من أعياد ميلاد الدوق كارل أغسطس؟» - «بلى. هل قرأتها؟» - «حدث ذلك منذ عهد قريب، بيد أن هناك صعوبة؛ فقد استمتع جيته بالإدارة، وأجادها، ولكنه أجادها أكثر مما ينبغي، وانغمس فيها إلى حد يعرقل قرض الشعر؛ ومن أجل هذا فر إلى إيطاليا.»
وقال هوايتهد: «إن ما نريده فيما أحسب رأس للدولة مطمئن إلى درجة معتدلة، بشرط ألا يبالغ في طمأنينته.» - «وما رأيك في الأباطرة الأنطونيين؟» - «كانوا بارعين في الإدارة، وكان نظاما فريدا ينتقل من حاكم إلى حاكم بالتعيين وتؤمنه أوليجاركية عسكرية، ومن عجب أن أكثرهم تقديرا أقلهم استحقاقا له؛ أقصد ماركس أوريليوس؛ لأنه شذ عن القاعدة بتعيينه ابنه كومودس، وكان تعيينا سيئا، ولولا أن ماركس كتب تلك المذكرات الشائقة، التي برغم ما فيها من متعة وعلم، لا تمت إلى موضوعنا بصلة، لولا ذلك لساءت ذكراه من بعده، لقد كان من واجبه أن يجد خلفا طيبا.» - «وما رأيك في جدارة بركليز؟» - «إنه يدعو إلى الإعجاب؛ فهو رأس دولة انتخب في منافسة سياسية حرة، وكان من الممكن زواله بمنافسة سياسية حرة مثلها.»
وعاتبته زوجه بقولها: «عزيزي أولتي، إنك تحمل على ماركس لأنه تطفل على أثيرتك الفلسفة التي لا ينتمي إليها.» - «كلا، إني لا أقول بأنه لا ينتمي إليها، وإني لأحب أن أغامر بعيدا عن الفلسفة لو تضاعفت سنو حياتي ومكنتني من إجراء التجارب.» - «إلى أين؟ على سبيل المثال.» - «أحب مثلا أن أكون رئيسا لمحل تجاري ضخم.» - «أنت؟ تدير محل جوردان مارش!» - «لا أقول في بوسطن، ولكن في لندن.» - «وتنافس محل سلفردج؟» - «لا يتحتم ذلك، فربما جاملني مستر سلفردج بموته وخلف لي محله لإدارته.» - «لكنه مات فعلا يا عزيزي، وها أنت ذا لا تدير محله!» - «كلا، لا أظنه قد مات، ولأرجع في ذلك إلى الدليل.» وذهب إلى مكتبه ليبحث عنه.
وقالت مسز هوايتهد غاضبة: «إني لأعجب لك! أنت تريد أن تشتغل بالحرير والأطلس، وأحسب أنك لتحب ذلك.» - «أؤكد لك يا عزيزتي أن شغفي بالإدارة أكثر من ذلك بعدا عن الاتصال بشخصي.»
ثم عاد في الحال ومعه الدليل مفتوحا في الصفحة المطلوبة.
وقرأ بضعة مقتطفات قائلا: «إنه ما يزال حيا، وهذا هو اسمه، جوردن سلفردج.»
وقالت مسز هوايتهد: «ولكن هذا ولده. أليس كذلك؟» - «لا بد أن يكون كذلك يا عزيزتي.» - «أود أن أعرف يا أستاذ هوايتهد أي أثر في الجمهور يكون لك في محل تجاري؟» - «الذوق، والتدبير المنزلي، وكيف يستطيع المرء أن يعيش بحاجات أقل وأحسن.» - «حينئذ يلتهمك منافسوك ويبتلعونك.» - «لا أظن ذلك، فإن مما يبهرني في هذا العمل أن أبتعد عن بطونهم.»
المحاورة الثالثة
24 من يناير 1935م
انتقل آل هوايتهد من كانتون عائدين إلى مسكنهم السابق في راندون هول عند «مموريال درايف» المطل على نهر تشارلز بكمبردج.
وكان اليوم التالي لهبوب عاصفة ثلجية شديدة. وصفا الجو، وهبت ريح شديدة البرودة من الشمال الغربي، وتكدست الثلوج في الطرقات على عمق قدمين أو ثلاث، ولم تمهد الطرق بين ميدان هارفارد وتشارلز، فخضت فيها وتعثرت، وتذكرت ما قاله دافيد ماكورد على نهج روبرت لويس ستيفنسن:
في بوسطن عندما يتساقط الثلج في المساء،
يزيلونه في أضواء الشموع،
والأمر على نقيض ذلك في كمبردج؛
يتساقط الثلج، فيتركونه مكدسا في مكانه.
وكان العشاء في الساعة السابعة والربع، ولم يحضر سوى أفراد الأسرة؛ الأستاذ هوايتهد وزوجه، ومارجوت زوجة ولدهما (مسز نورث هوايتهد)، وأريك حفيدهما، وهو صبي أشقر اللون، أزرق العينين، في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره. وكانت مسز هوايتهد أوفر نشاطا، فرأيناها تدخل وتخرج من المكتبة عدة مرات.
وكان حديث المائدة عن حياتهم في كمبردج بإنجلترا، بالموازنة مع حياتهم في كمبردج بماساشوست، وعن المسرح الإنجليزي كما عرفوه في لندن، وقد شاهدوا حفلة من أولى الحفلات التي مثلت فيها «مسز تانكري الثانية» لبنرو، وفيها مسز باترك كامبل التي قامت بالطبع بدور بولا ثانكري في فاتحة المسرحية، وقالوا إن كل من شاهد المسرحية خرج من المسرح مذهولا، ويكاد ينعقد لسانه مما عد في ذلك الحين صراحة مكشوفة، وبرغم هذا، فإنه منذ ست سنوات، عندما بعثت المسرحية من جديد، وأجادت تمثيلها فرقة ممتازة، فترت حرارتها، وسخر منها النظارة فعلا. فيم كان كل ما ثار من ضجيج؟ وماذا في الموقف لا يمكن بسطه في حديث ساعتين مع طبيب نفساني خبير؟
وتفرقنا بعد العشاء، فاتجهت السيدات إلى المكتبة، وانصرفت مع الأستاذ هوايتهد إلى غرفة الجلوس، حيث تناولنا القهوة، وتحدث قليلا عن الصحافة، وتعرضنا لموضوع الشهرة التي يجلبها النشر الآلي، ولماذا باتت كنبات صيفي سريع النمو بعدما كانت كشجرة من أشجار البلوط تحتاج لنموها إلى ثمانين عاما.
وتساءلت: «هل هناك قانون روحاني يعوض عازف البيان الصادق المجيد الذي لا يقيم غير حفلين في العام إزاء العازف المحترف الذي يقيم مائتي حفل في العام؟»
فقال: «إنني أميل إلى الاعتقاد بأن من المآسي الدائمة في الحياة أن الصفة الجيدة لا تتغلب على ما يتلوها في الجودة.»
ثم سأل: «لماذا تكون عناوين الصحافة مثيرة للحس؟» - «إنها إعلانات لبيع المقالات.» - «إنها كثيرا ما تعطي القارئ فكرة خاطئة عما تحتويه الصحيفة.» - «هل تظن ذلك؟ إنني أتصور في بعض الأيام أنها تعويض مستحدث عن الملاعب الرياضية الكبرى التي كانت معروفة أيام الرومان، والتي كان يصارع فيها اللاعبون المستشهدون الحيوانات المفترسة.»
وبدا عليه الجد ولم يجادل الرأي.
وعدنا إلى المكتبة، وقد سحبت الستائر الثقيلة المصنوعة من القطيفة السوداء فوق النوافذ الطويلة التي كانت تطل على النهر وعلى «ميدان الجند»، وكانت نار الحطب تشتعل في الموقد، تعلوها مدخنة سوداء من الخشب المنقوش على طراز كلاسيكي، وكانت حوائط الحجرة الطويلة الفسيحة مغطاة بالكتب من ثلاث جهات، والحجرة مضاءة بالمصابيح بصورة بهيجة. هذه هي غرفة الدراسة الخاصة بالفيلسوف، وله فيها مقعد للقراءة ومكتب في زاوية مريحة من زواياها.
ولما دار الحديث سنحت الفرصة للسؤال إن كان الحاضرون قد لاحظوا عقما في الفنون المبدعة بين أهل بوسطن. وسرعان ما تبين أنهم قد لاحظوا ذلك.
وطرحت مسز هوايتهد هذا السؤال في شيء من الحياء: «هل لذلك علاقة بفقدانهم سيطرتهم السياسية؟»
قلت: «لقد عالج هذا الموضوع فردريك ستمسن، وهو محام من بوسطن، وروائي، وكان في وقت من الأوقات سفيرا لنا في الأرجنتين، في سيرة حياته بقلمه التي كتبها تحت عنوان «بلادي الولايات المتحدة». وقد نشر الكتاب منذ نحو أربعة أعوام، وجاء فيه أن ثروة طائلة قد جمعت في بوسطن في الستين سنة الأولى للجمهورية، ولكن الأثرياء بدلا من أن يثقوا في أبنائهم ويزجوا بهم مخاطرين بأنفسهم في بحار الحياة، كما فعل آباؤهم من قبلهم، حبسوا أموالهم في الأسهم والسندات حتى لا يبددها ورثتهم من بعدهم ؛ وكان من أثر ذلك أن قتلوا في أبنائهم القدرة على الابتكار.»
فقال الأستاذ: «إنني أجد بين الأثرياء القلائل الذين التقيت بهم حالة من الذعر مما تقوم به إدارة روزفلت - بحكمة على ما أظن - ولا أجد لديهم استعدادا لفهمه.»
قلت: «تبين ذلك عندما داهمتنا حرب الطبقات في عام 1912م عند إضراب لورنس الأول، كانت ثورة كبرى، وقعد بهم الخوف عن إدراكها.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن نساءهم جبانات، وإن ذلك ليبدو في بيوتهن، فإن كل بيت يشبه الآخر في أثاثه، ولا تجرؤ إحداهن على المخالفة، والتشابه مميت حتى إني كلما زرت بيتا من هذه البيوت كدت أصرخ.»
ووافق على ذلك قائلا: «إن أمثلة الذوق المبتذل في البيوت في إنجلترا أكثر منها هنا، ولكنها على الأقل فانية فريدة، وداخلها ينم عن شخصية أصحابها، كما أن المحلات التجارية هنا لا تعرض الأشياء التي تقابل اختلاف الأذواق، وعلى المرء أن يأخذ ما يجد.»
وقالت: «الاستثناء الملحوظ هو بيت جريس دي فريز؛ ففيه ذوق وشخصية فردية.»
ثم أثير السؤال عما إذا كانت اللغة المشتركة تعين أو تعوق التفاهم بين الإنجليز والأمريكان، وقد عبر هوايتهد منذ قدومه إلى هارفارد، وجلبرت مري عندما كان هنا أخيرا قادما من أكسفورد في عام 1926م، عبرا عن رأيهما بأن اللغة المشتركة تخدع الشعبين؛ إذ يحسبان أنهما متشابهان، في حين أن الخلاف بينهما بعيد المدى، ويؤدي ذلك فعلا إلى سوء التفاهم.
وقال: «كنت أقرأ كتاب «كرمويل » لجون بكان، والرأي الذي يصر عليه هو أن كرمويل وشارل الأول كلاهما قد هزم، ثم كانت فترة انتقال ما بين عام 1680م وعام 1737م حينما كان هناك فراغ ثقافي يكاد يكون تاما، ثم وقفت إنجلترا على قدميها مرة أخرى، وانطلقت في القرن الثامن عشر، ولكنها سارت في طريق الأرستقراطية وملكية الأرض، التي امتدت حتى الانقلاب الصناعي في القرن التاسع عشر وتداخلت فيه، فاختلطت الأرستقراطية القديمة بالأرستقراطية الحديثة، ولكن تاريخكم الأمريكي ينبع من المنشقين من الطبقة الوسطى البيوريتانية المصطبغة بصبغة ديموقراطية قوية. إن ثورة كرمويل لم تهزم في أمريكا؛ ومن أجل هذا تطور القطران في اتجاهين مختلفين جد الاختلاف. ومع ذلك فما أعجب علم الاجتماع! فإنه بالنسبة إلى الصعوبة التي تلاقيها المواهب الفردية في إنجلترا في شق طريقها صعودا إلى الطبقات العليا، نجد أن الناس يلزمون طبقاتهم، ويرتفعون بها، حتى إنا لنجد حركة عمالية يقودها رجال من طبقة العمال قيادة قديرة. فلما تولى حزب العمال الحكم في عام 1924م، وفي عام 1929م كانوا مؤهلين غاية التأهيل لحمل أعباء جميع الوزارات الإمبراطورية، بما فيها وزارة الشئون الخارجية.» - «إن حركتنا العمالية ما زالت بعيدة عن ذلك جدا.»
فقال هوايتهد: «نعم. أوليس ذلك من الأسباب التي تمكن أصحاب المواهب الاستثنائية عندكم من سرعة الارتفاع خلال الطبقات العليا؟ إنهم يرتفعون أفرادا، ولكنهم يخلفون طبقاتهم وراءهم؛ ومن ثم فإن الأرستقراطية الإنجليزية تخلق ديموقراطية حقيقية، في حين أن الديمقراطية الأمريكية تخلق نوعا من أنواع الأرستقراطية.»
وقال إن طالبا جامعيا شابا في مدرسة اللاهوت قد استشاره فيمن يقرأ من آباء الكنيسة الأوائل. - «وسألته: كم لبث أسلافه في هذه البلاد؟ فأجاب بأنه أتى إلى هنا من النرويج وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكان أبوه قسيسا ريفيا، أفقر من أن يعلمه تعليما ثانويا، فأرسله إلى وسكنسن أو منيسوتا إلى أحد المعارف، الذي أوجد له عملا في مزرعة لمدة عام، ثم التحق بمدرسة عالية، ونجح فيها، وشق طريقه إلى كلية صغيرة، وحصل على منحة علمية، ثم جاء إلى هارفارد، وهنا أخذ يبحث في أوريجن وتوماس أكويناس. وعرفت أنهم ينظرون في أمر تعيينه معلما بالجامعة، ولا شك في أنه كان محظوظا في ذلك؛ فإن عنصر الحظ قوي في مصائر الناس، ولكن لا بد أيضا أن يكون قد عومل معاملة تنطوي على عطف شديد، وأود أن أخلص من ذلك إلى أنني لا أعرف مكانا آخر في الدنيا يمكن أن يحدث فيه مثل ذلك.»
وقال إن من رأيه أننا لم نستكشف بعد في جلاء قدرة الأديرة على إبراز العناصر الحساسة وذات الخيال القوي من البشر، وذلك بحمايتها في العصور الوسطى. كان العالم الخارجي عنيفا، ولكن هنا كان عالم الفكر يسير معه جنبا إلى جنب، وكان له نفوذ عظيم. وقد وجد العلماء المتواضعون الفقراء في هذه الأديرة ملجأ لهم، ثم ألاحظ بعد ذلك كيف سارت الدراسة في المعاهد؛ فمنذ فترة الانتقال من القرن الخامس إلى القرن السادس، حينما أسس القديس بندكت نظامه الديني، حتى القرن الرابع عشر - أي ما يقرب من ألف عام - كان كل عمل عقلي لا يمكن أن يؤدى إلا في حماية الأديرة، ولكن إذا ما بلغنا عهد إرازمس، نجد أنه لا يكاد يذكر راهبا دون أن ينحرف وينعته بصفة تنم عن الازدراء. ولست أعرف إلى متى تحتفظ جامعاتنا بقوتها، إنها اليوم ذائعة الصيت ولها نفوذ عظيم، لكن التعليم قد يبلغ حدا من الإجادة أبعد مما نطلب، إنه يستطيع أن يثبت فينا التقاليد ويفقدنا الروح، وفي ظني أن جامعة كمبردج التي أتقنت تدريس الرياضيات، هي التي أخرجت من بين طلابها كثرة من الشعراء الإنجليز، في حين أن أكسفورد التي تخصصت في دراسة العلوم الإنسانية، قد أخرجت كتابا بلغوا في جملتهم حدا عاليا من التوسط، وأعتقد أن المرء إذا بحث في الأدب مع أستاذ عالم ذكي مرتين أو ثلاث مرات كل أسبوع لعدة سنوات، تحدث عنه من جميع نواحيه ولا يرى داعيا للكتابة فيه، إنه عندئذ يدرك فوق ما ينبغي العمل الجيد الذي تم أداؤه في وفرة وبإتقان، فيقدسه أكثر مما يستحق ثم يقول: «من أكون حتى أبز هؤلاء؟»
وأخذنا نتلهى محاولين أن نتبين هل الشعراء الإنجليز قد نشئوا في قطاعات بذاتها، فسادوا في بقاع جغرافية معينة، والظاهر أن خط سيرهم قد امتد من البحيرات جنوبا إلى وسط الجزيرة شرقي محور رأسي متوسط، ثم إلى أنجليا الشرقية؛ لكي يتركزوا بطبيعة الحال في لندن.
ثم أخذ يتحدث عن الجامعات الأمريكية متعرضا لوظائفها العامة، وقال: «إنني لا أتفق مع أبراهام فلكسز في رأيه بضرورة وجود معاهد مستقلة موزعة في أنحاء البلاد كل منها يقدم لونا معينا من التدريب،
1
ويبدو لي أنه من الخير لنا أن نتبع نظاما أكثر من ذلك مرونة، نظاما يستطيع فيه الطالب الذي يتلقى تدريبا فنيا أن يحصل على دراسات ثقافية أيضا إذا أراد وإذا أحس الحاجة إليها، ويخيل إلي أن جامعاتكم الكبرى في الوسط الغربي تفعل ذلك بصورة مقبولة، وهذه المرونة تمكن الطالب من التلفت حواليه واستنشاق الهواء. إن العقول لا تنقسم أنواعا معينة بالسهولة التي يراها بعض زملائي فيما يبدو لي، وأنا قوي الشك في الرجل الذي يصفونه بأنه من طراز «أ»؛ أنه يستطيع أن يستعيد ما تريد أن تسمعه منه في امتحان، ولما كان الامتحان وسيلة تقريبية من وسائل الاختبار، فلا بد لك أن تمنحه درجة «أ» التي يستحقها إذا استعاد لك ما تريد، ولكن القدرة - ولا أقول الإرادة - على استعادة ما ينتظر منه تبعث الشك في ضآلتها وسطحيتها. أما الرجل من طراز «ب» فقد يكون مهوش التفكير إلى حد ما، بيد أن تهويش التفكير شرط سابق لاستقلال الرأي، وقد يكون فعلا رأيا مستقلا مبكرا في أولى مراحله، وربما لا يتجاوز - بطبيعة الحال - مرحلة التهويش، ولكن حينما يعقب علي زملائي لأني أمنح درجة «أ» لأكثر مما يحبون، ويصمونني برقة القلب، أقول إنني لا أود أن ينسب إلي أنني كنت الأستاذ الذي ثبط الهمة لدى شاب ذي موهبة ناشئة.»
المحاورة الرابعة
25 من مارس 1935م
تناولت الشاي مع الأستاذ هوايتهد وزوجه في كمبردج، ولم يثمر بعد شجر الجميز الذي يمتد في صفين على طول طريق «مموريال درايف»، ولكن شمس الربيع الباكر قد أرسلت ضوءها الذهبي الفاتر، والهواء برغم برودته الخفيفة ساكن لطيف، والنهر أزرق صقيل، لا يهز سكونه طلبة الكلية بمجاديفهم.
وقدم لنا الشاي في حجرة جلوسهما، ثم أخرجا مجلدين قديمين من الرسائل، عنوانهما «ثلاثة أجيال من النساء الإنجليزيات»؛ مسز جون تيلر، ومسز سارة أوستن، والسيدة دف جوردن. جمعتها جانت دف جوردن.
وقال الأستاذ: «أعتقد أن الصورة التي تحصل عليها عن عصر من العصور من الرسائل الخاصة التي كتبها أصحابها تلقائيا ودون التفكير في نشرها، أصدق من الصورة التي تحصل عليها من القصص في ذلك العصر وأحسن في أكثر الحالات مما تحصل عليه من مؤرخين.»
وقالت زوجته: «وفي هذا الباب تفضل السيدات الرجال.»
فوافقها قائلا: «أفضل بالتأكيد من المؤلفين الذين يتبادلون الرسائل بنية نشرها في المستقبل.» - «كان أدمندجوس يشكو من أن الرسائل التي كان يكتبها إليه روبرت لويس ستيفنسن لا تنبئه بشيء عما كان يود أن يعرفه عن صديقه، ولو أنها كانت قطعا من الفن والأدب؛ مما حفز كارولين ولز إلى تأليف تلك القصة الشعرية التي ردد فيها قوله: «لا بد أن يظهر المرء بمظهر حسن فيما يطبع.»»
وقرأ الأستاذ جهرا قطعة كتبتها سارة أوستن إلى م. ب. سنت هيلير في 7 يوليو من عام 1856م (الجزء الثاني، صفحة 42) عن بسمارك فيها تنبؤ يدعو إلى العجب، قالت: ... لأن هذه الممالك الجرمانية الصغيرة، التي تحكم حكما يدعو إلى الإعجاب، لا بد أن تختفي، وسيعم قريبا حكم القوة المسلحة التي بدأته الثورة الفرنسية والحروب التي أعقبتها، وسوف تهزمكم بسلاحكم تلميذتكم بروسيا، ولن يتردد م. دي بسمارك في استخدام العنف والخداع والوسائل الوضيعة، وسوف يصبح كفئا على الأقل لكل ما تملكون. إن أحرارنا الأغبياء يصرون على رؤية الحرية في بروسيا، والاستبداد في النمسا، ولكن هؤلاء القوم لهم كلمة واحدة، واسم واحد.
ويؤسفني أن تنبؤاتي قد صدقت، وسوف يمحو الوحوش الذين لا يعرفون غير قانون القوة الولايات المستقلة الصغيرة ويبتلعونها ابتلاعا.
ثم ألقى الكتاب وقال: «وقد صدق ذلك كله في دقة بالغة، ولم يكن مجرد تنبؤ غامض بالكارثة،
حدث في عام 48 قد وقع، ولكن قل من أدرك مقدار ما كان ينطوي عليه من جد.»
وعلقت على ذلك بقولي: «إن جانت دف جوردن روس التي جمعت هذه الرسائل تبدو كأنها من معارفنا القدامى؛ كانت صديقة صغيرة لجورج مرديث، وهي السيدة في قصة «الحب الحديث»، وهي روز جوسلن في قصة «إيفان هارنجتن»، وهي جانت إلشستر في قصة «مغامرات هاري رتشمند»، بيد أن صفاتها أقل جاذبية من صفات أولئك البطلات في الشعر وفي القصص.»
وسألت مسز هوايتهد قائلة: «ألم تكن لها قصة مع ويدا؟» - «كانت تقسو على ذلك الروائي الذي أقام في شارع بوند، وكانت قطعا إحدى تلك الشخصيات الجبارة في القرن التاسع عشر بإنجلترا التي كانت تفعل ما تشاء، فيتقبله الناس قبولا حسنا.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن تلك الأسرات الحرة العظيمة لم تكن أبدا قليلة العدد، وإن تكن فقيرة في أكثر الحالات، وكانت تستطيع أن تتجول في كل مكان في إنجلترا وفي القارة الأوروبية، وتعرف كل من ينتمي إلى حركة التحرير، وكانت الأفكار جواز المرور، وما تزال هذه الحالة قائمة إلى حد ما.»
فقال: «عندما تقابل رجلا من الأحرار بارزا، فإنك عادة تجد من ورائه جماعة منشقة على العقائد السائدة، وكثيرا ما يكونون من صغار القوم، ومن التجار، ومن إليهم. ولننتقل الآن إلى موضوع آخر؛ لقد قرأنا لك مقالين بسرور بالغ، أحدهما بتوقيعك في مجلة ييل عن سبيليس، والآخر من غير توقيع في مجلة جلوب عن حركة هتلر نحو إعادة التسليح، وقد أبديت في هذا المقال رأيا معقولا في الموضوع على ما نظن، ولست موسيقيا، وإن تكن زوجي كذلك، ولكنك استطعت أن تثير اهتمامي بمقالك عن سبيليس إلى درجة قصوى. لقد تناولت تلك الشخصية الهامة وعرضتها في صيغة جعلتها شخصية عالمية، وتناولك للجانب الاجتماعي بتلك اللغة المادية جعل موضوع الدراسة كله حيا.» - «إن أشد ما كان يثيره حسه في الحديث بيننا أن كلينا كان يعرف «أحاديث مع جيته» لمؤلفه أكرمان من أوله إلى آخره، وكان يرجع إلى هذا الكتاب يستمد منه العون.» - «كنت تقوم بعمل شاق وأنت تجعل من شخصية معينة رجلا عالميا، ويذكرني ذلك بسيادة الحس الجمالي على الحس الإداري عند سلسلة الشعوب المتجاورة من البلقان، بين ألمانيا وروسيا حتى إسكنديناوة؛ باعهم في السياسة قصير، وباعهم في الفن طويل. إن تاريخ فنلندا السياسي قصير، وهي مع ذلك تخرج هذا الفنان العظيم. أما في أنجليا الشرقية، ذلك الجزء من إنجلترا الذي ولدت فيه ونشأت صبيا، فإن قدراتنا التنفيذية طيبة، أما قوانا الجمالية فتكاد لا تذكر. إن سواحلنا تواجه الأراضي المنخفضة التي انتقلت النهضة عبرها، ولكن ما انتقل كان أكثر مما يتصل بالحريات السياسية، ومن أنجليا الشرقية جاء أكثر المستعمرين لإنجلترا الجديدة في بلادكم. أما غرب إنجلترا فأكثره نورماندي، وهو يواجه فرنسا، والتقليد فيه أكثره ملكي من العهد الوسيط، وكان ملوك بلانتا جنت يتطلعون عبر المانش إلى أقاليمهم الفرنسية في أنجو وأكويتين، وكانت جامعة كمبردج قليلة الأهمية إذا قيست إلى أكسفورد لعدة أجيال بعد تأسيسها، ولا أعتقد أنه من قبيل المصادفة أن يجد شارل الأول أكسفورد الأنجليكانية ملكية موالية له، وليس من قبيل المصادفة أيضا أن يكون كرومويل عضوا في مجلس النواب من كمبردج. إن أنجليا الشرقية أكثرها من الدنمارك والسكسون. أما غرب إنجلترا، بين الأراضي المتوسطة وويلز، فكان أكثره من النورمان الفرنسيين، وأشد ميلا إلى الجمال في ذوقه.» - «إذن فإنجلترا الجديدة قد ورثت الاتجاه غير الفني من أنجليا الشرقية؟»
قال: «إنها سلسلة من الرواسب، من أنجليا الشرقية، وإنجلترا الجديدة، وغربكم الأوسط. وإن عند أهل الغرب الأوسط شيء أعتقد أنه من الخير لإنجلترا الجديدة أن تظفر منه بنصب أوفر، كما أن بلادكم إنجلترا الجديدة لديها شيء من الخير لأنجليا الشرقية أن تظفر منه اليوم بنصيب.» - «ما أعجب ما تقول! لقد ذكر دكتور هارفي كشنج شيئا يكاد يطابق ذلك تمام المطابقة، لو استبعدنا أنجليا الشرقية. في يوم من أيام الآحاد بعد الظهر في يوليو من عام 1932م عند بروكلاين قبل أن تسمح له هارفارد بالعودة إلى ييل، كنا نتحدث عن الحماسة، وكيف أن الميل هنا يتجه إلى إحباطها، فقال: لا يمكن أن يؤدى عمل جليل - قديم أو حديث - دون حماسة. وهو شديد الحماسة، ولم يستطع هذا المجتمع قط أن يثبطها، ولكنه قادم من الغرب الأوسط، ولا يمكنك أن تفهمه دون أن تعلم ذلك. وقال إنه يعتقد أنه منذ عهد الاستعمار كان المهاجرون الذين وجدوا جو مستعمرة ماساشوست باي خانقا بعض الشيء ينتقلون إلى كنكتكت وجزيرة رود - هارتفورد، نيوهافن، بروفدنس - وبالتالي، كان أولئك الذين يجدون كنكتكت بطيئة بعض الشيء ينتقلون بعد الثورة إلى المستعمرات الغربية في أوهايو، وهي موطنه. ثم قال إنه لحظ آثار هذه الرحلات الطويلة كذلك في بلومنجتن وأنديانا وفي مواقع أخرى في أيوا.»
فقال هوايتهد: «أظن أن حقيقة الأمر أن الشعب الحي ينتقل في المكان وفي غير المكان؛ لأن الإنسان قد يصطبغ بصبغة الزمان الوقتية، كما يصطبغ بصبغة المكان المحلية.» - «لا بد أنهم قالوا لك عندما كنت تقطن على طريق ملتن إن إحدى حالات كامرون فوربس قالت - أو قيل إنها قالت - أثناء غيابه الطويل حاكما عاما للفلبين، إنها تأمل ألا يفقد «كام» صلته بملتن، ولا أشير بذلك إلى أنك تفقد صلتك بها، ولكن كيف أحسست عندما عدت إلى هنا وسط الحوادث؟»
قال: «لقد استنفدنا هذه التجربة، كانت ممتعة لما كنا نمر بها، لمدة خمس سنوات، ولكنا أحسن حالا هنا.»
وأضافت إلى ذلك مسز هوايتهد: «قريبا من أصدقائنا. إن سكنى الريف حينما لا تستطيع المشي أو الخروج أمر سخيف.»
وواصل حديثه قائلا: «أعتقد أنه من الخطأ أن تتشبث بمكان لأنه أمدك بخبرة بهيجة ذات يوم، إنك بذلك إنما تحتفظ بملك زائل. لا تتمسك بالقديم لأنه أدخل على نفسك السرور في وقت من الأوقات، بل انتقل إلى ما يليه، إلى الإقليم المجاور، والخبرة التالية. لقد خلفنا وراءنا سلسلة من المساكن البهيجة، وكلها آية في الروعة، وكان كل منها في وقت من الأوقات يعني لنا كل شيء، ولكنا لا نأسف اليوم على أي منها بعد ما تركناه.»
المحاورة الخامسة
5 من أبريل 1935م
كان على الأستاذ هوايتهد أن يحضر اجتماعا لرؤساء الأقسام، ولبثت مسز هوايتهد بانتظاره في غرفة جلوسها الصغيرة، التي تطل على فناء راندور هول، وعلى النهر، خلال أشجار الجميز التي بدأت الآن تتفتح أزهارها، وكانت كتبها الخاصة هنا فوق الرفوف من سطح الأرض حتى السقف.
قالت: «إن أكثرها مذكرات فرنسية، في صفين، يعلوها سنت سيمون للرجوع إليه، وعندي صنارة أستطيع أن أجذب بها المجلدات. إن فرنسا - كما كان يقول أولتي عندما كنت تتناول معنا الشاي في المرة الأخيرة - كان من سوء حظها أن تفقد عددا كبيرا من رجالها الذين كان يرجى لهم أن يكونوا من المفكرين الأحرار في ثورتها، وإلى ذلك يرجع السبب فيما أظن إلى ضعف أدبها في أوائل القرن التاسع عشر. إنني لم أطق قط قراءته؛ ومن أجل هذا آثرت المذكرات والرسائل.»
وعاد الأستاذ في الموعد الملائم قبل ساعة العشاء، وانسحبنا إلى المكتبة إلى جوار الموقد لأن هذا المساء من أبريل كان قارص البرودة.
قال الفيلسوف: «إنني أومن أشد الإيمان بأن أسمح للضيوف بالبدء في الحديث في الشئون العامة حتى ينفضوا ما لديهم ويكتسبوا حرارة الغرفة.» وابتسم ابتسامة عريضة ثم قال: «حتى الجو أو المناخ موضوع ملائم للحديث دائما.»
وكان من بين الضيوف الأستاذ رالف بارتن بري، وهو زميل لهوايتهد في قسم الفلسفة، ومؤرخ حياة وليم جيمز. ولما كنت طالبا أستمع إلى محاضرات الأستاذ جورج هربرت بامر في تاريخ الفلسفة، كان بري - وهو حينئذ شاب أسمر وسيم الطلعة - يقوم بإلقاء إحدى محاضرات «بامر» بين الحين والحين، والآن وقد تجاوز ربيع العمر، لم يفقد شيئا من حدة نظرته، أو سناء طلعته. وجاء متأخرا بعض الشيء، وقبيل وصوله كان مضيفنا يقول: «إن الأمم الغربية عندما
واتفق رأينا جميعا على أنه بمقدار ما يدافع عنهم أحد الأحرار في بلد من البلدان، يخيبون ظنه بالإساءة إليه، وقد حدث لنا ذلك مرارا وتكرارا في صحيفتنا ما بين عام 1914م و1917م حتى سئمنا.»
وكان على مائدة الطعام هوايتهد وزوجه، ونورث ابنهما، وكان حينئذ في الصف الأعلى من مدرسة هارفارد لإدارة الأعمال على الضفة المقابلة من نهر شارلز، والأستاذ بري. وبدأ الحديث عن الكحول؛ لأن الخادمة قد وضعت قنينة كبرى على المائدة - مما أدى إلى امتعاض مضيفتنا - وقد بلغت القنينة من الضخامة أنها كادت أن تخفي بتاتا باقة أزهار الربيع.
وقال هوايتهد: «منذ سنوات عديدة كنا نقطن قرية اعتاد أهلها الشراب، وقد امتنعنا عنه بتاتا آملين بذلك أن نضرب لهم مثلا حسنا؛ وذلك لأن رجال الكنيسة كانوا يشنون حملتهم على تناول الخمور، وكانت النتيجة أننا لاحظنا آثار الشراب على الآخرين عندما كنا ندعى إلى حفلات العشاء، وأخيرا قلت لأحد مضيفي: «أنصت إلى قولي، هل تدرك
وعلقت على ذلك بقولي: «إن كتردج كان يقول إن كل موضوع نكتة حينما يكون الناس في نشوة.»
فقال نورث: «أجل، ولكن أليس هناك فارق بين الفطنة والنشوة؟ عرفت بحارا عجوزا ما رأيته قط صاحيا ولكنه لم يكن سكران، وكان يتحدث كثيرا في السياسة، ولكنه يلتزم دائما عمومياتها الكبرى، دون الخوض في تفاصيلها. لم يكن ذكيا فطنا في الواقع، ولكن لما كنت أتناول شيئا من الخمر كنت ألاحظ أن نكاته في مسمعي أروع وحكمته أسمى.» - «هل اتضح لكم لماذا يؤثر أهل الشمال الشراب القوي على النبيذ؟»
وكان من رأي هوايتهد أن ذلك لتفادي الإحساس بالبرودة والرطوبة. - «هل يمكن أن يكون ذلك لأن العنب لا ينمو في الشمال؟»
ووافقني بري قائلا: «إنني أعتقد أن ذلك هو السب إلى حد كبير.» ثم أضاف قوله: «ولكن تخمر العصير قديم قدم المدنية.»
وداعبه نورث هوايتهد بقوله: «هل تعني أن الكحول معيار من معايير الحضارة؟»
وأجابه الأستاذ بري بابتسامة مريرة: «لو كان الأمر كذلك لكانت حضارة الولايات المتحدة من نوع شديد الانحطاط في العقد الثالث من القرن العشرين!»
وعلقت على ذلك بقولي: «كان النورمان يدمنون الشراب منذ ألف عام، وكان من المألوف في معاملة العدو أن تنتظر حتى يسكروا جميعا ثم تحرق دارهم بمن فيها، وقد ورد ذكر هذه العادة المستحبة في كثير من القصص التي امتدت حتى بلغت اسكتلندا.» - «ولكن هل كانوا يشربون في عرض البحر؟» - «كلا، فيما يبدو.» - «ولكن الملاحين النشطين يستطيعون استبعاد الكحول.» - «كما يستطيعون استبعاد القهوة.» - «ثم هناك توزيع الروم عليهم.»
فقال نورث: «لا تأخذوهم مأخذ الجد، إنهم قلة تدعو إلى العطف.» - «إن الأوامر بهذا الصدد في السفن الإنجليزية غاية في الدقة. لا يجوز إدمان الشراب في البحر، إلا في عيد الميلاد.»
وبذلك الانتقال السريع الذي يحدث في الحديث، انتقل الموضوع من ندرة الشراب في البلدان اللاتينية التي تقع جنوبي «خط النبيذ» إلى كفاية الملاحين النسبية في فنون الملاحة. وقال قائل: «لا بد أنهم كانوا بارعين في يوم من الأيام؛ لأن أكثر تلك الرحلات البحرية الجريئة التي تمت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر قام بها البرتغاليون والإسبانيون والإيطاليون.»
فقالت مسز هوايتهد: «كان ذلك من زمان بعيد.» وروت لنا أنها كانت على ظهر باخرة إيطالية أقلعت من نابلي، وقد لقي البحار الذي كان يقلع السفينة مشقة في فك حبل زورقه، وصاح القبطان الذي كان يقف قريبا من إحدى الخادمات وطوقها بذراعيه، فصاحت، وعم الصياح بين الملاحين، واستطاع البحار أن يخلص نفسه، ولكن بداية الرحلة على هذه الصورة لم تكن قط تدعو إلى الاطمئنان.
قلت: «إن أردتم مثالا لبراعة البريطانيين في الملاحة، فإليكم هذه القصة، وهي حديثة العهد جدا، وقد رواها صبي نجا من حريق الباخرة مورو كاسل، وهو شاب من فيلادلفيا، رواها لجون رتشاردز أحد أساتذته القدامى في سنت بول؛ أمسك بحبل كان معلقا بقضيب الباخرة، وتشبث به أربع ساعات وهو في شك من التهام النار للحبل، ثم ماذا حدث؟ أبحرت السفينتان الأمريكيتان، ولم تفعلا إلا قليلا، بل لعلهما لم تفعلا شيئا، ثم ابتعدتا. وأخيرا عند منبثق الصباح أتت السفينة البريطانية، ويقول جون إن الصبي الأمريكي روى القصة ثلاث مرات دون أن يدرك أنه كان يكرر ما يقول، وذكر أثر ما اتصف به البحارة الإنجليز من كفاية هادئة وتدريب حسن على نفسه، وكانت السفن شديدة التلاصق حتى استطاع أن يسمع طقطقة الأذرعة التي تحمل السفينة وصليل القطع الحديدية، ثم طرق أذنه صوت هادئ رزين انبعث من الضابط الأول ورن فوق سطح الماء، وهو يقول للرجل المسئول من أحد قوارب النجاة: «مستر هوكنز، إن قاربك بطيء، اهبط به إلى الماء أيها اللعين.»»
والظاهر أن هذه القصة قد بعثت في نفس الأستاذ هوايتهد سرورا شديدا، ولكنه قال: «ربما صاح بالأمر - فيما أعتقد - رجل لاتيني شديد الحماسة وحصل على مثل هذه النتيجة.»
ثم انتقل الحديث إلى السفن الأمريكية الطويلة السريعة في القرن التاسع عشر، أو سفن جلستر للصيد في القرن العشرين، حيث بلغ كل طراز منهما قمة الإتقان، بحيث أصبح عملا فنيا، حتى حلت محل الأولى سفن تجارية، وحلت محل الثانية سفن تندفع بقوة الاحتراق الداخلي.
وقال هوايتهد: «أذكر أن الإتقان يسبق التغير دائما، ويدل على اقتراب نهاية عهد من العهود.»
وانتقل هذا الحوار من مائدة الطعام إلى حجرة الجلوس، حيث كنا نحتسي أقداح القهوة، وعندئذ ذكر مضيفنا: «أن القدرة على الاختراع في أمريكا ليست ابتكارا غير مسبوق كما ينسب إليها هذا الفضل دائما، ولكنها توجد غالبا في مخترعات الدرجة الثانية التي تنشر السلعة وتعمم استعمالها.» وواصل حديثه قائلا: «إنكم لم تبتكروا السيارة. إنما الفرنسيون هم الذين فعلوا ذلك. أما ما قمتم به فهو تحويرها بحيث تصلح للجماهير.» - «نعم. أوليس الجانب الأكبر من هذه القدرة على الاختراع ينتهي إلى جهاز لنقل الأجسام، ونقل الأفكار، ولا ينتهي إلى التفكير نفسه؟ فما رأيك في التفكير المبتكر؟ لو كانت هذه الولايات المتحدة منعزلة كقارة أطلنطيق الخرافية، ماذا كان يبقى لنا لنذكر به؟»
فقال هوايتهد: «إن تعميمكم لتعلم القراءة والكتابة، ورفع مستوى الراحة والرفاهية بين الجماهير، يعد في ظني من أعظم الأعمال في تاريخ البشر. في البلدان القديمة وفي الأزمنة السابقة - حتى في أحسن الظروف - كانت الثقافة تنتشر بين أفراد طبقة صغيرة عليا فقط، لا تزيد عن عشرين في المائة على الأكثر، وأعتقد أن إمداد الجماهير بمستوى من المعيشة ملائم على الأقل يعد خدمة كبرى للمدنية.»
وسألت قائلا: «إن هذا لا يعدو مجرد الرفاهية المادية وراحة الناس، أليس كذلك؟» ووافقني الأستاذ بري.
وقال بري: «إن الفنون الحقيقية هي علوم الجمال، والعلوم، والفلسفة. أما ما عدا ذلك فجهود ثانوية، وليس من الجهود العظمى.»
وصاحت مسز هوايتهد قائلة: «ما أعجبكم أيها الأمريكان! إنكم دائما تحطون من شأن أنفسكم!»
قلت: «إننا لم نبلغ مرحلة النقد لأنفسنا إلا أخيرا فقط، وربما كنا مبالغين فيه.
ولكن لماذا شاعت في كتبنا الشعبية نغمة الغضب والمرارة والحنق، في الوقت الذي زاد فيه توفير الراحة عن أي وقت سابق أو لاحق، من عام 1919م إلى عام 1929م؟ ألا تذكر أي أثر أليم تركه ذلك؟ هل كان ذلك راجعا إلى تبديد أوهامنا بشأن الحرب، أو إلى إحساسنا بعجزنا السياسي المؤقت؟ لقد وصلت الرفاهية إلى أوساط الصفوف الدنيا من الطبقة الوسطى أو إلى بيوت العمال على صورة راديو، وعربة رخيصة، ومظلة من الجلد للمصباح، وستائر كريتون، وكرسي وثير، وأجهزة منزلية توفر العمل. فهل يرجع سبب الغضب إلى أن الراحة والفراغ قد توفر لأناس لم يتدربوا على استغلالهما، ثم حرموا منهما قبل أن يتعلموا طريقة استخدامها؟»
وقال بري لكي يستفزني: «إنهم كانوا يتطلعون إلى وقت تزداد فيه أسباب راحتهم المادية وكانوا دائما يترقبون هذه النعمة التي لم تتحقق، فبقوا ساخطين.»
وقالت مسز هوايتهد: «أنتم مستعجلون جدا، لم ينقض من تاريخكم سوى ثلاثمائة عام، وقد انقضى من تاريخ أوروبا ثلاثة آلاف.» - «ولكن الإغريق في حضارتهم لم ينقض على تاريخهم سوى ثلاثمائة عام.»
وهنا تدخل هوايتهد قائلا: «نعم، ولكنهم لم يعبئوا إلا قليلا جدا بمصر وفارس، ولعلك لاحظت ذلك. حقا لقد اقتبسوا بعض مبادئ الحضارة من كريت وميسيني وآسيا الصغرى، وقليلا من مصر، ولعلك تذكر أن رجال الدين المصريين في قصة أفلاطون كانوا يقولون لصولون: «أنتم الإغريق لستم إلا أطفالا.» أردت أن أقول إنهم صنعوا حضارتهم بأنفسهم، وكانوا - كالأمريكان - على درجة من العنف، وإني لأتخيل المصريين والفرس يقول بعضهم لبعض: أليس من المؤلم أن يرتكب كثير من جرائم القتل في اليونان؟ لا بد أن يكون المجتمع هناك غير آمن إلى حد مزعج، بيد أن جرائم القتل لم تعترض إنشاء المدنية. إن أكثر الأماكن التي زرتها شبها باليونان - فيما أتخيل - هو اجتماع للعلماء الجامعيين في شيكاغو! كانت المدينة فوضى ولكنها تزخر بالحياة. لم يدرس الإغريق خير النماذج التي يمكن الحصول عليها خارج بلادهم، كانوا يصنعون نماذجهم بأنفسهم. وذلك في ظني أقصى ما يستطيع امرؤ أن يصنع مما يكون له صفة إغريقية. أما عن قيمة دراسة اللغة في أصولها، فإني أعتقد أننا نستطيع أن نستمد من الترجمات أكثر ما فيها من مميزات، ولقد قرأت العهد الجديد في أصله وأنا شاب ووجدت اليونانية - كلغة - لا تستحق التقدير، وأفضل منها بكثير الترجمة إلى إنجليزية أوائل القرن السابع عشر. إن تسعين في المائة من هيرودوت العزيز يمكن الحصول عليه من الترجمة، وكذلك ستين أو سبعين في المائة من ثيد سيديد، بل إن أفلاطون المقدس ذاته لا يفقد الكثير في الترجمة، ولقد قمت بتدريس كثير من خير محاوراته لفصول متتابعة من الطلبة، وكثيرا ما سألت نفسي: أية قيمة لما تحتويه من آراء تبرر الجهد الذي يبذل في سبيل تعلم اللغة؟ وبعدما انقضى الآن أربعون عاما منذ كنت أقرأ اليونانية بطلاقة، أتناول ترجمة لوب التي تعرض الترجمة الإنجليزية في صفحات مقابلة، وبمعاونة معجم ليدل وسكوت أستطيع بوجه عام أن أبين في أي المواضع يعرض جوت نفسه للسخرية، وذلك تقريبا مرة في كل جملتين.»
واعترضت زوجه طلاقته المتدفقة بقولها: «هذا من عمل أكسفورد يا عزيزي أولتي كما تعرف!»
وفي خضوع لزوجته خفف من حدة نغمته في الكلام وقال: «أجل، يا عزيزتي، إن ما قصدت إليه، هو أن أبدي شكي فيما يعود من فائدة للطالب المتوسط من إمعان البحث في دقائق المعنى من الأصول. إن اليونان أنفسهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك، وحينما يقول لي دارسو الإغريقية: نعم، ولكن ما عناه مؤلفنا حقا هو ... فإنهم لا يعاونون بذلك على ظهور الفكرة. إنهم يقولون إن أية طريقة أخرى لا تتفق وزماننا، ولست على يقين من ذلك، ولكنني أرى أن طريقتهم هي التي لا تتفق وزماننا. إن هذا التقيد بالتقليد الذي ينظر إلى الوراء إنما جاء في عصر النهضة، ولم يكن من صفات اليونان، وقد عانى قسم الفلسفة الذي أنتمي إليه كثيرا من ذلك بصفة خاصة؛ ومن أجل هذا حاولت أن أخترع مصطلحات جديدة للأفكار الجديدة. إن للتفكير رطانة تعترض سبيل التفكير نفسه، ولا يقل ذلك في مساوئه عن رد الفن الأمريكي إلى الآثار القديمة. كان الأمراء في عهد التصوير العظيم إبان النهضة يشترون الصور التي كانت ترسم في ذلك الحين، ولم يشتروا الصور التي رسمت منذ قرون، ولو أن أصحاب الملايين عندكم لم ينفقوا أموالهم في جمع روائع الفن لكبار الأساتذة، وإنما أنفقوها على الصور المعاصرة، لانتعش الفن في أمريكا. إن جوهر الحياة عندكم هنا في أمريكا هو أنكم لا تتطلعون إلى الخلق وإنما تتطلعون إلى الأمام. إذا كان تاريخ الفن هو كل ما تريدون إذن لكان مرجع الفضل كله إلى أوروبا. أما إذا كنتم تريدون إبداعا يتطلع إلى الأمام وجب عليكم أيها الأمريكان أن تعتمدوا على أنفسكم، وإليكم سوف يرجع الفضل كله.»
وساورني شك خفيف في أن الفيلسوف الطيب كان يميل قليلا إلى الاتجاه الآخر كي يوازن ما عندي من فرط الحماسة للهلينيين، بيد أن اشتغالي باستيعاب هذا الدرس في صدري صرفني عن هذا الشك، وتبادلت معه الفكاهة، وكان يتحدث مع بري عن المعركة التي دارت في أحد اجتماعات الكلية بشأن الاستفتاء عن ضرورة اللاتينية لدرجة البكالوريوس في الآداب، واجتذب سمعي بغتة اسم «راند»، وهو إدوارد كنرار راند، الأستاذ البابوي للاتينية في جامعة هارفارد الذي عرفني بلايفي وهوراس إبان الدراسة بالجامعة.
وذكر بري: «إن كن راند هو الذي ألقى الخطبة الرئيسية دفاعا عن ضرورة اللاتينية، وكانت خطبة قيمة، وفق فيها إلى الحجج الصحيحة، وكان فكها في مواطن الفكاهة.» ثم وجه إلى هوايتهد قائلا: «وبهذه المناسبة، لقد كان لك ضلع في هذه المعركة.» - «أنا؟» - «نعم، فقد اقتبس في حديثه بحرية من إحدى مقالاتك في «أهداف التربية».» - «إذن فهو لم يقتبس كل نقاطي، فليست كلها في جانب رأيه.» - «من هذه النقاط ما يكفي لتعضيد رأيه، حتى منينا بالهزيمة المنكرة في صفوفنا يا ألفرد، وكان من بين الأعضاء عدد كبير لم يتكلم طويلا، ولكن لما لجئوا إلى التصويت - ومنهم شباب ما كنت تتوقع أن ينضموا إلى هذا الجانب من الرأي - صوتوا مع راند، ومعك.»
فقال هوايتهد: «هذا أمر يدعو إلى العجب، إنها محاضرة ألقيتها منذ عدة سنوات.»
قالت مسز هوايتهد: «كانت من خير محاضراتك يا أولتي.» - «نعم، ولكن ...»
وصممت أن أنهي الموضوع فقلت: «ليس الأمر عجيبا جدا يا سيدي، وأنا أقر بذلك.
ومنذ بضعة أسابيع أقيمت في بيت سام موريسون حفلة عشاء لجمع الذخيرة للدفاع عن اللاتينية، وقد وجدتهم لا يعرفون ذلك الفصل في مقالك «أهداف التربية»، فوجهتهم إليه.»
وبدت الدهشة في وجه بري، وتكشف له السر! ولكني قدرت ذلك قبل أن أتكلم، ولمع بريق السرور في عيني هوايتهد، وسواء أرضي أو لم يرض عن النتيجة، فقد استطاع أن يدرك ما في الموضوع من فكاهة.
وكذلك استطاع بري أن يجابه الموقف بما عنده من روح الفكاهة. ولما خرجنا حملني في عربة إلى ميدان هارفارد، حيث افترقنا، وكل منا يؤكد لزميله استمرار تقديره له.
المحاورة السادسة
25 من أغسطس 1935م
تناولت الشاي والعشاء مع آل هوايتهد في كمبردج، وقد قرءوا مقال «هلاس والأرواح» ومقال «ممالك الذهب» في «أكسفورد روندو» التي نخرجها «نحن الشماليين»، وكنت قد عرضت هذه الفصول على الأستاذ هوايتهد لأني اقتبست منه طويلا في كثير من الموضع، وبعض اقتباسي من كتبه المنشورة، وبعضه من حديث 5 من أبريل 1935م، وقال لي إنه طالع المطبوعات ثلاث مرات، وكان ذلك نقطة البداية لحديث عام.
قال الأستاذ: «إن اليهود يفتقرون إلى روح الفكاهة بدرجة فريدة.»
واعترضت قائلا: «إنهم في أمريكا على الأقل يرسلون بعض النكات الطريفة، ومنها نكات عليهم أنفسهم، وبعض الكوميديين اليهود من أكثر الناس فكاهة على الأرض.» - «نعم، ولكن فكاهتهم من قبيل التهكم عادة. ويعد هين مثالا للفكاهة اليهودية . إنهم في ذلك الممر الذي يقع بين إمبراطورية بابل والإمبراطورية المصرية، كانوا شعبا في موقف يائس، يحس أنه لا يظفر بحقوقه؛ ومن ثم فإن تفكيرهم ثقيل من أوله إلى آخره.»
وسألته: «إذا أخذنا في اعتبارنا كل الشروح التاريخية المألوفة، فبماذا نفسر تسلط هذا الفكر العبري علينا نحن الأوروبيين الشماليين؛ لأن هذه هي حالتنا؟»
قال: «الأمر عجيب، وأعتقد أنه يجب أن نذكر أنها نظرة إلى الحياة نفذت عن طريق الرقيق والعمال المأجورين، وهي نظرتهم التي ترى أن المرء يمكن أن يعيش حياة طبيعية حتى لو كان دون مرتبة الكلاب، وقد لونت هذه النظرة بطبيعة الحال كل ما تلا ذلك من التاريخ الأوروبي، وهي نظرة أقرب إلى بولس منها إلى المسيح وليس هناك ما يدل على أن بولس قد رأى المسيح قط، ويبدو أنه كان يعطف بعض الشيء على بيئته ...»
وقاطعته مسز هوايتهد بقولها: «نعم، كأنه أستاذ في أكسفورد.» - «أجل، وإن المرء ليحسب أن بولس قد توجه إلى الرسل وقال لهم: «تعالوا حدثوني عن كل ما تذكرون عنه، وكيف كانت سيرته؟» ولكنه لم يفعل ذلك، بل قال: «اجلسوا أمامي وسأحدثكم عن معنى كل ذلك.» يبدو أن المسيح كان أحد أولئك الناس الذين يكتسحون غيرهم، فتنسب إليه أمور طيبة، فلما أخذت تلك الطبقات المهضومة تضع برنامجا للحياة يجعل العيش محتملا لهم ، تجمعت حول شخصية المسيح، ومن عجب أن العنصر الهليني الذي تسرب إلى المسيحية كان علاجا لنفس المشكلة من الطرف الآخر المناقض؛ أي أن المفكرين الإغريق رأوا أن [القبضة الحديدية] أمر وضيع، أو «بربري» كما كانوا يقولون. وباعتبارهم من الأرستقراط، رأوا أن الشفقة وحسن المعاملة هما زينة الحياة الدنيا، وائتلف هذان العنصران، ولكن يجب أن نذكر أن المسيحية أتت إلى أوروبا عن طريق «الطبقة الدنيا من الكهان!».»
وسألته: «ألا يدل اتجاه اليهود البغيض على حالة عقلية لم ترتفع إلى مستوى هذا السمو؟» - «بالتأكيد، وقد أصبت في تعريفك للبروتستانتية في أمريكا.» - «قلت إنها لا تستند إلى تقاليد قديمة تخفف من وطأتها.» - «هذا هو الفارق بينها هنا وفي أوروبا. في إنجلترا - وأعتقد أن ذلك كان بعد تدوين «مسرحية العاصفة»؛ أي بعد عام 1610م فيما أظن - كان الشعب الحي الحساس، من أصحاب الذوق الفني، لا يستمد راحته النفسية من الإبداع الفني، وإنما يستمدها من الخبرة الدينية، لخمسين عاما بعد ذلك على الأقل، وتلاحظ انحطاطا ظاهرا في الفن، والعمارة، والشعر (أما الفردوس المفقود لملتن فهي استثناء لا يقاس عليه) حتى بعد حكم الملكة آن. أما الأدب فجيد، بل عمل عبقري، ولكنه لم يبلغ جودته المعهودة، وفي فن العمارة رشاقة ولكن تنقصه القوة، وأعتقد أن الخبرة الدينية ينقصها شيء يستمد من التعبير الفني، إنها تهز المشاعر ولا تهدئها، وربما كانت تفتقر إلى التدريب الذهني الذي كان يكفله التعبير الفني. عندما يراقب الناس غروبا رائعا - مثلا - تثور مشاعرهم، ولكنهم كذلك يهدءون، وإذا أضفت إلى ذلك عنصر النظام الذي يدخله الفنان فيما يبدع، والذي ينبغي كذلك أن يحيط به من يستمع بالفن، إذا أضفت ذلك وجدت أن شيئا من المجهود العقلي يطلب بالتعاون مع الفنان كي يحدث الأثر، وقد عرفت الكنيسة الكاثوليكية ذلك، واستطاعت أن تدير أمرها بطريقة أفضل. إن كرسي الاعتراف يهز المشاعر التي يثيرها في الإنسان تقصيره في بلوغه أعلى مستوياته، ثم يهدئها بصرف الناس مطمئنين مرتاحين، ولا أقول إنها تتعرض لسوء الاستعمال، ولكن وازن بينها وبين مذهب «كالفن» الذي لا يطمئن فيه الرجل التائب إلى أنه أصبح واحدا من المقربين إلى الله أو أنه حكم عليه باللعنة الأبدية، وليس هناك ما يستطيع أن يفعله بهذا الشأن، بل إن الأعمال الطيبة نفسها لن تنجيه، فهو «خرقة قذرة». إن العقيدة هي أن الله عالم بكل شيء، حكيم، قادر على كل شيء خلق هذه الدنيا كما أرادها تماما، وحتى ما فيها من شر قد سبق تقديره، وبالرغم من أنهم يلقون بضع عبارات يخففون بها من قسوتها، إلا أن ذلك لا ينقذهم حقيقة من الموقف الصارم الذي زجوا بأنفسهم فيه.» - «ما الفرق - فيما تظن - بين الخبرة الدينية والخبرة الفنية الذي يجعل الثانية في كثير من الأحيان على ما يبدو؛ أعني استجابتنا لصورة من صور الفن أو لشعور من المشاعر الفنية، أصح كثيرا من الخبرة الأولى (بما فيها أيضا التربية العقلية)؟» - «أقول إن الفرق هو هذا. الخبرة الفنية تهدئ كما تثير، والخبرة الدينية تميل إلى أن تترك المرء معلقا وسط الفضاء، تثور العواطف ولا تشبع.» - «إن الوقار غير الطبيعي الذي يتصف به الكثيرون من محترفي الدين هو عندي نقطة ضعف فيهم.»
قال: «كنت ألاحظ دائما أن الأشخاص المتدينين حقا ومن الأعماق مغرمون جدا بالفكاهة، وإني لأشك فيمن ليس لديهم فكاهة. إن جهد الوقار لا يحتمل لأنه غير طبيعي. ولعلك تذكر أن الأثينيين كانوا دائما يقدمون بعد مآسيهم مهرجا على المسرح.» - «نعم، وكثيرا ما كان المهرج يسخر من موضوع المسرحية، بل ومن أشخاص المأساة.»
قال: «إنني في كتابي «العلم والعالم الحديث» قد عالجت موضوع «ضرورة الهزل».» وأنزل الكتاب من فوق الرفوف، وأطلعنا على ما كتب في هذا الصدد في الفصل الثالث عشر، الذي قرأناه معا جهارا. (هل حقية الأمر أنه ليس هناك أمر من الأمور، ولا خبرة من الخبرات حسنة كانت أم سيئة، ولا عقيدة من العقائد، ولا سبب من الأسباب، ليس هناك شيء من هذا يبلغ من الجلالة في حد ذاته ما يكفي لشغل الحياة كلها بحيث لا يبقى مكان للضحك؟ الضحك هو الذي يذكرنا بأن نظرياتنا ليست سوى محاولة لجعل الوجود مفهوما، لكنها بالضرورة لا تعدو أن تكون محاولة. ثم ألا يتدخل ما ليس معقولا وما هو غرزي لكي يحفظ التوازن صحيحا بطريق الضحك؟)
وواصل هوايتهد حديثه قائلا: «كثيرا ما يبدو لي أن الرجل الأوروبي بلغ أوجه بين عامي 1400م و1600م، ومنذ ذلك الحين أثقلنا بالتعقيل تقديرنا للجمال. نحن المتعلمين ثقفنا إحساسنا بالجمال أكثر مما ينبغي، ولا ندرك كنه الجمال في بساطة، ومن الجائز أن يكون الإحساس بالجمال أصدق وأقوى لدى غير المتعلمين منه لدينا. إن بناة الكاتدرائيات الأوائل - حتى النورمان والرومانسك - لم يصوغوا النظريات، إنما كانوا «يبنون»، كما أن الشعراء انصرفوا إلى عملهم مباشرة أكثر مما نفعل. نحن أبناء اليوم نبالغ في تعقيد الأمور. إن المكان الوحيد الذي يتراءى لي أن ازدهارا عظيما آخر للثقافة الأوروبية قد يظهر فيه هو الغرب الأوسط في أمريكا، حيث يمكن أن تكون البداية جديدة، وأن تنمو الثقافة من أصولها. وقد عالجت في الفصل الذي كتبته علاجا معقولا مسألة الفارق بين الأمريكان والأوروبيين؛ لا ينبغي للأمريكان أن يحاكوا الأوروبيين، يجب أن يكونوا أنفسهم، وأن يبدعوا من جديد. إن هذه المحاكاة الأمريكية لأوروبا ستفتقر دائما إلى التشويق والحيوية، شأنها في ذلك شأن كل المشتقات. وعلى الأمريكيين أن يدرسوا أوروبا وأن يعرفوا ما أنجزته من أعمال، ولكن عندما يكون الأمر أمر خلق وإبداع، فبالله انسوا كل ما تم عمله من قبل، واخلقوا وأبدعوا!»
قلت: «لا يبقى للمرء في أغوار الخلق والإبداع شيء يستطيع أن يؤديه، أما الدراسة فقد تعين المرء، ولكنها لا تنجيه.»
قال: «إنها لا تعينه إلا إذا تمثلها حتى نسيها وأصبح لا يعيها. وإننا لنجد - كما كتبت مرة - في أكثر الجامعات التي تدرس الأدب، أن الدراسة لا تتجه إلى ما ينبغي عمله، وإنما تتجه إلى ما تم عمله؛ وهي لذلك تميل إلى تقديس الماضي واحترامه. وإني لأفزع من تجميد الذكاء الخالق بالتعليم البالغ في جودته، بالأفكار الساكنة، فيقال للمتعلم: «هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي لك أن تعرفه.» فذلك قبول سلبي للتعليم المقدس، دون أية نية للتصرف فيه. وعلى المعلمين أن يحسوا إحساسا حادا بالعيوب الكامنة في المادة التي تدرس. إن ما يعلمونه قد يفتقر كل الافتقار إلى عناصر التغذية الضرورية، عليهم أن يحذروا مادتهم وأن يعلموا تلاميذهم أن يحذروها. إن التعليم إذا تجمد، فقل عليه السلام. إن أقسام هذه الكليات سوف تحتاج إلى التعليم، والخطر في أن تتجمد التربية، فيظن «أن هذا وذاك هو الصحيح الذي تجب معرفته»، وإن حدث ذلك مات التفكير. لشد ما أضيق بالغرور الذي ألمسه في بعض ألوان الحديث الذي يدور بين زملائي، ذلك الحديث الذي يرسلونه في ازدراء قائلين بأن النظرية لا تجود إذا [اختبرت نصف اختبار] فحسب، وأنه لا بد من جمع الحقائق في دقة بالغة. كما أضيق كذلك بابتعاد الجامعة عن الحياة العملية، ولا أقصد ابتعادها عن الحكومة الفدرالية وحكومة الولاية فحسب، وإنما كذلك ابتعادها عن الشئون المحلية البلدية. إن وظيفة كبرى تنتظر الجامعات الأمريكية، وذلك أن يمدنوا العمل، أو على الأصح أن يحملوا رجال الأعمال على أن يمدنوا أنفسهم باستخدام نفوذهم في شئون الحياة العملية، فيمدنوا وظائفهم الاجتماعية. ولا يكفي أن يجمعوا الثروة بهذه الطريقة أو بتلك، ثم يتبرعوا بعد ذلك لإحدى الكليات أو المستشفيات، إنما ينبغي أن يكون «الدافع» في جمع الثروة استخدامها في غرض اجتماعي إنشائي.» - «وهل يستطيع الرجل الذي يندفع بدافع الإيثار أن يجمع ثروة ما؟» - «الأرجح أنها تنفق عند جمعها، إنما قصدت أن القانون قد تمدن - فعل ذلك اليونان والرومان وجستنيان وغيرهم - وتخلص الطب من السحر، وتخلصت التربية من الدجل، وقد آن للعمل أن يعرف وظيفته الاجتماعية؛ لأن أمريكا - إن أرادت أن تتمدن - فلا سبيل لها إلى ذلك (في الوقت الحاضر على الأقل) إلا عن طريق طبقة رجال الأعمال، الذين يملكون النفوذ والعمليات الاقتصادية. ولست بحاجة إلى أن أذكر لك أن هناك محاولات كثيرة لتحقيق ذلك، في كلية هارفارد والمدارس العليا على هذا الجانب من نهر شارلز، وهناك محاولات في مدرسة هارفارد الجديدة لإدارة الأعمال على الجانب الآخر من النهر، ولكنها محاولات تسودها روح الاستعلاء وانعدام الخيال، ولو أن الجامعات الأمريكية عرفت واجبها لتناولت العمل بين يديها وعلمته قواعد الأخلاق ومستويات المهنة العالية.»
ثم قال إن من رأيه أن تفسير التاريخ بالعامل الاقتصادي طريقة معيبة جدا، وإن محاولة الإسكندر توحيد العالم بإدخال الحضارة الهلينية في شرقي آسيا - «وبرغم أنه أصاب نجاحا، وخلف من بعده فوضى» - حتى في هذه المحاولة مجهود أنبل وعامل أفعل.
وتحدثنا في السبب الذي أدى إلى تفوق الطبقة الوسطى بهذه الدرجة المؤسفة، وكان من رأيه أن ذلك راجع إلى أنهم نخبة ممتازة نجحت في حياتها لأنها جديرة بوظيفة محدودة - هي وظيفة خلق العمل المريح - في عصر معين، وإن لم يكونوا في الواقع فئة ممتازة، ولكنهم طبقة ذات موهبة تدفع بها الظروف المتقلبة إلى أعلى. «أما في إنجلترا فإن هذه الطبقة عندما يعتريها شعور صادق بالخروج على التقاليد الدينية، تتحول إلى طائفة من الناس لها قيمتها، ولها أهمية تاريخية قصوى.» - «هل تنقسم الطبقة الوسطى إلى فئتين؛ إحداهما تتأثر بالعاطفة الدينية أو بالإحساس بالجمال - الذي يخفف من وطأة وظيفتهم الاقتصادية - والأخرى تلك التي تتأثر أساسا ب «دوافع الملكية» أو لعلها تتأثر بهذه الدوافع وحدها؟» - «نعم، وأظن ذلك يفسر لنا الحقيقة. وقد وجد أن الطبقة الأرستقراطية وطبقة العمال في إنجلترا بينهما قدر كبير مشترك، وتفاهم متبادل، أكثر مما بين إحدى هاتين الطبقتين والطبقة الوسطى. إنهما يتعارفان عن طريق الرياضة، وكلاهما أقرب إلى الواقع وإلى الارتباط بالأرض. وأعتقد أن طبقتكم الوسطى هنا في أمريكا أعلى وأقوى أثرا من مثيلتها لدينا، ولا أحسب أن حركة اتحادات العمال عندكم مسئولة من الناحية السياسية أو تستطيع أن تستولي على الحكم. أما الأرستقراطية بالمعنى الأوروبي الذي يقصد طبقة مسئولة حاكمة، فلا وجود لها عندكم بطبيعة الحال.» - «إن كلمة الأرستقراطية في هذه البلاد معتلة. في الغرب الأوسط، عندما كنت صبيا، كانت كثيرا ما تقرن بسمك القد؛ فقد انتقلت هذه الفكرة إلى هناك من إنجلترا الجديدة، وهي تقصد بوسطن بصفة خاصة. يبدو لي أن أرستقراط إنجلترا الجديدة، إذا أطلقنا عليهم هذه الصفة، قد فقدوا أو تخلوا عن قيادتهم، واستوردوا جموعا حاشدة من الأوروبيين الجنوبيين يعملون لهم، ولما خافوا كثرتهم وفلقهم وقوتهم الكامنة، أصابهم الذعر، وتخلوا عن محاولة الكم، وتحول أصحاب الأصل الطيب منهم إلى دكاترة وأساتذة، ولكن كثرتهم تعيش على المال الموروث وعلى المركز الاجتماعي.»
فقال: «إن الأرستقراطية التي تنفض قيادتها تنهي وجودها؛ لأن المسوغ الوحيد لبقائها هو توليها القيادة. إن أفراد الطبقات العليا من الأمريكان في بوسطن وإنجلترا الجديدة من أرق من قابلت من الناس. إنهم مثقفون جذابون، ولكن لما تدفق المهاجرون إلى هنا من أوروبا في القرن التاسع عشر، لم يفعلوا لهم شيئا سوى العطف البشري في بعض صوره؛ وترتب على ذلك بعد جيلين - لما زاد المهاجرون عنهم في العدد والأصوات - أن وجدوا أنفسهم من الناحية السياسية تحت رحمة أناس لا يشعرون نحوهم أو نحو مؤسساتهم بالولاء.» وبعد لحظة قال: «إن عائلات التجار المنشقين على تقاليد الدين تزاوجت مع الأرستقراط الإنجليز ملاك الأراضي في القرن التاسع عشر، فبعثت جدية خلقية في طبقة الأرستقراط لا أظن أنه قد سبق وجودها في التاريخ.»
وكنت في بداية المساء قد لاحظت مثلا من رقة قلب هوايتهد ويقظته، وكان يتحدث عن الكاثوليكية، وانخفض صوته وهو يقول إن عقلنا كاثوليكي ونحن نكرس حياتنا للكاثوليكية. وكان نص ما قال: «إن الأناجيل المجملة من تفكير قوم أقوياء، إن الحواريين يجمعون الحنطة يوم السبت، يزجرهم حاكم القرية والمجلس القروي، وهم يجيبون في خشونة (واخشوشن صوته إلى حد الفظاظة): «وما الخطأ في ذلك؟» غير أن الدين الرسمي الذي يبدأ زهاء القرن الثاني - أعني التعاليم الكاثوليكية - فلسفة في الحياة، وكأنها تصدر عن رجل عاش عيشة منحلة، وجرب كل شيء، وكانت له علاقات جنسية مثيرة كثيرة، ثم - على حين بغتة - في سن الخامسة والثلاثين انقلب إلى النقيض، وتخلى عن كل صنوف الاستهتار.»
قلت: «ولماذا تحصر ذلك في المسيحية الرسمية. ألم تصف لنا بذلك صديقنا العزيز ليو تولستوي ؟»
وقال باسما: «ليس إلى هذا الحد!»
وأدى بنا ذلك إلى موضوع التأليف.
قال: «إن المرء في الواقع يكتب لقراء يبلغ عددهم نحو العشرة، وربما أعجب بما يكتب آخرون، هذا أمر واضح، ولكن إذا اقتنع هؤلاء العشرة رضي الكاتب عن نفسه، لا بد من قدر معين من التشجيع.»
وأثرت هذه المشكلة، وهي: لماذا يستنفد خلق العمل الفني خبرة الفنان المبدع، في حين أن لهذا العمل الفني قدرة لا حد لها لتكرار إثارة الحس عند المشاهد؟
قال: «ربما كان ذلك لأن كل المجهود البشري يوجه نحو غرض من الأغراض، سواء تحقق أو لم يتحقق، وهدف الفنان - وإن لم يبلغ النتيجة التي كان يرجوها برمتها - يتحقق إلى حد كبير؛ ومن ثم فإن الأمر بالنسبة إليه منته، والنقطة التي ينتهي عندها هي نقطة البداية عند المشاهد.» - «هذا رأي أقبله إجمالا، ولكني أرجح أن بيتهوفن وفاجنر وبراهمز وجيته قد رضوا عن أنفسهم إلى حد كبير بما أنتجوه في السمفونية التاسعة «ترستان»، بالعزف على الكمان، أو «فادوست». ولا أقصد أنهم لم يتمنوا أن يكون العمل أفضل مما انتهى إليه، ولكنهم استطاعوا أن يحسوا أنه بلغ من الجودة الحد الذي يستطيعون، ولم يكن أمامهم بعد ذلك ما يزعج خواطرهم.»
وعلى مائدة الطعام تحدثنا عن تدخل الصحافة الأمريكية في حياة الأفراد الشخصية. قال: «إن الناشر الإنجليزي يستطيع أن يوجه الخطاب إلى جمهور متماسك لا بأس من ذوي الأذواق، ممن يسهل الاتصال بهم؛ ولذلك فإن الناس المهتمين بكتاب له قيمة حقيقية يسمعون عنه، ويكفي عددهم لأن يجعل نشر الكتاب ذا فائدة. أما هنا، فإن الجمهور صاحب الذوق مشتت على رقعة فسيحة، ولا تزال البلاد قليلة السكان؛ ولذا فلا مناص للناشرين من إرسال المندوبين شخصيا إلى أماكن نائية على مسافات شاسعة، ويبدو أنهم يحسون في إعلانهم بأنه لا بد من أن تكون سمعة الكتاب أشد إثارة من الحقيقة. لا بد في أمريكا من إشاعة الحرارة في كل شيء، ومن بعث عنصر الإثارة فيه. إن جمهوركم في حقيقته أكبر من جمهورنا ، ولكنه بالنسبة إلى مجموع السكان عندكم أقل منه عندنا بكثير، جمهورنا يبلغ نحوا من خمسة وعشرين ألفا، أما جمهوركم فأكبر عددا ولكنه موزع؛ ويترتب على ذلك أن ناشري الصحف خاصة بدلا من أن يخاطبوا نخبة ممتازة تتقبل الروائع، لا بد لهم من تخفيف المادة وتمزيق المقال حتى يمكن توجيهه إلى جميع الطبقات، ويؤدي ذلك إلى الهبوط إلى القاسم المشترك بين معارف الناس. أضف إلى ذلك أنهم تورطوا في ارتفاع تكاليف الأنباء، بحيث أصبحوا يعتمدون على الإعلان للإنفاق عليها، ويضعف ذلك من استقلالهم.»
وتحدثنا كذلك عن الفجوة بين الشباب والشيوخ منذ الحرب، وقيل إنها أقل عمقا بكثير في إنجلترا، وسألته عن رأيه فيما حدث هنا.
فقال : «إن الجيل الذي يبلغ أبناؤه اليوم الخمسين أو ما يدانيها، كانت نشأته - فيما يبدو لي - شديدة الاضطراب، وإني حينما أخاطب جمعا من الشباب دون سن الثلاثين ينتابني شعور بالاحترام القلبي لهم.»
وواصل حديثه قائلا: «وأعتقد أن ذلك راجع إلى أن آباءهم قد فقدوا عقائدهم، ولكنهم ظلوا مصرين على صيغ السلوك البائدة كي يجعلوا أبناءهم «طيبين»، في حين أنهم هم أنفسهم لم يعودوا يثقون في هذه الصيغ البائدة. وقد كشف الأبناء حقيقة الأمر في النهاية، فخدعوا آباءهم بدورهم، فكانت النتيجة خداعا في خداع؛ كانوا يعرفون أن دينهم القديم كان فارغا، ولكنهم لم يخلصوا لأنفسهم ولا لأبنائهم في هذا، وكان أبناؤهم في تلك السنين فيما بين الثامنة عشرة والرابعة والعشرين، في السن التي يمارس فيها المرء لأول مرة الضرورات الحيوية، عاطفية وبدنية، فلبثوا في جهل تام بالنتائج الاجتماعية التي تترتب على ضروب معينة من السلوك.»
كان يقول ذلك في طريق عودتنا إلى المكتبة بعد تناول العشاء. ولما استقرت رفقتنا، ألقى أحدهم بسؤال ظل معلقا أمدا طويلا: «لماذا لبث العلم في تقدم بخطوات واسعة منذ عام 1900م
قال: «من الأسباب التقدم العظيم في علوم الرياضة فيما بين عام 1700م وعام 1900م، فتوافرت به لرجال العلم أداة دقيقة مضبوطة يستكشفون بها عوالمهم الجديدة.» - «ولكن لماذا كان هذا التقدم في القرنين السالفين، في حين أن الرياضة قد تطورت تطورا كبيرا على أيدي اليونان منذ ستة وعشرين قرنا على الأقل؟»
قال: «كانت مستكشفات الإنسان في الرياضة قبل ذلك تأتي عن طريق ملاحظة بيئته الطبيعية، فتتميز بذلك عن التعليل المجرد وتناقضه. لاحظ الإنسان فوق سهول كلديا النجوم تدور ثم تدور، فاستنبط فكرة الدائرة، وأخيرا وصل إلى العجلة؛ ومن ذلك ترى أن العجلة ليست اختراعا واضحا كما يظن، وحتى القرن الخامس عشر حينما وجد الأوروبيون أمريكا، كانت العجلة لا تزال مجهولة في هذا النصف من الكرة الأرضية. والهندسة - قياس الأرض - قد تطورت على أيدي المصريين بسبب حاجتهم إلى إعادة رسم الحدود التي يمحوها فيضان النيل السنوي.»
ثم قال: «ولكن حدثت فجوة طويلة فيما بين هذه المستكشفات القديمة التي استنبطت من الخبرة المادية، والمستكشفات التي جاءت فيما بعد، والتي لم يمكن بلوغها إلا بالتعليل المجرد. كانت طريقة العدد الرومانية ثقيلة غير متقنة، ولم تصل إلى أوروبا طريقة العدد العربية - وهي أسهل في التناول - حتى القرن الثاني عشر، ولما وصلت إلى أوروبا جعلت صورها المبسطة - التي يسهل على العين استيعابها - الرياضة في متناول عقول أكثر عددا وأشد تنوعا، ولما أشرف القرن السابع عشر على نهايته، بلغ هذا التقدم - الذي بدأ في النهضة الإيطالية - قمته عند نيوتن وليبنز، فتطورت اللوغارتمات وحساب المثلثات والجبر، وانتهى العهد قطعا بإتقان حساب التفاضل والتكامل، إن لم يكن باختراعها اختراعا؛ فأصبح الطريق الآن مفتوحا، منذ عام 1700م إلى ما بعده، لتلك الجولة في الرياضة التطبيقية التي أمدت العلماء بوسيلة مركبة حساسة لخلق صيغ فكرية يفسرون بها مدركاتهم للظواهر الحسية.»
فعلقت بقولي: «ولكن مع تقديرنا للتقلبات التاريخية، وانهيار الإمبراطورية الرومانية، والعصور المظلمة، وما إليها، لا يزال من العجب أن تحدث تلك النكسة الطويلة بعد تلك البداية المبشرة في العالم القديم.»
فقال: «ما أكثر البدايات المبشرة، ثم لا ينفذ منها إلا القليل، وإن تتبع البدايات التي شرعها العلماء بكل ما تفرع منها لتستغرق مائتي عام، ويمكن أن يتم ذلك على أيدي رجال أقرب في الحقيقة إلى رجال الصف الثاني، رجال ذوي عقول ذكية يستطيعون متابعة طرق معينة داخل دائرة محدودة، ولكنها ليست عقولا مبتكرة، وقد تنسم أعمالهم بطابع الابتكار، ولكنها محدودة جدا؛ فهي قد لا تمثل جزءا من ألف من التجارب. لقد بلغ العلم حدا يستطيع معه أن ينقل هذه السهولة في البحث، ولكنه بحث ذو قيمة ثانوية، ليس بحاجة إلى رجل مثل شكسبير ليقوم به؟» - «هل تريد بذلك أن تقول إن مبدعي العلوم الحقيقيين في ندرة شكسبير؟» - «إنما أردت أن أقول إن كثيرا من الناس، ومن بينهم المبرزون منهم، ممن يعدون من العلماء، لا يعدون في الواقع أن يكونوا مجرد تقنيين (أي ماهرين في الصناعة)، إننا لا نظفر بعالم حقا إلا مرة في كل جيل طويل.» - «وكيف يمكن أن ترتفع الخبرة إلى مستوى الوعي وتنتقل من اللاوعي إلى صيغة فنية؟» - «أنت تتكلم كلاما ممعنا في التعقل. إنها في أول الأمر خبرة فنية، يشتد الإحساس بها - خبرة عاطفية مشوبة بتصورات ذهنية - ثم تتطلب بعد ذلك صياغة فنية معينة.
ومشكلة المبدعين اليوم هو محاولتهم استبدال الفكرة العقلية بالخبرة الفنية. إنهم يفكرون على هذا النحو: «أليس مما يثير الحس أن تعالج هذا الموضوع بهذه الطريقة، وهي طريقة لم يحاولها أحد من قبل؟» بيد أن الجدة عديمة الأهمية، وكل ما له أهمية هو عمق الخبرة التي يصدر عنها الفن وصلاحيتها؛ فإن صدرت عن مجرد استدلال منطقي بارع واع كان مقضيا عليها بالفشل، إنك حينئذ تعالج تصورات ثانوية وخبرة ضحلة نسبيا، إنها لا تحمل طابع الحق العميق.» - «كنت منذ برهة تتحدث عن غربنا الأوسط، وتقول شيئا عن ...»
وقاطعني بشدة قائلا: «كانت ملاحظتي أن المكان الوحيد الذي أعرف أن الإنسان
- «بين جبال أبلاش وجبال روكي؟» - «نعم، حوض المسيسبي، على وجه التقريب.» - «ولماذا لا تكون المناطق الساحلية، على الأطلنطيق والمحيط الهادي؟» - «إنها مجرد ناقلة للثقافة، وثقافتهم أقرب إلى الاشتقاق. أما في الغرب الأوسط، فالجو والتربة والطعام كلها ملائمة، وهي عناصر ثلاثة لازمة لازدهار الحضارة. إن محاولات الإنسان الأولى في الحضارات المدونة في التاريخ قامت في الأجواء الحارة حيث يتوافر الطعام، وحيث تكاد لا تنشأ الحاجة للملبس والمأوى؛ فقد قامت الحضارة الهندية إلى حد كبير على الرز، كما نشأ مجتمع متمدن فيما بين النهرين على الغلة، وفي مصر توافر البلح، وفي أمريكا الوسطى والجنوبية توافر للأزانقة والأنكا الذرة والموز، بيد أن زيادة السكان، التي ربما كان السبب فيها رخص الطعام، هبطت بقيمة العمل وأفسحت الطريق للاستبداد السياسي، وبالرغم من أن الثروة - ومن ثم الفراغ اللازم للثقافة - ربما تنشأ من العمل البخس، إلا أن ما ينجم عن ذلك من فقدان الحرية يبلد الذهن. وكان من نتيجة ذلك أن مدنيتنا الشمالية في أوروبا، حيث الجو أشد برودة، وحيث الحصول على الطعام والملبس والمأوى أكثر مشقة، وحيث تكاثر الجنس البشري أقل غزارة - ولكن الفردية أشد وضوحا - هذه المدنية اجترأت على التفكير العقلي، وكان التفكير فيها أقل تقيدا بالخرافة الدينية، فأنتجت أخيرا ذلك المخلوق المتوافر النشاط، المعتمد على نفسه، وأعني به الإنسان الأوروبي.» - «إن كل نوع من أنواع الإنسان الأوروبي تقريبا يوجد في مكان ما في غربنا الأوسط.» - «بل إن به بيئة بشرية أشد ملاءمة لحضارة جديدة؛ فالإنسان هناك ليس من سلالة مختارة فحسب، بل إن أهل الريف والمدن الصغيرة لا يزالون يكونون نسبة كبرى إذا قورنوا بسكان المدن؛ وذلك مما يعاون على نشر الحضارة. إن خير تفكير الإنسان ما يقوم به إما أفراد يقطنون الريف وإما في جماعات صغيرة، وإما أولئك الذين نشئوا في مثل هذه البيئة في حياتهم الأولى، ثم عززوا تجاربهم بعد ذلك بالحياة في المدن؛ لأن المطلوب هو الاحتكاك بعمليات الطبيعة الأولية إبان سنوات الشباب حينما يكون العقل في دور التكوين.»
قلت: «لاحظت مرارا عند الموازنة بين أطفال الريف أو أطفال المدن الصغرى، وأطفال المدن أو الأطفال الذين نشئوا في الضواحي، لاحظت أن الصبيان الذين نشئوا في الريف أكثر اعتمادا على أنفسهم وأوفر مادة. هب أنهم يفقدون وظائفهم، عندئذ تجد أن الشباب من المدينة أو من الضواحي، الذي ينتمي عادة إلى طبقة الموظفين، مضطربا، يشعر بالعجز، في حين أن الشباب الريفي يتقبل الموقف ببرودة شديدة. أي عسر أمامه؟ لقد كان يكسب عيشه بالعمل بيديه، وهو يستطيع أن يعمل بيديه مرة أخرى إن اقتضت ذلك الضرورة.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلا: «إن التمدين (حياة المدينة) نقطة ضعف في كثير من نواحي تفكيرنا الحديث، وبخاصة في المشكلات الاجتماعية. إن التفكير مستمد أساسا من المدن، في حين أن المدن ربما لا تهتم كثيرا. إن المسرحيات البارعة تكتب للمشاهدين المستهترين في المدينة، والشعر الفريد والروايات الشائعة تؤلف عن ساكني الطرقات المزدحمة، الذين يبعدون أكثر العام - لسوء حظهم - عن الاتصال بالتربة، وبالغابات، والبحار، والذين ربما لم يقوموا بعمل يدوي شاق يوما واحدا في حياتهم، والذين قد لا يحسون إلا إحساسا ضعيفا بتقلبات الجو ذاتها. إنهم محرومون من ذلك النظام الذي يفرضه الاتصال اليومي بنمو المحصولات الطبيعي، والذي يفرضه القلق الذي ينجم عن خضوع هذه المحصولات لرحمة أهواء الطبيعة، وهم محرومون كذلك من تلك التجربة التي تبعث الطمأنينة في النفوس، ألا وهي جود الطبيعة في نهاية الأمر.»
وعلقت بقولي: «منذ وقت ليس ببعيد كنت أقرأ المناظر الخاصة بالحانات في جزئي «هنري الرابع». إن هاتين المسرحيتين صدرتا في أوج عصر إليزابث بإنجلترا، ولم يسعني إلا أن أتأمل دائما جلال اللفظ فيهما، والمسرحيتان تستمدان مادتهما من الحياة العادية، وكثير من المادة مستمد من الريف ومن حظائر لحيوانات، ولما كانت خبرتي بالحظائر واسعة منذ الطفولة، أحسست كأن رائحة الحظائر تفوح صادقة من ألفاظ شكسبير. وعلى أية حال فإن مثل هذه الكتابة لا بد أن تصدر عن الريف - كما قلت - ولا يمكن أن تصدر عن أي مكان آخر.»
ووافقني على ذلك هوايتهد قائلا: «أجل، وأعجب من ذلك أني لا أعتقد أن شكسبير كان يتصيد الألفاظ في أي موقف من المواقف. هل يمكنك أن تتخيله يقرض طرف قلمه مفكرا في الكلمة الملائمة؟ إن لديه من الخصوبة ما يجعل الكلمات تتدفق من تلقاء نفسها - فيما أظن - بمجرد تخيله المنظر واضحا. ويجب أن تذكر أن هذه القوة العارمة قد سادت إنجلترا كلها في عهد التيودور. ولو اجتمعنا معا مرة في كمبردج أود أن أصحبك إلى الحجرة العامة في كلية ترنتي، ففيها ستجد صور موظفي الكلية منذ نشأتها، وقد أسسها هنري الثامن؛ ستجد أولا التيودور والإليزابثيين الذين يفيضون حماسة، ثم البيورتان الأشداء، ثم أبناء القرن الثامن عشر الذين تدب فيهم الحياة. أما في القرن التاسع عشر فستجد العالم والرجل المهذب، وفي القرن العشرين تجد العالم وتفتقد الرجل المهذب.»
وامتعضت مسز هوايتهد، ولكنه لم يعبأ بامتعاضها. - «إن التدريب العقلي الذي اجتازه الملوك التيودور لا بد أن يكون قد هيأ أذهانهم للحكم. ولقد كانت تربية إليزابث أشمل تربية تستطيعها أوروبا؛ كانت تألف اليونانية واللاتينية أثناء زياراتها لجامعات أكسفورد وكمبردج، كانت تقرأ الإغريقية كل صباح مع مربيها، روجر إسكام، بادئة نهارها بالنص الإغريقي للكتاب المقدس، ثم تقرأ بعد ذلك وتترجم مؤلفين قدامى من أمثال سقراط وسوفوكليز وديموستنيز، وكانت تنفق الأصائل في اللاتينية، وقد قرأت كل شيشرون تقريبا وجانبا كبيرا من ليفي. ولما وجه إليها السفير البولندي خطابا مهينا باللاتينية - وقد أراد أن يسيء إليها - ظانا أنها تستطيع أن تفهم ومفترضا أنها لا تستطيع أن ترد عليه بلغته، لما فعل ذلك أجابته بكلام مهين فظيع استغرق نصف ساعة، وكان باللاتينية!»
المحاورة السابعة
19 من مارس 1936م
عند تناول العشاء - وكنا ثلاثة فقط - سألوني رأيي في المناوشات الأوروبية، قلت: «إنها ليست حربا، أو إنها ليست كذلك الآن على الأقل.»
فقال الأستاذ: «إن الدبلوماسية الجرمانية فعالة. إنهم يحسبون أنفسهم أبطالا خياليين. استطاعوا في عام 1914م أن يسبقوا العالم بمراحل دون قتال، ومع ذلك فقد أوجبوا على أنفسهم القتال. وإني لأتخيل أن رجال الصناعة عندهم قد أدركوا سخف هذا الاتجاه، ولكنهم خضعوا حينما استطاع رجال الحرب - كما حسبوا - أن يثبتوا أنها لن تدوم أكثر من ستة أسابيع أو ستة أشهر. وهل يطرأ لك أن نصف قرن من موسيقى فاجنر قد يكون له أثر كبير في وقوع هذه الكارثة؟ لقد كان أفلاطون يعرف ما يتحدث عنه حينما قال: إن «من الموسيقى ما يجافي الأخلاق.» إنها لا تتمشى مع قواعد الأخلاق. صحبتني مرة إلى كارمن فتاة صغيرة جميلة كي أستمع إليها في حفل عيد ميلادها. ولما انتهى الأداء، أذهلتني بسؤالها: «هل كانت كارمن حقا امرأة لطيفة؟» إن السؤال لم يطرأ لي من قبل قط.
فالمرء يستمتع بالموسيقى وينبذ أحكامه الخلقية السابقة. والألمان عاطفيون وحساسون للموسيقى، وفاجنر يستهويهم لافتخارهم بعنصرهم. وإني لأجرؤ على القول بأنه لو أقيمت بإنجلترا سلسلة من الأوبرات الفاخرة المذهلة حقا، ذات الموسيقى الرائعة والعروض البعيدة، ممجدة إنجلترا من عهد التيودور حتى عام 1914م، أقول بأن هذا يستطيع في جيل واحد أن يحطم العبقرية الإنجليزية في الحكم الذاتي السياسي.»
ولم أشأ أن أؤمن على هذا بأكثر من قولي: «إن الفكرة تدعو إلى القلق.» ولكني إمعانا في الصراحة زدت على ذلك قولي: «لعلك تعلم أني قد حضرت الحفل في بيروت في يوليو من عام 1933م، وكانت الذكرى الخمسين لوفاة فاجنر، ولقد حضر الشيطان أيضا؛ جاء هتلر، وحضر ست حفلات في ثمانية أيام، كما حضر الأوبرات الأربع؛ رنج وميشتر وسنجر وبارسفال، ثم جلس في مقصورة فاجنر في فستسبيلهاوس مع فراو وينفرد، أرملة سيجفرد، وكان قد استولى على الحكم منذ يناير فقط، وكانت النازية لا تزال في شهر العسل. جاء واتجه إلى ما بين المسرح والطعم بين صفين من الألمان، كل واحد منهم يستطيع أن يطعن بخنجرين جنبيه ويقضي عليه. وكان نضر البشرة، بني الشعر، لا تلحظه إذا مشى في الطرقات، وقد جلس في دار الأوبرا، يوما بعد يوم، يحضر حفلا في أثر حفل، وتعجبت في ذلك الحين ماذا عساه يستمد من تلك الحفلات!»
فقال هوايتهد: «رأينا بعد عام تطهيره الدموي الأول.»
وما دام الفنانون لا يلامون على طريقة استغلال أعمالهم، فقد تخلينا عن الحديث عن فاجنر إلى حين.
وبعد العشاء عدنا إلى المكتبة، وقد أسدلت فوق النوافذ الستائر الثقيلة السوداء المصنوعة من المخمل، وكانت نار الحطب تشتعل في الموقد تعلوها مدخنة سوداء.
وكانت مسز هوايتهد في زيها الأسود والأبيض المعهود، فبدت أنيقة ممتازة.
وكان هوايتهد يتحدث عن كيفية استكشاف الموهبة، وعما ينبغي عمله بها بعد استكشافها.
قلت: «أليس بعض العصور وبعض الحضارات مواتيا لتطور نوع معين من المواهب؟ ثم أوليس من المستحب أن نخلق حضارة تلائم جميع أنواع المواهب؟»
فابتسم في خبث وقال: «أعتقد أن أقصى ما نتطلب من الحضارة ألا تسحق كل نوع من أنواع المواهب.»
فسألته: «ألست ترى أننا نحن النورديين من النوع الذي يزدهر بعد وقت طويل؟ وإذا لم تعجبك كلمة النورديين (وقد فاحت رائحتها على أيدي بعض الناس ) فلنستبدل بها الأوروبيين الشماليين. ألسنا ننضج أبطأ مما ينضج غيرنا؟ في حداثتنا على الأقل نرى الأحداث اليهود قادرين على التفوق علينا تفوقا ساحقا.»
ووافقاني على هذا الرأي، وأخذنا نبحث في النضج المبكر برهة من الوقت.
قال هوايتهد: «ولكنك حينما تلتقي بهم وهم طلاب، يشق عليك أن تعرف أي العوائق تفرضها عليهم كي تسوي بين اتجاه أولئك الذين يبكرون في نضجهم وبين العقول التي ربما كانت أشد عمقا، ولكنها تنضج أشد منها بطئا. إنك بحاجة إلى أن تعرف الطالب أولا بنفسك، ثم أنت بحاجة بعد ذلك إلى أن تعرف ما يرى الآخرون في قدراته، وأنت بعدئذ بحاجة إلى أن تعرف أولئك الآخرين كي تدرك لماذا يرون فيك رأيا معينا؟»
فسألته: «ألا ترى أن البحث العلمي في ألمانيا برغم طول باعه في الدرس وبرغم عمقه، متخلفا بعض الشيء في البداهة ذات الخيال البعيد؟»
قال: «يستطيع البحث العلمي (الذي يستند إلى دراسة القديم) أن يوجه إلى نفسه ثلاثة أسئلة؛ أولا: «ماذا كان يعني بالضبط مؤلف من المؤلفين القدامى عندما كتب بضعة ألفاظ بعينها، وماذا بالضبط كانت تعني تلك الكلمات لمعاصريه؟» (وذلك ما كان البحث العلمي يقوم به على نطاق واسع خلال القرن التاسع عشر.) ثم يسأل نفسه بعد ذلك: «ما هي وأين توجد تلك الومضات التي تدل على البداهة في عمل عبقري من العباقرة يرتفع به عن زمانه إلى جميع الأزمان، تلك الومضات التي تكون دائما شاذة في زمانها، بمعنى أنها لا ترتبط بزمان من الأزمنة؟» (وهذا ميدان لا يجول فيه الدارسون الباحثون كثيرا، وهو مجال قلما يجد البحث العلمي نفسه فيه مطمئنا.) وأخيرا هذا السؤال: «كيف نستطيع أن نخلد وأن ننشر هذه الومضات العبقرية النادرة التي ارتفعت فيها الإنسانية عن نفسها، كما لم تفعل في أي مجال آخر؟»» - «إن الدراسة الإنجليزية الكلاسيكية تفضل في هذا دراستنا. في العقد الأول من القرن الحالي كان عندنا هنا في هارفارد جماعة من خيار الأساتذة وبخاصة في قسم الدراسات اليونانية، وكان هربرت ويرسمث حينئذ حجة في أيسكلس، وقد ألحقوني بهذا القسم أربع سنوات، وسررت بهذا اللحاق، فدرست الشعر والتاريخ والفلسفة والدراما، ولكني لم أبدأ في فهم ما تعنيه الأفكار الهلينية العظيمة إلا بعد اثني عشر عاما، وكان من وجهوني هذه الوجهة هم مري ولفنجستون وزيمرن وكورنفورد وكاسون وزمرتهم، وقد ترد علي بقولك إني بذلك قد أوضحت قضيتي وإني كنت بحاجة إلى اثني عشر عاما أو أربعة عشر عاما أخرى؛ لأني من الذين لا ينضجون إلا بعد وقت طويل جدا. بيد أن نفس الشيء قد حدث لغيري ممن أعرف.
وأخذوا ينقبون عن نماذج للنضج المبكر بين الأوروبيين الشماليين؛ فذكروا كيتس وشلي بطبيعة الحال، ثم موزار ومندلسن، بيد أن هوايتهد كان يعتقد أنه بالرغم من كونهم نماذج شائقة، إلا أنه لا يصح أن نعدهم ممثلين لغيرهم، ويرجع ذلك إلى حد ما إلى أن من خصائص الموسيقى والشعر العجيبة أنهما يبلغان حد الإجادة على أيدي الشباب.»
ثم باغتني بحدة سائلا: «أين ملحنوكم الأمريكان، برغم حبكم العنيف للموسيقى؟»
وكانت العبارة التي صيغ بها السؤال تدعو إلى الحيرة؛ لأنه لو كان لدينا ملحنون من مستوى الألمان العظام، غير منازعين، ما وجه إلي السؤال. وكان ما جادت به قريحتي للرد عليه هو أن هذه الفن - فن تلحين السمفونيات، الذي تطور في القارة الأوروبية في القرنين أو الثلاثة قرون الماضية - دخل أمريكا بعد ما بلغ قمة التعقيد؛ ومن ثم فإن ملحنينا بدلا من أن يبدءوا من حيث بدأ الأوروبيون - في بساطة - بدءوا بالتعقيد، وحاولوا أن يزيدوه تعقيدا، وربما كان من سبق الأوان أن نحكم أكان ذلك نجاحا أو فشلا.
المحاورة الثامنة
8 من مايو 1936م
تناولت العشاء مع آل هوايتهد، وقد أمعنا في فصل الربيع إلى درجة لا يستحب فيه المسير على الأقدام من ميدان هارفارد إلى النهر، وأزهرت أشجار الدردار، واخضرت بقاع العشب الصغير أمام بيت هكس، ذلك المسكن الريفي الأبيض الخشبي ذي السقف المنحني، الذي كان مقرا للجنرال إسرائيل بتنام أثناء حصار بوسطن في عامي 1775م و1776م، وقد أبعد الآن عن مكانه الأول وأصبح مكتبه دار كيركلاند، ثم ظهر بعد ذلك المدخل المقوس لبيت كيركلاند ذاته، ذلك المدخل الضخم الرسمي بما فيه من أبواب حديدية مثبتة في واجهة من الطوب الأحمر على طراز عصر النهضة، وبدت بعد ذلك على رأس زاوية تقاطع شارع بويلسطن ومموريال درايف واجهة أخرى من طراز عصر النهضة، وهي واجهة المكتبة بدار إليوت، التي تعترض نوافذها التي تتجه غربا أعمدة قصيرة بيضاء.
وقد اخضرت كذلك شواطئ النهر، وازدهرت أشجار الجميز التي تمتد على جانبي مموريال درايف، وكان سطع النهر ساكنا لا يهتز كأنه صفحة المرآة، ولا يشق سكونه إلا بضعة ملاحين رسوا منذ برهة عند مرسى «نول» ثم رفعوا سفينتهم إلى أعالي النهر مزمعين السير إزاء الرصيف حتى يبلغوا مرسى القوارب، وانبعث من النهر نسمة باردة تفوح برائحة الماء العذب المستساغة، التي تنعش الروح كما جاء في أغنية شوبير.
وكان العشاء في السابعة، أو في السادسة فعلا؛ لأننا دخلنا الآن فيما يسميه الفلاحون «ضوء النهار الضائع»، والضيوف الآخرون نورث ومارجت وشيلا، وهم الابن وزوجته والحفيدة على التوالي، و«دكتور والتر ب. كانون».
1
وزوجته كورنيليا.
2
وهو رجل من الغرب الأوسط أحمر البشرة بغير هندام، ذو صوت عميق، ساذج، صريح، لا يعرف اللغو، حجة في موضوعه، مثقل بألقاب الشرف التي لا تبدو على مظهره. وزوجته شديدة الشبه به، روحها الفكاهية قوية، رقيقة، متعلمة، بارعة، ذكية، لا ترى داعيا للانحياز. ولم تكن هناك حاجة إلى ضياع الوقت في المقدمات الاجتماعية.
وانعكست على المائدة أشعة صفراء منبعثة من الشمس الغاربة، ممتدة فوق الأسقف والمسلات وقمم الأشجار في كمبردج، وكان لها على المائدة بريق الفضة وتلألؤ الزجاج، وهي ترسل الضوء براقا فوق أعواد السوسن الصفراء المودعة في إناء للزهر وسط الغرفة، وكانت مسز كانون على أحد طرفي المائدة، ومسز هوايتهد على الطرف الآخر.
وتحدث الدكتور كانون عن روسيا وألمانيا والصين حيث كان يقوم بالسياحة ويحضر مؤتمرات طبية في الصيف الماضي.
وكان إيفان بافلوف، العالم الروسي (صاحب نظرية رد الفعل المشروط) أحد أصدقائه القدامى، وذكر لنا أن بافلوف - كعادته - كان يعلق على الحوادث العالية إبان الأيام الأولى للثورة، وذلك قبل أن يبدأ سلسلة محاضراته العلمية المنتظمة. استدعته التشيكا (وهي الهيئة القديمة التي كانت تقاوم النشاط المناهض للثورة)، وبعدما استجوبوه برهة من الوقت، أخرج ساعته وقال: «أرجو المعذرة أيها السادة؛ فإن عندي محاضرة علي أن ألقيها.» ثم انصرف.
فقال هوايتهد: «إنك تستطيع أن تفعل ذلك لو كنت مثل بافلوف، وإلا ذهبت إلى سيبريا.»
وقال الدكتور كانون: «إن الدبلوماسيين والقناصل الأجانب في روسيا ليس لهم أصدقاء من الروس؛ فالروس لا يجسرون على أن يروا وهم يتحدثون مع الموظفين الأجانب. كان بلننجراد قنصل بريطاني يهوى دراسة فنون الغجر الشعبية، وكان سعيدا بما كان يتوقعه من ذهابه إلى هناك؛ لأن الرجل الروسي الذي يعد حجة في شئون الغجر يقطن هذه المدينة ويعلم فيها، ولكنه قضى فيها عامين دون أن يتمكن من مقابلته. وقد ألقي القبض على صديقين لآل بافلوف، وهما عالم شاب وزوجته؛ قبضت عليهما الهيئة التي تقاوم الحركة المناهضة للثورة، في وقت كان ولدهما الصغير الذي لا يجاوز السابعة من عمره، نائما، وحبسا منفردين دون أن يصرح لأحدهما بالاتصال، وقد شهدهما البواب وهما يبعدان فأخبر آل بافلوف الذين أخذوا الطفل عندهم، وباتصال بموسكو استطاعوا إطلاق سراح الأبوين بعد أسبوع، ولكن الأم كانت محطمة وربما لا تشفى مما أصابها أبدا؛ وترتب على ذلك حتما أن ينشأ الطفل في جو استثنائي جدا، فهو يذهب إلى المدرسة تحت الحراسة، ولا يجد له زملاء في اللعب.»
وقال هوايتهد: «إن مطاردة العلماء من أعراض الانحلال الاجتماعي، وهي تظهر في أوروبا الغربية أيضا بين الحين والحين. إن هؤلاء العلماء في فزع دائم.»
فقال الدكتور كانون: «هو كذلك، وهم ينقلونه معهم. حينما زارني بافلوف هنا في كمبردج كان الجو حارا رطبا في يوم من أيام شهر يوليو، وكانت أسرتي في هامبشير الجديدة، وصحبته إلى ميدان هارفارد، فسألني: وأين حارسك؟ قلت: ليس عندي حارس. فأجاب: سيسرق منزلك. قلت: لا أظن ذلك. ولما شاهد عربتي القديمة من طراز فورد في الفناء الخلفي، قال: إن سيارتك الجميلة هذه ستسرق قطعا! قلت: كلا! فقال: عجبا! إذن فمستوى الأخلاق في بوسطن أعلى منه في نيويورك!»
كان قد سرق منه ألفان وثلاثمائة دولار في المحطة الضخمة الوسطى في نيويورك، وكان يريد العودة إلى روسيا من هناك في ذلك الحين، فأرغم على البقاء ضيفا على مؤسسة روكفلر.
وواصل دكتور كانون حديثه قائلا: «وإبان وجوده هنا ربط في ذهني لفظا بآخر وفقا لنظريته المعروفة، وكنا متجهين نحو وودز هول بالقطار، ورأى رجلا في المقعد الأمامي يطالع صحيفة كان بها عنوان بالخط العريض وردت فيه هذه اللفظة
Fizzle (ومعناها أزيز)، فقال شيئا عن
Fitzel
وهو اسم شخص. ومن ذلك الحين ارتبط في ذهني اسم الشخص بالأزيز.»
ثم أخذ الدكتور يصف حادثا في روسيا، وكان قد شاهد رافعة ضخمة تديرها امرأة: «كانت ترفع أطنانا من المعدن، وكأنها ترقد طفلها في الفراش.» وكان واضحا أنه أشد تسامحا في حكمه على السوفيت من كثير ممن زاروا دولتهم أخيرا، وقد أقر أنها قد رفعت من مستوى عامة الناس.
وقال عن ألمانيا إنه التقى بزميل له في المهنة في منخن، ذكر له أن روح الجامعات الأمريكية وحريتهم العقلية التي تكونت خلال القرون قد سحقت سحقا. «ولم أر في حياتي شخصا أشد منه حزنا.»
وقص لي: «أن يهوديا شابا من مشاهير الرجال قد فصل من أستاذيته، وعرضت وظيفته على أحد أصدقائي من الألمان، فأجاب بقبولها، ولكن بامتعاض شديد. وكان جزاؤه إبعاده عن كل مكتبة وكل معمل في ألمانيا. والظاهر أن من رأي النازيين أن الجامعات لا توجد للتقدم العقلي وإنما توجد لتربية «الزملاء» وذلك بقرار صادر من برنارد رست، وزير الثقافة والتربية في الرايخ، الذي يتحكم في الجامعات.»
فسأل هوايتهد: «وكيف ينشأ ذلك في ألمانيا؟ هل يمثل من يقوم بطلاء البيوت الألمان لأنه يقوم بهذا الطلاء؟ (وعندهم الكثيرون ممن يقومون بطلاء البيوت!) وهل هذا التجنيد تعبير عن الروح الحربية، أو عن صغار الرجال؟ لو أن آل هوهنزلرن قد خلفهم دكتاتور نابليوني لامع لأمكن تفسير ذلك بالروح العسكرية، إنما الأمر يبدو كأنه أقرب ما يكون إلى ثورة الأغبياء.»
وقال دكتور كانون: «أعتقد أن الشباب هو الذي يرى في هتلر فرصة للحصول على ما يريدون في الحياة، وهم لا يعبئون إلا قليلا أي قيم عليا تتلاشى في سبيل ذلك وكيف تتلاشى. إن ذوي العقول الممتازة في الجامعات كثيرا ما يستسلمون بسبب ما يرونه يحدث من حولهم. ونحن عندنا الآن جماعة من الشبان مثل هؤلاء، وللسبب عينه، يغضبهم إنكار الفرص الاقتصادية.»
وقالت مسز كانون: «كما يحدث في الدنمارك، حيث ترى حملة الدكتوراه يبيعون أربطة الأحذية في الطرقات.»
فقال هوايتهد: «لست أرى لماذا لا يبيع حملة الدكتوراه أربطة الأحذية، إنهم يستطيعون أيضا أن يتفكروا في المشكلات الفلسفية.» - «كما كان سبنوزا يصقل العدسات!» - «هذا عمل أفضل، ولكن خير للناس أن يتعلموا في المدارس من ألا يتعلموا فيها، سواء باعوا أربطة الأحذية أم لم يبيعوها.»
قال الدكتور كانون: «المشكلة هي أن كثيرا من الأمريكان لا يريدون التعلم من أجل ذاته، وإنما يريدونه أملا في الحصول على عمل أفضل.»
وسألت مسز كانون: «ألا نستطيع أن نربي جيلا يرى قيمة التعلم في ذاته ومن أجل ذاته؟ إن النعمة كلها التي يترنم بها كل الشباب الذي نقابله قد تغيرت في ست سنوات، من موسيقى الجاز في عام 1920م، إلى اهتمام جدي في المسائل الاجتماعية.»
واتجه الحديث إلى الوقت البالغ في طوله الذي يستغرقه الطالب في التعلم حتى يصبح طبيبا، وقال كانون إن ذلك راجع إلى قرار إليوت الذي يقضي باستبعاد الدراسات الممهدة للطب من مرحلة الآداب الحرة، وإن كان الطالب باختياره العلوم يستطيع إلى حد ما أن ينقض هذا القرار. أما الشباب الذي يأتي من الجامعات الغربية، وهو يحمل بكالوريوس العلوم، فإنه يستطيع أن يستغني عن العامين الأولين في مدرسة الطب.»
وقالت مسز كانون: «إن الشاب عندنا في سن الثامنة والعشرين، إذا كان من خريجي كلية الطب ماهرا في الجارحة، يتقاضى كطبيب امتياز راتبا سخيا يبلغ خمسين دولارا في الشهر.»
ورأى هوايتهد أن الشاب يجب أن يكون قادرا على أن يبدأ مهنته الطبية في سن السادسة والعشرين.
وقال: «إن الخيال يكون على أوسعه بين التاسعة عشرة والخامسة والثلاثين، ويسير المرء بعد ذلك إلى حد كبير على الأسلوب الذي مارسه في هذه الفترة، ويجب أن يبدأ الطبيب عمله إبان فورة خياله.»
وقالت: «ألم يكن هدف إليوت - كما كان هدف مستر لول - أن ينقذ كلمة الآداب الحرة من أن تنقرض من الصفوف العليا بإقحام الدراسات الإعدادية للمهنة؟»
فقال هوايتهد: «إن كثيرا من الدراسات الحرة يعطى في أوروبا في المدارس التي تعد للجامعة. أما هنا في هارفارد، فلا يزال المستجدون يعاملون كطلاب الصفوف العليا من الثانوي، ويمتحنون مرة كل أسبوع للتأكد من أنهم يعملون.»
وسأل دكتور كانون: «هل تذكر تعريف وليام جيمس لمثل هذه الاختبارات؟» قال: «إنها لا تعدو أن تكون كنفخ المعدة!»
وأغرقنا في الضحك.
وانتقل الحديث إلى موضوع عداوة الطلاب الشديدة للأساتذة، وهل لم تخف هذه العداوة في هارفارد؟ إن جانبا كبيرا منها لا يزال قائما، ولكنها آخذة في التخفف.
وقال نورث: «يبدو أن الطلاب يخجلون من الاعتداء على وقت مدرسيهم، كأن هذا ليس من واجبنا!»
وقال أبوه: «أو بصراحة، كأن ذلك ليس ما نؤجر عليه.»
وقالت مسز كانون: «إننا لا نستقبلهم في بيتنا إلا مرتين في العام.»
وسألت مسز هوايتهد: «وهل يتم ذلك في مواعيد منظمة؟» - «كلا، ولكن لمستر كونانت مواعيد منظمة، ويعتقد آل كونانت أن الحفل يكون كبيرا لو حضره ثلاثون من مجموعة يبلغ عددها ستة آلاف.»
فقال هوايتهد: «إن الرئيس لا يتوقع بالطبع أن يقابل الآلاف الستة. إن الشاي الذي يقدم إن هو إلا إشارة، وأذكر لكم أنه إشارة نافعة، ولكنه يجب أن يبقى إشارة فحسب.»
فقالت مسز هوايتهد: «يحسن أن تكون الحفلات في المساء، بعدما ينقضي عمل اليوم.»
فقال نورث: «نسمع في الكليات الأخرى أن الطلبة الذين يصادقون مدرسيهم يوصمون بالشك في أنهم يداهنوهم كي يحصلوا على درجات طيبة؟» - «هذه عقيدة بدائية آخذة في الزوال السريع.»
وسأل نورث دكتور كانون مقاطعا : «هل هناك موت بالسحر؟» وهو يعلم بالتأكيد أن الدكتور لا بد أن يكون قد تعرض لذلك بالبحث.
ثم تلا ذلك جدل علمي عن التجارب الموجهة. وهلا يدس الرجل الذي يدعي الطب السم لفريسته سرا. وذكرت في هذا الصدد أمثلة من أستراليا ومن الآداب القديمة. ثم أثيرت بعد ذلك هذه المشكلة: كيف وصل الأمريكان الأصليون إلى هذه القارة من آسيا؟ هل كان ذلك عبر مضيق بهرنج أو عبر المحيط الهادي من جزيرة إلى جزيرة؟ وروت مسز كانون أنها شاهدت طفلا حديث الولادة في بلاد المغول وعليه العلامات المغولية الزرقاء (التي يتميز بها هذا الجنس) في عجزه، وقالت إن الطفل قد اختير اعتباطا بوساطة ممرضة في بيت من بيوت الأمومة. وأضافت إلى ذلك أن رجلا دنماركيا أنجب طفلا من امرأة من الإسكيمو في جرينلاند ولاحظ الظاهرة عينها في الوليد. إنها سرعان ما تختفي بعد الميلاد.
ولما كان أحد من الحاضرين - فيما يبدو - لم يعرف عن أي طريق جاء الأمريكيون الأوائل، استؤنف الموضوع بعد ذلك بأيام عندما حضر دكتور ألفرد فنسنت كدر الأثري الذي استكشف كهوف السكن في الجنوب الغربي من أمريكا وفي أطلال مايا في غابات جواتيمالا.
وقال: «لا جدال في أنهم أتوا عبر مضيق بهرنج منذ نحو خمسة وعشرين ألف عام، إما على الأرض التي جفت في نهاية العصر الجليدي، أو فوق الجليد، أو في الزوارق. أما الحيوانات فقد دخلت جميعها على الأقدام. وتسألون عن العلامة المغولية.» وتناول الموضوع باهتمام قائلا: «كنت في حفل عشاء في جواتيمالا، وسألني أحدهم عنها. وقالت مضيفتنا: إن طاهيتي قد أنجبت طفلا منذ وقت قريب. وصفقت بيديها (وهي الطريقة التي ينادون بها الخدم هناك)، وقالت: اطلبوا إلى ماريا أن تأتي بطفلها، وجيء بالطفل، وقلبته المضيفة ظهرا عن بطن وأطلعتنا على عجزه الصغير، وتأكدنا جميعا من وجود [العلامة]!» •••
وأسدلت ستائر النوافذ بإحكام في المكتبة وأوقدت الشموع، واكتسب المكان بهجة من أواني الزهر التي ملئت بأعواد التفاح ذات الزهر القرنفلي والأبيض، وسرني أن أشاهد وجه هوايتهد الرصين الوضاء ، في هذه المكتبة البسيطة الجميلة، مكتبة الرجل الباحث، وبدا عليه قليل من الإجهاد.
وبينما كنا نتناول القهوة تحدث دكتور كانون عن رحلته في الصين، وكان أحد تلاميذه السابقين وزيرا للصحة العمومية في حكومة نانكنج، وقد شجعه على التحدث إلى مائتي طالب يعرفون الإنجليزية. - «وعند رؤية تماثيل بوذا البرونزية التي تخلو من التعبير ثبطت همتي، ولكني رويت قصة فكاهية، فضحكوا جميعا، وجرى ريقي طبيعيا مرة أخرى، وشعرت بالاطمئنان. إن الصينيين يضحكون من نفس النكات التي نضحك منها، أما ما يضحك اليابانيين فلا يعرفه غير اليابانيين.»
وقال هوايتهد: «لقد أديتم أيها الأمريكان خدمة كبرى للغة الإنجليزية بفضلكم في مقاومة الجمعية الصينية التي تعادي الأجانب.» - «هذا ما وجدت. إن كلياتنا تبعث إلى الصين بالفوج في أثر الفوج من الصينيين بعد تعلمهم اللغة الإنجليزية.» - «لقد قدر للإنجليزية أن تكون اللغة العالمية الثانية.»
وسأل الدكتور: «هل كان بوسع شكسبير أن يفهم اللغة التي نستعملها على لوحات الإعلانات في القطارات التي تسير تحت الأرض؟ وفيها ألفاظ مثل فيتامين وجرثومة، وما شابههما؟»
وقال نورث: «لا شك أنه كان يلتقطها في لمح البصر، وكان بالتأكيد يسر من العامية الأمريكية.»
وأضاف أبوه قائلا: «وبخاصة الزوائد منها. هلا يمكنكم أن تتخيلوه وهو يؤلف منظرا عن فولستاف وهو يندفع إلى حانة «بورهد» صائحا: جي، هويز!» (وهي زوائد من اللغة الأمريكية لا معنى لها.)
ورأى بعضنا أن العامية كانت تصبح بذلك أقوى.
وسأل الدكتور: «لماذا نحرم استخدام لفظ «ملعون» (وهي تقابل لفظة في اللغة العامية الإنجليزية لا يستحب ذكرها)؟» - «لأنها مشتقة من القسم بالعذراء.»
قال نورث: «ولكن التحريم لا يشمل كل أنحاء العالم.»
وعاد دكتور كانون إلى موضوع ما يضحك الصينيين قائلا: «عندما كان هوارد لندسي يمثل مسرحية «الحياة مع الأدب» في فيلادلفيا، عاد شاب صيني بعد الأداء يشكره على قضاء سهرة ممتعة، وتعجب لندسي لذلك؛ إذ ماذا عسى أن يكون هناك في حياة عائلة أمريكية ما يثير الضحك في رجل من الصين؟ وسأله لندسي: «أرجو أن تذكر لي ما أشد ما أمتعك في المسرحية؟» فأجاب الصيني قائلا: «إن أبي كان يحدث مثل هذا الضجيج تماما ساعة الإفطار».»
المحاورة التاسعة
19 من أبريل 1937م
ظهرت في خلال عام واحد ثلاث روايات عن بوسطن، آخرها العنبر رقم 8، من تأليف جوزيف دنين، وهي دراسة سياسة البلدية، مع رسم صورة حية لمارتن لومازني، وهو رجل وسط بين أن يكون حارسا أو قيصرا في «الحي الغربي». وتعالج الرواية الأحياء الثلاثة الأخرى بالمدينة التي لم تتعرض لها رواية المرحوم جورج أبلي من تأليف جون ماركاند، وإن لم تغفلها كل الإغفال. أما قصة سانتايانا «آخر بيوريتاني» - وهي أوسع انتشارا - فكأنها تنتهي قبل القصتين الأخريين بفترة مداها عشرون عاما.
وكان هوايتهد وزوجه يقرآن في ذلك الحين قصة العنبر رقم 8، فسألوني: «هل تعرف المؤلف؟» - «بالتأكيد. وهو مراسل لجريدة جلوب.»
فتهافتا سائلين: «زدنا به علما. كم يبلغ من العمر؟» - «حوالي الأربعين.» - «هل ولد في بوسطن؟» - «نعم ويعرفها جيدا من الداخل.»
فقال هوايتهد وهو يبتسم مبتهجا: «لقد عرفنا ذلك من قبل، ولكنا لم ندر أهو قد أرغم على الإحساس بالقلق على أثر صدور كتابه؟» - «قابلته بالأمس في الطابق العلوي في حجرة المراسلين، ووجهت إليه نفس السؤال، فأجابني بقوله: «في أماكن معينة تستطيع أن تقدرها أضطر إلى الإحساس كأني رجل أبرص في مرحلة من المرض متقدمة.» بيد أن ذلك لم يؤثر البتة في ظهوره بمظهر اليائس.»
وقالت مسز هوايتهد، وهي أيرلندية الأصل: «ما أشد فهمه لشعبه!» - «هذا بعض تهمته، بيد أن الحكم ليس إجماعيا.» - «هل تستطيع أن تأتي به إلينا؟ وهل يقبل الحضور؟» - «لا أستطيع أن أتعهد بذلك، ولكني سوف أحاول.»
وكان الأمر أيسر مما توقعت. وذهبنا، وكان هوايتهد وزوجه كلاهما في أحسن حالاتهما، فاستقبلانا أحسن استقبال؛ في لطف ورعاية واشتياق، ولكن في غير استسلام، وسرني أن أرى جو وقد خرج على ما اعتاد من عدم المبالاة، وبدأ بدفاع عام عن طريقته، وعملا على هدمها بطريقة سقراط في السؤال: أية خدمة يؤديها الرئيس؟ هل هو وكيل لتوريد العمال؟ نعم. هل يدخل الروح الإنسانية في العنبر ؟ نعم. ولكن أليست الجزية التي يفرضها باهظة؟ وما رأيك في بيع أصواتهم بعد أن يدفعوا له مبلغا نظير توفير العمل لهم؟ هل تستطيع أن تدافع عن الغرض من ذلك؟
وتناول دنين الموضوع بروح طيبة، وكان فوق ذلك يعلم أن مسز هوايتهد تعطف عليه، وأنها وزوجها يعجبان بالرواية، وأخذ يشرح لهم مشكلات المجتمع في اتحادات العمال، الاتحادات التي تتوقع أن يبيعها وكلاؤها المنتجون، الذين يبررون عملهم هذا صراحة بحجة مقتضيات السياسة، كما شرح لهم مشكلات المجتمع في الأعمال التجارية والمالية والصحافة، وقال إنه جو عام يحيط بنا.
وانتقل الحديث إلى الموازنة بين النظام الاجتماعي في أمريكا والنظام الاجتماعي في إنجلترا، وقال هوايتهد: «عندنا في إنجلترا نظام فاسد ورثناه من نظام الإقطاع في العصور الوسطى، وهو نظام ما كان ينبغي أن يطبق، ولكنه في الواقع يطبق بنجاح لا بأس به، في حين أنكم هنا في أمريكا لديكم نظام ممتاز ينبغي أن يطبق بنجاح تام، ولكنه في الواقع يطبق تطبيقا فاشلا إلى حد ما.»
قلت: «إن نظامكم يبقي كل فرد ينتمي إلى طبقة معينة في طبقته، ولكن بذلك يمدها بقادة قادرين، مما يرفع الطبقة كلها تدريجا. أما نظامنا فيسمح للفرد بالارتفاع، ولكنه بذلك يحرم طبقته من قادتها الطبيعيين؛ ويترتب على ذلك أن تبقى الطبقة منحطة في جملتها.»
فقال دنين: «هذا أمر عجيب لم يطرأ على ذهني من قبل.» - «ولم يطرأ على ذهني أنا أيضا يا جوزيف حتى نبهني إليه مستر هوايتهد منذ عام، ومن ذلك الحين وأنا أفكر فيه.»
وعاد هوايتهد إلى الحديث، وقال عن نظام الطبقات في إنجلترا: «هناك، حيث يكون
نرى أن هذه الطبقات الحاكمة قد زادت قانون الفقراء قسوة وشدة ، في حين أن أعيان المحافظين (التوري) هم الذين وقفوا موقف المقاومة العنيفة، بالرغم من أن القانون الجديد يخفف من أعبائهم المالية عن ذي قبل. أما هنا فالأجور قد تكون أكثر ارتفاعا، وقد تتوافر الراحة، وتسير الأمور في يسر، غير أن ما يترتب على انحراف الحظ أو على كارثة من الكوارث مزعج شنيع، وكأن مصير الفقراء لا يهم أي إنسان. إن فوارق الطبقات في إنجلترا قد تكون صارمة في العلاقات الاجتماعية الكبرى، ولكنها هينة لينة في العلاقات الصغرى. إن أبناء الفلاحين يلعبون الكريكت مع أبناء الأعيان. أما هنا فإن أخوتنا السطحية بين الطبقات تعمي أبصارنا عن الفجوات العميقة التي تفصل بينها، حتى يقع الصدام.»
وقال دنين: «وما رأيك في التجاء أصحاب الأعمال في متشجن إلى القضاء حينما تقاعد العمال مضربين؟» - «طبقا للقانون الحالي هذا النوع من الإضراب غير شرعي على الأرجح. إنهم إذا مكثوا في المباني وامتنعوا عن العمل كانوا معتدين على ملك غيرهم. أما إذا كان ذلك هو الموقف الذي ينبغي أن يقفه القانون فأمر آخر. إن التطبيق الصارم للفكرة الحالية من حقوق الملكية (وهي أن يفعل المرء ما يريد بما يملك) قد ينفع في الوحدات الصغيرة كالحوانيت الكائنة بشارع جبل أوبرن التي لا تستخدم إلا نفرا قليلا من الناس. أما في الصناعات الجماعية الكبرى التي تؤثر في حيات مئات الألوف من الناس، فيبدو لي أن الحكومة يجب أن تتدخل - إذا دعت الضرورة - للتوجيه كي تضمن سير الإدارة في خدمة مصالح الكثيرين، وخير وسيلة لذلك - في ظني - أن تترك الإدارة الفعلية للعمل الحر حتى لا تفسد عامل الابتكار، ولا تمارس الحكومة إلا سلطة عامة للإشراف وتلك هي الفرصة الوحيدة التي تكفل للنظام الرأسمالي البقاء فيما أحسب.» - «وليست الرأسمالية كما تعلم قديمة العهد، فتاريخها يرجع إلى ثلاثمائة عام على الأكثر. وكثيرا ما يتراءى لي أن آدم سمث قد أخطأ في حقنا خطأ جسيما حينما أكد الدافع الاقتصادي. إنه دافع هام من غير شك، فنحن لا بد أن نأكل، ولكنه ليس مهما إلى هذا الحد. تصوروا ما يمكن أداؤه بتأكيد دوافع تقدير الجمال، إني أستطيع أن أتصور حال مجتمع - حتى في ظل نظامنا القائم - لا يساور فيه القلق الشديد نفوس الآباء على كسب أبنائهم للمال الوافر، كما نراهم الآن؛ أعني ذلك الكفاح الذي يرهق الأعصاب الذي يقوم به الآباء الأمريكان في سبيل رفع أبنائهم بأي ثمن إلى طبقة أعلى من طبقتهم من حيث الدخل، وهو ما يعبرون عنه بقولهم: «أن أعطي أبنائي فرصة أحسن من فرصتي.» ولكن فرصة لأي غرض؟ هل لزيادة المال أو للأمور التي تتعلق بالذهن والروح؟» - «وأستطيع أن أتصور مجتمعا - حتى في ظل الرأسمالية - لا يهم فيه كثيرا إن كانت الأسرة تملك مالا كثيرا؛ فهناك الموسيقى، والفرق المجانية، وهناك الراديو، (وأنا أعرف أن الراديو لا يبلغ من الجودة مبلغ صالات الموسيقى، فالمرء لا يريد أن تأتيه الموسيقى من اتجاه واحد وصادرة عن صندوق، وإنما يريدها محيطة له من كل جانب، وبرغم ذلك فالراديو يصلنا بالموسيقى الجيدة.) وهناك الصالات التي يعرض فيها الناس مسرحياتهم، وهناك المحاضرات، والندوات التي ربما يعرض المشكلة فيها متحدث في الإذاعة ثم يتابع النقاش فيها جمهور المستمعين، وهناك روايات السينما التي تقدمها الدولة للجمهور بالمجان على نطاق واسع حقا، وهناك الملاعب لضروب الرياضة المختلفة، وهناك المكتبات العامة التي هي لدينا بالفعل. وأرجو ألا تفهم من ذلك أني أعني أن يكون ذلك كله سمجا ثقيلا؛ فهناك الموسيقى الخفيفة، والمباريات الودية، والمسرحيات المسلية، ولكن في مثل هذه الظروف يستطيع الفرد العادي أن يكفل لنفسه حياة طيبة دون مال كثير.»
وفي الساعة العاشرة قدمت لنا الشوكولاتة الساخنة، وانصرفنا في منتصف الساعة الحادية عشرة، واضطر دنين إلى العودة إلى مكتب صحيفة «جلوب»، ولما كان قد نقلني إلى كمبردج في عربته، فقد حملني في العودة إلى تل بيكن. وفي الطريق كنا نتناقش في رواية «المرحوم جورج آبلي» التي اطلع عليها كلانا، وفي خلال المناقشة أخذنا نسرد ما أفدناه في هذا المساء.
وقال دفين: «إنني لا أعرف أين أبحث عن أي أمر في مدينة بوسطن بعيدا عن آل آبلي.» - «إنهم - برغم هذا - أصدقاء أوفياء لكثير من آل آبلي، ويقدرون صفاتهم الطيبة.»
ووافقني على ذلك جوزيف في شيء من شرود الذهن قائلا: «ربما كان ذلك صحيحا.» ثم انفجر - والسيارة تندفع بنا - قائلا: «إنني خرجت بهذه النتيجة، إنه مستعد للإجابة عن كل سؤال، أكثر من أي شخص آخر قابلته في حياتي. ألم تقل لي إن مادته كانت في الأصل علوم الرياضة؟» - «نعم.»
فقال دفين: «إنه عالم بالرياضيات العليا.»
المحاورة العاشرة
24 من مايو 1937م
أخذت السماء تصفو في الأصيل بعد هطول الأمطار، وانبعثت رائحة عطرية من الحشائش وأوراق الأشجار المبتلة التي تقع على طريق مموريال درايف بحذاء شاطئ النهر وقد اخضارت وأينعت في شهر مايو.
وكان آل هوايتهد بالانتظار في مكتبتهم بمسكنهم في راندور هول، وكانت خادمتهم قد استأجزت هذا اليوم، وكانوا يتضاحكون سرورا من استمتاعهم بخدمة أنفسهم. - «ونحن نؤدي هذه الخدمات بطريقة سيئة على وجه الجملة، وتجهدنا إجهادا تاما.»
وكان مستر هوايتهد يرتدي حلة المساء الرسمية، ذات السترة السوداء مدببة الذيل والياقة المنشية، وربما كان يقوم ببعض العمل الأكاديمي. وقدم الشاي، ودار الحديث حول موضوع التسامح.
فقال: «ليس هناك تسامح إلا إن كان هناك ما يدعو إلى التسامح، ومعنى هذا - من الناحية العملية - على الأرجح أن هناك من الأمور ما يعده أكثر الناس غير محتمل.» - «هل تعتقد أن روح الاضطهاد خاصة بالديانات، أو ببعض الديانات دون بعضها الآخر؟ فلم تكن الهلينية - مثلا - دين اضطهاد.»
فقال هوايتهد: «إن الدين يحمل نوعين من الناس يسيران في اتجاهين متضادين تماما. إنه يحمل الرفقاء ذوي القلوب الرقيقة نحو الرأفة والعدالة، وهو يحمل محبي الاضطهاد نحو القسوة الشيطانية وإيذاء الناس. ولو أن ذلك ربما يبرر في ظاهره ما نادى به القرن الثامن عشر - عصر التعقل - من دعوى أن الدين ليس إلا خدعة منظمة كبرى، ولعنة على الجنس البشري، إلا أنه أبعد ما يكون عن الحقيقة. إنه يحوي هذين الوجهين، ويستهوي وجه الشر منهما الأفراد المستعدين للكراهية الصميمة، بيد أن ما يحدث فعلا هو أنك عند إثارة الطبائع حتى أغوارها السحيقة بشأن المشكلات التي تحس أهميتها السحيقة، عندئذ تثير فيها الشر كما تثير فيها الخير، أو الطين والماء. وليس من المهم كثيرا - فيما يبدو - أي المذاهب تناشد؛ لأن الوجهين يظهران في جميع المذاهب.» - «إن بعض الديانات تزعم لنفسها نظاما محكما، نظاما يقوم للإجابة عن كل سؤال، فهل لذلك علاقة بالأمر؟» - «ألا يتضمن تعريفي السابق الرد على هذا إلى درجة كبيرة؟ ذلك أن الناس حينما تقوى مشاعرهم إزاء موضوع ما، يعتبرون أمثال هذه الأسئلة مما لا يقبل الجدل.» - «وهل الابتعاد المحايد عن مثل هذا الجدل (على فرض السماح به) يعد موقفا ذا أثر فعال؟» - «يتوقف ذلك على ما تعني بذي أثر فعال، إننا نتوقع من الأفراد، ذوي الأثر الفعال، أن يعملوا، والعمل يؤدي بك إلى النزاع.» - «إن ذلك يقودنا إلى موضوع العنف. أذكر أنك قلت في كتابك «مغامرات الأفكار» - وهو من الكتب القلائل التي استطعت أن أقرأها على ظهر السفينة - قلت إن المسوغ الوحيد لاستخدام القوة هو تخفيض مقدار القوة التي لا مناص من استخدامها.»
قال: «لو أن شابا يجعل من نفسه إنسانا مزعجا شيطانيا بصعوده السلم في هذا البناء وهبوطه منه وهو ثمل، فيقض بذلك مضجع اثنتي عشرة أسرة تقطن ما به من مساكن، لو أن شابا فعل ذلك لكتبنا رسالة بشأنه إلى الصحيفة اليومية أو استدعينا البوليس بالتليفون؛ والتصرف الأول شكوى لينة، وفي الثاني استخدام للقوة. ولو أصر على عمله لجأنا إلى إبعاده، وفي ذلك حد من تصرفه.» وابتسم ساخرا ومتشاغلا.
وانتقلنا إلى موضوع عدم المقاومة، وهل لا تظهر إلا كسلاح أخير لقوم عزل من كل سلاح سواه، فكان ظهورها في روسيا القيصرية، والهند البريطانية، وبين المنادين بالقضاء على الرق في أمريكا، ودعاة السلام إبان الحرب؟
وظنتني مسز هوايتهد بهذا أتحدى السياسة البريطانية الاستعمارية في الهند، فشرعت تسوغها حتى شرحت لها أننا إنما أثرنا الموضوع لأهمية السيكولوجية فحسب، وذكرت الفصل الوارد في كتاب «لم أجد سلاما» لصاحبه وب ملر، وما جاء فيه عن التكتل القائم بين المؤمنين بعدم المقاومة في الهند، ودلالة ذلك على أن عدم المقاومة يزيد - فيما يظهر - من وحشية المهاجمين. ولما لم يلق هذا الموضوع قبولا بوجه خاص (وهو أمر كان ينبغي لي أن ألم به من قبل) تخلينا عنه لنتحدث في غيره، وهو: كيف تتجه الموهبة في أشكال المجتمع المختلفة؟
فقال هوايتهد: «إن الأرستقراطية ترحب بالموهبة. لم يكن ل «برك» حسب ولا نسب، ومع ذلك فقد يسر الأرستقراط أن يضموه إليهم، وكان دائما يظفر بمقعد في البرلمان؛ لأنهم كانوا يعرفون أنه من النوابغ. وكانت الملكية - كما كان بيت هانوفر طوال تاريخه - غير شعبية دون أن ينجم عن ذلك ضرر؛ إذ كانت تسمح بأن تتولى الحكم جماعة من البرلمانيين بإمكانهم دائما أن يهددوا الملوك بأنهم إذا أساءوا السلوك أعيدوا إلى البلاد التي أتوا منها! ومن ثم انفسح مجال الأعمال الجليلة لأصحاب المواهب، وحتى الطبقات الوسطى كانت صاحبة امتياز حتى الحرب العالمية، كانت كذلك فعلا بالرغم من أننا لم ندركه. وكان أبي على يسر معقول برغم أنه كان قسيسا ريفيا، ومع ذلك دفعت نفقات تعليمي فعلا من اعتمادات التفوق حتى بلغت الجامعة وخلال تعليمي الجامعي، ولم يكن ذلك لعجزنا عن سد النفقات، وإنما كان لأننا لم نطالب بالدفع. أما الآن فقد تغيرت الحال؛ فالمفروض أن تنفق اعتمادات التفوق - فيما أعتقد - على الطلبة المحتاجين إليها وحدهم.»
وكان التليفون يدق باستمرار، وكانت مسز هوايتهد تنهض بين الحين والحين وتذهب إلى غرفة جلوسها لكي تجيب عليه. ولما عادت أخيرا جلست على ذراع المقعد العميق الذي كان يستوي فيه زوجها وقالت: «إنه عميد إحدى كليات الشباب في ماساشوست وزوجه (وذكرت اسمها)
- «لتناول العشاء؟» - «كلا، بل بعد ذلك، لا يجب أن تكون دعوى عشاء، وينبغي أن توفر لنفسك راحتها.» - «إذن فلأنظر في مفكرتي.»
وأخرج من جيبه مفكرة مواعيد صغيرة مصنوعة من الجلد الأسود المذهب الأطراف، واستطلع صفحاتها.
وقال: «يوم الخميس مناسب.» - «سيدعوك إلى إلقاء محاضرات في العام المقبل، ويجب أن تكون حازما.» - «أعرف ذلك.» - «واذكر أنه ألماني، وسوف يرغي ويزبد في الحديث، وعليك أن تلزم الصمت، وينبغي ألا يغلبك بكثرة الكلام.» - «لن أمكنه من ذلك.»
واتجهت إلي وابتسمت لهذا الحوار العائلي، وكان زوجها غاية في الثبات.
ثم دق التلفون مرة أخرى، وكانت المتحدثة هذه المرة سكرتيرة مدرسة إدارة الأعمال، وقالت إن أباها - وهو قسيس ريفي من مين - «يرغب رغبة ملحة في زيارة هوايتهد.» وتذمرت مسز هوايتهد وقالت لزوجها: كأنك الإله بنفسه! يا للعجب، هل أنت إله! وتقرر قبول الزيارة بيد أن الفتاة اعتذرت عن عدم حضورها شخصيا برغم رجائها في ذلك. - «لماذا اعتذرت؟» - «لقد قالت إنها لا تملك ما تأتي به. وهو كلام لا معنى له! ويدعو إلى الأسف. ومن أين لها هذا الحط من شأن نفسها؟»
فقال هوايتهد: «إنه «الإحساس بالإثم»، وهو أسوأ الكوارث التي حلت بالإنسان.»
وبعدما انتهى هذا الحديث العائلي المعترض، عدنا إلى النقاش في الموازنات بين القواعد التي تتحكم في الأشكال الفنية المختلفة، وفي الحيل المتنوعة التي لجأ إليها الفنانون للتعليق على موضوعات فنهم، ومنها أغاني الجوقات في المسرحية الإغريقية، ومنها تلك الصورة الرمزية التي نراها على مقابر مديتشي والتي رسمها ميشيل أنجلو.
وقال هوايتهد: «إنه التاريخ البشري يتحدث في الصور الأربع الرابضة، ولكن أهل مديشيا لا يفقهون ذلك.»
قلت: «يظهر أن ميشيل أنجلو كان يعرف ذلك في حينه، فلما قيل إن تمثالي جوليان ولورنزو لا يشبهانهما، أجاب ميشيل أنجلو بقوله: «ومن الذي يدرك ذلك بعد اليوم بعشرة قرون؟»»
وقال هوايتهد: «أما عن أغاني الجوقات في المأساة اليونانية، فهي تحتل مكانتها، وكأن الشاعر يكف عن الكلام، فتبدأ الطبيعة البشرية - وحقائق الحياة العظيمة الأولى - في التحدث على لسانه.» - «هل من العدل أن نقول - كما يقول الكثيرون - إن الفكر العبري فيه من عناصر الشفقة الإنسانية أكثر مما نجده في الفكر الهليني؟»
وكانت إجابته كأنها حديث مروي، وقد ألقاها في رفق ولين.
قال: «أعتقد أنه لا بد من إضافة هذه الوصية الحادية عشرة: «صادق دائما من يخدمك.»»
المحاورة الحادية عشر
17 من مارس 1938م
يوم العطلة المعتاد احتفالا بجلاء البريطانيين من بوسطن، غير أن الصحف لا تعطل في هذا اليوم؛ لأن هناك دائما استعراضا ضخما جنوبي بوسطن، حيث كانت تصوب مدافع واشنطن من قلعة تيكونديروجا.
وقضيت المساء مع آل هوايتهد، وكان ذلك إثر استيلاء الألمان على النمسا مباشرة، وكانوا يحسون بالاستياء الشديد، وقال هوايتهد إنه يرى الموقف سيئا للغاية. وقالت زوجه إن معناه قيام حرب أخرى عاجلا أو آجلا. وتحدثنا عن تأليف الوزارة البريطانية فقال: لقد أدارت دفة السيارة الخارجية جماعة من المحافظين (التوري) يريدون السلام ما في ذلك شك، ولكنهم يريدونه لأسباب خاطئة، يريدونه لكي يحتفظوا بما يملكون، ولست أريد بذلك أن أقول إنهم خائنون.»
قلت: «ليست بهم حاجة إلى ذلك؛ فإن الطبقات ترى صالح الأمة في صالحها.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن ذلك يصدق على أغراض العمال كما يصدق على المحافظين.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلا: «كان العمال ينادون بنزع السلاح كلما ورد المدفع على لسان متحدث، ثم بدأنا بعد ذلك مباشرة في الصدام - كما حدث عندما شنت إيطاليا حملتها على الحبشة - فصاحوا قائلين: «إن ذلك ما كان ليحدث لو كنا مسلحين.»» - «كنت دائما أتساءل ماذا عسى أن يفعل العمال لو حملوا التبعة على حين غرة؟» فأجابني بقوله: «إن المحافظين والعمال كليهما كانوا يسيرون إلى منتصف الطريق في سياسة خاطئة؛ العمال يعارضون التسلح، والمحافظون يحاولون الصلح مع الدكتاتوريين.» - «يبدو أن الأمر الوحيد في الديمقراطية مما يستحق الإبقاء عليه هو حرية الفرد.»
فعلق على ذلك هوايتهد بقوله: «بل هما أمران؛ أحدهما حرية الفرد، بيد أن علمك بالتاريخ يذكرك بأن في أعماق المجتمع دائما ضربا من ضروب البؤس؛ الرق في العالم القديم، ونظام الإقطاع في العالم الوسيط، والعمال الصناعيون المأجورون منذ تطور العمل الآلي. وعصرنا هو العصر الأول الذي لا يشوبه العوز المادي إذا نظم هذا الإنتاج الآلي بدرجة مقبولة، غير أن روسيا قد خففت من آلام الجماهير على حساب الحرية الفردية، والفاشيين حطموا الحريات الشخصية دون أن يخففوا في الواقع من وطأة الظروف التي يعانيها الجماهير. إن من واجب الديمقراطية أن تخفف من بؤس الجماهير مع الاحتفاظ بحرية الفرد.» - «وهل فيمن نسميهم الأرستقراط فائدة كبرى لنا؟» - «لو ظلوا على قيد الحياة، من رأيي أن ترتفع ضريبة الميراث بحيث لا يمكن لأسرة من الأرستقراط الكسالى أن تعيش، ولكني لا أحبذ تحديد مستوى الدخل، ويجب أن تتوفر للأسرات ذات الثراء حرية التجريب؛ فإن هواية الغني في جيل هي حاجة الفقير في الجيل الذي يليه، من سيارة رولز رويس إلى سيارة فورد. ولولا الأسرات الفنية ما قامت جامعاتكم في أمريكا التي تستند إلى التبرعات الشخصية، وإنما هي هارفارد، وبرنستون، وشيكاغو، وأمثالها، التي ترسم الطريق لجامعات الحكومة، التي لولاها لوقفت جامدة بغير حراك.»
وفي تمام التاسعة دق جرس الباب، وكانت القادمة جريس دي فريز، أنيقة، عالية الروح، ترتدي زيا أسود اللون، مثل مسز هوايتهد، وهو لون يلائمهما كلتيهما. وفي الأسبوع السابق كانت في نانتكت فتوجهت إلى طرف الحقل حيث قبر زوجها الشاب ثاديوس، الذي كان رئيسا للتحرير بصحيفة «جلوب»، ولما كانت نانتكت موطن أسرة دي فرنز لأجيال أربعة، فقد ورد ذكرها بإيجاز، ثم انتقل الحديث إلى ضباب البحر الذي أطبق على الجزيرة، ثم إلى «برك الندى» في منخفضات ولتشير، حيث كان آل هوايتهد يقضون فصل الصيف من كل عام لعدة سنوات. ولما عدنا إلى الحديث في مهام الموضوعات، أثرت ملاحظات هوايتهد التي أبداها في العام الماضي بشأن الأوبرات العظيمة، فصحح ذاكرتي قائلا: «أنا لا أقول إن فاجنر ليس جليلا، أو إني لم أستمتع به، وإنما أقول إن مثل القوة والمجد الذي يستند إلى التاريخ العنصري من الميسور جدا أن يساء فهمه، بل لقد أسيء فهمه فعلا. إن الكفاح والطموح والنشاط البطولي، كل ذلك من الاتجاهات النبيلة، فيها من النبل ما في أي اتجاه إنساني، ولكنها حينما تنحدر إلى مجرد حب للسيطرة تصبح من الشرور.» - «إنني حينما أطبق رأيك هذا بأن مثل هذه السلسلة من الدرامات الموسيقية كان من الجائز أن تحطم النبوغ السياسي للشعب الإنجليزي في جيل من الأجيال، يقال لي: «وما الرأي في شكسبير؟!»»
وتعالت الضحكات، وتبادلوا النكات فيما قلت، بل واشتركت بنفسي في هذه النكات. - «في الصيف الماضي قادونني إلى المسرح التذكاري في ستراتفورد على نهر آفون لكي أشاهد تمثيل مسرحية «الملك هنري الخامس»، وبعد انقضاء ثلاث ساعات، انمحى ثلاثة قرون من التاريخ، حتى إني لم أعد أعبأ إن كنت أمريكيا أو إنجليزيا. قد تقول إنها الموسيقى التي يتلاشى معها الحس الخلقي، ولكني أقول إن شعر شكسبير قد ينطوي على مثل هذا الخداع.»
ثم أخذنا لفترة ما نتحدث عن سكان المدن الصغرى والضواحي والريف باعتبارهم نماذج بشرية طيبة. ووصفت لنا مسز هوايتهد امرأة من سياتل ربت أربعة أبناء على كثير من الظرف والرجولة.
قالت: «إنها تتكلم في التوافه، ومع ذلك ففي حديثها غذاء وشفاء.» - «وكيف استطاعت ذلك؟» - «بما عندها من شفقة، وما لديها من مرح، وباحتفاظها بهم في موطنهم. إنها تأتي إلى هنا، ونتحدث في توافه الأمور - وأود لو استمعت إلي وأنا ألوك هذا الكلام - بيد أن ذلك لا يهم؛ فهذه المرأة الطيبة كأحسن ما تكون المرأة الطيبة.»
فصاحت جريس وهي تضحك مسرورة: «كم أود أن أستمع إليك وأنت تتكلمين في التفاهات!» - «لا أحب لك ذلك، إن مثل هذا الحديث الآن لا يكون على طبيعته. أما حينما ألتقي بها وجها لوجه فعندئذ يكون صادقا كل الصدق. إننا لا نقول شيئا ما، ومع ذلك يفهم كل منا الآخر فهما تاما.»
قالت: «ها أنت ذي على أحسن ما تكونين، ولا تستطيعين أن تكوني أفضل من ذلك.»
وفي العاشرة جيء بعربة الشاي، وهي تحمل الويسكي، والسودا، والجنجرايل والثلج، وكانت نار الكتل الخشبية تحترق في الموقد.
وفي نقاش بشأن الحرب قال هوايتهد: «إن الداعي إلى السلام المطلق مواطن سيئ، فهناك
ودهشت لهذا الرأي، وعددته تطرفا. هل الأمر بكل هذه البساطة؟
وغادرتنا جريس قبيل الحادية عشرة بقليل، وكانت مسز هوايتهد قد أخطرتني بذلك من قبل، وطلبت إلي أن أبقى معهما قليلا، وفي الحادية عشرة أداروا الراديو ليتسمعوا إلى الأخبار.
وقال: «لا بد لنا من الاستماع إلى الإعلانات مع الأخبار، فالنبأ يذاع ويعقبه إعلان، وهكذا حتى تنتهي النشرة. لقد انحطوا بمستوانا إلى درجة كبرى، ولم نعد نعنى بالأمر كثيرا، أو نعنى به البتة. سلنا نجبك عن شراب هكر ومعجون الأسنان الذي يخرجه فرد من الأفراد ويفضل به كل ما سواه من أنواع.»
وأداروا الراديو، وطرق آذاننا صوت من الفضاء يقول: «إن شراب سنودلدكي يصنع من الشعير المحمص.»
وقال مستر هوايتهد وهو يبتسم ساخرا: «هذه هي الأنباء! إنني لم أعرف ذلك من قبل.»
ثم تلت ذلك الأنباء، وكانت مزعجة؛ إلقاء القنابل على برشلونة، وصول تسعة من اللاجئين النمساويين بالطائرة إلى إنجلترا، ولما لم يسمح لهم بالدخول، تناول أحدهم السم في المطار.
ونظروا إلي متسائلين - كأني أعلم من الأمر ما لا يعلمون! - وكل ما استطعت أن أقول هو: «إن المبالغة تشوه الحقائق. أطالع في صحف الصباح وأنا أهبط إلى المدينة العناوين الضخمة التي تملؤني فزعا، برغم عملي الطويل في الصحافة، ولكني حينما أصل إلى مكتبي أعود إلى الصحف مرة أخرى أطالعها بدقة ، فيتبدد الخوف والفزع، وقد سارت الأمور على هذا النسق اثني عشر عاما، وكم من مرة تخيلت أن انفجارا شديدا سيحدث، ولكن الانفجار لا يحدث، والضرر الذي قد ينجم عن ذلك بطبيعة الحال هو أننا قد نفقد في النهاية الحساسية.»
المحاورة الثانية عشرة
28 من أبريل سنة 1938م
يوم من أيام الربيع التي تشتد فيه حرارة الصيف فجأة، وبلغت الحرارة التسعين إلا نصفا بدرجات مقياس الحرارة، ولا يزال البخار يملأ جو المكاتب، فأصبت بالإجهاد الشديد، ولم يكن بوسع أي إنسان أو أي أمر أن يغريني بالخروج في المساء، اللهم إلا آل هوايتهد، وحتى في هذه الحالة بلغت دارهم ذابلا في الساعة الثامنة.
وزالت بيننا الكلفة في ذكر الأسماء، وأمكننا أن نستغني عن وليمة العشاء، واستطعنا أن ندير الحديث وحدنا في عمق وفي سرعة، وانفتحت النوافذ تستقبل ليل الربيع، فنسينا كل ما أصابنا من إجهاد أثناء النهار.
وتحدثنا عن حياتهما في جرانتشستر حينما كان هوايتهد زميلا بكلية ترنتي في كمبردج، وكانا يقطنان «بيت مل» القديم، وأطلعاني على صورة ملونة له في «المجلة الجغرافية الوطنية» لشهر سبتمبر من عام 1936م، وكانت الحياة في القرية تسير بكل ما عرف عنها من تفكك من عهد شوسر، وإلى جوارها الجامعة تؤانسها غير آبهة بها؛ فالقرية أشبه بابن الزنا، يخرج إلى الوجود نتيجة ل «غلطة يسيرة»، وكان أهل القرية في سذاجتهم وحسن نيتهم يعتمدون بغريزتهم على الأعيان، كما كانوا يفعلون منذ قرون، والأعيان لا يخيبون رجاءهم، فإن فعلوا فقدوا مكانتهم، وإذا أخطأ أحد المرشحين لمجلس النواب من الأحرار فتخلى عن العمادة المحلية، ثارت زوبعة من الغضب، واضطر إلى الابتعاد تفاديا لسوء العواقب. وكان «بيت مل» جذابا بهيج المنظر، ليس به إلا عيب واحد، هو الفيران، وكانوا يقاومونها بمختلف الطرق، ولكنها كانت تعود أحيانا، فيحاربونها حربا شعواء داخل جدران ذلك المسكن القديم؛ فكانت الحياة في هذا البيت في نظر الزائر مثيرة، وكان آل هوايتهد يروون لنا قصتهم مع الفيران، فكنا نقابل ذلك بالضحك العميق.
ثم انتقلنا أخيرا إلى ما أسماه هوايتهد تساؤلنا عن «الألغاز التاريخية»: «هل أوهن من ذكاء الإسبانيين طردهم اليهود والبروتستانت؟» ثم أضاف قائلا: «إن الذهب
أوروبا استنزفت جانبا من أعز ما لديهم من دماء. لا شك في أن الجند قد أنجبوا عددا مناسبا من الأطفال، ولكن في غير إسبانيا، بيد أن الكارثة لم تلحق بالفنون.» - «وهل أجل طرد الهوجونوت الفرنسيين اشتعال الثورة الفرنسية؟»
قال: «ربما كان سببا فيها.» - «إن ذلك يفسر هجرة الألمان في عام 1848م؛ فإنه بعد فشل الثورات، تنبهت جموع كبيرة من الألمان وجاءت إلى هنا.» - «كان حظكم فيهم حسنا أيها الأمريكان، وأعتقد أنكم ظفرتم بالألمان الذين لم يستطيعوا العيش في جو سياسي خانق. ولاحظ أن الهجرة دائما تختار خير العناصر، بمعنى من المعاني . لا بد للناس من سبب للانتقال، وقد تختلف الأسباب من دواع خلقية كبرى إلى وكلاء البواخر الذين يستوردون العمل الرخيص من جنوبي أوروبا. لو أنا نحن الإنجليز وجدنا مناجم للذهب في أمريكا الشمالية، بدلا من الأرض الصالحة للزراعة ومن التجارة، فربما كان ذلك سببا في دمارنا، وحتى في هذه الحالة، نجد أن شعبنا في القرن الثامن عشر شعب غبي إذا قورن بأهل القرن السادس عشر، بعد أن سحبت الهجرة العناصر النشيطة في القرن السابع عشر. وما دمنا نسأل أنفسنا الإجابة عن ألغاز التاريخ، فإليك واحدا منها؛ ألم يؤجل «بت» الصغير انهيار أوروبا في العصر الحاضر وذلك بإشعال حرب لهزيمة نابليون، أعاد بها إلى الأسرات الحاكمة الواهنة نفوذها لمائة عام ساءت خلالها الأمور إلى حد يستعصي على الإصلاح، وذلك بدلا من أن يترك هذه الأسرات تئول إلى السقوط الذي تستحقه؟ ألم تتهيأ الفرصة ل «بت» لكي يصدر قرارا من أهم القرارات التي تؤثر في تاريخ البشرية، فأخطأ في القرار؟ وذلك بأن استمع إلى برك وزمرته، بدلا من أن يستمع إلى الأحرار.»
ولما تقدم المساء قال: «كنت أفكر في العلاقة بين المهارة الفنية والفن، وكنت أحاول أن أخرج بنظرية، لست على يقين من إمكان تأييدها في جميع الحالات، وتلك النظرية هي أن المهارة الفنية - في المراحل الأولى لفن من الفنون - ليست إلا وسيلة من وسائل التعبير عن العقيدة الملتهبة التي تجيش في صدور الفنانين، وكثيرا ما تكون هذه المهارة على شيء من الخشونة. خذ الكاتدرائيات مثالا؛ إنك تجد فيها شيئا عميقا يحرك النفوس، وإلى جانب ذلك تجد شيئا بعيدا عن الإتقان، ولكنه لا يحط من شأنها، ثم بعدما ينضج الفن، وتتقدم فيه الصناعة، بحيث يمكن نقلها بالتعليم، ينتقى الصبيان الأذكياء الذين يستطيعون أن يتعلموا الصناعة بغير إبطاء، ويهمل الصبيان أصحاب الأحلام العظيمة؛ فترى في العمل أثر المهارة وإتقان الصناعة، ولكن ينقصه العمق.»
وشرعنا نجول في مختلف الفنون لاختبار صحة النظرية، وكان من رأيه أن رفائيل هو أحد هؤلاء الصناع الماهرين الذين يظهرون في اللحظة التي يبدأ فيها العمق في الاختفاء، وأن ملتن مثال آخر لذلك، وأن الأسلوب المتلألئ الزاهي في الفن الغوطي مثال لذلك أيضا.
وقال: «إن الفن الغوطي الإنجليزي قد استغرق حوالي أربعة قرون، من عام 1100م إلى عام 1500م، ومر بأربعة أساليب متتابعة؛ الرومانسك، والإنجليزي القديم، والمزخرف، والعمودي، وكل أسلوب منها دام زهاء قرن من الزمان، حتى كان القرن السادس عشر حينما بدأ هذا الفن في التلاشي، وخلال هذه القرون الأربعة كانت تستكشف أوجه جديدة لفكرة العمارة الغوطية، ثم تأخذ هذه الأوجه في التطور، وكان إمكان التجديد فيها لا ينتهي، فيما يبدو، ولما حل عام 1500م بدأ هذا الإمكان من النفاد، ولكنه لم ينفد بتاتا، ثم جاءت بعد ذلك فترة انصراف شامل، وعاد البناءون إلى أسلوب العمارة عند اليونان والرومان، وتلك هي «النهضة» واستخدموا هذا الأسلوب لكل غرض في العالم الحديث من الكنيسة إلى محطة السكة الحديدية، فشهدت لندن كاتدرائية القديس بطرس بدلا من الدير الغوطي، وشهدت نيويورك محطة بنسلفانيا للسكة الحديدية، وهي منشأة على طراز حمامات كاراكلا في روما.»
وطبقنا هذه النظرية على فن المأساة الإغريقية، وتأكدنا من خضوعه لنفس هذه الدورة الحيوية؛ كانت لإيسكلس معتقدات خلقية مشتملة، ولم تزد قدرته الصناعية في مسرحيته «الفرس» إلا قليلا عن الموال أو الموشح، ولكنا نجد هذه القدرة في «أجاممنون» عظيمة متقدمة. وفي مسرحيات سوفوكليز التي بقيت لنا نجد توازن العصر المتوسط، نجد العقيدة القوية، ونجد الأفكار التي يعبر عنها بقوة فائقة، وبمهارة صناعية فائقة في الوقت ذاته، مهارة تطلق قوة الأفكار إلى أقصى غاياتها. وتنتمي إلى هذه المجموعة «أنتيجون» ومسرحيتا «أوديب». ولما نصل إلى يوربيديز نجد أن المهارة الصناعية قد باتت مفهومة إلى الحد الذي يمكن من التلاعب بها، وبالرغم من أن العقيدة القوية ما زالت باقية، وبالرغم من أن الأفكار ما زالت قوية، فإن الروح السائدة هي روح النقد الذي يشكك.
ووجدنا أن ما كنا نناقشه في مجال المهارات الصناعية هو الدورات الحيوية للأشكال الفنية، ويمكن تتبع أمثال هذه الدورات في فن النحت اليوناني، وفي التصوير لعهد النهضة، وفي الموسيقى الحديثة، التي بدأت منذ ثلاثة قرون واستمرت حتى القرن العشرين، حتى أمست المهارة الصناعية للتوزيع الموسيقي السمفوني معروفة إلى الحد الذي يمكن من تعليمها للصبيان الأذكياء.
وقد ألقت نظرية هوايتهد هذه فيضا من الضوء فقلت: «إن بعض هؤلاء الصبيان الأذكياء يقدمون عروضا تخطف السمع بما فيها من مهارة صناعية فائقة، وضربات تأخذ بالألباب، وهم يستطيعون أن يذهلوا الأهالي بمركبات صوتية لم يسمع مثلها من قبل، ويستطيعون أن يهزوا قلوب الشيوخ باستخدامهم الكلمات الخبيثة ذات الحروف الأربعة في تنافر منسجم وانعدام للنغم، ولكنهم لما كانوا لا يؤمنون بشيء فإنهم لا يجدون شيئا للتعبير عنه، وفنيت الفكرة التي كانت قوية فيما مضى فناء مطلقا.»
وقال هوايتهد محذرا: «ولكن الفكرة قد تعود إلى البعث. من الأفكار ما استقر دفينا لعدة قرون، ثم نهض مرة أخرى، وأشعل ثورة في المجتمع الإنساني. قد تجد صبيا من الصبيان ليس ذكيا فحسب، يعثر على فكرة ما، كان يظن أنها ماتت من زمان بعيد، فيعيد إليها الحياة بين يديه؛ لأنه حينما تتقد شرارة شاب من الشبان عند استكشاف فكرة عظيمة، لا تهمنا لديه الفكرة المعينة التي اكتشفها، بمقدار ما يهمنا الوميض الذي تشعله الفكرة في نفسه؛ فهنا تجد الإحساس بالمغامرة، وبالحدة؛ لأن الفكرة القديمة قد تراءت للبصر من جديد في صورة جديدة؛ لأن حيوية الفكرة في المغامرة. «والأفكار لا تدوم» ولا بد من صيانتها، حينما تكون الفكرة جديدة تكون عند حفظتها الحماسة، ويعيشون من أجلها، بل ويموتون من أجلها إن اقتضى الأمر ذلك، ويستقبل ورثتهم الفكرة، وربما كانت قوية وناجحة، ولكنهم لا يرثون التحمس لها؛ ومن ثم فإن الفكرة تستقر في منتصف العمر الهادئ، ثم تدب فيها الشيخوخة، ثم تموت، بيد أن النظم التي تحاك حولها لا تقف عند حد، إنها تواصل الاندفاع بقوة القصور الذاتي المكتسب وحدها، أو تصبح كالفارس الميت محمولا على ظهر جواده.»
ولم يخصص هوايتهد القول في هذا التعميم.
المحاورة الثالثة عشرة
17 من يناير 1939م
أصبح هوايتهد الآن أستاذا متقاعدا، وقد بلغ التاسعة والسبعين من عمره، ورحل وأسرته منذ تقاعده - نظرا لانخفاض الدخل - من راندور هول إلى مسكن ذي أربع حجرات في فندق أمباسادور بشارع كمبردج، وتطل النوافذ من الطابق الخامس على قمم الأشجار جنوبا، وترى من الناحية الغربية الأفنية الخضراء والأشجار الظليلة، والدلتا التي تقع فيها تلك الكاتدرائية العلمانية، المشيدة من الطوب الأحمر، مموريال هول.
وقد رصت أكثر كتب مكتبته في هذا المسكن؛ فكانت حجرة الدرس مليئة بالكتب الموضوعة فوق الرفوف التي تحيط بجدران الحجرة الأربعة من الأرض إلى السقف، لا يقطع اتصالها إلا باب واحد ونافذة واحدة كبرى، وكان بحجرة الطعام ثلاثة جدران أخرى من رفوف المكتب، وقد رصت في أناقة بالغة، حتى إن الرائي لا يحس أنها في غير موضعها، وحجرة الجلوس فسيحة إلى درجة مقبولة، وترتيب الأثاث فيها بارع، مما يترك أثرا طيبا في النفس، حتى إن الجالس فيها لا يفتقد الموقد، برغم عدم وجوده، إلا قليلا، فإذا ما دار الحديث لا يفتقده بتاتا، وجدران المسكن - كما كانت في راندور هول - تصطبغ بلون يكاد يكون أسود، ولكنه يريح البصر ولا يشيع الكآبة.
ولما لم يعد ممكنا لهما أن يدعوا إلى حفل عشاء؛ فقد كانا يدعوان الضيف إلى ما بعد العشاء للحديث. وقد وصل بسيارته روبرت كننجهام قادما من أكستر، وكنا نتناول العشاء في زي السهرة بدبرجن بارك في حي السوق، وهو أمر عادي لأن الرجال والنساء يقصدون هذا المكان للعشاء قبل ارتياد الأوبرا بالزي الرسمي الكامل، ويجذبهم إليه أن العشاء فيه أفضل منه في الفنادق الفاخرة، وبسعر السوق.
ولما رآنا أحد تلاميذ كننجهام السابقين في أكستر، وهو الآن مستجد بهارفارد، تقدم إلينا، وتحدث معنا. رأى أستاذه مرتديا زيا كاملا ويتناول عشاءه في السوق، فإلى أين يقصد؟ وثارت عواطف الشاب وكاد يلتهمه الفضول.
فسأل قائلا: «هل أنت على موعد؟»
فأجاب كننجهام: «نعم، وهو ثقيل.»
وكان يتحرق شوقا إلى المعرفة، وأخيرا قال كننجهام: «نحن ذاهبان إلى بيت الأستاذ هوايتهد
وعاد إلى نك رشده وصوابه .
ووجدنا عند آل هوايتهد مستر ومسز رتشارد جمير، وهو رئيس لجنة القبول لكلية هارفارد، وهما من فيلادلفيا، ميولهما الدينية صاحبية، وكان الرجل فيما سبق ناظرا لمدرسة بن تشارتر، وسرعان ما انضم إلينا و. ج. كنستابل أمين قسم الصور بمتحف بوسطن للفنون الجميلة، الذي التحق به بعد قدومه من المتحف الوطني للصور بلندن، وهو رجل إنجليزي واسع الخبرة والعلم والثقافة، رفيق محبب يود المرء أن يراه دائما. وأخيرا جاءت جريس دي فريز، في فراء أسود ومخمل أسود، وقد تضاعف لطفها المعهود وروحها العالية عندما تفادت بدخولها برودة الشتاء في المساء.
وتحدث هوايتهد عن الفروق بين القرنين السابع عشر والثامن عشر في إنجلترا، وكان من رأيه أن الإنجليز في القرن السابع عشر كانوا أشد عمقا: «كان اهتمامهم السائد بالدين، مقابل تجرد العقليين في القرن الثامن عشر من العاطفة والهوى، وهذا التجرد شيء جميل في تحقيقه، ولكنه كالمياه الضحلة نسبيا. أما جونسون، وهو رجل أشد صلابة، فكان لا يزال في جوهره مشبعا بروح القرن السابع عشر، ولو أنه التقى بفلتير لما استطاعا أن يتبادلا الحديث طويلا. ومن عيوب القرن الثامن عشر أن كثيرا من أصحاب الجد في الحياة هاجروا إلى المستعمرات، مخلفين وراءهم النوع الآخر من الناس لتكون له الكلمة. كان ملوكهم شاحبي اللون، أشباحا من عهد عودة الملكية إلى جيولف، أسرتهم المالكة من ملوك مستأنسين يحتفظون بعروشهم بحسن سلوكهم، وتدير البلاد هيئة من الطبقة الأرستقراطية. وكان جورج الثالث هو الملك القوي الوحيد، ولكنه خلط شئوننا بالمستعمرات الأمريكية خلطا سيئا، وما كان ينبغي لنا أن نحارب نابليون. وما الذي كنا نشارك فيه في ذلك الحين الملكية في القارة الأوروبية؟ كان من واجبنا أن نلزم الصمت ونراقبهم.»
وسأل كننجهام: «كم من مظاهر أمثال هذه العهود - فيما تحسب - ينشأ عن الجماعة؟ وكم منها ينشأ عن الأفذاذ من الأفراد؟» - «إن الظروف الاجتماعية المحيطة في عهد من العهود العظيمة لا بد أن تكون قائمة، بيد أن كثيرا من الأمر - إن لم يكن كله - يتوقف على فرصة وجود شخصية قوية تدفع هذه الظروف إلى الأمام، فإذا انعدم وجود هذه الشخصية تلاشى فعل الظروف. وكان جون وزلي مثالا لهذه الشخصية، وقد أشعل حماسة اثنين آخرين، أثارا الكثرة الغالبة من الناس. أما في الأوقات الناضجة، فإذا لم تظهر أمثال هذه الشخصيات الفعالة ضاعت الفرصة. إن كثيرا يتوقف على الظهور العارض لرجل عظيم يوجه قدراته نحو حاجات عصره. إنه يعبر عن هذه الحاجات.»
فسأل كننجهام: «ومن في رأيك أقدر الناس في إنجلترا اليوم؟» - «طبقة الصناع العليا.»
ولم يدهش بعضنا لهذا الرأي، غير أن كننجهام، وهو صاحب منحة رودس الدراسية سابقا بكلية الملكة في أكسفورد (عن طريق برنستون) أراد زيادة في الإيضاح، فقال: «إذن فليسوا هم العقليين؟»
فرد هوايتهد بقوله: «إنني لم أستطع قط أن أقنع أصدقائي إقناعا كافيا بأن العقليين لا يعبرون عن أمتهم. إن أردت أن تسمع صوت الأمة وأن ترقبه وهو يعمل، قف عند الطرقات الخلفية، واستمع إلى الفئة الهادئة من الطبقة الوسطى والعاملة. إنهم حين يعملون ينزوي العقليون جانبا.»
وقالت مسز هوايتهد في خفة: «إنهم الفئة، المحترمة، وأنا أبجلهم من أجل ذلك، وهم يحيون حياتهم الدينية مرة كل أسبوع.»
فسأل رتشارد جمير قائلا: «ولكن هل يطبع الدين هؤلاء الصناع؟»
فقال هوايتهد وهو يبتسم متلطفا: «إنهم - على العكس - خارجون على تقاليد الدين، لهم كنيستهم الخاصة، وأول ما يفكرون فيه هو أن الكنيسة الإنجليزية يجب أن تنحل، وهذا مما يجعلهم معتدين!»
وسألني من أين يأتي الأحرار الأمريكان أساسا في ظني. فأجلت الإجابة، وسألته: «لماذا نرى الأطباء رجعيين في تفكيرهم الاجتماعي؟»
فقال: «حينما كنت في كمبردج بكلية ترنتي، أثير موضوع منح الدرجات العلمية للسيدات؛ فكان يؤيد الرأي من ناحية الرجال الذين يعملون في المعامل، ويعارضه من ناحية أخرى أولئك الذين يدرسون الكائنات البشرية، ومنهم الأطباء. وكان المؤيدون لمنح الدرجات العلمية للسيدات أولئك الذين يعالجون المادة التي لا حياة فيها، وذلك بغير استثناء. أما أولئك الذين كانوا يعالجون النساء كمخلوقات حية فكانوا من المعارضين، وقد رأيت كثيرا من الأطباء في لندن. إنهم بعد عمل اليوم حينما يلتقطون الكتاب أو الصحيفة للاطلاع لا يفقهون ما يقرءون من شدة الإجهاد.»
فقال مستر جمير: «الأطباء في هذا البلد دقيقون من الناحية العلمية، وعطوفون على غيرهم من الناس، ولكنا لا نتوقع منهم أن يفهموا المشكلات الاجتماعية.»
وسألت جريس: «وهل يرى الطبيب كل جوانب الكائن البشري؟»
فأجاب هوايتهد قائلا: «كلا، إن المرء حينما يكون منتعشا لا يقول: «هيا بنا نزور طبيبا.» فالطبيب آخر من يفكر فيه. إنه لا يرانا إلا حينما نعتل، والأمر أسوأ من ذلك إن كان طبيبا نفسانيا، فهو لا يأتي إلا حينما يبدأ أصدقاؤنا في القلق علينا. أعتقد أن أصحاب المهن الرفيعة - على وجه الجملة - لا يحسنون الحكم خارج نطاق المهن التي يحترفونها.» - «هذا يعود بنا إلى سؤالك عن الأحرار الأمريكان. إن كثيرا من خيارهم - قبل الحرب، وربما حتى الآن - كانوا يأتون من أسرات الطبقة المتوسطة الذين على شيء من الدعة، حيث يتوافر التعليم المدرسي الجيد والتربية الدينية، ثم هم بعد ذلك إما يشهدوا الفقر بإقامتهم في منازل المحلات الاجتماعية، ومن هؤلاء جين آدمز وليليان والد، أو يلتقون بشخصيات فعالة مثل براند هويتلوك، أو كما فعل نيوتن بيكر في توم جونسون الكليفلاندي، ثم هناك من الأحرار أيضا الصحفيون الثائرون الذين أصبحوا من المؤلفين، وهي الزمرة التي تشمل إيدا تاربل، وراي ستانارد بيكر، ولنكولن ستفنز.»
وسألت جريس: «وماذا حدث لإيمانهم الديني؟» - «اتجه نحو الخدمة الاجتماعية.»
وأثير بعد ذلك سؤال عما إذا كان هناك أمل الآن في ظهور طبقة مماثلة.
فقال هوايتهد: «حينما بدأت محاضراتي في الكليات الأمريكية، وذلك على وجه التقريب بين عامي 1924م و1929م، سرعان ما رأيت أنني إذا استعرت آية من الإنجيل لا أجد من بين طلابي من اطلع عليها من قبل، أو من عزم على الاطلاع عليها، أو كانت لديه أدنى فكرة عما أتحدث فيه، وإذا أحسوا أني أتكلم في الدين، أشاحوا بوجوههم حتى أطرق موضوعا آخر. أما فيما بعد عام 1929م حتى التقاعد، وهي السنوات السبع الأخيرة من حياتي التعليمية الفعالة، فقد تغير هذا الاتجاه، وإذا تحدثت في الدين أصغوا إلي منصتين.»
فقال كنستابل: «إني أشاهد ذلك بين الشباب الذين ألاقيهم في المتحف. إن العمل عندهم كأنه رسالة دينية يؤدونها بحماسة بالغة، وهم يشعرون بهذا الإحساس بغض النظر عن مواردهم، يحسه أبناء الأثرياء منهم، كما يحسه أولئك الذين لا يكادون يملكون ما يقيم أودهم.»
فسألت: «وهل يعني ذلك أن الروح الدينية في عهدنا، التي يبدو أنها تنحسر عن الكنائس، قد تعود إلى الظهور على شكل نشاط فني خلاق؟»
بيد أن أحدا من الحاضرين لم يأبه بقولي، وتحول الحديث إلى موضوع الزينة الداخلية، فقال مستر كنستابل: «كان من واجباتي بمعرض الصور الوطني بلندن حينما كانت تتفتت
ولم يكن ذلك من حقي فحسب، بل من واجبات وظيفتي كذلك، وكثيرا ما عثرت على أعجب الأشياء. في بيت عظيم في الطابق العلوي لأحد الأجنحة الذي عزل ليكون غرفا للخادمات في القرن الثامن عشر، اتجهت إلى الدهليز وعثرت على طاقم كامل من اثني عشر كرسيا من طراز شبنديل؛ اثنان منهما في كل غرفة (وكانت الغرف ستا) وزعت هذا التوزيع منذ نحو قرن من الزمان، وكل ما فعلت هو إخراج الكراسي إلى الدهليز. أما في أسفل الحجرات الفاخرة من البناء فكان الأثاث من شجر الجوز الأسود على الطراز الفكتوري.»
فقال هوايتهد: «يبدو لي - حينما أرى أثاثا إنجليزيا - كأن الأثاث مستورد من بيت تتوافر فيه الراحة ولا تراعى فيه المظاهر، بيت من بيوت الطبقة المتوسطة من الناحية الاجتماعية، ومن هذا البيت يمكن أن ينتقل الأثاث إلى بيت أرقى أو أدنى، ولكنه يحافظ بوجه عام على صفقة الراحة التي تميزه خاصة. أما في فرنسا (ولزوجتي التي عاشت هناك أن تصححني إن أخطأت) ...» فقالت زوجته: «لا يكون ذلك علنا يا عزيزي.» وقد نهضت لتدير الشطائر على «الحاضرين».
وعاد هوايتهد إلى حديثه قائلا: «أما في فرنسا، فكلما شهدت أثاثا خيل إلي أنه تقليد لما في القصور، سواء أجيد هذا التقليد أم أسيء.»
وأخذ الإنجليز الثلاثة يقارنون بين انطباعاتهم عن القصور الملكية البريطانية، كل وفق هواه.
وقالت مسز هوايتهد لكنستابل: «إنني لم أزر كننجهام قط. فهل زرته أنت؟» - «نعم. وكثير مما فيه لا يختلف عما يتوقعه المرء، مزعج إلى درجة قصوى؛ فالكراسي محاطة بالستائر القصيرة، والهدب الطويلة حول أسفلها، ولكن حتى في الحجرات الرسمية الكبرى، لا بد أن تراعي الراحة دائما، وفيها ما يوحي للناس أن يجلسوا على راحتهم.»
وضحكت مسز هوايتهد قائلة: «والأمر كذلك تماما في وندسور.»
واتجه الحديث ثانية نحو موضوع الحماسة الدينية.
فقالت مسز هوايتهد: «الدين في إنجلترا ليس من الموضوعات التي يتحمس لها المرء، فذلك ينافي مظهر الاحترام!»
فقال مستر هوايتهد: «كلا. إنما يتحمس نيابة عنا أهل ويلز واسكتلندا.» - «والروح الدينية عند كليهما تتغلغل في السياسة، وقد تخرج لويد جورج مثلا من كنيسة ويلزية.»
وكانت وفاة بيتس قد أعلنت؛ فأدى ذلك إلى نقاش حول إحياء الروح الكلتية.
فقال هوايتهد: «أعتقد أن محاولة إحياء اللغة نفسها كان خطأ كبيرا. لقد أضاف أهل أيرلندا إلى الإنجليزية صفة مميزة بالأصوات التي أسبغوها عليها. أما لهجة الجيلك فشيء قل من يفهمه. وقد انتهى الأمر بأن تعلم هذه اللهجة الكثيرون مع بقائهم أميين في الإنجليزية.»
فقالت مسز هوايتهد: «لما وصل مسرح آبي المتنقل لأول مرة في زيارة لكمبردج، طلبت إلى ألفرد أن يدعو أفراد الفرقة إلى الغداء بالكلية، وكان بيتس متكلفا في مظهره ومسلكه، منكوش الشعر، شديد المجاملة للسيدات المستقبلات، يسمح لإحداهن أن تحمل كوفيته، ويسمح للأخرى بحمل معطفه الذي يتقي به المطر. لقد نظم أبياتا من روائع الشعر، بيد أنه كان ولا شك مغرورا، وكان هناك شاب رث الثياب، لم يكد يتفوه بكلمة ويسعل سعالا شديدا. وبعد الغداء طاف بهم مطوف في أرجاء الكلية، ولكن هذا الشاب تخلف مع ألفرد ومعي، ثم أخذ يتحدث ثلاث ساعات حديثا شائقا، ولم نعرف منه اسمه، ولكنا بعد انصرافه قلنا: «لا يهم من يكون، غير أنه ليس رجلا عاديا.» إنه في ذلك الحين لم يكن قد نشر شيئا ما. وعرفنا فيما بعد أن اسمه سنج! فلمنا أنفسنا لأنا لم نسع إلى التعرف إليه.»
وانفض الجمع نحو الساعة الحادية عشرة، ولبثت مع كننجهام نعيد المقاعد إلى أماكنها ونزيل الأطباق والأكواب، وتحدثنا خلال ذلك عن اللهجات الكلتية والبريتونية والأيرلندية، وتحدثنا عن الأجناس الكلتية، وعن موطن أجمل الكائنات البشرية، وقد قيل إنها في شمالي إيطاليا، وبخاصة الشقراوات من النساء، وفي المقاطعات الإيطالية بسويسرا. وتساءلنا: هل الإنجليز من بين الأجناس الجميلة؟ فقال هوايتهد: «لا. إنهم أصحاء خشنون، ولكن قلما تجد فيهم جميلا.» وقال قائل: «إن الجمال في أجزاء معينة جنوبي إيطاليا، حيث لا يزال الناس يشبهون الإغريق القدامى من سكان ماجنا جراشيا.»
وكانوا منتعشين منتشين، فانقضى المساء على خير. وقبل الانصراف قالت لي جريس دي فريز على حدة: «إنها حفلة بغير عشاء، ولكنها تفضل أكثر حفلات العشاء.»
المحاورة الرابعة عشرة
27 من فبراير 1939م
ظهر في عدد مارس من مجلة الأطلنطيق الشهرية مقال لهوايتهد تحت عنوان «نداء إلى العقل»، وكان العدد بالفعل في أيدي باعة الصحف، وقد حفزه إلى كتابة هذا المقال العواطف الثائرة حول تشيكوسلوفاكيا، بيد أن مناقشة هوايتهد للموضوع تجاوزت الحوادث الجارية حتى إن القارئ ينتهي من المقال وهو يحس كأنه في عالم أرحب وأوسع، ونشرت مجلة جلوب ملخصا لمقاله في افتتاحيتها.
وقال في هذا المساء متلطفا: «قرأت لك وقرأت لي.» - «ليس ما كتبت إلا إعلانا عن ظهور مقالك، وقد أرسلت عددا إلى بارنجتون وارد بصحيفة التايمز اللندنية.»
قال: «كتبته في نوفمبر الماضي، وقد نسي كل امرئ تشيكوسلوفاكيا الآن.» - «هذه بالضبط هي قيمة المقال. قد تزول المناسبة العارضة، بيد أن التطورات التاريخية التي تربطها أنت بها لا تزول قط.»
قالت مسز هوايتهد: «بدأ المقال أول الأمر خطابا إلى فلكس فرانكفورتر، وكان يحفزنا إلى الحديث في الموضوع، بقوة وعنف.» - «لا بد أن هذه الأيام كانت أليمة على نفسه بدرجة عظمى؛ لما لديه من إحساس دقيق بالعدالة.»
قالت: «ثم إن هناك عرقا صليبيا ينبض في فلكس.»
قلت: «إن الجهد الذي بذله في سبيل المحاكمة العادلة لساكو وفانزتي وقع من نفسي موقعا أقوى من مجرد الحماسة الصليبية.»
فقالت مترددة: «إني أتصوره دائما من فيينا؛ فعنده مرح أهلها، وإن تكن السنوات الست الماضية - علم الله - لم يكن فيها الكثير مما يبعث على المرح.»
فقال هوايتهد: «في اليوم الذي أعلن فيه نداءه إلى المحكمة العليا، تصادف أني كنت وأفلن نستمع إلى الراديو فأصغينا إليه، فنادينا إحدى العربات وانطلقنا إليه نهنئه، وقد سبقنا إليه عدد قليل من تلاميذه الذين كانوا يدرسون عليه القانون، وكان منظرا ساحرا؛ كانوا في نشوة كبرى، ورأينا فيهم كيف يكون الشباب في أحسن حالاته، رأينا اللطف والرقة.»
ومن هذا انحرفت المحاورة إلى محاورة في الحماسة الصليبية، وقال هوايتهد عن الصليبيين المحترفين: «إن شيخوختهم أمر يدعو إلى الأسف. إنهم يتنقلون من «قضية» إلى «قضية».»
وسألته: «متى بالضبط تفتر الحماسة الصليبية عند الإنسان؟ هل يحدث ذلك حينما تبرد دماؤه؟»
قال: «إنها لا تفتر قط عند المحترفين.» - «إن دفاعك الحار عن اليهود في مجلة أطلنطيق يحثني على السؤال عن السبب في كراهية الشعوب لهم في كثير من الأحيان، كما ذكرت.» - «إن ذهنهم حاد، وهذه الحدة كثيرا ما تكون في صورة تثير الحسد، وهي صورة النجاح في التجارة. إنها ليست عمقا دائما، وينبغي للمرء حينما ينتقي الرجال أن يحذر من تألق الشبان اليهود. إنهم ينضجون في التاسعة عشرة أو العشرين، وقد يلمعون، ولكنهم لا يحققون دائما الآمال المعقودة عليهم، والتي تقوم على أساس علوهم على غيرهم في هذه السن.»
وأضافت مسز هوايتهد قولها: «وهم فوق ذلك لم يكتسبوا خبرة حكم الشعوب الأخرى، أو حتى حكم دولة لهم خاصة بهم.»
قال: «إن ذلك يزيد من اهتمامهم بالمثل الأعلى الذي ينفعهم. إنهم يفتقرون إلى روح الفكاهة بدرجة ملحوظة، أو هم كانوا كذلك حتى عاشوا بين الأوروبيين. إن الإنجيل يفتقر إلى روح الفكاهة. لم تكن عندهم بعد مآسيهم - فيما يبدو - حكاية مضحكة لأرستوفان.» - «إن موقعهم بين إمبراطوريات حربية لم يهيئ لهم ما يضحكون منه.»
قال هوايتهد: «إن اليهودي مكتئب بطبعه، ولا يعترف لهم أحد بفضل العمل العظيم الذي أدوه والأثر القوي الذي كان لهم في تقدم أوروبا إذا استثنينا ثلاثة قرون، كان الإنجيل أكثر الكتب شيوعا خلال ألف وخمسمائة عام، ولا يزال حتى اليوم كذلك.»
وتحدثنا فيما حققوه في الفنون الخلاقة؛ في الموسيقى مثلا، وهي الصورة الفنية السائدة في عصرنا، أو كانت كذلك حتى العقد الثالث من القرن العشرين. إنهم يقدمون لنا في الموسيقى مؤلفين من الطراز الأول، من مندلسن إلى أرنست بلوخ، ووفرة من العازفين، فنانين لامعين في الأداء، وبخاصة في عشرات السنوات القلائل الماضية، من عازفين على كمان، إلى عازفين على البيانو، إلى قواد الأوركسترا. كما قال هوايتهد إنهم أنتجوا بعضا من علماء الرياضة الممتازين.
وكنت أترقب دوري في الكلام لأسأله رأيه في تقدير المستقبل لأعمال لورنس لول:
- «إليوت.» - «لقد قام إليوت بعمل نافع جدا. إنه حطم التقليد الكلاسيكي في الكلية الأمريكية، وما كان للكلية هنا أن يكون لها معناها في أوروبا لأنكم بعيدون جدا عن مصادرها، ليس لكم اتصال جغرافي مباشر بالمدينة الإغريقية الرومانية القديمة، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنكم لا تتصلون كذلك بعالم العصور الوسطى الذي نقل هذه المدنية، ثم إن العلوم الإنسانية - كما تدرس في الجامعات وكما تشتق من اليونان والرومان - تفصل حياة التأمل عن العالم العملي الذي ينشأ في مجتمع به رقيق، إن الرقيق يقومون بالجانب الأكبر من العمل اليدوي، ولا بد من تدريب اليد والذهن معا، وقد فتح إليوت مجال الدراسة كله للاختيار وأبقى عليه مفتوحا فترة من الزمن. وأخيرا، وفي الوقت المناسب جاء لول، فوفق بين الجوانب المختلفة، وقد جاء بعيد اللحظة الصحيحة، وكان ما قام به عملا جريئا شاقا.»
قلت: «يقال إن الرئيس المتقاعد إليوت قد قال إنه بعدما كرس حياته لتحويل هارفارد من كلية إلى جامعة، كرس لول حياته لتحويلها من جامعة إلى كلية مرة أخرى. وربما لم يقل بذلك إليوت، وربما كانت المقابلة مجحفة .»
فقال هوايتهد: «لقد عني لول كذلك عناية كبرى بالمدارس العليا، وقام بعمل آخر كانت الحاجة إليه ماسة، وهو إسكان الشبان.»
وقالت مسز هوايتهد: «قال لي مستر لول مرة في شيء من الفخر إنه حينما كان فتى في السادسة عشرة من عمره هنا في هارفارد، يسير على شواطئ النهر التي لم تكن ممهدة في ذلك الحين، حدث نفسه قائلا: «لو كان لي نفوذ في هذا المكان قمت بعملين؛ أنقل الكلية إلى شاطئ النهر، وأهدم ساحل الذهب.»
1
ثم أضاف قائلا: «وقد قمت بالعملين.»»
قلت: «كنا في القرن التاسع عشر نضع نظمنا الجامعية على غرار النظم الألمانية. أما في القرن العشرين فالظاهر أننا بدأنا ننقل عن الإنجليز، وإني لأعجب على أية صورة سوف تكون نظمنا.» - «لست من أولئك الذين يقللون من شأن ما يعمل في جامعات الولايات الكبرى في الوسط والغرب الأقصى؛ فهناك محاولات أكثر للتوفيق بين الدراسة النظرية والحياة العملية. وأعتقد أن هتشنز في شيكاغو كان على خطأ شديد حينما هزأ منها لما فيها من دراسات في المهارات العملية، وبما كانت بعض الدراسات التي أسماها «مهارات عملية منزلية» سخيفة - لست أدري - بيد أن المبدأ ليس سخيفا. أما هنا في الشرق، فالعلوم أفضل من الدراسات الإنسانية لوجود العمل في المعامل، عمل يؤدى ويختبر، ويبلغ حد الدقة، ولا يترك معلقا في الفضاء.» - «إن اهتمام لول المعروف بقسم التاريخ واللغة الإنجليزية هو - كما أفهمه - محاولة للقيام بعمل شبيه بما تقوم به أكسفورد في دراسة اللغة الإنجليزية، ولكن السؤال لا يزال قائما: كيف يمكن ربط هذه الدراسات بالحياة العملية؟»
قال: «أرجو ألا تحسب أني أقول إن الإغريقية واللاتينية ليستا من الدراسات الممتازة لمن يدرك معناهما. وإنما أردت أن أقول إنكم في أمريكا - وأنتم على مبعدة من الاتصال المباشر بالمدنيات القديمة والوسيطة - إنكم في حاجة إلى مزيد من الخيال عما يلزم لجميع الطلاب، إذا استثنينا قلة منهم؛ لكي تدركوا كنه العوالم القديمة من الكتب. إن زملاءكم في أكسفورد - سر رتشارد لفنجستون على سبيل المثال - يقرءون اليونانية واللاتينية دائما باحثين عن أثر ذلك في حياتنا اليوم، وكيف نستطيع أن ننتفع به في العالم الحديث؟» - «كان سر دافيدروس، الذي قدم إلينا في عيد الميلاد، يتحدث عما لام به أحد النقاد الجامعات الأمريكية - وأظنه أبراهام فلكسنر - وقال إنه كان يكتب ويفكر كأن الجامعات إنما تنشأ للدارسين الباحثين وحدهم، أو إذا لم يكن ذلك، فلكي نخرج الباحثين؛ في حين أن عدد الطلاب - كما قال - الذين يلتحقون بالجامعة، من المؤهلين لأن يصبحوا من العلماء الباحثين أو من العلماء قلة صغرى. وهل يقوم النظام الجامعي بأسره من أجل هذه القلة؟»
وهنا أثيرت مواطن الضعف عند لول.
فقال هوايتهد: «إن به عيوبا، وقد عرفته جيدا لعدة سنوات، وأستطيع أن أرى هذه العيوب؛ منها أنه لا يفهم الرجال المتهيبين، ويحسب التهيب مذلة.»
وأضافت إلى ذلك مسز هوايتهد قولها: «وهو يصيح في وجه المتهيب. حدث لوشيان يا أولتي عن تلك الخبرة التي مرت بك مع رجل مهذب متواضع أراد أن يعرض أمرا على لول.»
ولما خشيت ألا يتحدث في ذلك زوجها، أخذت تقص القصة، قالت: «إن هذا الرجل جاء إلى هوايتهد ليقول له: «لا أستطيع أن أعرض ذلك على لول، إنه يصيح في وجهي. فهل تستطيع أنت؟» فأجابه هوايتهد قائلا: «كلا، ولكني سأصحبك.» وقد فعل. وبعث تهيب صاحبنا الضيق في نفس لول فصاح في وجهه ثلاث مرات، وفي كل مرة يرفع هوايتهد يده قائلا: «تريث!» وأخيرا استطاع الزائر أن يعرض قضيته، ولما كان هوايتهد مستشاره، فإن لول لم يغضب.»
وقالت مسز هوايتهد: «إنه أعجب الديمقراطيين. إنه لا يستطيع أن يمارس الديمقراطية بشخصه، ولكنه يعتقد فيها اعتقادا جازما.»
وأضاف زوجها إلى ذلك قوله: «وأحكامه كأحكام رجال الدولة.»
وأدى ذلك إلى جدل حول بوسطن باعتبارها جزيرة للأمريكيين الشماليين في بحر أيرلندي آخذة في الاضمحلال.
قال هوايتهد، وعيناه تتألقان بالسرور الباطني: «إن هؤلاء الأمريكيين الشماليين لا يختلطون. اليوم بعد الظهر فقط، كنت مع جماعة منهم، تضم لورنس لول، ولورنس هندرسن، وجون لفنجستون لويس - وهو من إنجلترا الجديدة، على الأقل تشبها بأهلها - ولن تستطيع البتة أن تتخيل من كلمة واحدة مما ينطقون أنهم يعيشون وسط مجتمع من مليون ونصف المليون من البشر، سبعون في المائة منهم على الأقل من الأيرلنديين الكاثوليك.»
فقلت له: «إن برننج، رئيس قضاة ألمانيا السابق، ذكر خلال حديث له في بيت هانز زنسر أن التربية يجب أن تخصص للطبقة الممتازة.»
قال هوايتهد: «إلى خمسين عاما مضت كانت التربية في إنجلترا محصورة في طبقة عليا صغيرة، ولم يكن أحد يفكر أن من الخطأ أن تبقى الجماهير على أميتها. أما اليوم فنحن نسلم بضرورة تعلم الكتابة والقراءة، وكان أبي يدير مدرسة القرية حينما بدأ الإلزام في التعليم، وكان يلاقي أشد المعارضة؛ فإن القرويين لم يتعلموا ولم يريدوا لأبنائهم أن يتعلموا.»
فعلقت بقولي: «حدث في هذا البلد زحف ضخم مفاجئ نحو التعليم بعد الحرب العالمية، واستمر هذا الزحف منذ ذلك الحين. ولما حل عام 1926م أصبح الزحف شاملا، واستمر في سنوات الأزمة الاقتصادية، ومع انتشار التعليم زاد اعتبار المعلم.»
فقال هوايتهد: «في أوائل القرن التاسع عشر بأمريكا - كما فهمت - كان المعلم والدارس والأستاذ في مكانة مرموقة، كانوا موحدين، تحيط بهم هالة من رهبة الدين. ولما تقدم القرن زالت هذه الهالة؛ فإن التوحيد كان دينا لا يدعو إلى إله واحد وإنما يدعو إلى «إله واحد على الأكثر» بل إلى «إله واحد» إذا كان ذلك.»
قلت: «زد على ذلك أن القارة كانت مفتوحة، فتكون إحساس في نهاية القرن بأن الرجل إذا كان رجلا كما ينبغي له أن يكون، فلا بد له من جمع الثروة، وهذا ما دعا وليام جيمس إلى أن يسمي النجاح «الكلبة المؤلهة» غير أن هذه العبارة لا تسود الآن كما كانت في ذلك الحين.»
وقالت مسز هوايتهد: «لا يزال في كلياتكم «هاربون» من الحياة العملية.» - «لست أنكر ذلك، ولكن رجالا من ذوي الكفايات الممتازة لا يحترفون اليوم مهنة التعليم فحسب، وإنما يلقون احتراما كذلك من أجل هذا.»
وحفزتني فقرة في مقال هوايتهد «نداء إلى العقل» إلى أن أعود إلى السؤال عما إذا كانت إحدى الولايات قد صرحت بالتعبير الكافي عن الدوافع الخلاقة عند الإنسان. إننا نرى رؤساء الولايات بين الحين والحين - برغم إنسانيتهم - لا يعملون وفقا لدافع الخلق والابتكار عند المجتمع، وإنما وفقا لغرائز التملك فيه. - «كان هربرت هوفر باعتباره من طائفة الأصحاب، يطعم الأطفال البلجيكيين باللبن، وقد أمر هربرت هوفر باعتباره رئيسا للولايات المتحدة بإلقاء القنابل المسيلة للدموع على المحاربين القدماء من جيش المنتفعين لطردهم من واشنطن. فما هذا التناقض البعيد المدى؟»
فقال هوايتهد: «إن تقديم اللبن للأطفال البلجيكيين لا يعني قطعا توافر العواطف الإنسانية لديه، إنما كان ذلك عملا تنظيميا قضت به العاطفة السائدة في زمانه، عملا لا مفر من أدائه، وقد كلف بالقيام به. نعم إنه من الأصحاب، ولكنه ضيق الخيال، كان عمله في وظيفته الأولى كمهندس أن يستخرج المعادن من المناجم في الداخل حتى من البحر. وأمثال هؤلاء الرجال لا يفكرون في حدود القيم الإنسانية أو رفاهية البشر، إنما تأتي هذه القيم - إن أتت إطلاقا - عرضا في العمل الرئيسي، وهو نقل المعدن من مكانه وطرحه في مكان آخر، ولا تتجه أفكارهم إلا إلى ذلك. فلما اقتضى الأمر طرد جيش المنتفعين من واشنطن، نشأ موقف لا بد من علاجه بحكمة بالغة، وقد أثبت قوة قبضته الفعلية.» - «إذن دعني أذكر لك مثالا آخر، وقع لنا حادث مع المكسيك في عام 1914م؛ ذلك أن أمرا مثيرا قد وقع في ميناء تامبيكو، وكان أول الأمر عراكا، ثم تحول إلى نزاع حول إهانة تتطلب اعتذار المكسيكيين وتحية علمنا، وأخذت الأمور تزداد سوءا؛ فصدرت الأوامر لأسطول شمال الأطلنطيق بالتحرك صوب ساحل المكسيك، واشتعلت نار الشعور العام (أو هكذا على الأقل كان صوت الصحافة) وأمر الرئيس ولسن الأسطول بمهاجمة فيراكروز والاستيلاء عليها، وقد فعل، ومات في سبيل ذلك سبعة عشر فتى؛ ستة عشر من القوة البحرية وأحد البحارة (ومات بعد ذلك ببضعة أيام رجلان متأثرين بجراحهما). وقبل ذلك بست سنوات فقط لم يكن مستر ولسن رئيسا للولايات المتحدة، إنما كان رئيسا لكلية جامعية في برنستن، رجلا إنسانيا مهذبا كأي زميل من زملائك هنا، يحزن إذا مات سبعة عشر طالبا مستجدا في فصله على أثر وباء. وجيء بالجثث إلى فناء الأسطول في بروكلن تحملها طرادة مسلحة، وسارت النعوش مغطاة بالأعلام في أرض الاستعراض في مناسبات مختلفة. وجاء الرئيس من واشنطن ليلقي كلمة التأبين، فقال إنه يغبط هؤلاء الشبان. وكان ولسن الموظف الذي أصدر إليهم الأمر بالهجوم، وكان ولسن الرجل هو الذي ينظر إلى النعوش السبعة عشر. وأذكر أن ذلك كان في شهر مايو من عام 1914م، وهو يتنبأ بالحرب العالمية أكثر من أي إنسان آخر، فلم يكن عالمنا قد قسا قلبه بعد بمرور سنوات عديدة من القتل الجماعي. وكانت أمثال هذه الحوادث تقابل بالشعور العادي؛ فتحطم قلب المستر ولسن. إنما أردت أن أقول إنه كرئيس كان لزاما عليه أن يعمل ممثلا لصالح الملكية الجماعية بطريقة لا يرضى عنها كإنسان. إنما كان جانب من الرجل فقط هو الذي يعمل كرئيس؛ لأن جانبا من الرجل فقط هو الذي تنتظمه الدولة.»
فأجاب هوايتهد بأن الرجال داخل الدولة يتابعون مشروعات عديدة مشتركة تعبر عن أوجه أخرى من طبائعهم؛ تربوية، وخيرية، وخلاقة، وفنية، واجتماعية. وربما كان من وظيفة الدولة حتى الآن أن تهيئ ظروفا من الهدوء الكافي الذي يمكن أن يمارس فيه المرء هذه الضروب المتنوعة من ألوان النشاط. وكثير من هذه الألوان - كالعلم والتربية - أصبحت بالفعل دولية، تتجاوز حدود الولاية.
وكان ما قاله في مقاله «نداء إلى العقل» هو: «إن كل كائن بشري بناء أشد تعقيدا
وخلال مناقشتنا لهذا قال فيما بعد: «ليس واجب الحكومة إرضاء كل إنسان
إن المدنية لا تنهار إذا انحرفت ناحية واحدة كبرى أو ناحيتان من نواحي النشاط، ولكن
ويبدو أن مدنيتنا بين هذا وذاك قد باتت في مأزق.»
قلت: «إن حكم الإمبراطور دوميشيان قد تأثر أثرا سيئا من تاستس، وهو من غير شك يستحق ذلك، ولكن بالرغم من أنه من الواضح أن وحشية الإمبراطور قد شلت الفكر الروماني مدى جيل على وجه التقريب، بحيث لم يطمئن أحد من النبلاء على حياته، إلا أن عجلة الحياة العامة واصلت دورانها، وربما لم يكن ذلك من عمله، ولكنه حدث على كل حال.»
فقال هوايتهد: «كان تاستس يمقته مقتا شديدا، وكنت دائما أعتقد أنه من المحافظين، يكره - نيابة عن طبقته - في دوميشيان ترقيته إلى مناصب السلطة الإدارية شرذمة من الأشخاص المغمورين، من الإغريق المتحررين ومن إليهم.» - «إذا كان اليهود لم يضحكوا إلا قليلا حتى العصور الحديثة نسبيا ، فما رأيك في الرومان؟ إننا لم نسمع ضحكاتهم كذلك، على الأقل حتى القرن الثاني قبل الميلاد، كانوا في القرون الأولى في قتال مستمر، آنا مع الكلت، وآنا مع أهل قرطاجنة، ولما بدءوا يضحكون؛ أي لما ظهر الضحك في أدبهم، ألم يكن من قبيل التهكم، أو الاستمتاع بمصائب الآخرين؟»
وانطلق هوايتهد يقول: «كان الرومان قوما عجيبين ...» وفكر قليلا، ثم صمم على ترك الموضوع.
قلت: «إن موهبة الإغريق في الضحك، بما فيه ضحكهم على أنفسهم أدعى إلى العجب، إذا عرفنا أن العالم القديم لم يعرف إلا قليلا من الضحك فيما يبدو.»
قالت مسز هوايتهد: «ولكن أمريكا لا تهيئ لكم إلا قليلا من الفرص لكي تدرسوا الإغريق؛ لأنكم أنتم أنفسكم كالإغريق، تخلقون عالما جديدا.»
قال هوايتهد: «حقا ما قلت. وإن آخر ما كان الإغريق يفكرون في عمله هو أن يقرءوا عما يفكر فيه سواهم، أو يفعل، أو يقول .»
ولكي نضحك قليلا نحن أنفسنا، بدأنا نستعيد ذكرياتنا الباكرة التي نعيها، وكان من ذكرياتها «أني عضضت أذن أبي، فلكمني لكمة شديدة من أجل ذلك». ومن ذكرياته أنه وهو طفل في الثالثة من عمره يتناول وجبة في مطعم سويسري، أحس بالعطش الشديد، فأخذ يشرب كوبا من الماء تلو الآخر، حتى رآه رجل كان يجلس تجاهه، فقال له: «أيها الطفل الصغير، لا ينبغي لك أن تشرب هذا القدر الكبير من الماء.» «وعلى أثر ذلك تناولت ملعقة، ورميته بها، وأصبته في فمه! وتصرف أبي تصرفا عاقلا فلم يعاقبني؛ أولا لأنه سر مما رأى، وثانيا لأنه ظن - فيما أعتقد - أن الرجل لاقى ما يستحق.» وقد ذكر هوايتهد هذه الحادثة مثالا ل «الذاكرة الكاذبة»؛ «فقد أعيد ذكرها على مسمعي مرارا كلما كبرت، فلما بلغت التاسعة استطعت أن أصور لنفسي المنظر كله كاملا وظننت أنني أتذكره.»
قلت لهما لا بد أنهما كانا طفلين عنيفين.
المحاورة الخامسة عشرة
17 من يوليو 1939م
كان آل هوايتهد يقيمون مع مستر ومسز إدوارد بكمان في مزارع ددلي ببدفورد هربا من قيظ الصيف في كمبردج، وبكمان هذا من أسرة المؤرخ موتلي، درس القانون، ثم اشتغل ضابطا بحريا أثناء الحرب، واتجه نحو كتابة التاريخ، وأخرج كتابا تحت عنوان «عقلية العالم المسيحي اللاتيني»، نشر منذ عامين.
وكانت مزارع ددلي ملكا للأسرة من قبل الثورة، وبالمزرعة بيت ريفي من الطوب ذو سقف مستدير، به المداخن الطويلة الأربع المألوفة، اثنتان منهما في كل جدار متطرف، ويرجع تاريخ البيت إلى عام 1795م، وبقيت للبناء بساطته برغم إضافة أجنحة جديدة إليه ومنازل للضيوف، والطريق إليه يتفرع من الطريق العام ويتخلل غابات ومراع تكاد لا تنتهي، تتوسطها أشجار الصنوبر هنا، وبركة هناك، وما يسميه أهل كنكورد «حديقة مستنقعة»، وكل ذلك يشبه حديقة طبيعية مما تراه في إنجلترا الجديدة، وعلى طول الطريق إلى كنكورد ضياع شبيهة بهذه، تمتد بحذاء الشاطئ متلاصقة، ويعرف هؤلاء الجيران ب «عائلة النهر».
وكان هناك تيودور سبنسر. وهذا العالم الفارع الطول، الأشقر اللون، لطيف المعشر، ظهر من عهد قريب في قصة مغامرة تمثل العصر الذي نعيش فيه، حينما يحدث أي أمر لأي إنسان، وقد أحيط علما على حين غرة مع كثيرين غيره من أعضاء هيئة التدريس بهارفارد عن طريق الرئيس كونانت بأن وظيفته كأستاذ مساعد للغة الإنجليزية التي كان يشغلها بعقد لمدة ثلاث سنوات، لن تتجدد. وثار الشعور عامة، وقال رأس من الرءوس العلمية القديرة في البلاد: «إنني قد لا أعرف كثيرا في الإدارة، ولكني أشك - إذا قضيتم على عيش عشرة رجال ذات صباح - أشك أنكم تستطيعون بعد هذا أن يسير معهدكم كما كان من قبل.» وهو شك أيدته الحوادث في السنوات الثلاث المتتالية، وكانت النتيجة مذهلة؛ فقد عين الأستاذ سبنسر أستاذا زائرا في اللغة الإنجليزية بجامعة كمبردج لعام 1939-1940م. ولما اندلع لهيب الحرب العالمية الثانية كان على هذه الجامعة أن تملأ وظيفة أستاذ زائر بهارفارد، فأعادت تعيين سبنسر ليشغلها، فعاد إلى أحضان جامعته الأولى، وكان ذلك صورة من صور الحياة، غير أن هذه المهزلة التي عرفها أصدقاء سبنسر كإحدى سخريات الحياة الصغرى، لم يتم منها غير الفصل الأول في ذلك الحين، وكانت روحه الفكاهية كفئا لها، وإن كان في بعض الأحايين يجدها كئيبة إلى حد ما.
وكنا اثني عشر على مائدة العشاء، وحجرة الطعام عبارة عن مطبخ من مطابخ القرن الثامن عشر، مزود بموقد كهفي وأفران من الطوب، وتفتح الحجرة من جانبها الخارجي على أرض خضراء، هي الحديقة، وبها بركة مستديرة تحت أشجار الدردار، وتتصل الحديقة بمراع فسيحة هادئة تنحدر صوب تيار النهر الساكن، ويقول هوايتهد إنه لا يمل التأمل فيها.
ونشط الحديث، ولكن لما كان المتحدثون كثيرين، والكلام ينتقل في سرعة خاطفة، لا يمكن في بدايته إلا أن نلخصه؛ قيل إنه في أي اجتماع له صفة بارزة معترف بها في هذه الجهة يرجح أن تجد أكثر الأفراد مدينين بمكانتهم؛ لا لكونهم خلاقين من تلقاء أنفسهم، ولكن كمديرين لمعاهد ثقافية - في كلية، أو جامعة، أو دار من دور النشر، أو متحف، أو معهد للموسيقى، أو حكومة الولاية، أو مكتبة، أو مستشفى، أو جماعة دينية - وتساءل الحاضرون عما إذا كانت المدنية في أمريكا قد بلغت حدا يمكنها من تطبيق القدرة الإدارية والاستفادة منها، ولكنها، لا تزال بعيدة عن أن تكون «قوة ابتكارية» حقيقية، على حد تعبير هوايتهد.
ومن هنا، ولما كان آل البيت موسيقيين، وكان على مائدة الطعام موسيقيون، انتقل الحديث إلى حقيقة فريدة لم يتنبه إليها إلا قليلون، وهي أن كثيرا، إن لم يكن أكثر المؤلفين الموسيقيين الممتازين في أوروبا، ومنذ حداثة باخ إلى وفاة براهمز، وهي فترة تمتد لمائتي عام، كانوا رجالا يعملون في أكثر الأحيان خارج المعاهد، وليس ذلك فحسب، ولكنهم - كذلك - لا يدينون إلا بالقليل للتعليم الرسمي المعهدي، وهذا أدعى للعجب الشديد؛ لأن الموسيقى هي الصورة الفنية الوحيدة التي تفوق فيها عالمنا منذ عام 1700م على كل فترة أخرى. وماذا كانت النتيجة؟ إن الينبوع - فيما يبدو - قد ينحدر لكي يتدفق خلال الحوض المرمري الذي أعد له، وإن ريح الروح الخلاقة تهب حيث شاءت.
وهنا أشار أحد الحاضرين إلى أن عام 1859م كان قمة القرن التاسع عشر، وبدأ حديث المائدة يتجه نحو تأييد هذا الرأي، وذكر الحاضرون عددا لا بأس به من جلائل الأعمال؛ أصل الأنواع لداروين، ومقال في الاقتصاد السياسي لكارل ماركس، وقصة المدينتين لدكنز، وآدم بيد لجورج إليوت، ومحنة رتشارد ففرل لمرديث، وآل فرجينا لشاكري، وأناشيد الملك لتنسن، ورباعيات فتزجرالد، وترستان أوند أسولد لفاجنر. (ثم كانت فترة توقف حتى شرع القرن العشرون يحاول مجاراة هذا النجاح.)
ثم تبع ذلك نقاش حول موضوع يبدو أنه يبهر أنظار القوم في هذا البلد، وهو تفوق الأشخاص غير المتعلمين. وقد لفتت هذه الفكرة نظر بكمان بشدة خلال خبرته أثناء العمل بالأسطول، ولكنه قال إن نقط الضعف الثلاث فيهم هي عادة عدم القدرة على بعد النظر، واتخاذ طريق معين وملازمته عدة سنوات، والميل إلى خلط الأمور العامة بالأمور الشخصية.
فقال هوايتهد: «إن جمهور الناس هو الذي يحدد الاتجاه العام للمجتمع على الأرجح، ولكن عظماء الرجال في المجتمع هم الذين يكسبون هذا الاتجاه هدفه الصحيح؛ فإذا استعرنا السفينة للتشبيه، قلت إن الجماهير هي المركب والبحارة والنابغة هو القائد. إن عدد المواليد في أي سنة في بلد باتساع الولايات المتحدة لا بد أن يسد الحاجة إلى المواهب الكامنة الضرورية لأي لون من ألوان التقدم الثقافي.»
فسألت مسز بكمان متلطفة: «هل لا بد من ذلك في كل عام على حدة؟»
فقال هوايتهد مبتسما: «أقول خمس سنوات. وذلك يعزز وجهة نظري، ولكن من الواضح أن الظروف قد تحول دون ازدهار ألوان معينة من المواهب مثل موهبة المؤلف الموسيقي في الولايات الغربية خلال القرن الماضي. ومن الواضح أن الفرصة لا تسنح لظهور قائد عسكري أيام السلم.»
فقال سبنسر: «كان جرانت فاشلا، مدمنا على الشراب، يعيش في كوخ خشبي خارج سنت لويس حتى عام 1859م، وهي تلك السنة الحرجة في القرن التاسع عشر، وبعد أربع سنوات أصبح بطل فكسبرج، وبعد تسع سنوات رئيسا للولايات المتحدة.»
فقال بكمان مخاطبا هوايتهد: «صادفه في ذلك الحظ، بل وأكثر من الحظ، وكثيرا ما حدثتنا يا ألفرد عن عنصر الحظ في حياة الناس. كان «لي» يحمل درجات الشرف في وست بوينت، ودرس نفس الكتب المقررة التي درسها قواد الشمال، وعرف أي التحركات كان يحتمل أن يقوموا بها، وكان يبزهم. أما جرانت فلم يتوقع ظهوره أحد.»
وانتقلت جلسة مائدة الطعام إلى حجرة الجلوس، وقد أعدت لتؤدي ثلاثة أغراض؛ لأنها كذلك حجرة الموسيقى والمكتبة؛ وهي حجرة فسيحة مرتفعة، سقفها من المصيص يستند إلى دعائم مفتوحة، والمفارش في الحجرة قليلة حتى لا تطفئ روعة الألوان، وبالحجرة بيانو ضخم، ورفوف الكتب مكتظة بها، يبلغ عددها نحوا من أربعة آلاف مجلد، وفي الطرف الداخلي موقد ضخم، حوله مجموعة من المقاعد كالمعتاد، وعدد من الكراسي، والموائد الصغيرة على الجانبين المتقابلين من المدفأة، والجدران الشرقية والجنوبية تطل على الحقول من نوافذ ضخمة على الطراز الفرنسي.
وانتقل الحديث إلى السبب في أن إنجلترا في القرن التاسع عشر كانت في عهد يلائم كتاب الروايات النثرية خاصة، والأثر القوي الذي كان لهؤلاء الكتاب في نقل القانون العرفي إلى الشعب.
وقال سبنسر: «كانت «مدلمارش» أولى الروايات التي قرأتها في شبابي، والتي جعلتني أحس أنني أعامل معاملة الرجل، وأثلجت صدري لأني شعرت أن الحديث يوجه إلي دون خداع عاطفي.»
وسألت مسز هوايتهد قائلة: «أي أجزاء الرواية تعني؟» - «موضوع لدجيت وفنسي، ذلك الزواج القاتل.»
قالت: «عرفناهما في كمبردج.» - «عرفتموهما؟ (وأثار هذا الموضوع عجبي) لم أسمع قط أنها استعارت
1
شخصياتها من الحياة!» - «كيف لم تعرف ذلك، وقد عرفه كل إنسان». ثم عددت مسز هوايتهد الأسماء.
وأثار سبنسر السؤال عما إذا كانت شهرة جورج مرديث في وقت من الأوقات قد كتب لها الدوام.
فقال هوايتهد: «لا أظن ذلك.» - «ما الذي سيقضي عليه؟» - «كان يعيش في وسط أدبي مرتفع، يبتعد عن الحوادث الجارية، ويخلق شخصياته من تأملاته، وحينما يفشل الكاتب المجيد، فالراجح أن ذلك مرده إلى زيادة انشغاله بالأفكار الأدبية البارعة، وابتعاده عن الموضوعات الإنسانية العامة الشائعة. خذ شكسبير مثلا؛ إنك قلما تجد عنده فكرة - أو موقفا - من غير المألوف، غير أن اللغة والخيال تجعل هذه الفكرة أو ذلك الموقف شيئا رائعا. يجب أن تكون هناك موضوعات عامة إنسانية مما يهتم به كل إنسان، وأن تعالج معالجة حية.»
قالت مسز بكمان: «إننا نقرأ جهرا في أسرتنا، وقد تبين لي أن الشباب عندنا لا يهتمون بمرديث، ولكنهم يهتمون بهنري جيمس. إنهم لا يجدون عباراته الملفوفة عسيرة على أفهامهم، وهم يستطيعون متابعة دخائل فكره. إنه كان ولا شك أشد غوصا في حدود الرقعة الضيقة التي كان ينبش فيها. إنه يكشف عن مميزات الفرد.»
وسأل سائل: «متى بدأ في التاريخ لأول مرة تقدير الشخص لذاته؟»
قال هوايتهد: «كنت أحسب أن ذلك بدأ بأصدقائنا القدامى؛ الرسل، بيد أن ذلك لا يشفي؛ فقد كانوا خاضعين للعقائد الدينية.» - «هل نجيب عن هذا السؤال، إذا قلنا إن تقدير الفرد قد بدأ بالإغريق، كما يدل على ذلك قول بركليز في رثائه: «إننا لا نقسو باللفظ ولا نحقد بالنظر على أولئك الذين يستمتعون بحياتهم على طريقتهم الخاصة.» متى بدأ ظهور فكرة الحرية؟»
وكان ذلك مبعثا لنقاش عام، ولكن دون أن نجمع على رأي، وربما كان ذلك راجعا إلى كثرة المشتركين في الجدل. وكان مما قاله هوايتهد إن من بين مفكري القرن الثامن عشر من تنبأ في جلاء بأن ظلم الأغلبية قد يكون أشد عسفا من ظلم الحاكم المستبد.
وواصل حديثه قائلا: «إن المؤرخين لم يقدروا قط الرجل الذي يتفادى الكارثة حق قدره، ويحضرني الآن في ذهني أغسطس قيصر. إن عجبي لم ينقطع من أن روما قد استطاعت أن تخرج رجلين عبقريين كيوليس وأغسطس، والبلاد في أشد الحاجة إليهما. لا بد أن الشعب كان يريد النظام والمدنية من صميم قلبه؛ لأن كتائب الجيش كان أكثرها على الحدود، ولم تكن الثورات داخل البلاد في حاجة إلى جند كثير لقمعها.»
قلت: «لقد عانى الرومان من أمثال هذه الثورات خلال الحرب الأهلية التي دامت مائة عام بأكثر مما فيه الكفاية، وكان الناس في حالة من حالات اليأس، فقد كابدوا من تلك المنازعات الثنائية المريعة، بين ماريوس وسلا في أول الأمر، ثم بين قيصر وبمبي، وأخيرا بين أنطوني وأغسطس، ولم يكن البتة من المؤكد أن هذه المنازعات ستنتهي في يوم من الأيام.»
ووجه بكمان الحديث إلى هوايتهد قائلا: «إنهم كانوا أكفاء لهذا الجهد، وانتهت المنازعات في آخر الأمر، وسمعتك تقول إن ذلك يرجع إلى أن الرومان لم يسأموا بعد من حضارتهم.»
وأجاب هوايتهد بقوله: «وما زلت عند رأيي. إن جلوسنا هنا، في الأزياء التي نرتديها، وبوحنا ببعض أفكارنا، يرجع إلى حد ما - فيما أظن - إلى أغسطس. لقد وجد السبيل إلى الاحتفاظ بكيان الإمبراطورية باتباع نظام الإمارات، كان يكل إلى الرجال من جميع الأحزاب أعمالا ذات تبعات، وكانوا يحملون هذه التبعات، وكانت بلاد الغال هادئة. أما ألمانيا (وهنا ارتسمت على شفته ابتسامة) فكانت بالأمس - كما هي اليوم - مشكلة المشكلات.»
قلت: «إنهم لم يعرفوا السلام قط. ولا عجب في ذلك؛ فإن الغابة الألمانية كانت تستغرق مسير تسعة أيام من أحد طرفيها إلى الطرف الآخر، في ظلام، ورطوبة، حيث لا توجد طرق أو مدن، ورجال القبائل دائما على أهبة للهجوم. وكانت بلاد الغال تسبق التيونون ثقافيا بعدة قرون.»
وسأل هوايتهد: «وهل كان للغال أدب في ذلك الحين؟» - «لست أذكر لهم أدبا قط، اللهم إلا إذا نسبت إلى الغال الفضل في «مذكرات» قيصر. والفارق هو أن قيصر كان يجد في الغال طرقا يقطعها مسافرا، ومحصولات يعيش عليها، ومدائن وممتلكات يرغم السكان على الاحتفاظ بها والدفاع من أجلها. أما في ألمانيا فقد كان على كتائب الجيش أن تشق طرقاتها، وتحمل معها مئونتها.»
فقال هوايتهد: «ثم حلت كذلك تلك الكارثة المروعة بألمانيا؛ فقد هلك فاروس، وهلكت معه ثلاث كتائب هي خير ما في الجيش الروماني.»
وردد بكمان تلك الصيحة اليائسة التي صرخ بها أغسطس، وهي: «رد إلي كتائبي يا تونتيليوس فاروس.» ثم أضاف إلى ذلك وهو يبتسم قوله: «إننا ما زلنا نعاني من فقدان تلك الكتائب الرومانية في ألمانيا على أيدي فاروس.»
وأجابه هوايتهد حادا بقوله: «يحتمل كثيرا أن يكون الأمر كذلك.»
المحاورة السادسة عشرة
18 من يوليو 1939م
في الساعة العاشرة من هذا الصباح يعود آل هوايتهد إلى مسكنهم بفندق أمباسادور في كمبردج، يقضون به ليلة حتى يأتيهم نورث لينقلهم إلى «جزيرة باتلشب» في بحيرة سباجو بالمين.
وقبل الرحيل، أراد هوايتهد - وقد لبس سترته وقبعته - أن يخرج إلى الحقل المنحدر فوق النهر ليلقي نظرة أخرى على المنظر الذي أحبه حبا جما، ورافقته أنا وبكمان، وإذ نحن واقفون بالحقل نسرح الطرف في الطبيعة، ونرسله إلى تيار كنكورد الساكن النائم، عاد بالحديث إلى موضوع ما يحققه الشاعر لنفسه من فائدة.
قال هوايتهد: «فائدته في تدوين فكرته؛ كان عنده موضوع ليس له صيغة، يصوغه في أبيات من الشعر، ثم يصيح فرحا ويقول: «ها أنا ذا قد وجدتها!»» - «وهل للثناء قيمة كبرى عند الشاعر؟»
قال: «لا بد لهم منه فيما أعتقد، وإلا فكيف يعرفون أنهم أصحاب نفوذ؟ ومن السخف أن نزعم أن الرجل يحسن المحاضرة إذا كان نصف مستمعيه نياما. إن الاستجابة ضرورة لا بد منها.» - «إنها قد تكون مخدرا كذلك.»
فاستدرك هوايتهد قائلا: «إنها ضرورة للفنانين الثانويين، وللممثلين والمخرجين. أما الشاعر فيجد ثناءه في الأداء ذاته، وهو يعرف متى يكون مجيدا، ويعرف متى يبلغ حد الإعجاز! حتى في الحديث العادي. ولست أقصد به الآراء التي صغناها في أذهاننا أولا صياغة دقيقة، ثم أكسبناها لفظا، وإنما أقصد الآراء اللاشعورية التي تنبعث تلقائيا من اللاشعور في ألفاظ دون إقحام أية عملية من العمليات ذات الأثر التي نعرفها، وذلك أشد ما يدعو إلى الدهشة، ولم يفسره لنا أحد قط، ولا يعرف أحد العلاقة بين هذه التأملات اللاشعورية وترجمتها المباغتة إلى كلام.»
ثم اتجه الحديث نحو جيته.
فقال هوايتهد: «طرأ لي أخيرا أن تفكير جيته خاص جدا، وأن العالم يكون أكثر تقدما بالعواطف الثانوية السليمة الصحيحة المعقولة التي عبر عنها شلر. إن هذه العواطف لا ترتفع قط فوق مستوى معين، ولكنها آمنة مفيدة.»
وعلقت بقولي: «قال لي صديقنا لفنجستون ذات مرة إنه لم يحفل بجيته لأنه «لم يكن رجلا مهذبا». وبعد ثلاث سنوات ذكرته بقوله هذا، فانفجر ضاحكا وصاح: «هل قلت ذلك؟ إنني لأعجب ماذا كنت أعني.»
فقال هوايتهد: «كان جيته يوغل في العواطف الخيالية بدرجة غير مألوفة، وإني لأشك خاصة إن كان العالم يتقدم بهذه العواطف الخيالية.»
وكانت رحلتنا إلى كمبردج ذات صباح مشرق في يوم من أيام الصيف، وتحدث هوايتهد وزوجه عن أسفهما لاضطرارهما إلى التخلي عن أمسيات أيام الآحاد التي كانا يخصصانها للطلبة.
وقالت مسز هوايتهد في هذا الصدد: «حينما قدمنا إلى هارفارد لأول مرة، قال زملاء أولتي في القسم: «لا تمكن الطلبة من التدخل في عملك! إن عشر دقائق أو خمس عشرة تكفي لأي نقاش معهم.»»
وزاد على ذلك هوايتهد وهو يبتسم مبتهجا: «تذكري أن أكثرهم كان من الخريجين، مشكلاتهم التي يعرضونها للنقاش نفسية معقدة.» - «وكيف كنت تتغلب عليها؟»
فأجابت بقولها: «كان أولتي يرد عليها بصوته العذب، الذي يصدر عنه دائما حينما يصمم بصفة خاصة أن يعالج الموضوع بطريقته، وكان يقول: «إن عاداتي قد تجمدت، وأخشى أن يكون الكبر قد بلغ حدا لا يمكنني من تغيير أسلوبي، وعليكم أن تصبروا معي».» - «سمعت عن اجتماعات أمسيات الآحاد عندكم قبل أن أتعرف إليكم بسنوات عدة، وكنت أتوق دائما إلى حضورها.»
قالت: «ولماذا لم تفعل؟ لقد قيل لنا إن أحدا لن يرغب في الحضور. ولم يحضر أحد بالفعل في أول أمسية، إذا استثنينا رجلا صينيا بقي معنا إلى ما بعد منتصف الليل، وكدنا نفشل فشلا تاما! ثم بدءوا يفدون علينا ستة ستة؛ كي يحتمي كل منهم بالآخر فيما أظن. وأخيرا ذات مساء استمعوا إلي وأنا أجادل الحكيم، في نقطة كنت أعرف أن أولتي قد أخطأ فيها، وتبادلنا أطراف الجدل وأخيرا أقر أولتي بخطئه، ولسبب لا ندريه انتشر نبأ هذا الجدل؛ فبدأ الضيوف يتوافدون، ولم يزد عدد الزائرين في أية ليلة عن بضعة وتسعين، ثم نمى الخبر إلى اليهود فجاءوا أسرابا، وتباعد من عداهم، واستمرت الحال على ذلك عامين، نقضي مع اليهود وقتا طيبا دون من هم على غير دينهم، ثم عاد هؤلاء إلى زيارتنا وعادت الأمور كما كانت، وكان فلكس عونا كبيرا في هذه المجتمعات؛ إنه لم يتكلم، ولكنه حث الآخرين جميعا على الكلام. ولم يستطع أصدقاؤنا أن يصدقوا أنني لا أرضى بإلغاء أمسيات الأحد هذه في سبيل حفلات العشاء التي كانوا يقيمونها للمشهورين من الأجانب، بيد أنا لم نتخل مرة واحدة عن طلابنا.»
وبلغنا فندق أمباسادور.
فقالا: «ألا ترغبون في الدخول معنا؟»
وكانت أرجاء المسكن مغطاة بالورق لحلول فصل الصيف. وقد حدث ذلك فعلا؛ لأن جون وماري اللذين عاشراهما - ماري لمدة تسعة عشر عاما، وهو لما يقرب من عشر سنوات - قد قاما، أثناء غيابهما، بتنظيف جميع الكتب وإعادتها إلى رفوفها مغطاة بأوراق الصحف، وكل شيء بالمسكن كان يفوح بالجدة والنظافة، وطافا بأرجاء المكان يستنشقان جوه ويعبران عن ابتهاجهما.
ثم قالت لي: «البث معنا لتتناول عشاء من اللحم.»
وكانت عودتنا من الريف إلى مسكن في عمارة في يوم من أيام يوليو الذي اشتد قيظه مناسبة للاحتفال ، وبينما كانت ماري تعد عشاء اللحم الموعود، جلسنا في مكتب هوايتهد، يهب علينا نسيم عليل.
وكانت حمى السياسة في أوروبا تزداد سوءا يوما بعد يوم، وشرعنا نقارن بين مسلك الدكتاتوريين الفاشيين والحكام المستبدين المجانين في المأساة الإغريقية.
قلت: «إن هتلر لم يسمع قط بآلهة المثوبة والعقاب في العقائد الإغريقية، ولو قد عرف شيئا من هذا لما كان له لديه معنى. أما الرجل الآخر فقد قرأ في هذا الباب.»
فقال هوايتهد: «لقد قرأ مكيافلي، وقد كتب مكيافلي قواعده لبلوغ نجاح قصير الأجل، يمتد من خمسة أعوام إلى خمسة عشر.»
وأدى بنا ذلك إلى نقاش حول طول حياة النظم فقال: «إن الجامعات في أوج مجدها الآن،
وقالت زوجته: «لقد بلغت الآن بالفعل مفترق الطرق.»
وتحدثنا عن إساءة استعمال «البحث»، وذكرت خطاب جون برنت في 12 مارس عام 1904م بسنت أندروز، وقلنا إن الناس الذين يكثرون من الحديث في «البحث» ليسوا أولئك الذين قاموا به. لقد ابتذلت الكلمة وأصبحت مما يسيء إلى كثير من الناس.
وإنا لنسمع عن «بيئة البحث» وعن «المنح التي تقدم للبحوث» وما إلى ذلك، كأن الأمر كله يتعلق بالمال ولكن صاحب الخطاب لم يفترض أن أي كشف من الكشوف العظيمة قد استعان بالمال، ومن المؤكد أن جميع الكشوف قد قام بها رجال لم يفكروا بتاتا في المعونة المالية.
فقال هوايتهد: «لقد سمعتموني أنقد جبن العلماء، وأعتقد أن ما لنقد المتون من قيمة قد انتهى، ذلك العمل الضخم الذي استمر منذ النهضة لتنقية الأصول الكلاسيكية، ذلك عمل قد تم وانتهى، ونحن اليوم نعلم عما كان يتحدث المؤلف، ولكن العلماء ما زالوا يعيدون ثم يعيدون هذه التنقية، بعد أن لم تعد لها قيمة.» - «لماذا يستطيع العلم أن يقفز كل هذه القفزات التي وثبها في القرن الماضي، بل في الأربعين سنة الماضية، في حين أن الدراسات الإنسانية تتقدم تقدما وئيدا؟ هل نحن حقا قد سبقنا أفلاطون وأرسطو في هذا المضمار بخطوات شاسعة؟»
فأجابني بقوله: «في القرن الثامن عشر (وأنا أتحدث عن إنجلترا حيث أعرف ما أتحدث عنه) كان بالإمكان مسايرة روما واليونان في أزهى عصورهما؛ فإن البناء الاجتماعي كان شبيها بهما إلى حد يجعل السوابق التاريخية ذات قيمة عملية، ولو إلى حد ما، فما زال هناك الجماهير والأرستقراط، ولو كان الأمر مما يتعلق بحكم مستعمرة إمبراطورية - كالهند مثلا - استطعت أن تحذو حذو الرومان، ولو أن حاكما استعماريا قدم إلى المحاكمة لسوء إدارته - مثل وارن هيستنجز - كانت أمامك خطب شيشرون ضد فريز الذي اتهم بحكمه الجشع في صقلية. وحتى في القرن التاسع عشر كان بالإمكان احتذاء المثال الإغريقي الروماني إلى حد كبير. أما الآن، في القرن العشرين، فإن التكنولوجية الحديثة قد عدلت من القيم الخلقية، أو من العلاقات الاجتماعية، حتى بات الأمر يتطلب مزيدا من البحث ومن الدقة في تطبيق النظم التقليدية الكلاسيكية على احتياجات العصر الحديث.» - «وماذا يحتمل أن يكون أثر هؤلاء الرجال الذين تعلموا تعليما علميا على حكم الإمبراطورية البريطانية؟» - «إنا نبعث إلى الخارج إداريين استعماريين من الرجال الذين لم يشربوا بروح التقاليد الإنسانية القديمة، وإنما من خريجي المدارس العلمية. إنهم لا يقلون عن نظرائهم ذكاء، ولكن هل نالوا ما لقيه هؤلاء من تدريب ملائم؟ إني أشك في أنهم يدركون بمثل دقتهم التكوين العاطفي للشعوب التي لا بد لهم أن يحكموها.»
قلت: «إن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية مثال لنظام له خبرة واسعة في الحكم، أفاد من علم العالم القديم.» - «إنه نظام قد تعلم كيف يدير الأمور إدارة ناجحة في مجتمع ملكي تحكمه الأرستقراطية، وعندما يفكر أحد أن في تعديل هذا المجتمع، أو في تحريره بتحويله إلى النظام الجمهوري أو الديمقراطي، تقف الكنيسة عادة موقف المعارضة لهذا التعديل. والآن، في الوقت الذي قد جن فيه جنون بعض الحكومات الأوروبية، ترى الكنيسة - أو هي تظن أنها ترى - ميزة في جانب الدكتاتوريات الفاشستية التي تعارض نوع الدكتاتورية التي يمثلها ستالين. وأعتقد أنهم مخطئون.» - «قال لي عالم اجتماعي ممن أعرف (وهو يميل إلى جانب الاشتراكية بصورة واضحة) إنه يعتقد أن الكاثوليكية ستتغلب على الشيوعية، إما بمسايرتها أو بالقضاء عليها، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الماركسيين يغضون الطرف في عناد عن الاحتياجات العاطفية لمتوسط الناس، في حين أن الكنيسة تشبع هذه الحاجات.»
قال هوايتهد: «لقد نجحت الكاثوليكية في إخراج نوع مهذب نوعا من النساء، ولكنها لم تبلغ مثل هذا النجاح مع الرجال. بالرجال حاجة إلى أن ينفضوا عن كواهلهم عبثا تلقيه عليهم الكنيسة، وما لم يفعلوا ذلك، لن يكونوا مفكرين لهم أثر. إنهم إذا لزموا حدود العقائد الكنسية الجامدة ظلوا دائما على خشية من أن يفكروا في رأي يتعارض معها. وأعتقد أن الكنيسة كان باستطاعتها أن تكون أشد جرأة مما هي عليه - وهي مطمئنة - في قائمة الكتب التي تصرح بقراءتها. إن أمرسن لا يصيب شعب الكنيسة في الحقيقة بأي لون من ألوان الأذى.»
المحاورة السابعة عشرة
15 من ديسمبر 1939م
بدأت الحرب العالمية الثانية منذ وقت قصير، وكان هذا أول مساء لي مع آل هوايتهد منذ اشتعال الحرب في سبتمبر، وكان كل امرئ في هذا الوقت لا يزال يمتنع عن مس موضوع الحرب مع غيره إلا بالحذر الشديد؛ لأن الشعور كان ملتهبا، ولم يستطع أحد أن يتنبأ بالمستقبل.
ولم يكن الأمر كذلك هنا على أية حال، فقد لمسنا الموضوع لمسا مباشرا.
قال: «إنني على يقين جازم بأن أمريكا يجب أن تبتعد. أنتم بحاجة إلى نحو خمسين عاما لكي تستقروا وتقروا بعض المشكلات المحلية التي يبدو أنكم الآن في طريقكم إلى حلها، فإذا أنتم دخلتم واشتبكتم اشتباكا شديدا فربما أدى ذلك إلى ضرر دائم لمستقبل العالم، ولو أنا فزنا بمعونتكم - كما حدث في المرة السابقة - فإن التسوية التي نصل إليها بحضوركم قد تفقد التوازن بعد انسحابكم. من الخير لأوروبا أن تحقق اتزانها بنفسها.»
وقالت: «أما إذا انهزمنا، فقد أصبح لزاما عليكم أن تتدخلوا، وإلا وجدتم النازيين في كندا وفي أمريكا الجنوبية.»
قال: «أشك في أن العالم قد مرت به من قبل محنة على نطاق واسع كهذه المحنة.» - «إنك تدهشني بهذا القول. ألم تكن محنة روما تحت حكم الأباطرة الفاسدين أوسع نطاقا؟» - «كانت الآلام وأسباب الجزع في روما محصورة في الطبقات العليا إلى حد كبير، ولا بد أيضا أن تكون آلام العدد الضخم من الرقيق، الذي كان يقوم عليه هذا المجتمع، شديدة كذلك.» - «يروي المؤرخ برسكس قصة زيارته لمعسكر الهون التابعين لأتلا، وكيف اخترق أراض انتحرت فيها عند اقترابهم جماعات بأسرها. فلما بلغ معسكرهم ألفى هؤلاء المحاربين أنفسهم ممتلئين بالحماسة وينشدون الأناشيد التي تتغنى بفضائلهم.» وقد رأيت أن أربط هذه الظاهرة بمقدار انتشار الآلام البشرية، ثم شرد ذهني وذكرت لهم ذلك، وقلت إنه كثيرا ما حدث لي مثل هذا الشرود في الأيام الأخيرة.
قال: «يسرني أن أسمع منك ذلك؛ لأن ذهني كذلك يشرد، وكنت أعزو ذلك إلى سني.» - «أعتقد أنه التعب. إن وعينا للحرب ماثل دائما في أذهاننا، ونحن مضطرون إلى معاودة التفكير في الأمور العادية بالإشارة إليها، وكثيرا ما نفعل ذلك على غير وعي منا، ولكن الجهد يرهقنا بعد حين وكأن شيئا في اللاشعور يجذبنا.»
قال: «لقد فقدت القدرة على أداء أي عمل لفترة ما بعد نشوب الحرب؛ فقد كانت دائما في خاطري. أما الآن فقد تشبعت بها عملياتي الفكرية أخيرا، وبدأت أعود إلى العمل.» - «يقول سكت نيرتج، الذي تناول معي طعام الإفطار هذا الصباح (وهو أحد زعماء التحرير الأمريكي) إن المشكلة في عصرنا الحاضر هي كيف يعيش المرء عيشة حسنة في مجتمع منحل. ولست على ثقة مما يقول، وليس من شك في أنا نعيش في ضائقة اقتصادية، ولكن أليس من الجائز أن يكون من أثر التكنولوجية العلمية، وما يترتب عليها من عنف واضطراب، إعادة تماسك المجتمع؟ من الخير لنا ألا نتعجل اليأس، ولست أقصد أنه من المحتمل لأي منا أن ييئس، ولكن كل عصر عظيم - أثينا في القرن الخامس، وروما لعهد أغسطس، والنهضة، والإصلاح الديني، والثورة الفرنسية - سبقه أو صاحبه عنف واضطراب؛ الحرب الفارسية في اليونان والحروب الأهلية الرومانية قبل أغسطس، وغير ذلك. ألا ترى معي أن الوقت لم يحن بعد للحكم؟ وهل تدهش لما حدث إذا تذكرنا الانقلابات الآلية والعقلية التي وقعت منذ بداية هذا القرن؟»
وقال هوايتهد: «لقد عشت ثلاث حيوات متميزة مدى عمري؛ الأولى من الطفولة إلى الحرب العالمية الأولى، والثانية من عام 1914م حتى إقامتي في أمريكا في عام 1924م، والثالثة هنا منذ عام 1924م. ويبدو أن الحياة الأولى أكثرها غرابة. في تلك الأعوام من سنة 1880م وما بعدها حتى الحرب الأولى، من ذا الذي كان يحلم أن الآراء والنظم - التي كان يظهر عليها الثبات وقتئذ - لم تكن دائمة؟» - «بالرغم من حداثة سني حينما كنت أنت رجلا كامل النمو، فإن الدنيا في عام 1890م وما بعدها تبدو لي كأنها كانت تسبح في ضباب ذهبي من الأناشيد الأسطورية.»
قال: «كانت كذلك منذ سبعة وخمسين عاما حينما كنت شابا في جامعة كمبردج، وقد تعلمت الرياضة والعلوم على رجال أفذاذ، وبرزت فيها. ومنذ بداية هذا القرن قدر لي أن أرى كل فرض أساسي في هذه العلوم والرياضيات، وقد انقلب رأسا على عقب، ولا أقول إنه قد نبذ، ولكنه بات في المحل الثاني بعد ما كان في المكانة الأولى. حدث كل هذا في مدى حياة واحدة، انقلبت أهم الفروض الأساسية في العلوم التي كانت تنسب إليها الدقة البالغة، وبرغم هذا نجد أن مستكشفي الفروض الجديدة في العلوم يصرحون بقولهم: وأخيرا بلغنا اليقين. في حين أن بعض الفروض التي شهدنا انقلابها قد ثبتت لأكثر من عشرين قرنا.» - «وهل هذا من أسباب الصعوبات التي تلاقيها في استخدام مصطلحات جديدة لآرائك الخاصة؟» - «هل لاحظت ذلك؟» - «لاحظت أني أستطيع أن أفهم الثلث الأول والثلث الأخير من كتابك «مغامرات الأفكار»، ومن مقالك «الذكرى المئوية الثالثة لهارفارد». أما في الثلث الأوسط فأجدني أتعثر. فهل الثلث الأوسط فوق مستوى الرجل العادي الذي يود أن يقرأه ثم يعيد قراءته؟» - «كلا، لا أظن ذلك؛ فأنا أكتب للرجل العادي، وفي سبيل ذلك أتحاشى الألفاظ الفنية التي يألفها الفلاسفة.»
فقالت زوجته: «ومن أجل هذا لا يحبه الفلاسفة، وإن كانوا في منتهى العذوبة في نقدهم.»
وواصل حديثه قائلا: «ولكني أعتقد أن من واجب الفلاسفة أن يربطوا أفكارهم باحتياجات الحياة العامة، وهناك أمر آخر لا بد لهم منه؛ عندما تفكر في المشاق التي يلاقيها رجال العلم لكي يقيموا نظرياتهم على فروض تتعرض للنقد الدقيق - وكيف يضعون الاختبارات التي يسيطرون بها على التجارب - عندما تفكر في ذلك اذكر كيف كانت الأفكار الأساسية حتى لأكبر الفلاسفة في الماضي تخضع إلى حد كبير للعلاقات البيئية الوقتية بحكم الضرورة، تلك العلاقات التي كانوا يعيشون فيها. أما العيب فيقع على عاتق المفكرين المتأخرين الذين لم يترددوا في قبول أحكامهم دون التوقف لإعادة البحث فيها في حدود الظروف الاجتماعية المتغيرة.»
قلت: «إن «علوم السياسة» لأرسطو مثال قوي لما تقول. لا شك في أنها كانت تقوم على فرض أساسي، وهو أن المدينة الحكومية هي الشكل السياسي السائد، وذلك أيضا في عصر بدأ فيه هذا النظام في التخلف عن مسايرة الزمن وأوشك أن يتبدل لتحل محله ملكيات عسكرية على صورة مستمدة من فتوح الإسكندر الأكبر، تلميذ أرسطو.» - «هذا مثال طيب لما قصدت إليه. الفلسفات بحاجة شديدة إلى إعادة التفكير فيها في ضوء ظروف البشرية المتغيرة.» - «وإلى أي حد يستطيع العقل وحده أن يقوم بذلك؟» - «أشك في أنا نتقدم كثيرا بالعقل وحده. أشك في أن العقل يستطيع أن يسير بنا شوطا بعيدا. لقد تحدثت عن البداهة المباشرة، وكلما تقدمت بي السن زاد تقديري لعبقرية فذة لا تبارى تميز بها أحد الفلاسفة، وذلك هو أفلاطون (وعندما تفوه بكلمة فذة أكدها بطريقة نطقها وأغمض جفنيه قليلا). قلما تجد بداهة لم تكن لديه أو لم يقدرها، وحتى بعدما تضع في الحسبان التعديل الذي يترتب على الظروف الاجتماعية المتغيرة منذ ما فكر وكتب، كما ذكرت منذ برهة، والتغيرات التي لا بد من القيام بها بناء على ذلك، حتى بعد ذلك فإن الجانب الأكبر من فلسفته لا يزال قائما. لقد جابه الواقع، أو تلك الحقائق التي لا يفهمها الرجل العادي فهما مباشرا، وبقدرة عجيبة على الدقة والجدل وضعها في صيغة يمكن للأثيني المتعلم في عهده أن يدركها.»
وبلغت الساعة الآن العاشرة والنصف، وجيء بالشوكولاتة الساخنة، وانتقلنا إلى الحديث في موضوع «النظامية الإنجليزية»، وهل قامت على ضرورات اقتصادية.
فقال هوايتهد: «كلا، لم يحدث ذلك البتة فيما أظن، وإنك لتلمس في جون وزلي ذلك المزيج غير المألوف؛ فقد كان رجلا يجمع بين البداهة الروحية والقدرة التنظيمية العظمى، كان التنظيم عنده طبيعة كالتنفس، وإني لمدين لصديقي ألي هالفي بملاحظة من أشد الملاحظات التي سمعت في حياتي نفاذا عن التاريخ الإنجليزي، وهي أن الأفكار الثورية الفرنسية، وبخاصة مذهب اليعقوبيين، قد حالت دون عبورها القناة الإنجليزية فكرة اتباع وزلي الدينية، الذين كانوا ينظرون إلى اليعقوبيين كأنهم بغير إله، وقد كان الثائرون - كما تذكر - يؤمنون بالله، أذكر منهم روبسبيير وسنت جست وغيرهما من زمرتهما، ولكن النظامي، كان لا يقيم لذلك البتة وزنا، ثم لما تطور العصر الصناعي، حينما بدأت الأسرات الغنية من الطبقة المتوسطة تتزاوج من الأرستقراطية، كان لذلك أثر فريد، وهو أن هذا التزاوج قد أعطى الأرستقراطية - لأول مرة في التاريخ تقريبا - مسحة دينية لونت الحياة السياسية الإنجليزية بأسرها في القرن التاسع عشر.» - «إن رومان رولان في «جين كرستوف»
1
يذكر على لسان إحدى الشخصيات أن ما جعل الإنجليز شعبا مفزعا أنهم أمة ظلت تقرأ الإنجيل عدة قرون.»
وفكر فيما قلت متشككا فيه، ثم قال: «إن هذا الرأي أقرب إلى الفكرة الأدبية منه إلى القوة التاريخية. إن الإنجيل يتميز بإشاراته إلى الأبدية.» ثم وقف بغتة وتحدث في حماسة شديدة قائلا: «ها نحن أولاء بشخوصنا المحدودة الأجل وحواسنا المادية أمام عالم إمكانياته لا تحد، وبالرغم من أنا قد لا نفهم هذه الإمكانيات اللانهائية، فإنها وقائع ثابتة.» ولبث واقفا لحظة مستغرقا في تفكير، ثم عاد إلى جلسته، وواصل حديثه قائلا: «إن عيب الإنجيل فيمن تصدوا لتفسيره، أولئك الذين سخطوا ذلك الإحساس باللانهاية وحولوه إلى آراء نهائية محدودة، وقد كان أول مفسر للعهد الجديد أسوأهم، وهو بولس.» - «هل قرأت «الكافر بالمسيح» لنيتشه؟» - «كلا.» - «إن عنوان الكتاب أعنف من محتواه، وإن كان المحتوى فيه شيء من العنف، ويدهشني أن نيتشه كان رفيقا بيسوع، وهو يقول بأنه لم يوجد غير مسيحي واحد، وقد مات مصلوبا، بيد أن القديس بولس قد أدرك ذلك من غير شك.»
قال: «إننا نتكلم عن نهاية المسيحية في حدود ألف عام، بيد أن المسيحية اتخذت أشكالا عدة في تاريخها حتى إني كثيرا ما أتصور أنها قد اتخذت شكلا جديدا - وربما كان نهائيا - هنا في أمريكا، بعدما تآلفت مع فكرتكم الديمقراطية عن الحياة. إن الحياة في أمريكا - برغم كل ما فيها من قيود - أفضل وأرق منها في أي مكان آخر على وجه الأرض سمعت عنه خلال العصور التاريخية كلها، غير أن رجال الدين قد فقدوا نفوذهم؛ فإن الرجل إذا اشتدت به الأزمة في أمريكا يتجه الآن إلى الطبيب، ولا يفكر في إخطار قسيسه، اللهم إلا هنا وهناك حيثما يكون القسيس فردا غير عادي. أما في إنجلترا فإن الرجل الذي يقصده الناس في أزماتهم هو محامي الأسرة ، وإنك لتلمس ذلك في القصص الإنجليزي، فهو فيها شخصية مألوفة. إن المشكلة في الدين هي أن تربط النهائي باللانهائي. ومما له دلالته أن الناس لم يعودوا يعتقدون في السماء.» - «وماذا أنت واجد في سماء المسيح مما تستطيع أن تؤديه؟» - «إني أوثر أن أذهب إلى حافة جهنم حيث أستطيع أن أقابل الفلاسفة اليونان ورجال السياسة من الرومان وأبادلهم الرأي.»
فسألت مسز هوايتهد: «وكيف يستطيع الفرد أن يتغلب على الملل المميت في الجنة؟ على الأقل كما يصورونها عادة؛ نغما رتيبا.»
قال: «لا بد من إيجاد ما يحل محلها.» - «ربما كان المطلوب صورة من صورة القدرة على الإبداع.»
وناقشنا هذا الرأي فقال: «كتب إلي سر رتشارد لفنجستون يقول إن أقوى
فقالت مسز هوايتهد: «أهمية وظيفته، لا أهمية شخصه.»
وواصل حديثه قائلا: «وكذلك المشكلة الأساسية في الفلسفة الحديثة هي كيف نربط الواحد بالمتعدد. وقد تحدث في ذلك أفلاطون، وأصاب في الكثير من المواضع، ولكنه كذلك أخطأ خطأ فاحشا في مواضع كثيرة أخرى. والاتجاه الحديث هو أن تقول: أنا سعيد «الآن»، والمستقبل لا يهمني، ولكن «الآن» لا معنى لها بغير دلالة المستقبل. والمطلوب هو أن نربط كل «الآونات» بالمستقبل.»
فسألت مسز هوايتهد: «وما الفارق بين الذكاء والمقدرة؟ أعتقد أننا جميعا نبتهج حينما نلمس الذكاء في الطفل أو المراهق. أما إذا كنا لا نزال نعجب به عند الراشد فنحن من الخاطئين.» - «أليس هناك شخص في إحدى روايات دكنز يقال عنه - حتى أواخر أيامه - إن شاب يرجى منه؟ أعتقد أن الذكاء هو سرعة الفهم، وهو يتميز عن المقدرة، وهي القدرة على التصرف بحكمة في الأمر المفهوم، ولكني أتوق إلى السؤال مما نعني حينما نقول عن شخص ما إن عنده عمقا؟ إننا نعرف ما نعني، ولكنا لا نستطيع أن نصوغه في ألفاظ.»
فقال هوايتهد: «إننا لا نستطيع ذلك على وجه دقيق؛ لأن العمق هو القدرة على أن يأخذ المرء في اعتباره في موقف من المواقف كل تلك العوامل التي لا يمكن أن تصاغ في اللفظ صياغة شافية.»
فقالت: «إن هذه العوامل تفتر حينما تصاغ في اللفظ. العمق عندي هو القدرة على أن يرى المرء ما يحيط بالأمور، وأن يرى هذه الأمور في كل علاقاتها.» - «وهل هي موروثة أو مكتسبة؟»
قالت: «ليست مكتسبة، إنما هي موروثة، ولكنها تتطور بعد ذلك.»
فقال هوايتهد: «إننا نحصل من الأطفال على أقصى قدراتهم إذا نشئوا في ظروف اقتصادية بعيدة عن الترف، ظروف تقحمهم في سن باكرة في زمرة أولئك الذين يتحملون التبعات في المجتمع، وقد يكون هذا المجتمع كبيرا، ولكنه لا يتحتم أن يكون كذلك، ويكفي أن يكونوا أشخاصا مسئولين يؤدون عملا عاما. هذه فئة. أما الفئة الأخرى فلا يلزم حتى أن تكون في حالة اقتصادية مريحة، ولكن الطفل ينبغي أن يولد - أو ينشأ - وسط أفكار خلقية جدا أو دينية.» - «إن ما نفعك يا أولتي هو إحساسك الخلقي والديني، ولقد أخذت هذا الإحساس عن أبيك القسيس.»
قال: «لقد أسس أمريكا أناس من هاتين الفئتين؛ من أصحاب المسئولية الاجتماعية وأصحاب الحس الخلقي. وكثيرا ما بدا لي أن ذلك هو الذي جعل القرن الثامن عشر في إنجلترا فاترا؛ لأن الناس الذين توافرت فيهم الحيوية قد أتوا إلى هنا في القرن السابع عشر، وكانت فرنسا أفضل من إنجلترا في القرن الثامن عشر، وأهم نتائج الثورة الفرنسية هي الثورة الأمريكية، وقد أخفقت الثورة في فرنسا، ولكنها نجحت في أمريكا.»
وأدى بنا ذلك إلى ملاحظة انعدام الحماسة في هارفارد، على نقيض ما يشاهد في الغرب الأوسط، وبخاصة بين طلاب الجامعة في هارفارد حيث كانت الحماسة تعد أمرا غير مستحب من الناحية الاجتماعية. وقال إن الحماسة تنعدم عند أبناء الأسر الغنية في بوسطن ونيويورك، وهم ثلث الطلاب، أما الثلث الأوسط فهو محايد كالعادة، ولكن الثلث الأخير يتصف بها، وهم فتية أكثرهم من المدن الصغرى ومن المناطق النائية. أما هيئة التدريس فقد أقر بأن ميل الكثيرين منهم يتأثر بأبناء الطبقة العليا، وفي اعتقاده أن صوتهم غير مسموع في إدارة الجامعات الأمريكية، ولم يكن لهم من قبل هذا الصوت، على نقيض الحال في إنجلترا، حيث تكون الإدارة في أيديهم، هنا يختص كل أستاذ بقسم. أما في ترنتي فهناك هذا الاتجاه أيضا، ولكنك لو تعمقت ألفيتهم جميعا على رأي واحد؛ إذ يريدون أن تكون ترنتي مكانا له قيمة تربوية حية. لما تألفت جامعة لندن من مدارس متباعدة أشد التباعد، اشترط أن يكون لهيئة التدريس صوت في إدارة المؤسسة الجديدة. - «لقد طورت إنجلترا نظامها الجامعي، وكثيرا ما أتساءل عن المدة التي نستغرقها لكي نطور هنا نظاما يلائم احتياجاتنا الخاصة بنا.»
قال: «لقد تغير النظام الجامعي في إنجلترا كثيرا منذ عام 1900م؛ كانت هناك قبل ذلك أكسفورد وكمبردج وأدنبره وجلاسجو وسنت أندروز. ومنذ ذلك الحين نشأت كل الجامعات الجديدة.» وعدد ستا منها.
وخلال المناقشة عرضنا لموضوع الطريقة التي نحمي بها الفكر من التجمد في أفكار ثابتة، وكيف أنه من السهل أن تنكمش الدراسة الدقيقة إلى علم لا حياة فيه. وقال إنه عندما كان الزملاء القدامى ينتخبون زملاء لهم جددا من بين المرشحين للزمالة، قرأ على اللجنة عالم أثري شاب بحثا علميا عن عمود أثري معين تعرض فيه لتأريخه، وهل أخطأ الباحثون في تحديده لمدة ثلاثة أعوام بالنقص أو بالزيادة! - «(وجلس فرجيوسن - وخده على يسراه - يستمع إليه راغما،
وجلس تشيس - وخده على يمناه - يستمع إليه راغما،
وجلس لوب - وخده على راحتيه - يستمع إليه راغما،
في حين أن النقص أو الزيادة لا تهم أحدا منهم في شيء ما.) ولكن شابا اسمه تشارلز مور
2
قدم بحثا عن سوفوكليز بلغ من الجودة أنه إذا لم يصدق عن سوفوكليز، ينبغي أن يصدق.» - «وكم كان يبلغ من العمر؟» - «زهاء اثنين وعشرين عاما فيما أعتقد.» - «إنه أصغر من أن يعلم الكثير عن سوفوكليز.» - «ربما كان ذلك صحيحا، ولكن اثنين منا أصرا على قبوله حتى لو كان ذلك على جثث الأعضاء.»
وهنا نقل هوايتهد الموضوع إلى الحديث عن صحف بوسطن .
قال: «إن صحيفة هيرالد - لو اتقدت شرارتها قليلا - تعبر عن رأي أصحاب الأعمال الناجحين تعبيرا يدعو إلى الإعجاب، بل وإلى أكثر من الإعجاب، بيد أنك لو أردت أن تعرف ما تفكر فيه إنجلترا الجديدة بجميع طبقاتها - وأنا شخصيا أريد أن أعرف - فلا مناص لك من أن تقرأ صحيفة جلوب، ونحن نخاطر بالظن أن كثيرا من المقالات الرئيسية في العلاقات الخارجية - وبخاصة ما كان منها متعلقا بالسياسة البريطانية الخارجية - من تحرير كاتب أيرلندي غاضب.» - «هي كذلك.» - «إنه يمارس حقوقه، غير أنه يضفي على نفوذ المحافظين - الذي لا يرضيه - أهمية لا يستحقها.» - «إن الجنود البريطانيين هزموا جده وقضوا عليه في أيرلندا، وكانت ذكرى الحادث حية في ذهن جدته حينما روته له. إنه رجل فذ في مقدرته، له مبادئ سامية يراعيها في عمله اليومي.»
ثم تحدثوا عن المقال الرئيسي عن الموسيقى الذي نشر في 24 من نوفمبر دون أن يسأل أحد منهم عن كاتبه. وفي هذا المقال قلت إن الموسيقى العظيمة يدركها الأطفال - حتى أكثر من إدراكهم للأدب العظيم - لأنها تخاطب العواطف والخيال والبداهة مخاطبة مباشرة، وهي قدرات كثيرا ما تكون عند الأطفال أحد منها عندهم بعدما يكبرون، ومن الخطأ الفاحش الذي يدل على الغباء أن نزعم أن الأطفال لا يستشعرون عظمة الفنون.
وقد وافق هوايتهد على ما جاء بالمقال جملة، غير أنه قال: «لا يستجيب للموسيقى
قلت: «إن بيئة موطني - وهي مدينة صغيرة - كانت قاحلة من الناحية الجمالية، حتى لقد اضطررنا إلى الانكباب على الكتب والموسيقى (بالإضافة إلى الأصدقاء، وما قد يكون في الطبيعة من جمال) لكي نحتفظ بحياة أرواحنا.»
وقالت مسز هوايتهد: «وبيئته كذلك - وهي أبرشية ريفية - كانت وسطا لا ينعدم فيه الجمال فحسب، بل ينظر إليه بعين الازدراء.» - «إن ما قلت من أن تجديد الطبيعة كلها عن طريق الخبرة الجديدة - التي تعد الموسيقى مثالا لها - ينطبق أيضا على شئون الحياة الأخرى، هذا القول يبعث الطمأنينة إلى نفسي بعد ذلك الذي زعم بلس بري
3
في هذا الصدد حينما قال: «إنني لا أستطيع أن أرى كيف يمكن تحويل التقسيم الصوتي من الموسيقى إلى الآراء الخلقية.»»
قال: «ولكن ذلك هو بعينه ما تفعله الموسيقى. إنها تجدد الحياة في الطبيعة كلها.» - «كيف يمكن لأي إنسان أن يكون هو بعينه بعد معرفة وثيقة برباعيات بيتهوفن الأخيرة كما كان من قبلها؟»
وأدى ذلك بهوايتهد إلى الحديث عن الفارق العظيم بين شعراء القرن السابع عشر في إنجلترا وشعراء القرن الثامن عشر: «إنك لن تجد قط عند رجال القرن الثامن عشر شيئا في شعرهم لا تتصور أنه كان بوسعك أن تكتب مثله، ولكن سحر الشعر الإنجليزي في القرن السابع عشر هو أنك تقابل شيئا لم تتوقعه كلية ثم تقول: «عجبا! إنني لا أتخيل أنه كان بوسعي أن أفكر مثل هذا التفكير.»»
وتقدم المساء، ومرت فترة أجمعت فيها ضمائرنا على نقل الحديث إلى موضوع آخر.
وقد نفدت في أمريكا طبعة كتابه «أهداف التربية»، وقلت له: «إن الناس الذين أعرفهم لا يفتئون يشكون لي من أنهم لا يستطيعون الحصول على هذا الكتاب.» قال: إن الكتاب لم تنفد طبعته في إنجلترا، «ولكن مكملان أحرق ما عنده من نسخ لم يتم بيعها دون أن يهيئ لي فرصة لتسلمها، وهو عمل أساء إلي كثيرا.» - «إن شركة مكملان لها طابعها الخاص، وهي تقوم من غير شك بأعمال عجيبة، من ذلك تجليدهم كتاب «التاريخ القديم من إخراج كمبردج»، في حين أن طبعته الإنجليزية مجلدة تجليدا يليق بالكتاب، وإني آسف أشد الأسف لأني لم أشتر نسختي في الطبعة الإنجليزية.» - «إنني أفكر في إعادة نشر كتاب «أهداف التربية»، فما رأيك في حذف الفصلين الأخيرين؟» - «إذا عرفت أنني لم أستطع فهمهما، أدركت أنني لست الرجل الذي يوجه إليه هذا السؤال.» - «بل على العكس من ذلك، أنت الرجل بعينه الذي يسأل.» - «إن الفصول الثمانية الأولى تهز القارئ بتيار كهربي. وكم من صديق ذكر لي هذا، ومنهم لفنجستون. فلماذا لا تحذف الفصلين الأخيرين وتحل محلهما مقالك عن الذكرى المئوية الثالثة لهارفارد؟» - «لقد فكرت في ذلك أيضا، ولكن هل يكون طول الكتاب بذلك مناسبا؟» - «أليس لديك شيء آخر يتفق ومادة الكتاب؟» - «عندي قدر كبير من المؤلفات التي لم تنشر.»
واقترحت مسز هوايتهد مباحث مختلفة يصلح ضمها إلى الكتاب.
قال: «أفكر أيضا في إخراج كتاب عن ذكرياتي.»
وتباحثنا في حجم الكتاب، وإنه من الحكمة أن نراقب الناشرين فيما يختارون من رسوم للغلاف، بالنظر إلى ما مر بنا من تجارب أليمة.
وقالت مسز هوايتهد: «لشد ما كان ذهولي حينما وقعت عيني على الغلاف الذي اختاره مكملان لكتابه «مغامرات الأفكار».» - «كيف كان شكله؟» - «رسم للقمر والنجوم وأشعة ضوئية.» - «وماذا كانت الفكرة من وراء ذلك؟» - «مغامرات، فيما أعتقد، وفضاء كوني.»
قلت: «إنهم بذلك يهبطون بهوايتهد إلى مستوى موسيقى الجاز! هل تظنين أن مصمم الغلاف قد قرأ الكتاب؟»
قالت: «ربما لم يزد على سماعه بالعنوان.»
ولما أشرف المساء على نهايته عاد إلى أثر الإنجيل، وإلى مفسريه فقال:
إلهام؛ أشعياء، وعاموس، ويسوع. وأما الآخر فعنيف منتقم، مخادع، تنعدم فيه روح الفكاهة. وهي صفات الحاكم الشرقي المستبد بعينها. والتياران عند بولس، ولكن التيار الثاني أغلب. إن الساميين أجلاف، وكثيرا ما شككت في تسرب الدم الهليني في الجليليين مما يفسر ما اتصف به يسوع والفلاحون من رأفة؛ لأنك لو تابعت تفسير الأناجيل في قرونها الأربعة أو الخمسة الأولى، وجدت أن المفكرين المسيحيين على الشواطئ الأفريقية للبحر المتوسط وفي إسبانيا - الذين كانوا تحت التأثير السامي إلى حد كبير - كانوا غلاظا أجلافا، في حين أن المفسرين الإيطاليين والغاليين - من أمثال جريجوري الأعظم ومارتن التوري - كانوا متسامحين إلى درجة كبرى. ولما أثير موضوع اضطهاد أتباع مذاهبهم لأول مرة، رأى هؤلاء الناس - وعبروا عن رأيهم - أن الاضطهاد أشد ضررا من الزندقة. إن هذين التيارين في العبرية يتمثلان في الجشع في الكسب المادي، وفي رقة الروح. وإنك لتلمس أحيانا عند عظماء اليهود هذين التيارين في طبيعة واحدة. إن مفسري المسيحية هم سبب نكبتها.»
المحاورة الثامنة عشرة
22 من أبريل 1940م
دعاني هوايتهد إلى حفل العشاء الذي يقيمه بانتظام كل يوم من أيام الإثنين الزملاء الحديثون في إليوت هاوس، وفي طريقنا إلى هناك بسيارة الأجرة من فندق أمباسادور ، سألته: هل قرأ ما رواه البحار البريطاني عن المدمرة التي غرقت في نارفك؟
فقال: «كلا. إن الأنباء التي ينقضي عليها أسبوع - في مثل هذا الوقت - يتقادم عهدها وكأنها أنباء عن معركة ماراتون.» قال ذلك في رفق، بيد أن الملاحظة تبين عمق إدراكه للمواقف التي تتأثر بالتغيرات التي يحدثها الزمن.
ولما بلغنا إليوت هاوس عبرنا فناء، ودخلنا من باب جانبي تحت مصباح مستور معلق بفانوس من الحديد، وكان ليل الربيع لطيفا، والضباب الخفيف يتساقط، على متن رياح شرقية تهب من البحر، وأشجار الربيع يانعة بزهر ذهبي اللون.
وقد سبقنا إلى حجرة الجلوس الرئيس المتقاعد لول ولورنس هندرسن،
1
ومعهما سام موريسون،
2
الذي تفضل فسمح لي بقراءة قائمة بالزملاء الحديثين الأربعة والعشرين، وموضوعات دراساتهم. ولا أستطيع أن أذكر من نظرة عاجلة أربعة وعشرين اسما وأربعة وعشرين موضوعا للبحث، ولكني ربما استعدت بعضها بإعنات الذاكرة.
وحذرني موريسون بصوت منخفض قائلا: «لا تكثر من شراب الشري قبل العشاء؛ فهو ليس جيدا. وأكثر من شراب برجاندي أثناء العشاء؛ فقد اختاره هندرسن وهو خبير بالنبيذ. وتحاش ما يقدم إليك من خمر بعد العشاء؛ فهو من تقديم لول، وهو لا يعرف شيئا عن النبيذ، وهو ليس إلا نوعا من خمور كاليفورنيا المعتقة، ولكن الزملاء لا بد لهم من احتسائه بأكمله. وهناك رأيان بشأنه؛ أولهما احتساؤه كله، والانتهاء منه، والآخر التأني في تناوله؛ لأن لول قد يقدم لنا مزيدا منه.»
والمستر لول أصم تماما بالطبع. ولما كان يجد أن الحديث من جانبه أسهل من حديث الناس إليه؛ فإن التحدث معه - إن شاء - كان كلاما من طرف واحد فقط.
وكان يتحدث في الطريقة التي يعالج بها الإنجليز المعارضة السياسية، قال: «إن حدود الحزبية
لمدة ثمانية عشر عاما.» فسألته: وكم مرة صوت ضدها؟ فقال: مرتين.»
وواصل مستر لول حديثه في موضوع المعارضة السياسية، وقدم دليلا على رأيه في التقرير الخاص بالفظائع الألمانية في بلجيكا الذي قدم له لوردبرايس، والذي نشرته الحكومة البريطانية مصادفة في 12 من مايو عام 1915م، بعد إغراق الباخرة لوزيتانيا بغواصة أمريكية بخمسة أيام، حينما كان الرأي العام في الولايات المتحدة ملتهبا بحرارة شديدة، وقال: إن التقرير مثال للضرر الذي ينجم عن عدم تعيين «محام للشيطان، فأنت لا تدرك الحقيقة دون مساءلة الشهود.» وبذلك اختتم حديثه. (وتذكرت ساكو وفنزتي فقلت: «بل قد لا تدرك الحقيقة أحيانا برغم هذه المساءلة.»)
ثم انتقلت إلى الحديث عن فضل التريث قبل إطلاق أسماء اللامعين على الشوارع والمحلات العامة، فقال أحد الشبان: «أليست هناك قاعدة عند الفرنسيين ألا يطلقوا اسم شخص ما
فقال مستر لول: «بل إن الكنيسة الكاثوليكية أشد من ذلك أناة؛ فقد ينقضي مائة عام قبل تقديسها.»
ودق الناقوس؛ إشارة إلى التوجه إلى غرفة الطعام.
وكانت الحجرات فاخرة، وكنت قد شهدتها عند بداية تشييدها في عام 1930م، غير أنه لم يسمح لنا في ذلك الوقت أن نعرف مصير استخدامها؛ لأن المال اللازم لتأسيس الجماعة لم يكن متيسرا بعد. ولما توفي لول في عام 1943م تكشف لنا أنه قد تبرع بالمال: «... لما لم يكن أمام أعيننا مصدر للمال الضروري، قدمته بنفسي، في شيء من اليأس، بالرغم من أن ذلك قد قضى تقريبا على كل ما أملك.» ووفقا للتنظيم الذي تم في 8 من ديسمبر عام 1932م كان هناك أربعة وعشرون من الزملاء الجدد، وتسعة من القدامى، والجدد من الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين، اختارهم القدامى من بين الخريجين المحدثين في الجامعات الأمريكية لما توسموا فيهم من مقدرة نادرة على تنمية المعرفة والفكر، وكان انتخابهم لمدة ثلاثة أعوام مع إمكان تجديد المدة ثلاثة أعوام أخرى، وكان يقدم لهم الطعام والمسكن بغير مقابل، وتدفع لهم مكافأة معينة، على أن تترك لهم الحرية لمتابعة أية مغامرة فكرية لها عندهم أهمية أو لذة. وقد تولدت الفكرة
3
من نوع من الاحتكاك المباشر بلورنس هندرسن، وألفرد هوايتهد، والرئيس لول، وهي تستمد شيئا من نظام زملاء كلية ترنتي في جامعة كمبردج الذين يتقاضون مكافآت معينة، ومن نظام كلية الأرواح بأكسفورد، ومؤسسة تيير بباريس.
والحجرتان مبطنتان بأخشاب البلوط من الأرض إلى السقف، ونوافذهما المستطيلة تتخللها أعمدة مربعة قصيرة أيونية من جوانبهما، وتكسوهما ستائر ثقيلة يتفق لونها ولون الحجرة، ومداخن المواقد تحوطها كذلك هذه الأعمدة المربعة القصيرة وتعلوها الصور في إطاراتها والنقوش المزخرفة، والمائدة البيضاوية الشكل التي أودع فوقها شراب الشري هي مائدة طعام الإفطار التي كان يرأسها الأوتوقراط، وعلقت فوق الجدران صور زيتية من نفائس القرن الثامن عشر، وإحداها من رسم جون سنجلتن كوبلي.
ومائدة العشاء على شكل حرف
U . ولما كان في ذهن مصممها تيسير المناقشة، فقد تقارب جانباها بدرجة تسمع بتبادل الحديث عبر سطحها الذي تضيئه الشموع والشمعدانات الفضية من الطراز الذي وجده لورنس هندرسن في نيفاش بفرنسا في الوقت الذي بدأ يفكر فيه في إنشاء هذه الجمعية. وكان مستر لول باعتباره رئيس الاجتماع يجلس عند رأس المائدة فوق مقعد من البلوط المنقوش، ظهره مرتفع. أما باقي المدعوين فكانت لهم مقاعد منخفضة وثيرة من طراز هارفارد التقليدي. وقد أعدت الخمر فوق المائدة في قنينتين وضعتا في وعاء فضي صغير، وربما كان هذا الوضع منقولا عن الوعاء الفضي الذي يدور محملا بالخمر فوق مائدة من خشب الماهوجاني في كلية الأرواح بأكسفورد.
ومن القواعد غير المكتوبة ألا يجلس الضيوف والزملاء القدامى جنبا إلى جنب؛ فيتيح ذلك للزملاء الجدد أن يختلطوا بالقدامى؛ ومن ثم فقد كان من بين الجماعة المجاورة لهوايتهد هاري لفين،
4
وجورج هومانز،
5
وكونراد آرنزبرج،
6
وجورج هانفمان،
7
وهو شاب ألماني مر بثورتين، وقال قال إنه لم يصدق أنه آمن حقا في التعبير عن رأيه إلا بعدما أقام في هذا البلد عامين.
وقد تحدث خمستنا - الذين كانوا على مسمع من هوايتهد - فيما إذا كان بالإمكان مرة أخرى لذهن واحد أن يلم بمجموع المعارف البشرية، على الأقل إلى المدى الذي بلغه أرسطو أو دافنشي أو جيته، كل في العهد الذي عاش فيه.
فقال هوايتهد إن من رأيه أن مثل هذا الإلمام يتطلب اعتمادا فوق الطاقة على معرفة الآخرين ويهبط بها إلى مستوى بسيط: «لقد أخطأ أرسطو حينما سمح للناس أن يظنوا أنهم يعرفون
وذكرت بهذا الصدد أن جلبرت مري قد قال شيئا شبيها بذلك كل الشبه عن أرسطو، وبخاصة حينما كان أرسطو يتحدث في الدراما، وكان يتكلم عن عنصر «النشوة» في مسرحية «باكي» ليوربديز، وعنصر «الخضوع المطلق» في أسطورة دينوبسيس، وقد قال: «أليس المبدأ الذي يقول لا تتوغل، هو مبدأ الأميين؟»
فقال هوايتهد: «هذا صحيح. إنك لكي توغل في الموضوع حقا بحاجة إلى طاقة أكثر مما يحتويه هذا المبدأ الذي يقول «لا توغل» ولا بد للمرء من أن ينكر الكثير لكي يتقدم في موضوع ما.
ويبدو أن عنصر المبالغة ضروري إلى حد ما في كل ميدان من ميادين العظمة.» وضرب لنا مثالا لنقيض ذلك ما قيل عن رجل «عرف إحدى وأربعين لغة ولم يكن عنده ما يقوله في لغة من هذه اللغات.»
ثم انهمك مع اثنين من علماء الطبيعة في جدل حول اليقظة والإلهام الضروريين في كل تجربة جيدة، وكيف أنها تقوم على الكفاءة في العمل بالإضافة إلى «المصادفة السعيدة»، بل على إدراك نوع من أنواع الخطأ في النتيجة، فيأتي الاستكشاف من سؤال صاحب التجربة: «وماذا عسى أن يكون هذا الخطأ؟»
وواصل حديثه قائلا: «لقد كان الهيدروجين الثقيل تحت أعين أشخاص عديدين قبل أن يكتشفه شخص آخر غيرهم. إن الخطأ نفسه قد يكون هو المصادفة السعيدة.»
وقيل إننا هنا في هذه المشكلة؛ كيف نجعل التفكير نشطا حيا، كما جاء في مقاله عن الذكرى المئوية الثالثة لهارفارد بعدد سبتمبر من عام 1936م. فقال: «لقد قدمت الموضوعات
وجاء خير ما فيها مصادفة، وقد رد الناشر إلى المقال قائلا إنه قصير نوعا ما
وبجملة انتقالية وجدت أنني قد أضفت مائة وثمانيا وستين كلمة؛ أي ما يقرب من طول أنشودة، وكانت خير ما في المقال. فهل تستطيع أن تستخرج هذه العبارة؟» - «هل تتحداني؟»
وأومأ برأسه وابتسم قائلا: «نعم.» - «حتى تتوافر لي فرصة قراءة المقال مرة أخرى، ما رأيك في رد روبرت هتشنز عليه في عدد نوفمبر التالي؟» - «لقد عاملني هتشنز - وأرجو أن تذكر أني أجله - معاملة المحامي برغم هذا؛ إذ فصل بعض ملاحظاتي عن ملابساتها، ثم أخذ يهاجمني. ولما كنت قد اعترفت بأنا نعلم غيرنا كثيرا من الآراء التافهة، فقد أهملت النقد.»
ثم ثارت مناقشة حية من مدى ما يستطيع المرء أن يحتمل بثبات من ضروب الجهد العقلي المختلفة، وجاء البرهان حينما تعرضنا للعمل الأصيل والعمل الذي يعتمد على النقل، ودلت القصص الطويلة التي رويت عن العلماء الدارسين الذين يعملون كل ساعات النهار على أن علمهم ليس إلا مجرد تحصيل، في حين أن أكثر الفنانين المبتكرين يجدون أنفسهم مرغمين قطعا على الاكتفاء بعمل متواصل في ثلاث ساعات أو أربع.
ووجه أحد الزملاء الجدد (وأظنه جورج هومانز) الموضوع إلى كتابة التاريخ، فقال هوايتهد: «لقد نال «جبن» أحسن تربية تلقاها أي مؤرخ آخر إذا استثنينا ثيوسيديد؛ فقد كان ينتمي إلى كتيبة حربية، وكان قائدا الحرس هامبشير، ومارس ما يكتنف هذا العمل من مشاعر، وتعرف إلى الأوساط الأدبية في لندن، فعرف جونسن وزمرته، وتنقل في القارة الأوروبية وعرفها، وكان في البرلمان واستمع إلى أحاديث الحكام.»
قال هومانز: «ولكنهم لم يحسنوا الحكم؛ فقد كان رئيس الحكومة هو لورد نورث الذي ضيع المستعمرات الأمريكية.»
وابتسم هوايتهد وقال: «إنني أعترف بأن الرجل الذي انهزم في الحرب كان أعز صديق للرجل الذي اعتزم أن يكتب «انهيار الإمبراطورية الرومانية وسقوطها».»
وأثير نقاش حول الفارق بين التفكير الفعال والتفكير الجامد.
فقال هوايتهد: «التفكير الجامد هو أن تعرف على وجه الدقة من أين استقى شكسبير موضوعات مسرحياته، وأن ترد كل مقتبساته إلى مصادرها من فلاطارخس إلى هولنشد.»
واتجهت الأنظار القلقة صوب الأستاذ لفنجستون لويس، حيث شاء هوايتهد لها - في دعابة - أن تتجه، وكان لويس قد انسحب، ثم عقب على ذلك هومانز في كياسة قائلا: «لقد خرج كتردج.»
وكتردج هو - بطبيعة الحال - صاحب الكلمة الطولى على مائدة الإفطار التي تذكر بعهد شكسبير.
وقد سمعت بلس بري
8 - الذي عرفه وأحبه عدة سنوات - سمعته يقول: «لم أعرف أحدا قط مثله يشتد اهتمامه باللفظ، ويقل بالمعنى.»
ومن موضوعات الأفكار الجامدة انتقل الحوار إلى تلك المشكلة العويصة، وهي: هل العالم الحديث تحت رحمة مخترعاته التكنولوجية الجديدة كلية؟
فقال هوايتهد: «أعتقد أن أوروبا كان يمكن أن تتقدم بممراتها المائية الداخلية وقنواتها كما تقدمت بسككها الحديدية، ولكن السكة الحديدية في أمريكا جاءت في اللحظة الملائمة بالضبط لتمكنكم من إخضاع القارة.»
قال هومانز: «إننا لم نتقدم كثيرا من قبل.» - «كانت السكة الحديدية هي العامل الحاسم عندكم.» - «وما رأيك في الطائرة؟» - «إنها سوف تطور الحياة في المناطق المتخلفة، كداخل آسيا، وشرقي أفريقيا، وما شابه ذلك، وكذلك شمالكم الأقصى في أمريكا. إن كل فن تكنولوجي جديد يحطم أولا نصف أي مجتمع قديم، ثم يساعد على إعانة بنائه في صورة جديدة. إن أثره الأول - على أية حال - هدام بشكل عنيف.» وصمت قليلا ثم قال: «ولكن ماذا يقصد الناس بقولهم إن المستقبل مضطر إلى أن يدفع ثمن الحروب في الحاضر؟» وجر إلى هذا السؤال شابا وسيما أشقر اللون اسمه بول سامولسن،
9
كان به فخورا ومغرما بدرجة واضحة، ودخلا في حوار علمي جذاب في هذا الشأن، ولكنه جرى أسرع مما تستطيع الذاكرة تسجيله.
واختتم هوايتهد قائلا: «إن الأمر لا يعدو أن يكون تشبيها، وإذا نظم المرء قصيدة في الاقتصاد، كما فعل ليوكريتس في «دي ريرم ناتورا» كان التشبيه رائعا. أما في المعمعان الاقتصادي، فإن كل ما تعني حينما تشير إلى أن المستقبل يدفع ثمن الحروب الراهنة هو أنك تورث الأجيال القادمة صورة متغيرة من المجتمع.»
وتلكأت الجماعة إلى ما يقرب من الحادية عشرة، ثم نقلني مع هوايتهد إلى فندق أمباسادور أحد الزملاء الجدد، الذي يقوم بمرافقة مستر لول إلى بيته ببوسطن حيث عاد إلى منزله بالمدينة بشارع مارلبرو، ونزل لول من العربة وعاون هوايتهد على النزول في شيء من التكلف كما بدا لي، وكما بدا لغيري كذلك جليا؛ إذ إننا حينما عدنا إلى الطابق العلوي واستقر كل منا في مقعده، وشرعنا نحتسي أقداح الشوكولاتة الساخنة.
قال هوايتهد لزوجته، وعلى شفته ابتسامة رقيقة، وفي صوت هادئ رصين:
- «حقا؟» - «هل تظنين أنه كان يحسب أني بحاجة إلى ذلك؟»
قالت في حدتها المألوفة: «كلا. إنما كان يحاول أن يبرهن على أنه إنسان أفضل منك، ولكن هيهات له!»
المحاورة التاسعة عشرة
2 من نوفمبر 1940م
قضيت المساء مع آل هوايتهد في فندق أمباسادور، وكنت ضيفهم الوحيد، وكان وقع الحرب ثقيلا عليهم، ولما وصلت في منتصف التاسعة كان هوايتهد في إغفاءة بسيطة في مكتبه، وذكرت لي مسز هوايتهد أنهما يتلقيان أحيانا برقيات مسز نورث، الذي يعمل في وزارة الخارجية في هوايتهول، وهو المبنى الذي ألقيت فوقه القنابل مرتين.
وقالت: «إننا نحيا حياة مزدوجة؛ حينما نستقبل الضيوف نعيش في هذا البلد، وبعد انصرافهم نعيش في الحرب.»
وبعد لحظات خرج هوايتهد، وبدا عليه شيء من الاكتئاب بادئ الأمر، وقد اشتد احديدابه وضعفه، ولكن بعدما قضينا في الحديث نصف ساعة، عادت إليه حرارته المعهودة.
وقلت له: «إن قراء بوسطن جلوب منذ سبتمبر الماضي يطلعون - على غير وعي منهم -
- «قل له كيف ألفت الكتاب يا أولتي.» - «كنت محاضرا في علوم الرياضة طوال حياتي، منذ شبابي الباكر في كمبردج ثم في لندن. وفي سن الثالثة والستين في عام 1924م أتيت إلى هارفارد لكي أحاضر في الفلسفة لأول مرة. وكنت بطبيعة الحال - فيما تخلل ذلك من سنوات - أستمع إلى المناقشات الفلسفية في كمبردج وفي لندن وأسهم فيها، كما كنت أقرأ بين الحين والحين بحثا في الجمعية الملكية؛ ومن ثم فقد كانت الفلسفة ماثلة في ذهني بدرجة عظيمة. وفي خريف عام 1924م طلب إلي أن ألقي محاضرات لول، بالإضافة إلى جميع محاضراتي النظامية التي كانت جديدة بمعنى من المعاني. وثلاثة أرباع الكتاب كما هو عبارة عن محاضرات لول التي ألقيتها، وقد كتبت كل محاضرة منها في أسبوع كما كان يتطلب ذلك الإلقاء.»
وقاطعته مسز هوايتهد بقولها: «وكانت في حرارة التهابها.» - «ولم أسبق في كتابتها إلقاءها بأكثر من أسبوع.» - «هل تعيد الكتابة كثيرا؟» - «كلا، ولكني أكتب في بطء شديد وأحذف كثيرا.» - «هل أكون على صواب إذا قلت إن أمثال هذه العبارات لا يكتبها إلا رياضي؟ إن نثرك يختلف كل الاختلاف عن كل نثر آخر.» - «أنا لا أفكر في ألفاظ، إنما أبدأ بالتصور، ثم أكسبه اللفظ، وكثيرا ما يشق علي الأمر.» - «إن القارئ ينطبع بأثر مماثل؛ فبعدما يدرك معنى اللفظ، يبدو بعد ذلك كأن فحواه يؤدي إلى وجود مستقل عن الصفحة المطبوعة، وهو وجود يكاد يكون محسوسا ، ولكن كيف حوى عقلك هذه المادة التي تتمثل في ذلك الرتل العجيب من عظماء الرجال في أوائل القرن السابع عشر، والتي نلمسها في مؤلفك «قرن من العباقرة»؟»
وضحك ثم قال: «كنت منذ شبابي - وما زلت كما تلاحظ - كلما ذكرت أمامي اسم عظيم لم أعهده، أبحث عنه، وأحفظ تواريخه عن ظهر قلب كما أحفظ نوع نشاطه؛ ومن ثم فإن لكل عصر من عصور التاريخ في ذهني صورة عن لون النشاط الذي كان يسوده في ذلك الوقت وذلك المكان، وأؤكد لك ضرورة هذه الدقة، ومن الأفضل أن تعرف على وجه الدقة أكان مارلو أكبر من شكسبير سنا؟ وبكم سنة كان يكبره؟ وقد عرفت على سبيل المثال أن خمسة من ذوي الشخصيات الرئيسية في التاريخ الإنجليزي تتداخل أطوال أعمارهم، وهم إليزابث، وكرمويل، وبت، وولنجتن، وفكتوريا.»
وسارعت مسز هوايتهد إلى قولها: «أره كتابك الصغير يا أولتي.»
ودخل مكتبه وعاد بكتاب صغير مجلد بلون بني من جلد العجل، وينقصه الغلاف الخلفي، وقدمه إلي وعلى وجهه سيما العجب.
قال: «وجدت هذا الكتاب في مكتبة بكمبردج أيام الشباب، ونقدي الوحيد له أنه يحوي أسماء لرجال من الإنجليز من الطبقة الثانية، أكثر مما ينبغي.»
وقرأت العنوان: «معجم مختصر للسير» من تأليف القس شارلز هول، طبعة مكملان وشركاه سنة 1866م، وليس في صفحاته سوى الأسماء كاملة، والعناوين وتواريخ الميلاد والوفاة. واستل من داخل الكتاب صحفا من الورق الأصفر دون عليها الفلاسفة من أيونيا إلى العهد الحديث والأباطرة الرومان ثم قال: «وإليك قائمة بالملوك الإنجليز.» - «هل تشترون الكتب من قوائم أعدت بأسمائها أو بعد مشاهدتها؟»
قالت مسز هوايتهد: «يدخل الواحد منا المكتبة ويخرج منها بكتاب.»
وروى لنا قصة وقعت لهما في بداية حياتهما الزوجية حينما كانا يقرآن عددا كبيرا من الكتب في اللاهوت، وقد دامت هذه الدراسة عدة سنوات، أذكر أنه حددها بثمانية أعوام. وبعدما انتهى من الموضوع - وقد انتهى منه فعلا - استدعى صاحب مكتبة في كمبردج وسأله بكم يشتري المجموعة كلها. فقدم مبلغا طيبا حتى لقد أحسا بالثراء، حتى بلغ الباب وقال: «سأضم هذا المبلغ بطبيعة الحال لحسابكما.» ولذا فقد استرسلا في شراء الكتب وأدركا بعد برهة أنهما أنفقا نحو ضعف ما قيده بائع الكتب لحسابهما!
وهذا البائع واحد من أولئك الأفذاذ الذين ما تزال المدن العلمية تؤويهم، كان رجلا قديرا، ولكنه مغرور إلى درجة تثير الضحك، وقد قال لهما مرة: «لقد زرت أكسفورد حديثا،
وتناول هوايتهد الحديث وقال: «إذا كان بين الناس في هذه الأيام منحرف، أبعدوه وأطلقوا عليه أسماء شبيهة بالعلمية، ولكنا اعتدنا أن يكون بيننا أفراد من ذوي الأطوار العجيبة،
دائما أن يسير على أحد جانبي الطريق ويقفز، ثم يلتقط ورقة من أوراق الشجر، ويشرع في قرضها.» ثم نهض وأخذ يقلد هذا الشخص ويفعل مثلما كان يفعل، ثم قال: «لو أنا أبعدناه لفقدنا كتابا من خير ما لدينا من كتب دراسية في علم الفلك.»
وأدى بنا هذا إلى موضوع القوى الخارقة لدى بعض العامة من الناس.
قال: «إنك تعلم أنني أعجب بديمقراطيتكم الأمريكية، وأعتقد أن فوارق الطبقات في إنجلترا من الشرور العظيمة، بيد أن التطبيق يسير على عكس ما يتوقع الإنسان؛ فأنا أعتقد أن بين الأشخاص من الطبقات المختلفة في إنجلترا (إذا استثنينا الطبقة الوسطى التجارية الطموح، والأفراد الذين يثبون فوق سلم المجتمع) من الاحترام الصادق أكثر مما في أمريكا؛ لأنك هناك تعلم أن البستاني - أو خادمة البيت - ليست لديه فرصة في الدنيا للارتفاع. أما هنا فقد ألفتم الرأي القائل بأن لكل فرد فرصة متساوية، سواء كانت لديه الفرصة أم لم تكن (وغالبا لا تكون) حتى إنكم تفترضون قطعا - ما لم تكونوا حذرين في تصوركم - عندما تزنون رجلا تصفونه بالنقص «أنه إذا كان فيه خير لأجاد كما أجدت». وهو ما يخالف الواقع كل المخالفة. إن ما يرفع المرء إلى ما يعرف بين الناس ب «القمة» كثيرا ما يكون قدرا ضئيلا من المقدرة يكون بالمصادفة مطلوبا في وقت معين أو زمان معين، فيلقى صاحبه طبقا لذلك ما يجزيه، غير أن ذلك قد يكون قليل الصلة - أو عديم الصلة - بالكفايات العليا للإنسان، أو حتى بما عند هذا الفرد المرتفع من قدرات أفضل. وقل من الناس من يبرز بروزا كافيا، وبعضهم لا يبرز البتة، ويبقى متخلفا من جميع الوجوه، بالرغم من أن لهم قدرات كامنة لا يعلم بها أحد، وبعض الناس يبرز إلى منتصف الطريق تقريبا، يصادفهم لقاء سعيد، أو ظرف ملائم يستخرج ما عندهم من كفايات خاصة، غير أن الكفايات المضيعة التي لم تستغل لا بد أن تكون هائلة؛ لأن قدرات الفرد قد لا يمكن التنبؤ بها. وقد كان ذلك أحد مكتشفات الجنس البشري العظيمة، ولا يزال هذا الكشف يسير في بطء شديد، كان غامضا في ذهن أفلاطون، ثم قام به اليهود القدامى، وعبرت عنه المسيحية، بيد أن المسيحيين لم يفيدوا منه كثيرا لمدة ألف عام؛ لأنهم حسبوا أن عددا كبيرا من الناس مصيرهم جهنم نتيجة لسير الأمور الطبيعي، فأصبح الأمر لا يهمهم كثيرا؛ ومن ثم أخفقوا في إدراك كل ما تنطوي عليه الفكرة.»
قلت: «إن الفكرة العظيمة تذكرنا بسرعتها وقوتها بالجبال الثلجية.»
قال: «إن متوسط الزمن الذي يستغرقه أي كشف عظيم في عالم الأفكار لكي يعم استخدامه، أو لكي يكون له أي أثر عملي، هو ألف عام، وإن فكرة القيمة الفذة للفرد لم يكن لها - إلى حد كبير - أي مظهر سياسي حتى القرن الثامن عشر، وعندئذ أعطاها هذا المظهر واضعو دستوركم الأمريكي، وأمست - فيما أعتقد - الفكرة الأساسية التي توحد صفوف أمتكم. وقد كانت الكتابة اختراعا استغرق ألفي عام تقريبا حتى أصبح أثرها محسوسا. ألا تذكر أن المناقشات - حتى في محاورات أفلاطون - قلما تكون حول ما قرأه أصحاب الجوار، بل هي لا تكون حول ذلك إطلاقا، ولكنها تكاد تدور دائما بغير إخلال حول ما «يتذكرون»؟ لا بد أن مقدار التذكر كان عظيما، وأن أحد أسباب شيوع النظم هو أن نغمة الموسيقى معين على التذكر، ولكن إلى ما بعد اختراع الكتابة بزمن طويل، لم تستخدم الكتابة إلا في القليل سوى في تدوين الحسابات؛ فقد كانت من شئون الملاك وأصحاب المصارف، تستخدم في إصدار الأوامر وحساب المال. ولم يبدأ الإحساس بأثر الكلمة المكتوبة في التقدم العقلي للبشر إلا بعدما شرع الإنسان يسجل آراءه وأفكاره.» - «إن الظلام الذي ساد بعد سقوط روما يدل على أننا أصبحنا نعتمد على الألفاظ المكتوبة إلى حد كبير، وقد استغرقت استعادة بعضها ما يقرب من ألف عام.»
فقال هوايتهد: «كان لا بد من نقد نصوص التراث الكلاسيكي منذ بداية النهضة وما بعدها لكي يسترد العالم الحديث امتلاكه لثقافة العالم القديم، وقد تم ذلك في الخمسمائة العام التي تلت عام 1400م ... بغض النظر عن استعمال سوفوكليز للضمائر. أما عن نقل هذا التراث، فقد اعتدت في لندن بين الحين والحين أن أحضر اجتماعات الجمعية الملكية، وأستطيع يقينا أن أقول إني حسبتها معادلة في العصر الحديث لبحوث العلماء الدارسين في العصور الوسطى.»
ولما تقدم المساء شيئا ما، وحينما كنا نتحدث عن الجمهورية الرومانية إبان الحروب الأهلية. قال هوايتهد: «لا جدال في أن ذلك المجتمع كان يسير في طريق الانحلال. ولو أن إنسانا لا يعرف مجريات الحوادث، كان بسبيل البحث عن عصر للدراسة تكون فيه المدنية متصدعة، لبدا له أن هذا العصر يمثل كل الأعراض، وبالرغم من هذا فقد ظهر أغسطس الذي استطاع أن يلم شمله، عرف أن الطبقة الوحيدة التي ما برحت تحتفظ بقدرتها على إدارة الأمور، هي طبقة صغار الأعيان، ولم يكن من اليسير تجنيدهم، أو أن يرضى عنهم النبلاء القدامى، ولكنه استطاع أن يحقق الأمرين.»
قلت: «أليس من العجيب أن القرون التي تلت ذلك كانت أكثر هدوءا، ولكنها برغم هذا كانت ضعيفة من الناحية الثقافية. ألم يكن تاستس على التقريب هو آخر اسم عظيم؟
ربما كان العالم تحت حكم أسرة أنطوني أفضل في إدارته من أي عهد سبق أو لحق، غير أنه كان فقيرا فيما أداه من عمل مبتكر . أعتقد أن الحرية لم تكن متوافرة.»
قال هوايتهد: «إن عصور الهدوء قلما تولد الأعمال المبتكرة؛ فإن إثارة الإنسانية أمر لا بد منه.»
وفي الحادية عشرة أو ما يقرب منها تناولنا الشوكولاتة، وعندما هممنا بالانصراف قالا لنا: «أكثروا من زيارتنا.»
وقضينا مساء بأكمله في متعة شائقة دون أن نفكر في الحرب.
المحاورة العشرون
17 من يونيو 1941م
كان صباحا مشرقا في أواخر الربيع، وكانت نوافذ مسكنهما بفندق أمباسادور مفتحة على مصاريعها، يهب خلالها عطر المروج الخضراء من الحقول الفسيحة وأوراق الشجر، يحمله إلينا نسيم عليل، وكنا نجلس في مكتب هوايتهد، حيث تغمرنا أشعة الشمس في بهجة وسرور، وكأن بيننا اتفاقا خفيا إجماعيا على أن نتحاشى موضوع الحرب، وفيما عدا ذلك كان هذا الموضوع يشغلنا أكثر ساعات النهار.
وقال إن أبناء فرانكفورت كانوا عنده في اليوم السابق.
فسألت: «من تظن صاحب فكرة منح الرئيس روزفلت درجة علمية من جامعة أكسفورد؟»
وقال بعد ما فكر في الأمر: «أعتقد أنها كانت نتيجة الصلة التي نشأت بين هالفاكس وأبناء فرانكفورت.»
واقترحت مسز هوايتهد عليه «أن يروي له النكتة الشائعة في واشنطن عن هالفاكس.»
قال: «إن هالفاكس رجل تقي، ويقولون إنه يقضي مع ربه ثلاثة أيام كل أسبوع، ولكنه يعود من لدنه بأفكار بعيدة عن الصواب.»
وأدى بنا شجون الحديث إلى موضوع الأساس المتين الذي تبنى عليه فكرتنا عن المساواة بين الناس. إننا نعرف أن الأحياء لا يتشابهون ولا يتساوون، ومع ذلك فنحن نشتهي فكرة المساواة.
قال: «إنها تقوم على القدرات الكامنة عند البشر التي لا تقف عند حد. إن هذه القدرات لا تظهر عند الكثيرين، أو لا يظهر عندهم إلا بعضها، ولكن هذه القدرات موجودة، وليس باستطاعتنا قط أن نعرف ماهيتها، وإليك مثالا؛ زوج خادمتنا. إنه من سلالة مرتفعات سكوت، عامل بارع في «الشركة الكهربية العامة»، عنده المهارة التي تتطلب الآلات في رفق شديد، ولما كان كذلك، فقد كان أعلى العمال اليدويين أجرا في أمريكا، وعلى حين غرة ظهر اختراع يمكن أن يؤدي نفس العمل، فانحط إلى الحضيض، فقصدنا، وكشفنا أن لديه أيضا إحساسا بالجمال يدعو إلى العجب الشديد.»
وقالت مسز هوايتهد: «لما كنا نقيم في بيتنا بكانتون كنت أرسله إلى المدينة لينتقي لي المفارش والأقمشة، وكان يعمل في حديقة أزهارنا حتى العاشرة مساء، وكنت لا أستطيع أن أقفه عن العمل إلا إذا هددته بالفصل، وكان دائما يرتب الزهر عندي في أوانيه.»
ثم تناول هوايتهد الحديث فقال: «إن هذه الصفات تكمن حتى تظهرها الظروف. وأرجو ألا تفهم من ذلك أني لا أقول بأن هناك قدرا كبيرا من الغباء، ولكن أصحاب الخيال
ولم نعرف بعد مدى امتزاج ما عند الإنسان من قدرة بما لديه من عجز.» - «إني أعبر لنفسي عن ذلك بقولي إن الأشياء التي لا نشترك فيها - بوصفنا بشرا - لا تقاس إلى الأشياء التي نشترك فيها.»
قال: «إنك تتحد معي في وجهة النظر.» - «جئت من مدينة صغيرة إلى عاصمة كبرى، وبعدما زالت عني الدهشة الأولى لاحظت حقيقتين رئيسيتين؛ أولاهما أن المبرزين من الرجال ينبثون في كل طبقات المجتمع، في أسفله ووسطه وأعلاه، وبغض النظر عن التعليم؛ والأخرى أنه لولا ما في قلوبهم من حب للسلام، لما استطاعت الشرطة في الولايات المتحدة مهما قويت شوكتها أن تحول دون أن يبيد كل منهم الآخر. ألا يدل ذلك على أن أكثر الناس حسنو النية ولا يحتاجون إلا إلى مجموعة من القواعد يسيرون وفقا لها؟»
قال: «إنه من قبيل التلطف أن تصف الناس بحسن النية؛ فهناك عنصر الشر قائم في نفوس الأفراد والمجتمعات على السواء، ومن العسير أن تعالج هذا العنصر عند الأفراد، وأشد منه عسرا حينما يصاب المجتمع بأسره بالشر ويضل السبيل. إننا جميعا نعيش في حماية الشرطة حتى في الدولة المسالمة، ونستخدم القوة نقمع بها صانعي الشر، ولكنك تلاحظ أننا حينما نريد أن نعالج الأمر لا نتجه إلا صوب الحالات الاستثنائية، كالفتاة المسكينة التي يختطفها وغد دنيء ويعتدي عليها. ولكن من ذا يستطيع أن يقول في الحالات التي لا تبلغ حد الشذوذ متى على وجه التحديد نستخدم القوة، وفي أي الحالات على وجه التحديد نستدعي الشرطة، ومتى على وجه التحديد نلجأ إلى القانون؟» - «لقد رأيت أسرتي - وهي في الطبقة الوسطى - تخطئ خطأ شنيعا في هذا.» - «إننا نجد أفضل الأخلاق، وأحسن المعايير - في مختلف الطبقات في إنجلترا - عند المستويات العليا من العمال، وعند الأفراد الأرستقراط من أصحاب الضمائر والمواهب. أما فيما بين ذلك فإن كثيرين جدا من طبقات أصحاب المهن والتجارة قساة، ظالمون، جشعون، أجلاف، وأحط من هؤلاء خلقا، بأي معنى من معاني الخلق الصحيح. وإني لجد فخور بالطريقة التي تقابل بها إنجلترا هذه المحنة، وقد كتب إلي نورث أنه عندما ظهرت في لندن لافتات الأنباء معلنة أن خطاب روزفلت الذي ألقاه منذ ثلاثة أسابيع سوف يرفع من الروح المعنوية في بريطانيا، اكتفى المارة في الطرقات بتبادل النظرات وعبسوا ... وذلك كل ما كان لخطاب الرئيس الأمريكي من الأثر. إنهم يخوضون معركة ثرموبيلي أو مارانون، ولا يستطيعون أن يميزوا أهي هذه أم تلك، ولكنهم على أي الحالين لا يفكرون في الاستسلام، وأظن أنك سوف تجد - بعدما تنتهي المعركة - أن أخلاق الطبقة الوسطى ستخلي السبيل لمزيج من الطرازين الآخرين من الأخلاق، وأن النتيجة سوف تعلو علوا كبيرا.» - «لو سألتني من أين تأتي أخلاقنا الأمريكية، لشق علي الجواب؛ فنحن من أجناس مختلفة وأصحاب ضروب متنوعة من التقاليد.»
قال: «إن الشفقة إحدى صفاتكم هنا. إنكم تفترضون أن يعامل الناس جميعا بعضهم بعضا في رفق. ولم أزر قط في حياتي مكانا رأيت فيه الشفقة بمثل هذا الشمول، ولست أعرف مجتمعا - قديما أو حديثا - قامت فيه حالة شبيهة بهذه الحال، ولا أتردد في القول بأن الولايات المتحدة أرفع مجتمع - على مستوى عال - شهده العالم في تاريخه.» - «دعني أرد عليك في هذا؛ لقد ذكر لي مثل هذا القول جلبرت مري على ضفاف تشارلز في خريف عام 1926م، كما ذكره لي لفنجستون في نيوهافن في عام 1934م، وأجبتهما بقولي: إننا لم نعان بعد ضغط السكان؛ ومن ثم لم نعان بعد الضغط الاقتصادي الذي تعانونه في أوروبا. فالشفقة هنا لا تكلفنا مثلما تكلفكم؛ ومن ثم فهي ليست حسنة من الحسنات التي نتميز بها.»
وأجاب هوايتهد باسما: «لقد ذكرت ذلك كحقيقة من الحقائق فحسب.»
وواصل حديثه قائلا: «أعتقد أن طوائفكم البروتستانتية قد وقعت في هذا الخطأ، وهو أنهم حرصوا أشد الحرص على ألا يعلم الناس شيئا يخالف هذه الطوائف. إنك في بضعة وثلاثين مذهبا تحدرت إلينا في شكل أديان من أصول يونانية سامية، تجد عناصر مشتركة فيها جميعا إذا استثنيت بعضا منها مما يخالف مخالفة صارخة. إنها جميعا - مهما يكن من أمر - ترتكز على قواعد ثابتة، أو هي - إن شئت - تصب في تيارات مشتركة، وتمتزج في قانون خلقي عام، فتصبح ذات قيمة لا تقدر في تربية النشء. وأعتقد أن الوحدة الخلقية في إنجلترا اليوم تستند إلى عقائد بسيطة قليلة، يقبلها كل فرد. إن المدرسة تحسن صنعا إذا هي بثت في نفوس النشء مبادئ خلقية تسود البيت كذلك ويتعلمها فيه، ولا يلزم أن تكون هذه المبادئ كثيرة أو شديدة التعقيد ، إنها لا تعدو أن تكون المبادئ العملية في الحياة؛ ومن ثم يكون أساس صحتها، وذلك - فيما أظن - ما تفتقرون إليه هنا في الوقت الحاضر.»
قلت: «ما في ذلك شك. وإن المرء ليرى ذلك من ناحيتين؛ فهناك الجيل الصاعد الذي لا يعرف الاقتباس من الإنجيل أو الإشارة إليه، كما أن التقاليد القديمة كذلك آخذة في الزوال.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن هؤلاء المساكين لا يعرفون إلا قليلا عما حدث في العالم من قبلهم، وعما احتمل الناس وكابدوا وتغلبوا عليه، وقهروه، حتى إنه إذا ما اختل وجه من أوجه حياتهم الخاصة الصغيرة، ظنوا أن الدنيا قد تحطمت، وألا سبيل إلى العلاج سوى الانتحار، مهما أدى ذلك إلى البؤس والشقاء في كل ما يحيط بهم ... إنكما حينما كنتما منذ لحظة تبحثان في أساس اشتهائنا للمساواة الإنسانية، أردت أن أصيح: غفر الله لكما، فأنتما آثمان مسكينان، ارتكب كل منكما ذلك الإثم الذي يرتكبه الرجال عادة في حق الروح القدس، إثم محاولة الهبوط باللامحدود إلى قانون محدود يقبله العقل. ما أشد عجبي منكما! هلا عرفتما أن شدة رغبتنا في المساواة تنشأ من حنان الطبيعة البشرية، من غرابتهما، مما فيها من فكاهة، ومأساة، من عجزنا عن تفسيرها؟ إنها لا يمكن أن تصاغ في قانون، هي كذلك كما خلقت، لا نستطيع أن نفعل بها شيئا. نحن خياليون، ونحن عاطفيون، ونحن في حال تدعو إلى السخرية، وإلى الأسى، نحن إنسانيون، وكل ما نستطيع عمله - إن كانت لدينا ذرة من العقل - أن ندرك الحقيقة وهي أن ليست المساواة إلا شعورا وعاطفة.» - «ذلك بالضبط ما كنت أقول يا أفلن.» - «نعم في منطقك الدقيق، في حين أنه أبعد ما يكون عن المنطق.» ثم هزت رأسها نحونا بشدة وقالت: «تلك هي المساواة التي بيننا جميعا في أعماق نفوسنا!»
المحاورة الحادية والعشرون
28 من يونيو 1941م
أقبل الصيف، وقصدت كمبردج، وأخذت معي لمسز هوايتهد صندوقين من الورد من حديقة أحد جيراني في ماريلهد، وأخذت له كتاب «المستقبل في التربة» الذي نشر أخيرا لسر رتشارد لفنجستون، والذي ذكر فيه كتاب «أهداف التربية» لهوايتهد بالإعجاب الشديد.
وكان الرجل جالسا في مكتبه، بعد عودتهما من ميدان هارفاراد ليشتريا بدلة شتوية في أشد أيام شهر يونيو حرارة، «ولم يستطيعا أن يحصلا عليها».
وقلت إني حصلت على واحدة في الشهر الماضي، «ولم أبكر بشرائها دقيقة واحدة»، كما أكد لي الخائط، فقال هوايتد متلطفا: «لقد تأخرنا لحظة واحدة.»
إنهم يرحلون في شهر يوليو مع آل بكمان إلى بدفورد. وفي هذا الصدد قالت مسز هوايتهد: «إن جو المكان يلائمني تماما، بيت كاثوليكي تراعى فيه شعائر الدين، وإن كنت لا أؤديها. إنه جو شبيه بذلك الجو الذي نشأت فيه في بريتاني، بين الكاثوليك، وإن لم أكن كاثوليكية. - «إن ذلك يشبه إلى حد ما ارتياد الكنائس بالراديو.»
قال: «لا بد أن يكون هناك في العالم الآخر مكان وسط لأمثال هؤلاء الناس؛ لا هو شديد الحرارة ولا هو شديد البرودة، ولا يبلغ كآبته حافة الجحيم.» - «لا بد أنك تعني لاوديسيا، الذي يمقته المتحمسون لأنه مكان لا بالبارد ولا بالحار.»
ثم عدنا إلى الحديث عن زيارة الكنائس بالراديو، وقال إن من رأيه أن الأصوات الرنانة هي خير الأصوات، برغم خلوها من كل الأنغام الدينية التي تكسبها قوة التأثير.
قال: «إن أشد الصلوات الدينية أثرا فيما أذكر اثنتان؛ أولاهما قداس صغير في كاتدرائية في إحدى المدن - ومن المؤلم جدا أن ينسى المرء الأسماء! - على حافة الغابة السوداء بألمانيا، كان هناك حشد كبير من الأتقياء، ولم يكن بوسع المرء أن يسمع شيئا مما قيل، ولكن القداس بلغ مرتبة الكمال. كان المرء يحس أن الواجب الديني يؤدى، وأنه يشارك فيه كل أولئك القوم الأتقياء، أما الصلاة الأخرى فصاحبية، غير أن الصلاة لم تدم طويلا، وقد أقيمت في مدرسة ببرمنجهام، بعدما توجه الكثيرون منا لإلقاء المحاضرات، التي كانت تبدأ في التاسعة، وكان ناظر المدرسة كل صباح قبل التاسعة بربع ساعة يجمعنا في مكتبه الرحب، حيث كنا نقضي بعض الوقت في التأمل الهادئ، ثم يتحدث إلينا في النهاية حديثا موجزا، كان له الأثر الصحيح تماما.» - «إنك لا تضم في هذا الأنجليكان.» - «إن صلاتهم تؤدي الغرض منها بشكل يدعو إلى العجب؛ الطقوس الجميلة، والموسيقى، وفن العمارة، والأصوات الرائعة، فيها كل شيء إلا الدين، إنها ليست دينية، إنما هي اجتماعية.» - «كان رالف أمرسن يسخط عليها أشد السخط، وقد بين السبب في مقاله عن الصفات الإنجليزية.» - «ولكني أعتقد أن المذاهب البروتستانتية تفتقر حتى إلى ذلك. إن الصلاة الأنجليكانية رمز لمسئولية الأرستقراط عن حكم الأمة، وهي لم تكن في المسيحية أصلا؛ فالفلاحون اليهود، الذين صدرت المسيحية عن بداهتهم الخلقية العميقة، لم تكن لديهم أدنى فكرة عن إدارة المجتمع المعقد، وحتى المسيح نفسه لم يقل شيئا عنها بتاتا، اللهم إلا قوله: يجدر بكم أن تدفعوا ضرائبكم، بيد أن ذلك ليس دستورا مدنيا دقيقا.» - «هل تعني أن ما خلا ذلك - من تبعة تنظيم المجتمع - أضيف فيما بعد؟» - «نعم، ومن التناقض أن هذه الفكرة ، التي كانت حديثة في العالم عند بدايته - أقصد قيمة الفرد - التي ما زلت تراها على صورة أكيدة قوية في أية كنيسة كاثوليكية، حينما تشهد متعبدا فريدا جاثيا في معبد قديس من القديسين، هذه الفكرة قد تبناها نظام اقترف الكثير في سبيل قمع الفردية، وأقصد بها الكنيسة الكاثوليكية. إن في الدين دائما عنصرا همجيا، وإن محاولة الاحتفاظ بكيان المجتمع هي دائما من عمل الرجال المخلصين، ولم تبلغ هذه الهمجية - فيما أظن - ما بلغته في محاكم التفتيش في إسبانيا أو في اضطهاد الهوجونوت في فرنسا. ومما يدعو إلى الدهشة أن انفصال الكنيسة الإنجليزية في القرن السادس عشر تحت حكم التيودور لم يصاحبه إلا قدر ضئيل من الوحشية نسبيا. كانت هناك بطبيعة الحال حرائق وإطاحة للرءوس، ولكنها لا تذكر إلا ما كان يحدث في القارة الأوروبية في مثل هذا الظرف. إن الإصلاح لم يكن دينيا مهما يكن من أمره، ولست أدري ما كان شأن هنري الثامن أو إليزابث بالدين.»
قلت: «إن ما دونه ترفيليان في صفحاته عن انحلال الأديرة يؤيد ما نقول، غير أن مشكلات هذه الأديرة لم تكن واضحة كما نحسب اليوم.»
قال هوايتهد: «إن اغتصاب الأملاك كان عملا عنيفا، ولكنه لم يبلغ في عنفه ما بلغته الحروب الدينية التي اجتاحت القارة الأوروبية، ولست أعرف في التاريخ سوى مناسبتين قام فيهما أصحاب النفوذ بما ينبغي أن يقوموا به بصورة حسنة على قدر ما يستطيع المرء أن يتصور من إمكان؛ وإحدى هاتين المناسبتين هي وضع دستوركم الأمريكي، كان واضعوه ساسة قديرين، وصلوا إلى مجموعة من الآراء الطيبة، وضمنوا هذه المبادئ العامة أداتهم دون أن يحاولوا أن يفصلوا بوضوح زائد كيف يمكن تطبيقها، وكانوا رجالا ذوي خبرة عملية واسعة، وكانت المناسبة الأخرى في روما، ومما لا جدال فيه أنها أنقذت المدنية لمدة تقرب من أربعمائة عام، وكان ذلك من عمل أغسطس وزمرته؛ لقد أنقذ روما من الرومان - أقصد الرومان سكان المدن - أنقذها من إفلاس شكل الحكومة الجمهوري، ومن الآراء البائدة التي كانت تعتنقها طبقة النبلاء القديمة؛ فقد استطاع بطريقة ما أن يستدعي أولا أعيان الريف الإيطاليين، وهم «الرجال المحدثون» أصحاب الآراء الجديدة، وكلما تقدمت القرون ظهر الريفيون من أمثال القياصرة الإسبان؛ فامتدت بذلك حياة روما حتى منتصف القرن الثالث بعد الميلاد، وذلك حينما بدأت تنهار فيه على وجه التقريب. لقد ترك لمجلس الشيوخ نفوذا يكفي لاحتفاظهم بكرامتهم، وكانت الحكومة - فيما خلا ذلك - في أيدي السلطات المدنية والقوات العسكرية. لقد كان ذلك عملا من الأعمال العظيمة في تاريخ الإنسان، وإني لأشك - مهما كان ما نقوم به من تحليل شرعي - في أن أي امرئ يستطيع أن يفهم كيف حدث ذلك.»
ثم بادر إلى القول بأن الظاهر أن أحسن المدنيات هو مع ما نشأ عن الامتزاج العنصري: النورمان مع الفرنسيين، والنورمان الفرنسيون مع الأنجلوساكسون، والغزاة الدوريون في إنكا مع أبناء البلاد. - «إذا كان العنصر «نقي» الدماء فالأرجح أن يكون الشعب غبيا، حتى تختلط دماؤه بدماء أخرى أشد حيوية، وأعتقد أن الدماء السامية قد اختلطت بدرجة كبيرة بالدماء الأيونية؛ فكان من هذا الاختلاط تلك الثقافة المستنيرة الأصيلة.»
وواصل حديثه قائلا: «ووراء ذلك كله هذه المشكلة: كيف نحمي المجتمع من الركود؟ إن ذلك أشق أمر في الوجود؛ فقد ينشأ نظام اجتماعي ويعيش في يسر عدة قرون، ولكنه إذا افتقد عنصر التجديد، عنصر التقدم، فهو شيء لا حياة فيه، وأستطيع أن أقول إن النمل والنحل لها نظم تسير في يسر، ولكنها لا تتغير. وعنصر التجديد هذا هو الذي يحدد الفارق بين الإنسان والحيوان؛ فالإنسان يرى المستقبل في الحاضر، ويبصر ما يمكن أداؤه بما عنده من مادة موجودة. أما الكلب فيرى الحاضر حاضرا، ليس غير. ولكني لا أقول إنه يستحيل على الإنسان أن يبلغ نهاية قوته الابتكارية، وليس معنى هذا أن هذه القوة قد تنفد، ولكنه ربما يبلغ في دنياه حالة يكون المجتمع فيها ساكنا، فلا تجد هذه القوة الابتكارية عنده مجالا، وحينئذ تكون نهاية الإنسان، ولا تكون لمجتمع قيمة أكبر من قيمة النمل، إذا قارنا بينهما كمخلوقين.»
وعن لي أثناء حديثه: «أن الفنانين - فيما يبدو - يرون أن هذه القوة الابتكارية شيء لا يتحكمون فيه، وإنما يتحكم فيهم. حقا إنهم يطورون وسائل فنية عملية تستطيع هذه القوة أن تفعل بها فعلها، ولكن الوسائل العملية - كالآلة الميكانيكية - لا تخلق، وحسبها أنها تعين على الخلق. وقد كان جيته واضحا في ذلك خلال حديثه مع أكرمان؛ فهو يكاد يقول إن الآية الفنية هدية من السماء في يوم من الأيام الطيبة، التي تمر بالفنان، ولكن القوة المؤثرة تأتيه من خارج نفسه.»
وأخذ هوايتهد بطرف الحديث فقال: «إن المجتمع الذي يستطيع أن يهيئ الظروف التي لا بد منها للفنانين لكي يجدوا مجالا حرا لقدرتهم على التجديد؛ ولا أقول الخروج على المألوف أو الشذوذ، وإنما أعني الابتكار في تطوير التقاليد الفنية، والسير قدما بأحدث ما استجد فيها؛ هذا المجتمع يبلغ أعلى درجات التقدم.» - «ألم يكن أفلاطون في «القوانين» - وهو من آثار شيخوخته - قاسيا في حكمه على عنصر التجديد في الفنون؟ أو على الأقل في حكمه على فن المأساة؟»
فنهض، وتطلع إلى رفوف مكتبته، واختار أخيرا مجلدا من طبعة لوب، وفتح الفصل الواحد والخمسين في تيماوس، وقال: «أنصت، وسأطلعك على مقال لأفلاطون.» وكانت الترجمة معدلة في مواضع مختلفة بقلمه. وقال عنها مشيرا إلى كلمة يونانية: «إن المترجم قد ترجمها خطأ بالمادة.»
قلت: «ولكنها تعني [الطبيعة] أليس كذلك؟ أو على وجه أدق تعني [النمو] أو [عملية النمو].» - «نعم، إن أفلاطون هنا يتحدث عن [الوعاء] والفكرة بعيدة المدى، وبها شيء من الغموض.» وطالع صفحتين أو ثلاثا، وأخذ يلخص ما يطالعه، حتى بلغ الفصل الرابع والخمسين.
فقال: «وهنا - كما ترى - يهبط بالفكرة إلى [الأمر المألوف] إلى الهندسة!» - «ولكن ألم تكن هذه هي طريقته، يتناول اللامحدود - الذي لا يستطيع أحد سواه أن يعالجه - ويهبط به إلى الصورة المحدودة، التي يستطيع أن يفهمها متوسط الأفراد - أو المتعلمون في أثينا القديمة - كما قلت ذات مرة؟» - «هذه العلاقة بين اللامحدود والمحدود هي ما كنت أستهدفه. إن عقولنا محدودة، ولكنا برغم تحديدها محاطون بإمكانيات غير محدودة ، والغرض من الحياة الإنسانية أن نستوعب من اللامحدود بقدر ما نستطيع. وكم أود لو استطعت أن أنقل إليكم هذا الإحساس الذي أحس بلانهائية
الاستحداث والتجديد في الجمع بين شيء وآخر، بالنتائج السارة للتجارب، بالآفاق المتفتحة التي ليس لها نهاية ما دمنا نجرب، وما دمنا نحتفظ بإمكانية التقدم هذه، فنحن ومجتمعاتنا أحياء فإذا فقدنا ذلك صرنا نحن ومجتمعاتنا إلى الموت، مهما قمنا وقامت مجتمعاتنا بنشاط خارجي، ومهما ظهرنا أو ظهرت مجتمعاتنا بمظهر الرفاهية المادية، وليس هناك أيسر من فقدان عنصر التجديد هذا الذي أشير إليه. إن مبدأ الحياة في الفكر هو الذي يحفظ علينا جميعا حياتنا.» - «وما مقدار صحة هذا الإحساس بالوحدة الذي نحسه أحيانا - هذا الإحساس باندماج فرديتنا في الكل - ما مقدار صحة هذا الإحساس في ظنك؟ إنني لا أحب أن أتحدث في هذا حديثا خياليا، وخاصة لأني لست ميتافيزيقيا، ولا عالما نفسانيا، ولكني - برغم هذا - أعلم أن هذه اللحظات لا تنسى، والإحساس بها قوي، حتى إن المرء ليستطيع استعادتها بعد عدة سنوات، قد تبلغ العشر، كأنها كانت بالأمس فقط، أو اليوم، ويخلق منها شيئا حيا جديدا.»
فقال هوايتهد: «إن الصوفية تحملنا على أن نحاول أن نخلق من الخبرة الصوفية شيئا يبقي عليها، أو على الأقل يبقي على ذكراها. إن الألفاظ لا تعبر عنها إلا تعبيرا ضعيفا. إننا نعلم أننا كنا على صلة باللانهائي، ونعرف أنا لا نستطيع أن نعبر عنها بأية صورة من الصور النهائية المحدودة.»
وجاهرت ب «أن الموسيقى قد تكون أقرب إليها من الألفاظ؛ فالمرء أحيانا - أثناء أداء قطعة من روائع الموسيقى أداء جيدا - يحس إزاء اللامحدود بإحساس شبيه بما لا بد أن يكون الملحن قد أحس به حينما كان عليه أن يختار لحنا من الألحان لكي يعبر عنه. إن الألحان المحدودة موجودة، في النغم أو في التوقيع، ولكن الإمكانيات التي لا نهاية لها - أعني الطرق التي يمكن أن يعبر بها عن هذا المجال الفسيح - هذه الإمكانيات تحف بهذه الألحان من كل جانب.»
قال هوايتهد: «من هذا الجهد الذي يبذل في سبيل إنقاذ الخبرة الصوفية، أملا في ابتداع صيغة تحفظ هذه الخبرة لأنفسنا وربما لغيرنا أيضا؛ أقول من هذا الجهد يأتي الإيضاح، في فكرة أو ربما في صيغة فنية، وهذا الإيضاح يتحول بعدئذ إلى صورة من صور العمل؛ صوفية، وإيضاح، وعمل. إنني لم أستطع من قبل أن أعبر عن هذا الموضوع بهذه الصورة، ولكن هذا هو الترتيب الذي أراه.»
وقال: «إن صفة الركود قد ظهرت في الديانة البوذية كما يدل على ذلك تاريخ الهند والصين، وإن التقدم فيهما كان يسير إلى الوراء أو يتوقف، وإنه لم يطرأ على الصين منذ عام 1800ق.م حتى العصر الحديث سوى تغيير طفيف، إذا استثنينا هذه التغيرات اليسيرة في بعض نظم الحياة الصغرى.» ثم وضح لنا كيف أن الفكر الديناميكي المتحرك من الصفات الدقيقة التي يعتز بإحرازها الإنسان، وكيف أنه من اليسير أن يفقدها.
وأدى بنا ذلك إلى الحديث عن حيوية التفكير في مهنة الطب في عصرنا، وكيف تتقدم علوم الطب بسرعة، ويحدثك أصحاب المهن برغم ذلك أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا.
قال: «إن الطبيب الأمريكي الممتاز هو من أكثر النماذج البشرية تقدما على الأرض في الوقت الحاضر.» - «لأن العلم عنده يكرس لتخفيف الآلام.» - «بل إني لأرد ذلك إلى أسباب أعم. إنه متشكك في وقائع مهنته، ويرحب بالمستكشفات التي تقلب فروضه السابقة رأسا على عقب، ولا يزال العطف الإنساني والإدراك يبعثان فيه الحياة.»
قلت: «لولا تقدمهم لمت بالزائدة الدودية منذ عشرين عاما. كان المصابون بها يموتون في عام 1892م. أما اليوم فهي تعد من العمليات الجراحية الصغرى.»
فقال هوايتهد: «ولولا كشف في عالم الطب منذ ثلاثة أعوام فقط لمت منذ ستة أسابيع.» وكان يشكو التهاب الرئة، وقد شفي منه بالدواء الجديد.
ودخلت علينا مسز هوايتهد ومعها بعض الأزهار المودعة بنظام في آنية زجاجية، ثم أخرجت «مستقبل التربية» من تأليف لفنجستون.
فقال هوايتهد: «إني أقدره قدرا كبيرا، وقد عملت معه مرة في لجنة ملكية لدراسة مكانة الأدب الإغريقي الروماني القديم في التربية الإنجليزية، وقد شغفت به حبا.»
وفتحت صفحة 30، وأشرت إلى هذا الاقتباس التالي، وقرأه هوايتهد:
إن الأستاذ هوايتهد - في أحد الكتب القيمة حقا عن التربية - قد تحدث عن خطر الآراء الجامدة؛ أي الآراء التي يكتفي العقل باستقبالها دون أن ينتفع بها، أو يختبرها، أو يضمها إلى مركبات جديدة ... إن التربية بالآراء الجامدة ليست عديمة الفائدة فحسب، إنها ضارة فوق كل شيء آخر ... وقد كانت التربية في الماضي مصابة إصابة شديدة بالآراء الجامدة إذا استثنينا فترات نادرة من التخمر العقلي ...
ودفعني ذلك إلى أن أقول بأن لفنجستون قد كتب إلي منذ بضعة شهور يذكر لي أن «أهداف التربية» هو من الكتب القلائل التي قرأها في الموضوع، وحمله على الاعتقاد بأنه كتاب من وضع رجل يعرف شيئا عن الموضوع.
وفي الفترة القصيرة التي بقيت من السهرة تحدثوا عن سيرة «كاترين أراجون» من تأليف جارت ماتنجلي، وهو الكتاب الذي نشر أخيرا، وقد أثنى عليه هوايتهد ثناء عظيما.
قال: «إنه يجعل الأشخاص التاريخية إنسانية حية. والأوصاف مستقاة من الخطابات العائلية الخاصة، وإنك لتسمع عن مثل هذه الأشياء؛ كيف كان هنري الثامن يبدو في يوم من الأيام ... وأي ألوان العذاب كان طب العصور الوسطى يلحق بالملوك الذين يعانون الموت! كان كل امرئ يعتقد أنه يبذل قصارى جهده، ولم يعرف أحدهم كثيرا عن أي شيء، وكانت بالطبع عذابات عامة الناس في مثل هذه الشدة، غير أن أحدا لم يحفل بتسجيلها. ويعطيك هذا الكتاب أيضا فكرة عن كرانمر تختلف عن فكرة الاستشهاد المألوفة التي تنسب إليه؛ كان يميل أشد الميل إلى الإنكار لكي ينقذ حياته، فلما وجد أنه سيحرق بسبب هذا الإنكار، أنكر إنكاره.» - «اعتدنا أن نظن أن الحياة في تلك الأزمنة كانت معرضة للمخاطر الجسيمة، ولكن انظر إلينا الآن!» - «أعرف ذلك، ويكاد المرء يخجل من القول بأن اليوم حار، أو أن الحساء بارد، وكأن ذلك من التوافه التي تحتمل. لقد بلغ العالم حدا من الاضطراب يحتم علينا أن نعيد النظر حتى في أكثر الآراء شيوعا، الآراء التي كان يقبلها كل امرئ من قبل.»
المحاورة الثانية والعشرون
30 من أغسطس 1941م
صباح صائف ذهبي. وقد حددت بموعد سابق مع آل هوايتهد ساعة وصولي إليهم بالحادية عشرة والنصف. وقد تم الآن شفاء الأستاذ هوايتهد تماما من وطأة التهاب الرئة، وكان بادي الصحة بشكل غير مألوف. وذكرت له ذلك.
فقال: «إن الناس يقولون لي هذا، ولكن آثار المرض ما زالت متخلفة في جسمي.» - «لعلك تتعلم من ذلك ألا تصاب بعد اليوم بالالتهاب الرئوي.»
وأمن على هذا المزاح قائلا: «أجل، لا بد أن يكون لكل أمر درس.» - «إن نيتشه - الذي اختص بالملاحظات المنفرة - له ملاحظة مؤداها أن الألم قد يجعل من الرجل إنسانا أعمق، ولكنه لا يجعل منه إنسانا أفضل.»
فقال هوايتهد: «إن الهم قد يكسب المرء لونا من ألوان الإشراق؛ لأنه يشحذ المواهب، ليس غير. إنه يجعل جميع انطباعات الإنسان أشد غزارة ... وقد كنت أفكر أخيرا في العادة الشعبية، كيف تتلون بلون الزمان والمكان، ولكنها - في النهاية - تبلغ غايات متشابهة؛ ففي إنجلترا إذا حدث خطأ من الأخطاء - كأن يجد المرء نارا في حديقة - تراه يكتب إلى محامي الأسرة كي يتخذ الإجراء القانوني، فإن حدث هذا في أمريكا اتصل تليفونيا بقسم المطافئ؛ وهذا التصرف وذاك كلاهما يشبع حاجة من خصائص الشعب؛ هي في إنجلترا حب النظام وتطبيق القانون، أما هنا في أمريكا فإنكم تحبون التصرف الحي، الحار، السريع ...» - «والذي يصحبه الضجيج! شهدت ذات يوم في شارع الدولة جهاز المطافئ يتحرك، وهو يتألف من ست قطع؛ فأخليت الطرقات، ولزم شرطي المرور مكانه لا يتحرك من شدة التنبه، ووقفت الجماهير ترقب ما يجري. وكانت سرعة السيارات وأزيزها هائلة - وكل امرئ في غاية السعادة - وأخيرا تبين أنه لم يكن هناك حريق.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلا: «هذا ما رميت إليه؛ فإن كل وسيلة تؤدي ما يؤديه غيرها، ويرجع ذلك إلى أن تسعين في المائة من المشقة سيكولوجي؛ فعندما يتأكد المرء أن العملاء المكلفين بالعمل قد شرعوا في اتخاذ الإجراء الضروري إزاء حرائق الحدائق، انصرف إلى عمله رضي النفس.»
قلت: «منذ عام 1910م - في هذا البلد على الأقل - بات لزاما علينا أن نعترف بعامل جديد، هو الطبيب النفساني، ولكن ما مدى الجدة الحقيقية في علم الطبيب النفساني؟»
وقال هوايتهد: «كان لدى الكاثوليكيين بعضه خلال تاريخهم في فكرة الاعتراف. كنت منذ عهد قريب أقرأ - أو قل أعيد قراءة - كتاب «لغز الجزويت» من تأليف أ. ج. بويدبارت، وهو ينتقد مذهبهم فيما يسميه «علمهم النفساني الزائف»، وبحثت عنه في الدليل، ووجدت أنه قام بأعمال يستحق عليها التقدير، ولكنه لا يقر لمذهب الجزويت إلا بالفضل القليل. ورأيي أن هذا المذهب لا بد أن ينطوي على فضل أكثر مما نسب إليه، وإلا لما ازدهر كما عرفنا.» - «أليس هذا مثالا لأن لكل شيء تقريبا وجهين، سواء في ذلك الحقيقة المجردة والنظام المتبع؛ فهو من ناحية لا يحتمل، ومن ناحية أخرى مرض مقبول.» - «اليقين الصارم هو الذي يقضي على الحقيقة. وأرجو أن تلاحظ أنني لا أعيب اليقين ولكني أعيب صرامته. حينما يقول الناس عن أمر من الأمور: هذا كل ما هنالك مما يعرف أو يقال عن موضوع ما. وعند ذلك ينتهي البحث، حينما يقول الناس ذلك كان فيه الموت بعينه، وربما لا يصدر الشر عن المفكر نفسه، وإنما يصدر عن استخدام تابعيه لتفكيره؛ فقد أعطانا أرسطو - مثلا - المنهج العلمي (كما قدم كذلك في علم الأخلاق بحوثا لها قيمتها) ولكنه - أساسا - كان الرجل الذي ابتكر طرائقنا في البحث العلمي (وفي الملاحظة كذلك)، ولكن فروضه المنطقية، وتعاليمه في التعليل الصحيح - التي ورثتها أوروبا - لا تصلح إلا في حدود إطار المنطق الرمزي، فلما استخدمت في أوروبا بلدت العقول أجيالا بأسرها من الدارسين في العصور الوسطى. لقد اخترع أرسطو العلم، ولكنه هدم الفلسفة.» - «هل ترى أن أهم ما يميز ما أضافه أفلاطون إلى طرائق التفكير هو الرغبة الملحة في متابعة الجدل إلى حيث يؤدي، كما جاء على لسان سقراط في المحاورات؟ وقد يبدو ذلك غاية في البساطة، ولكن قل من الناس من يفهم كيف يسير وفقا لمعناه. إن المشكلة الواحدة - مثلا - في «محاوراته» تقلب على كل وجه، ويدلي فيها الكثير من الناس كل برأي.»
فقال هوايتهد: «إن العلماء الألمان الذين درسوا أفلاطون في مستهل القرن التاسع عشر ضلوا السبيل في رأيي، والظاهر أنهم كانوا يرون أن عددا من الجهال قد قدموا لنا آراء لا معنى لها حتى جاء سقراط أخيرا ووضع الأمور في نصابها. ولست أعتقد أن هذه هي الحقيقة بتاتا. حينما يشترك في النقاش عدد من المحترفين المختلفين، كانت خبراتهم متنوعة تنوعا يؤدي قطعا إلى إضافات جديدة إلى الفكرة التي يضعونها موضع الجدل، وربما لم يكن أحد منهم صاحب الكلمة النهائية، وربما جانب بعضهم الصواب، ولكنهم - مجتمعين - يلقون ضوءا على الموضوع. وقد لا تقبل آراءهم، ولكنهم يستحقون الدرس. وأعتقد أن في مكتب صحيفتكم الكثير من أمثال هذه المناقشات ...» - «إن اجتماعات المحررين اليومية ليست إلا كما ذكرت. وقد نما تداول الرأي على شكل المحاورات الأفلاطونية بدرجة لم نألفها من قبل، خلال سنوات عديدة وأعتقد أني ربما بهذا بدأت أن أفهم الطريقة الأفلاطونية في الجدل.» - «بهذه الطريقة يتكشف الموضوع، وتعطى الآراء المختلفة حقها، كما يشعر المشتركون في الحوار أنهم بذلوا جهدهم في سبيل غاية طيبة، حتى وإن لم يبلغوا نتيجة محددة.» - «هل تعتقد أن هذه الطريقة قد وجدت في أثينا قبل أفلاطون؟» - «أرجح ذلك. إن عز أثينا قد سبق أفلاطون بقليل، في عهد كتاب المأساة الثلاثة العظام، وقد كان أرستوفان واحدا منهم. وأعتقد أن الثقافة تبلغ غاية ازدهارها قبل أن تبدأ في تحليل نفسها. وقد كان عصر بركليز - كما كان كتاب المسرحية - تلقائيا، لا يشعر بوجوده.» - «إن الروح التحليلية سرت في يوربديز، وهو آخر الثلاثة، كما تلمس فيه كذلك قدرا أكبر من طريقة الحوار؛ إذ كان هذا الكاتب المسرحي يقدم هذه الفكرة أو تلك، لا باعتبارها رأيا نهائيا، ولكن لكي تجد طريقها إلى التعبير.» - «كم من الناس شهد هذه المسرحيات؟» - «ما يقرب من عشرين ألفا في أثينا ، بالرغم من أن المواطنين كانوا أكثر من ذلك عددا، وربما بلغوا مائة وخمسين ألفا. وإني لأتصورهم جالسين من مطلع الفجر حتى الظلام في يوم من أيام مارس التي تنسب إلى ديونيسيا الأعظم يشهدون ثلاث مآس تتبعها مسرحية هزلية، لثلاثة من الشعراء المتنافسين، ولا بد أن تكون «أورستيا» لأيسكلس إحدى هذه المآسي الثلاث. أين في عالمنا الحديث المشاهدون الذين يستطيعون أن يستسيغوا كل هذا؟»
قال هوايتهد: «لقد كان للطباعة أثر هدام؛ فقبل أن تكون الصحيفة للعقل عونا كان عليه أن يقوم بعمل أشق. وإذا تذكرت أن الأسرى الأثينيين من بعثة سرقسة قد نالوا حريتهم لأنهم استطاعوا أن يتلوا من الذاكرة أناشيد مختارة من يوربديز، عرفت أنه من الجلي أنهم لم يذكروا مقطوعات قصيرة من النص الأصلي.» - «هل ترى أن منظر أكداس الكتب في المكتبة مما يثبط الهمم؟ وهل لو عرف المرء كل ما في هذه الكتب أصبح أفضل مما كان، أو أسوأ مما كان؟ أو لعلنا نستطيع أن نسأل هذا السؤال: هل يمكن للمبالغة في القراءة أن تضعف فعلا جهاز التفكير عند الإنسان؟»
فقال هوايتهد: «إني أقرأ ببطء شديد، وأجد أنهم يشيرون إلي أحيانا بالرجل «المطلع». والواقع أني لم أقرأ عددا كبيرا من الكتب، ولكني أفكر فيما أقرأ، فيثبت في ذهني.» (وإذا تذكرنا حجم مكتبته في بيت كانتون، وفي مسكنه براندور هول، بل وهنا في فندق أمباسادور، حيث تفيض الكتب من حجرة الدرس إلى حجرة الطعام، بل حتى لو حصرنا العدد فيما كان بين أيدينا؛ إذا تذكرنا ذلك عرفنا أن ملاحظته عن قلة ما قرأ من كتب ليس إلا أمرا نسبيا.) - «وما رأيك في هذا الاهتمام الحديث ب «السرعة» في القراءة؟» - «ليست السرعة ديدني، ثم إني في بعض قراءاتي أغفل بعض الصفحات؛ فأمس مساء - مثلا - كنت أقرأ هذا الكتاب الذي أراه في حجرك عن الجزويت، ولما وجدت في بدايات الفصول المتتالية أن المؤلف لا يغير وجه الموضوع الذي أدركت من قبل مغزاه، لم أتردد في الإغفال.»
ثم انتقلنا إلى الحديث في نوع الكتاب الذي يحتم على قارئه أن يقوم ب «عمل» ما إن كان يرمي إلى الإفادة مما يقرأ. إن «تأملات» ماركس أوريليس يمكن أن تقرأ كلها في بضع ساعات، غير أن نقل ما في هذه التأملات إلى فكر وعمل قد يكون شغل الحياة كلها.
ثم سألت: «هل طرأ لك - بعد الحياة التي عشت والعمل الذي أديت في المجتمعات العملية - أن المرء قد يبالغ في تحصيله الدراسي؟»
قال: «إن الجامعات تشبه كل أداة ضرورية أخرى، مثلها مثل السلاح، لا بد لنا منها، وإنه ليتعذر علينا أن نتابع ثمرة الحضارة بغيرها، ولكنها - برغم قيمتها القصوى - قد تكون كذلك شديدة الخطر. إن هارفارد لم تحتفظ بمكانتها العالية كقلعة من قلاع الفكر إلا بسبب مدارس الخريجين، حيث تقترن المعرفة بالعمل.» - «شغلتني أخيرا فكرة أود أن أعرضها للنقد، وهي أن تأثير الفكر الديني في أمريكا في القرن التاسع عشر كان لا يزال قويا. فلما أقبل القرن العشرون، وظهرت العلوم، ثم نشبت الحرب العالمية الأولى، ضعف هذا التأثير، وانتقلت القيادة إلى علماء التربية حوالي عام 1920م. أما الآن فإن دلائل كثيرة تشير إلى أن القوة الدافعة في المدنية الأمريكية - بعد نحو جيل - قد يتولاها رجال الفن، وأنا أستخدم الكلمة هنا بأوسع معانيها؛ المبدعون.»
فقال: «إن تواريخك تحيرني بعض الشيء، ومن رأيي أنه قد مرت بكم من قبل فترتان سعيدتان من الانتعاش في هذا البلد؛ إحداهما في إنجلترا الجديدة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، حينما نعمتم حقا بعصر من أعظم ما مر بالدنيا من عصور، وإن يكن لم يبلغ بعد من الشهرة ما يستحق، والأخرى في أعقاب القرن الثامن عشر، عند تشكيل دستوركم الأمريكي. ولست أعني أن واضعي الدستور كانوا يقومون بعمل مبتكر من جميع نواحيه؛ فإن بعض آرائهم قد انقضت عليه من قبل مائة عام - وربما يعود إلى لوك - أو إلى ما قبل ذلك، ولكنها كانت آراء فريدة؛ لا لأنها فصلت ما يتبع من إجراء، ولكن لأنها وضعت مبادئ عامة تسير عليها دولة ديمقراطية عظمى. ولست أعرف سوى مثالين اثنين تم فيهما بطريقة واعية عمل بمثل هذه الضخامة؛ هذا أحدهما، أما الآخر فقد تم طبقا لمبادئ لا تحقق لك، ولا تحقق لي، مثلنا في الحرية؛ ولكنه - بالرغم من هذا - أنقذ المدنية، وورث الأجيال القادمة رأيا جديدا حتى للعصور الوسطى، التي مكنت مؤسسات الأديرة من نقل الميراث القديم، وأقصد حينما كان أغسطس قيصر لا يتوجه بالخطاب إلى طبقة النبلاء الصغيرة، أو الرعاع الذين لا يعتمد عليهم، وإنما يتوجه به إلى الطبقة الوسطى المتماسكة، أولا في روما وإيطاليا، ثم في الإمبراطورية بأسرها فيما بعد. إن أحدا لا يعجب بنظام الحكم الإنجليزي من كل قلبه مثل إعجابي، وكذلك لا يستطيع أحد أن يقول على وجه الدقة في أي وقت ظهرت فكرة الملكية المقيدة؛ فإن الفكرة قد نمت بغير وعي، ولم تكن فكرة من ابتداع شخص بعينه أو زمن بذاته، غير أن نظام أغسطس ودستوركم الفدرالي كانا ثمرة لجهد واع. والنظام الإنجليزي - فوق هذا - يصعب نقله، ولم يستطع أحد أن ينقله بصورة ناجحة إلا الشعوب التي هي من أصل إنجليزي، والتي أنشأت مجتمعات استعمارية، في أماكن مثل أستراليا ، وأفريقيا، وأمريكا الشمالية.» - «من الواضح أنك تستعمل لفظة [الفنان] بمعنى خالقي الدول العظمى.» فواصل هوايتهد حديثه قائلا: «وأنت تستعمل كلمة الخلق بالمعنى الذي أعطيه لكلمة [الجدة]. منذ مائة ألف عام - أو ما يقرب من ذلك - فلا يعرف أحد متى كان ذلك. خطا الإنسان خطوة في تطوره تمخضت عن تقدم سريع، تلك هي قدرة الإنسان على الابتداع، قدرته على التجديد، حبه للمعرفة، وميله إلى البحث، وأخشى على الإنسانية من فقدان هذه المقدرة، ومن الأماكن القليلة التي لا تزال فيها هذه المقدرة طليقة هنا في الولايات المتحدة. ولست أقول إنه ليست هناك وسائل تستطيعون أن تحرزوا فيها تحسنا؛ فأنا أعتقد أن هناك مناطق تحسنون لو خفضتم نسبة القتل فيها، ولكنا حتى مع اعتبار شيكاغو في أسوأ ظروفها، في العقد الثالث من القرن العشرين، قبل أن تتدخل السلطات عندكم وتوقف الحوادث عند حد ، ولكنا - مع ذلك - نستطيع أن نقول إن الحياة عامة، حياتك وحياتي، أقل تعرضا للتدخل وأقل تعرضا للخطر هنا منها في أي مكان آخر فوق الأرض. إن الظروف لا تلائم تقدم المواهب إلا في عصور سعيدة معينة، وفي بلاد معينة، كبلاد اليونان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وروما في القرن الأول بعد الميلاد، وحتى حينئذ كان مقدار المواهب التي استنبطتها الظروف الملائمة المؤقتة محدودا؛ فإن المواهب الكامنة كلها، أو الأفراد الموهوبين جميعا، لا يجدون التشجيع المطلوب، وحينما تحل هذه الأوقات السعيدة، لا نعرف كيف نطيل أمدها.»
فعلقت بقولي: «إن الدراما لعهد إليزابث لم تدم طويلا، وقد بلغ ازدهارها ذروته فيما بين عامي 1590م و1612م، وما إن هل عام 1620م حتى بدأت في الذبول.»
قال: «كانت بذهني هذه الفترة بعينها. إن الفن يزدهر حينما يكون هناك إحساس بالمغامرة، إحساس بأن شيئا لم يتم عمله فيما سبق، إحساس بالحرية التامة للتجريب. أما حينما يدخل عنصر الحذر، فعندئذ يحدث التكرار؛ وفي التكرار، موت الفن. كانت عندكم هنا في أمريكا فترة طيبة حتى حوالي عام 1860م، وبعدئذ ساد الاعتقاد بأن الشيء لا يكون حسنا إلا إن كان مستوردا من أوروبا.» - «أجل، وإنك لتحس أن الرجال من أمثال أمرسن وثورو كانوا ينحونهم عن هذه العقيدة. أما بعد منتصف القرن فقد انتشرت الفكرة كما ينتشر الوباء.»
قال: «إن الحربين العالميتين قد حطمتا أوروبا وحررتا أمريكا.» - «إلا إذا انحرفنا من جراء افتقارنا للتجانس العنصري؟» - «بل إن الأمر على نقيض ذلك؛ فقد كان هذا الافتقار لكم كسبا، ولست أعرف حالة في التاريخ شبيهة بحالتكم، التي جمعت النفوس الحية المغامرة من مختلف الأجناس في بيئة ملائمة لخلق ثقافة كبرى، اللهم إلا في حوض البحر المتوسط في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد (وهو ألمع عصوره)، حينما كان الإغريق والفينيقيون والإيطاليون وغيرهم ممن لا أعرف يشقون البحر في الزوارق يخلطون الأجناس ويؤسسون المجتمعات الجديدة، وإن الأمر ليدعو إلى العجب إذا لم تفيدوا من موقفكم هذا.» - «لا أعتقد أني أدرك تمام الإدراك ما تعني من قولك: إن في التكرار موت الفن.» - «إذن فخذ فن البناء مثالا، لقد نشأت في بقعة في إنجلترا هبط فيها كل من جاء إلى بلادنا، من قيصر إلى إرساليات التبشير، إلى الدنماركيين، والنورمان، وغيرهم، وكانت كنيسة أبي مثالا، وكاتدرائية كانتربري مثالا آخر (وأستطيع أن أتصور الآن المكان الذي قتل فيه توماس أبكت، وسلاح الأمير الأسود في الجناح الجنوبي من المذبح). وقد اطلعت على الموضوع، ولا أومن البتة مع ت. س. إليوت برأيه فيما حدث في كاتدرائية كانتربري، وأؤكد لك أني لا أزعم أني أعرف كثيرا عن الموضوع، ولكني أحس أن الأمر لم يكن كما قال إليوت. إن كل العصور التالية راسخة في تلك المباني؛ جدران الكنائس القديمة، ثم الأقواس النورماندية الثقيلة، ثم الأقواس الغوطية الأخف والأشد زخرفة التي انحدرت من العهد الوسيط، وأخيرا الأقواس الغوطية المبالغة في الزخرفة التي جاءت من العهد الأخير؛ ولكنك لا تجد تكرارا، ولم يكن هناك سوى اعتماد طفيف جدا على ما سبق، وفي كل عمل بداية جديدة.»
قلت: «كنت منذ برهة تتحدث عن موت الحقيقة الذي ينشأ حينما يحاول الناس أن يقننوها في عقيدة ثابتة أو في نظام قائم يأملون أن يحتفظوا به للأجيال القادمة. وحتى أفلاطون، في شيخوخته على الأقل، كان - فيما يبدو - لا يود أن يجد مجتمعه المثالي فرصته (وربما كان ذلك في الواقع لأنه شهد الكارثة في أثينا). ولكن أليست الصعوبة في كل أمثال هذه المحاولات أن تشعب الوجود أفسح مجالا من أي نظام مهما اتسعت رقعته؟»
قال: «إن الرغبة في نموذج من نماذج الوجود ميل طبيعي شائع جدا، وهو ميل إلى أن يكون لتجربتنا معنى، وتطبيق، وأن يكون لها مغزى. إن فروض العلم لا تتغير، وقد لا يمثل النموذج شيئا أكثر من فكرتنا عن حياتنا، كما نود أن تكون، وقد لا يمثل شيئا أكثر مما نفترضه في عملية علمية، ولكنه لا يثبت أقدامنا؛ فإذا تحدثنا عن السذاجة، فالعلماء هم السذج، فقد رحبوا عدة سنوات بفروض تهدم مزاعمهم السابقة، وقد رحبوا بها كشرط من شروط التقدم، في حين أن علماء الدين - وأنا أعتبر علوم الدين المسيحي كارثة من أعظم الكوارث التي حلت بالبشر - هؤلاء العلماء لو اعترفوا بأن مزاعمهم قد انقلبت، عدوا ذلك هزيمة كبرى لهم (في حين أن موقفهم كان يتزعزع ويتبدل دائما، حتى إن عقائد اليوم - في بعض المستويات العقلية - لا تكاد تتفق في شيء مع عقائد الشعب نفسه - أو غيره من الشعوب المماثلة - التي سادت منذ سبعين عاما.) ولكن الأمر كذلك في العلم إلى حد كبير. وقد انقلب «تقدم» العلماء، سواء أدرك العلماء ذلك أم لم يدركوه.» - «ذكر كرسب ليك
1
في حضرتي ذات مرة أن أباه - وكان طبيبا باطنيا - سئل في شيخوخته عما كان له أكبر الأثر أثناء حياته في تخفيف آلام البشرية، فأجاب بقوله: «التخدير» وتدهور علوم الدين المسيحي. وكان ذلك في عام 1922م، وقد كان اهتمامه - كما كان اهتمامك - ب [علوم الدين].»
فأجاب هوايتهد بقوله: «ليست بنا حاجة إلى الخوض في هذا الموضوع، وهو: هل كان المسيح شخصية تاريخية مؤكدة من جميع الوجوه، أم هل كان من أولئك الأشخاص الذين تتعلق بهم حاجات عصر من العصور وأقواله وآماله؟ ويحسن - فيما أظن - أن نبدأ بطبقة وسطى زراعية في فلسطين، سليمة جدا، على درجة عالية من الثقافة بالنسبة لزمانهم ومكانهم (كما نقرأ في الكتب المقدسة في الكنائس القديمة، كإنجيل الملك جيمز في الكنائس)، ونبدأ كذلك بمستوى عال جدا من الأخلاق، ثم إلى جانب هؤلاء كانت الزمرة الأخرى في بيت المقدس، التي أستطيع أن أسميها «زمرة الأساتذة». وقد ظهر في نفس الوقت تقريبا خطيبان دينيان قويان شعبيان، وهما يوحنا المعمدان ويسوع، وكان كلاهما مكروها من الأساتذة في بيت المقدس؛ لأن تعاليمهما انتشرت، وأشاعت قواعد خلقية جديدة أشد نقاء؛ ولذا فقد أعدم أحدهما على يد هيرود، وهو حاكم وطني، كما أعدم الآخر على يد حاكم روماني. وفي الحق أنه لم يفعل ذلك بنفسه، ولكنه سمح لغيره أن يفعله. إن تعاليمهما التي ذاعت لم يكن فيها شيء جديد حقا؛ فقد عبر عن أكثر أفكارهما من قبل الأنبياء القدامى، الذين جرى في عروقهم الدم النبيل - أشعيا وعاموس وأرميا - ولكنهما عبرا عنها تعبيرا مباشرا قويا غير معهود.» - «وقد قلت من قبل - وربما كان الحديث موجها إليك - إن الاضطراب يبدأ بمفسري المسيحية؛ كان الحواريون قوما ثابتين إلى درجة تدعو إلى الإعجاب، وكان هناك في مبدأ الأمر أمل بأن تمتزج خصائص الأقطار الإغريقية القوية التي كانت تنتشر في العالم في ذلك الوقت - آراؤهم في الحرية، والديمقراطية، واستنكار الوحشية، وما إلى ذلك - كان هناك أمل في أن تمتزج هذه الخصائص بخير ما في الفكر اليهودي، الذي لم يكن كل ما فيه بطبيعة الحال بهذا السمو، ولكنه لا يخلو من ومضات الفطرة السليمة التي تنطوي على الخير والرحمة، ثم تبدأ الكارثة بعد ذلك، وتجدها عند كل من تلا من مفسري المسيحية من أغسطين، وحتى عند فرانسس الأسيسي؛ الرقة والرأفة في جانب من جوانب المسيحية، ولكنها تقوم منطقيا على مجموعة من الآراء المفزعة؛ فقد عاد الإله الجبار القديم، والحاكم الشرقي المستبد، وفرعون، وهتلر، وكل ما في العقيدة عندهم يرغم المرء على الطاعة من آلام الطفولة إلى عذاب الجحيم. وإنك لتجد عند أغسطين آراء تدعو إلى الإعجاب، فهو يشع الضوء إشعاعا. ثم إذا أنت بحثت في الأسس العميقة لمبادئه ألفيت هذه الهوة المفزعة. كانت قلوبهم على صواب ورءوسهم على خطأ، ولم تنبعث من رءوسهم دعوة طيبة. وتكاد لا تصدق أن العالمين - عند سنت فرانسس مثلا - عالم الخير والرحمة، وعالم الجحيم الأبدي، أمكن أن يستقرا في صدر واحد. هذه الكارثة الدينية هي ما أعني عندما أتحدث عن الشر الذي يترتب على اختفاء روح التجديد، وعلى محاولة وضع الحقيقة في صيغ جامدة، وعلى التصدي للقول بأن «ذلك هو كل ما هنالك مما يمكن معرفته في الموضوع، وبه ينتهي الجدل.»» - «وربما تحدثت إليك من قبل عن المدنية الجامدة في الصين؛ فقد أتى وقت كفت فيه الأمور عن التغير، وإن أردت أن تعرف السبب فاقرأ كنفيوشس، وإن أردت أن تفهم كنفيوشس فاقرأ جون ديوي، وإن أردت أن تفهم جيون ديوي فاقرأ كنفيوشس. أراد كنفيوشس أن يتخلص من الآراء السخيفة. إن الحقائق البسيطة ينبغي أن تكفيك، ولا تضيع الوقت في السؤال عن الغايات النهائية من وراء هذه الحقائق (واعلم أني أعجب أشد العجب بما جعله جون ديوي ممكنا في تطور جامعاتكم الغربية، وإنما أتحدث هنا عن نتائج مبادئ البراجماتية، أو المذهب العملي.) وهكذا عرف الصينيون الإبرة المغناطيسية. إن الحديد إذا وضع في أوضاع معينة يجعل المشير يتجه نحو الشمال. ويقول كنفيوشس: «وينبغي لك أن تكتفي بهذا.» ولكن حينما دخلت البوصلة المغناطيسية غربي أوروبا، ماذا حدث؟ شرع الناس في الحال يوجهون الأسئلة السخيفة: لماذا؟ ما الذي يجعل الإبرة تتجه نحو الشمال؟ ثم تبعت ذلك في الحال نتائج مثمرة من كل الأنواع؛ فعلوم الرياضيات التي كادت تكون عديمة الفائدة لمدة ألفي عام تحولت إلى أداء الخدمات ... وما إلى ذلك. وهذه هي الأسئلة «الزائدة بعينها التي تتجاهلها البراجماتية».» ثم ابتسم وقال: «إنك بالطبع إذا ذكرت كتابة أن الفرد ينبغي أن يصغى إليه، وأن هذه الأسئلة السخيفة ينبغي أن تسأل، تنبه في الحال ثلاثة آلاف معتوه وضايقوك بخطابات تحوي أسئلة سخيفة فعلا !»
قلت: «هذا حق؛ لأني ذكرت ذلك كتابة وضايقني ثلاثة آلاف معتوه بخطاباتهم.»
وواصل حديثه قائلا: «ولكن المهم هو أن [السؤال السخيف] هو أول إشارة إلى تطور جديد كل الجدة. هب أننا أخذنا بهذا المبدأ في مجال الأخلاق. وما هي الأخلاق في أي وقت معين أو مكان معين؟ إنها ما تميل إليه الأغلبية في ذلك الوقت وذلك المكان، وسوء الأخلاق هو ما يمقتونه. بيد أن [السؤال السخيف] إذا طبق على الأخلاق يفتح الطريق إلى استكشاف غايات قليلة تكمن وراء كل المذاهب الخلقية، وهو مجال لم يتم فيه حتى الآن إلا القليل.»
المحاورة الثالثة والعشرون
10 من سبتمبر 1941م
كنت قد ذكرت للأستاذ هوايتهد في أوائل الصيف أني دونت محادثاته في مذكراتي منذ عام 1933م. وكان يعلم أني قد استخدمت أجزاء منها بين حين وآخر، منقولة بحرفها تقريبا في افتتاحيات صحيفة جلوب؛ لأني كلما فعلت ذلك أرسلت له عددا من الصحيفة. ويرجع السبب المباشر - في ذكر ما قلت له - أن نورث ومارجوت وأريك، ابنه، وزوجة ابنه، وحفيده، كانوا في إنجلترا، واثنان منهما - هما نورث ومارجوت - في لندن تحت وابل القنابل. وفوق هذا الهم الشخصي، كان قلقه على إنجلترا، وعلى أوروبا، وعلى مستقبل الحضارة. وقد عانى من الحرب عناء شديدا فريدا؛ لأنه كان يدرك - أكثر من غيره - ما يهدد مستقبل البشرية من خطر.
ولم يدر بخلدي نشر هذه الأحاديث. وإنما كنت أرمي إلى أن أقدم له لونا جديدا من الترفيه - مهما يكن وجيزا - من هذا الجهد اليومي، الذي بدأت تظهر آثاره بصورة واضحة، وقد بدأت في طبع هذه المحادثات على الآلة الكاتبة في منتصف الصيف، وكنت أرسلها إليه كلما تم طبعها. وسرت على ذلك في الصفحات المائة الأولى تقريبا، واستنفدت الفترة ما بين 1933م و1937م، وفي نيتي أن أتابعها في الخريف حتى ألاحق بها تاريخ اليوم.
وكان اليوم الأربعاء، العاشر من سبتمبر من عام 1941م، وتوجهت إلى كمبردج لكي أراه في الأصيل. وقد بدأت أشجار الدردار في فناء الكلية تزدهر قبل الأوان المعتاد، وإن يكن اليوم ما يزال صائفا حارا رطبا.
وكان مسكنه في فندق إمباسادور في الطابق الخامس، فكان باردا يتخلله الهواء، والستائر الڤينيسية ترد وهج الشمس. وكان اليوم مما يقضيه هوايتهد في الفراش، فاستقبلني في حجرة النوم، وهي حجرة بهيجة، تضيئها الشمس، وجدرانها ملونة باللون الأزرق الفاتح. وقد جلس مستندا إلى الوسادات، وإلى جواره مكتبة صغيرة، تبدو رطبة مريحة.
وكان يطالع ما تم طبعه من المحاورات، وقد ألفى في مادتها مضمون أقواله فرضي عنها، ثم سأل: «كيف تستطيع التذكر بكل هذه الدقة؟»
فذكرت له خبرتي السابقة؛ إذ كنت في شبابي مراسلا يكتب بالاختزال، وقضيت ثلاثين عاما أتدرب على تسجيل أحاديث الآخرين.
وتصفح المحاورات المطبوعة، وكان يتوقف هنا وهناك.
ثم قال: «إن آمالك في نشر هذه المحاورات لا تبشر بالخير في الوقت الحاضر؛ لقد انحدرت من عائلة طويلة العمر. ولما مات جدي في السابعة والثمانين تنهد صديقه القديم سر موزيس منتفيور صائحا: «مسكين هوايتهد؛ فقد اقتطف في زهرة العمر».»
قلت: «لو استطعت أن أستبدل بك كتابا عنك كانت صفقة خاسرة.» - «لقد اقتضبت ملاحظاتك الخاصة أكثر مما أحب.» - «إن هدفي من الكتابة هو أن أذكر ملاحظاتك أنت.»
واقترح علي إذا واصلت تسجيل الأحاديث في المستقبل، أن أروي ملاحظات المتحدثين الآخرين بدرجة أكثر إسهابا. وتفاهمنا دون أن نطيل الكلام، وكان ما تفاهمنا عليه هو هذا: أن الآراء التي يقدمها المتكلمون الآخرون ضرورية لتدفق الفكر، حتى إن لم تكن ذات أهمية خاصة في حد ذاتها؛ المحاورات تبادل في الرأي. ولمست أنه لا يحب أن يظهر بمظهر المستغرق في الحديث الفردي أو المحتكر للكلام، وهو براء من هذا وذاك. ولما كانت محاورات، فهي تسير على المبادئ التي أشار إليها في محاورات أفلاطون، حيث تجد متكلمين متعددين يقدمون آراء مختلفة، دون أن يحاول أحد منهم أن يكون يقينيا حاسما.
وقلت معتذرا: «لنعد إلى الحديث في الهلينية والعبرية، وقد تعتقد أني أكثرت من إثارة هذا الموضوع، ولكن عذري - إن صح أن يكون هذا عذرا - هو أني أنفقت السنوات أدرس العلاقة بين هاتين القوتين الأساسيتين في المدنية الغربية، وأنت أحد الأشخاص القلائل الذين يمكن أن يكونوا ذوي فائدة لي؛ فقد قرأت الكتب وقمت بالتفكير، وربما كان لتكرار البحث هذه الميزة: وهي أن يعود الموضوع ناميا متطورا، كما يحدث في النغمة المتكررة في القطعة الموسيقية.»
قال: «إن اليهود - كجنس - ربما كانوا أقدر الأجناس في الوجود. وإذا كان الشخص الموهوب ساحرا، ويستخدم قدرته الخارقة في مصلحة الآخرين، قلنا: إنه نموذج الكمال، وعبده الناس. وعلى نفس القياس، إذا كان هناك الشخص صاحب القدرة الخارقة منفرا غير محبوب، فإن قدرته تزيد من النفور منه ومن كراهيته. ومن ثم فإن الأفراد المنفرين في هذا الجنس هم الأكثر بروزا.»
فقالت مسز هوايتهد: «إن نفور الناس منهم لا يزيد قيد أنملة عن نفورهم من الأنجلوساكسون. وقد نشأت في بريتاني، ثم رحلت إلى إنجلترا، فكنت حديثة التعرف بالجنسين، فأنا إذن على علم.»
قال: «من الإنجليز طائفة على يسار، ترتكز على عماد من الملك والأسرة، يمتد تاريخها إلى جيلين أو ثلاثة مضت، وهؤلاء ثمرة لخبرة ضيقة، وتعاطف محدود، عرفوا في العالم كله بأنهم قوم ينفر منهم الناس.»
قلت: «هذه شخصية يصورها الأدب.»
قالت مسز هوايتهد: «أجل، بل ويصورها أدب بلاده.»
فقال الأستاذ: «وإلى جانب هؤلاء هناك آخرون على شيء من الضيق المالي هم الأبناء الثواني أو الثوالث في الأسر المتيسرة، حرموا من الميراث طبقا للقانون الإنجليزي الذي يورث الابن الأكبر وحده. إنهم يذهبون إلى المستعمرات، ويحسنون السلوك، ويلقون احتراما كبيرا، ويستخدمون مواهبهم في الإنشاء والتعمير.»
وعدت إلى الحديث في أمريكا والفن في القرن الحالي، وهو موضوع لم يتجه وجهته الصحيحة في حديثنا السابق.
قال: «إنني لم أقصد أن أقنعك بأن الفنان ليس شخصية غاية في الأهمية في أمريكا اليوم. الواقع أنكم هنا الآن في موقف يشبه في كثير من الوجوه الموقف في بلاد البحر المتوسط التي تقع حول بحر إيجه فيما بين عام 1000ق.م وعام 100 بعد الميلاد على وجه التقريب. كان هناك يسر شديد في النقل المائي، تسهله مجموعة من الجزر ذات موقع مناسب. وقد ساعد ذلك على نقل الأفكار وامتزاج الأجناس الموهوبة. إن الجنس [النقي] يرجح أن يكون غبيا - مثل أهل لاسديمون - ولكنك إن مزجت عنصر آتكا مع الغزاة الدوريين أو أهل أبونيا بالآسيويين، وصلت إلى نتائج باهرة. وأعتقد أن المكان الوحيد الذي زرته ووجدته شديد الشبه بأثينا القديمة هو جامعة شيكاغو. ومن ثم ترى أنني أبحث عما يضارع عندكم في أمريكا ما كان في البلاد التي تقع حول بحر إيجه، وأعتقد أن ذلك يتحقق في الغرب الأوسط.»
قلت: «من الناحية الجغرافية قد يكون الغرب الأوسط عندنا كبلاد بحر إيجه. ولكن وسيلة النقل هنا هي السيارة.»
قال: «إن الحوادث الكبرى، وهي النقاط التي ينتقل منها تاريخ البشر انتقالا جديدا، هذه الحوادث، قلما تكون - بل هي لا تكون قط - ثمرة لسبب واحد، إنما هي تنشأ حينما يجتمع سببان أو ثلاثة. وأضف إلى سيارتكم انهيار أوروبا. (ولم يعد من الضروري لعلمائكم أن يذهبوا إلى برلين أو لندن لكي يتعرفوا ما يجري. بل إن ذلك في الواقع أمر مستحيل). ولهذين السببين: انهيار أوروبا والسيارة، أضف عاملا ثالثا، وهو امتزاج عناصر من أجناس عديدة ممتازة هنا، وقد بدأ الأفراد الموهوبون - نتيجة لهذا الامتزاج - في الظهور. وينبغي ألا ننسى وسائل الاتصال والنقل السريع؛ الطائرة واللاسلكي، التي وحدت الحياة في هذا الكوكب. ووضعت أمريكا في قمة المدنية الحديثة.»
وعاد إلى الحديث في مكانة الفنان في تطورنا القومي، فقال: «وفي الفنون أيضا، تنتقلون انتقالا عظيما حينما يعالج البسطاء عندكم - لأنهم شديدو الاهتمام بمهام الأمور - موضوعا قديما من زاوية جديدة. لقد كان أهل البحر المتوسط يمتازون بالبساطة، أما في نيويورك - مثلا - فإن طراز الرجل الأمريكي يميل إلى التعقيد؛ إذ إنهم قد سمعوا بكل شيء، ويرون أن الموضوعات الساذجة قد باتت مطروقة. هذا هو حالهم، ولكن الفن العظيم هو معالجة الموضوعات البسيطة معالجة جديدة. أي شيء كثر ترداده من قبل كموضوعات مسرحيات شكسبير؟ حقا لقد كان يضع حوادثه هنا أو هناك في الزمان والمكان. ولكن شخصياته كلها إنجليزية من عهد إليزابث ينظرون إلى هذه المشكلات القديمة والبسيطة في ضوء الحياة المعاصرة. إن موضوع [هاملت] قصة قديمة، انقضى عليها ثلاثة آلاف عام قبل أن يتناولها شكسبير، ولكن القوم البسطاء ينظرون إلى كل موضوع نظرة جديدة؛ ولذا فهم يتناولون الموضوعات القديمة ويخلقون منها شيئا جديدا.» - «هل تذكر جيته، في أواخر القرن الثامن عشر؟ حينما بدأ الناس يهرعون إلى أمريكا؛ إذ جعل أحدهم يعود من أمريكا إلى أوروبا ويقول: «هنا - وليس في أي مكان آخر - تكون أمريكا».»
فقال هوايتهد: «لقد انقلب الوضع؛ انهارت أوروبا، والمدنية بين أيديكم، والآن هنا - وليس في أي مكان آخر - تكون أمريكا.»
وتحدث عن الدور الذي قد يلعبه الكاثوليك في مستقبلنا.
قال: «تكاد الولايات المتحدة أن تكون الميدان الوحيد الذي يبشر بالخير ولم يطرقوه؛ إنجلترا في القرن السابع عشر، وفرنسا في الثامن عشر، أما ألمانيا وإيطاليا فهما في أيدي الفاشيين، وإسبانيا في ثورة، والميكسيك شيوعية، وأمريكا الجنوبية لا تجدي كثيرا. وإني لأعجب لنفوذ الأساقفة الأمريكان في روما! إن الماركسية تعتبر اليوم عدوهم الأول؛ أقصد قوة الدافع الاقتصادي. إنهم لم يتخلوا عن مكانتهم خلال القرون إلا بالتدريج البطيء. كان البابا من عام 1000 بعد الميلاد إلى عام 1500م - فيما أحسب - أقوى شخصية في أوروبا، ثم تحداه ملوك التيودور في إنجلترا، ومنذ ذلك الحين فقدت البابوية تأييد البوربون وهوهنزلرن وهابسبرج. وأخذت الكنيسة المحل الثاني بعد الدولة الوطنية. ولكن رجال الدين الكاثوليك يكيفون أنفسهم للظروف الخارجية المتغيرة.»
وقبل أن أغادره كنا نتناقش في طرق الإنشاء، وهل ستسيء الآلة الكاتبة إساءة دائمة إلى كتابة النثر الإنجليزي.
قال: «إن الناس ينشئون بإحدى طريقتين، وقد لاحظت ذلك أولا حينما كنت أضع كتابا بالاشتراك مع برتراندرسل؛ كان يحب الكلمات، وكانت الكلمات في الواقع تسد حاجته الشديدة إلى التعبير، وقد اعترف بذلك. ولكن الناس ينشئون إما بالكلمات مباشرة، والكلمات تعبر عن أفكارهم عن الأشياء، أو ينشئون بالصور العقلية، ثم يحاولون أن يجدوا الكلمات التي يمكن أن تترجم إليها هذه الصور. وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أن طريقتي الخاصة هي الثانية.»
المحاورة الرابعة والعشرون
19 من نوفمبر 1941م
في ليلة عيد الشكر تناولت العشاء مع آل هوايتهد في كمبردج. ولما تقدم المساء بحثنا فيما إذا كان بالإنجيل عون كبير لقوم مثلنا خلال الاضطرابات العالمية الراهنة. وقال: إنه لم يعد فيه له شيء كثير في أية ناحية من النواحي. وذكرت له الكلمات المباركة في إنجيل متى، وبعض أقوال يسوع، وقصة اليشع فوق جبل كرمل.
قال: «إنها قصة عظيمة، ولا شيء غير ذلك.»
قلت: «إن الرجلين اللذين لم يخيبا ظني قط، هما بيتهوفن وأفلاطون.»
فأجاب في هدوء: «إن أفلاطون هو الرجل العظيم.»
وسألته: ماذا كان يقرأ؟
فأجاب في شيء من التعب: «إنني في حالة إجهاد عجيبة. ومن ثم فإنه من العسير أن أقول لك ماذا أقرأ؛ فأنا أحاول موضوعا حينا، وموضوعا آخر حينا آخر.»
وقالت: «وقد يصيب أو يخطئ.»
وتحدثنا عن رجال الدين البروتستانت، وذكر أن جماعة من القسيسين جاءوا إليه، فبهرته قدرتهم الفائقة، وألفاهم «أحرارا، واسعي الأفق، مستعدين لمجابهة المواقف، واعتقدت أنهم - كمجموعة - أرقى من هيئة التدريس بهارفارد.»
وكان الجدل بين ثلاثتنا. - «وتسألني: من ذا الذي يؤيد رأيي في هذه الأيام السيئة؟»
لقد تخلى عن الإنجيل. وقلت: إن جمال الطبيعة يهبني بين الحين والآخر لحظات من الطمأنينة. إن الخضرة المتلألئة لأمواج البحر المتكسرة التي تومض قبل أن ترغي بلحظة، سيظل هذا المنظر جميلا بعد اليوم بمائة ألف عام. إنه الخير والحق، ولا يقتضيني شيئا. ويباح لي دون قيد أن أغترف من صفته الأبدية.
قال: «إن بعض ما يسندني بقوة أستمده من الشعراء الإنجليز. ولا أذكر منهم شعراء القرن الثامن عشر، وبوب خاصة، وإن كنت أحب الرجل الذي صور المقبرة - ما اسمه؟ جراي - ولكني أقصد رجال القرن التاسع عشر والسابع عشر.» ثم تحدث وهو في حالة من الإجهاد قائلا: «ومهما يكن من أمر، فإن خبراتي منذ الحرب العالمية الأولى جعلتني أجد قراءة الشعر اليوم أمرا شاقا. فإذا كان لديك المشاعر التي يحاولون تصويرها، وإذا أحسست بالفعل إحساسا عميقا، وجدت أن الشعر لا يترجم عنها.»
المحاورة الخامسة والعشرون
10 من ديسمبر 1941م
كان ذلك بعد هجوم اليابانيين المفاجئ على أسطولنا في بيرل هاربر بيومين. وبعد العشاء في نادي الأساتذة حيث كنت برفقة لويس ليونز الذي عاد لتوه من واشنطن وفي جعبته أنباء لا تسر (وهو وكيل مؤسسة نيمان بهارفارد) سألت آل هوايتهد بالتليفون: أأستطيع أن أزورهم نصف ساعة.
ولحسن حظي لم يكن عندهم غيري. ولما كان لا يشغل أذهاننا سوى بيرل هاربر خلال اليومين السابقين، كان بيننا اتفاق مكتوم على أن نتحاشى الخوض في هذا الموضوع.
وجلس هوايتهد ومعه ظرف يحتوي على مجموعة الصحائف التي طبعتها على الآلة الكاتبة حتى ذلك الحين، وارتدى نظارته، واستغرق في الأوراق يصححها هنا وهناك.
قال: «من غير المألوف أن نجد سجلا معتمدا للأحاديث في وقت من أوقات الماضي.»
وأجبت بقولي: لا أذكر في الوقت الحاضر إلا «جونسن» لبزول وأحاديث أكرمان مع جيته. وأحاديث أكرمان قلما تكون محاورات عامة بمقدار ما هي أحاديث فردية يلقيها جيته، وإن تكن لها قيمتها.»
قال: «إن الروائيين لا يضربون بسهم وافر في هذا السبيل؛ لأنهم يهتمون دائما بتطور القصة. وإن كنا بين الحين والآخر نجد روائيا متوسطا مثل أنتوني ترولوب يعيد بدقة نوع الكلام الذي كنت أسمعه من أصدقاء أبي حينما كنت صبيا، قسيس القرية ومعه في بعض الأحيان القمص والأسقف.»
قالت: «وبعد ذلك، استمرت هذه الأحاديث حينما جئت إلى بيتكم، وإني لأذكر ذلك جيدا.»
قال: «إن رسائل المؤلفين قلما تقدمها إليك؛ لأنهم يعرفون دائما - سواء أقروا بذلك أم لم يقروا - أن رسائلهم ستطبع. وما تريد الأجيال القادمة أن تعرفه حقا هو ما كان يتحدث فيه الناس عند اجتماعهم، وهم لا يجدون من ذلك إلا القليل. وأعتقد أن صحائفك هذه ستكون أعلى قيمة بعد مائة عام منها اليوم.»
وقالت مسز هوايتهد وهي تبتسم: «ولا بد قبل طبعها من انتقالها بالوراثة من يد إلى يد بضع مرات، وستكون المرة الأولى من لدنا. إننا نتحدث معك دون أي تحفظ.» «أنا أعلم ذلك، ومن ثم لم يطلع على هذه الأحاديث أحد سوى أختي، التي قامت بطبعها على الآلة الكاتبة. وقالت: إنها تصلح «مقدمة لهوايتهد»، وإن الأفكار المجردة التي قد يشق على القارئ المتوسط أن يدركها من كتبك المنشورة، تظهر هنا في حديث طارئ، سهلة المنال. إن كثيرا من مادته - فيما يبدو لي - جديد، ولست أذكر كثيرا، بل لعلي لا أذكر شيئا منه، في كتبك.» - «كلا، إنك لا تجده في أي كتاب من كتبي ... كنت أحاول أن أتذكر اسم ذلك المالي الروماني الذي كان شيشرون يراسله - هو أتيكس. إنك تجد فيما بينهما مثالا من الحديث في العالم القديم - تجد على الأقل الموضوعات التي كانت تهم المتعلمين، كما تجد بعضها عند أفلاطون، وإن الرجل المتعلم نفسه في أثينا لم يبلغ بطبيعة الحال ما بلغ أفلاطون خلال محاوراته كلها أو حتى أكثرها.»
قلت: «يحدث ذلك أحيانا، وإن كنت تجد أن بعض ما ذكر أفلاطون يصدر عن الحياة مباشرة. وتحضرني الآن تلك الحكاية الهزلية التي وردت في «لا كيز» عن معركة بحرية كان يحارب فيها أحد الملاحين بحربة مسنونة، سددها في حبال سفينة أخرى ولم يستطع انتزاعها. ولكي تسير السفينتان كل منهما بحذاء الأخرى؛ انطلق على ظهر سفينته متعلقا بطرف مقبض الحربة حتى اضطر إلى تركها في النهاية. وقد كف بحارة السفينتين عن القتال؛ كي يضحكوا ويظهروا إعجابهم بهذا العمل. وكانت حربته تهتز في الهواء معلقة بالسفينة لأخرى. وليس من شك في أن هذه القصة قد انتشرت في كل أنحاء أثينا.»
فقال هوايتهد: «إنك تجد هذه اللمسات الحية في «المحاورات الأولى»، وقد استعاد إلى ذهنه تلك المحاورات وهو سعيد بذكراها، وأخذ يروي لنا قصة أو قصتين أخريين من هذا الطراز.» ثم واصل حديثه قائلا: «إن الكتابة لا تبرز إلا الخبرات السطحية نسبيا، كما أن الإنسان لم يستخدمها إلا وقتا قصيرا نسبيا - نحوا من أربعة آلاف عام تقريبا - أولا في صورة قطع حجرية منحوتة، يعلن فيها الملوك قراراتهم وأمجادهم، ثم على أوراق البردي. إن الناس لم يدونوا أفكارهم إلا منذ نحو ثلاثة آلاف عام أو أقل من ذلك، من عهد هومر على وجه التقريب. أما قبل ذلك بأجيال عديدة فقد كان هناك مقدار ضخم من التجارب البشرية، متجسدة في أجسام الناس؛ فقد كان الجسم - ولا يزال - تجربة كبرى. إن مجرد الانسجام بين أعضائه التي تؤدي وظائفها أداء صحيحا يمدنا بفيض من المتعة اللاشعورية. إنها متعة لا يمكن التعبير عنها، وليست بها حاجة إلى التعبير عنها، ولكنها في مقدارها - بل وفي دلالتها - تشمل أفقا أكثر اتساعا بدرجة كبيرة من أفق الكلام المكتوب؛ فهذا الأخير - بالقياس - تافه في أكثر الأحيان.»
فعلقت على ذلك بقولي: «حتى مع أعظم كتاب الكلام المكتوب، من أمثال دانتي وجيته وأيسكلس، يرى المرء أن عباراتهم فاترة إذا قورنت بالخبرة نفسها. إن جيته لم يستطع إلا أن يشير إلى التعاسة والفزع في مأساة جرتشن. ولا يمكن أن يكون «جحيم دانتي» إلا صورة ضعيفة لما كان في خياله، أو مقتل أجاممنون، وما سبقه وما لحقه من آلام؛ أين هو في الصورة منه في الواقع؟! ربما كان ما تستطيعه الكلمة المكتوبة أن تعيد إلينا خبراتنا الخاصة، أو تعطينا لمحات عن خبرات يحتمل أن نمارسها. وما دمت تقول: إن الكلمة المكتوبة سطحية نسبيا، فما الذي يأتي أولا كخبرة واعية عميقة، بعد هذا الفيض من مجرد المتعة الذاتية البدنية؟»
فأجاب قائلا بعد فترة طويلة من التفكير: «المعايير الخلقية فيما أظن. وحتى الكلاب عندها هذه المعايير، في شكل محبة ساذجة وولاء.»
قلت: «حتى ذلك العالم النفساني رقيق الحاشية وليم جيمس كان شديد الاهتمام بسلوك الكلاب، عظيم التأثر بمحبتها. وكان أحيانا يستخدمها أمثلة توضيحية أثناء محاضراته.»
ولاحظت مسز هوايتهد «أن الكلاب في هذا خير من القطط؛ هل لاحظتم كيف ينقسم الناس في ميولهم؛ ففريق يميل إلى القطط، وفريق آخر يميل إلى الكلاب؟ إن القطط محبة لذاتها، لا تفكر إلا في نفسها.»
قالت ذلك، وقد تركت للسامع أن يستنبط الحكم على الكلام، بيد أن هوايتهد نطق به، فقال باسما: «إذا وثب الكلب في حجرك فذلك لأنه مغرم بك، وإذا فعل القط ذلك فلأن حجرك أشد دفئا.»
وسألت: «هل عرفت فيما مضى أن من الناس من تغلب فيهم صفات القطط، ومنهم من تغلب فيهم صفات الكلاب؟! فهناك شخصيات كلبية تتميز عن الشخصيات القطية، ومن الشخصيات القطية أولئك الذين «لا يحبون الناس». وماذا تعني بالضبط هذه العبارة؟»
ورأت مسز هوايتهد «أن معناها تركيز اهتمام المرء في نفسه. تلك الطبيعة التي ترى دائما [أنها لم تنل قط ما تستحق]. والصفة الأولى فيما أعتقد تولد الصفة الثانية.»
ثم وجهت هذا السؤال: «بعدما تطورت القيم الخلقية عند الإنسان الأول (ما دمنا نفكر في الأصول الأولى) ما الذي جاء بعد ذلك في ظنك؟»
قال هوايتهد: «القيم الجمالية؛ حينما يسهر البلبل طوال الليل يغني لأنثاه - ويجيد الغناء - لا يمكن لأحد أن يقنعني أن القيم الجمالية من الطراز الأول معدومة.»
وسارعت مسز هوايتهد تقول: «اذكر له قصة بلبلنا المسكين في سري.» ولما بدا عليه أنه لا يعرف ماذا يقول في هذه القصة، شرعت تتحدث فقالت: «كان لنا كوخ في أوائل الربيع. وفي أول مايو بعد وصول البلابل، تساقط الثليج، صدقت ذلك أم لا تصدق. وأصيب البلبل المسكين بالبرد، ولكنه واصل الغناء، ولم يستطع أن يعود إلى النغمة الصحيحة طوال الصيف.»
وقال هوايتهد باسما: «نعم، لقد كان من خبرتنا الاستماع إلى بلبل يغني غناء لا ينسجم مع النغم.»
قلت: «إني لأوثر أن أستمع إلى أداء يضع فيه صاحبه قلبه، على أداء تراعى فيه الأصول ويتنزه عن الأخطاء.»
فقال هوايتهد: «والأمر صحيح بالنسبة إلى الأشخاص؛ فهم أقوى أثرا إذا كانوا على طبائعهم منهم بما يرد على ألسنتهم مهما يكن. وحتى حينما تستخدم الكلمات للتأثير بها، فإنها تكتسب الكثير من الوجود المادي للمتكلم؛ فالحرارة والنبرة والتأكيد إنما تصدر عن الجسم والروح.» - «إن أحسن الكتابة بطبيعة الحال هي محاولة نقل بعض تلك النغمات التي يرن بها الصوت، وتصدر عن الشخصية المادية؛ محاولة نقلها إلى كلمات مكتوبة.»
فقال: «نعم، ويتم ذلك أحيانا بنجاح يدعو إلى الدهشة، وهذه خصيصة من خصائص الكتابة الممتازة.»
قلت: «إنك فيما ذكرت الآن تؤيد صورة في خاطري عن الغرباء أدركتها منذ سنوات، وهي ليست دائما صورة عما عندهم من خير أو جمال، وإن كانت كثيرا ما تتأثر بالخير والجمال، إنما هي أشبه بإشعاع ينبعث لا شعوريا عن وجه الغريب وبدنه وروحه؛ ذلك الغريب الذي لم يعرف من قبل قط، وكأن حاسة لاسلكية عند الرائي تلتقط هذا الإشعاع، فتشير بطريقة ما إلى أن لدى هذا الشخص الغريب ما يثير الاهتمام، ويدل على الحيوية.»
فقالت مسز هوايتهد: «ليس في هذا ما يدهشني، وقد كنا منذ برهة نقرأ سيرة مسز مارجريت دلاند بقلمها: «وإنك لتجد الكتاب على النضد الصغير عند مرفقك.» هل تعرف هذه السيدة؟» «كلا، لم يسعدني الحظ بمعرفتها؛ كانت إحدى المؤلفات المعاصرات لأمي، والمحببات إلى نفسها. ألم تبتعد هي وزوجها قليلا عن الحياة الاجتماعية في بوسطن؟»
قالت: «ذلك ما قصدت إليه ... إيواؤهما في بيتهما للأمهات اللائي لم يتزوجن، وإنقاذهما لهن من الانتحار والسقوط، وحملهما لهن على الاستقامة؛ وذلك بإتاحة الفرصة لهن لكي يعدن تنظيم حياتهن حول محبة الطفل؛ حتى يستطعن أن يقفن على أقدامهن. وفي مثل هذا العمل تجد معنى قيمة الغريب وما يثيره من اهتمام حتى في ظل السحب القاتمة.» واسترسلت في حديثها عن خبرة لها في إنقاذ فتاة جميلة: «... تبدو عليها أعراض السل، فسقتها إلى أحد عشر مكانا في لندن قبل أن أجد مكانا يقبل إيواءها. ذهبت أولا إلى بيت من بيوت الكنيسة الإنجليزية، فقيل لي: [إننا لا نؤوي الطبقة الثانية من مرتكبي الآثام] ... وهكذا حتى بلغنا. إلى أين تظن؟» - «إلى جيش الخلاص.» - «أجل، وهناك استقبلونا كأنا أصدقاء طال انتظارهم إياهم، وآوونا كأنا ضيوف حللنا بهم في نهاية الأسبوع. وسألت: كم يكلف بقاؤها هناك؟ فأجابوني: «لا شيء.» ثم قالوا: «إذا استطعت الدفع فنحن بالطبع نتوقع منك ذلك، ولكنا لا نتقبل ما تدفعين إلا لكي نستطيع أن نؤوي شخصا آخر.» ولبثت الفتاة هناك خمسة عشر شهرا باختيارها، وكانت في منتهى السعادة.» - «وماذا حدث لها في النهاية؟» - «تزوجت من بائع خضراوات، ولما كانت مصابة بالسل فقد لبت نداء ربها في شبابها.»
وسألت هوايتهد: «في أية مرتبة تضع جيش الخلاص باعتبارهم مسيحيين؟»
قال: «في مرتبة ممتازة؛ إنهم يأخذون دينهم المسيحي في بساطة.» - «في بساطة سر فرانسس الأسيسي؟» - «بل أبسط منه بكثير؛ فإن علوم الدين السيئة لا تعرقل سلوكهم كما كانت تفعل معه.»
وأثرته بقولي: «أنت إذن ترى علوم الدين أمرا سيئا؟»
فقال: «إن المشكلة تنشأ عن التفكير في الدين بالعقل؛ لم يكن المسيح عميقا في تفكيره العقلي، إنما كانت لديه البصيرة النافذة، وقد بدأت الإنسانية في شرق البحر المتوسط فيما بين عامي 500ق.م و200 بعد الميلاد تكتب ما يتردد في صدرها من أفكار. فنجم عن ذلك عصر عظيم. وإنني أشير هنا بطبيعة الحال إلى الرجال الموهوبين بدرجة استثنائية الذين دونوا أفكارهم. إن بولس يهبط هبوطا شديدا عن مستوى يسوع، وبالرغم من أن من بين تابعيه أشخاصا لهم قدرهم، إلا أنهم يصورون الله - فيما أرى - كما يصورون الشيطان.» - «وما رأيك في البوذية؟» - «إنها دين الهاربين؛ ينطوي المرء على نفسه، ويدع الأمور الخارجية تسير على مشيئتها، وليس فيها تصميم على مقاومة الشر، إن البوذية لا ترتبط بالمدنية المتقدمة.»
المحاورة السادسة والعشرون
5 من أبريل 1942م
وأخيرا حل الربيع. وكان المساء من ليالي الربيع اللطيفة الأولى، التي تهب فيها نسمات منعشة لا تعرف من أين مأتاها، ويغرد فيها الهزار، حيث تزدهر في فناء الكلية أزهار الربيع الصفراء اليانعة، وأزهار شجر اللوز القرنفلية. وبعدما تناولت العشاء في نادي هيئة التدريس، اتصلت تليفونيا بمسز هوايتهد، وسألتها: أأستطيع أن أؤدي لهما زيارة؟
فقالت: «تعال فورا، ولن تقابل لدينا أحدا سوى جريس دي فريز.»
ولا يبعد فندق أمباسادور عن النادي سوى مسيرة خمس دقائق، وكانت السماء ناحية الغرب تتلألأ بلون أحمر داكن ملتهب، يبدو من فوق قمم أشجار الدردار. ولم أكن قد رأيت آل هوايتهد منذ شهر فبراير، وهكذا تسير المدينة في الشتاء؛ بغير قلب. وكان يبدو على مسز هوايتهد التعب، ولكنها متألقة كعادتها، وكان باب مكتب الأستاذ مغلقا، فجلسنا برهة نتحدث في غرفة الجلوس، حيث كانت تحتفظ بآنية مليئة بزهر البنفسج الإنجليزي، ووضعت على النضد المجاور لمقعدها. والزهر ينشر أريجه في أنحاء الغرفة، وتحدثت عمن تعرف من النساء اللائي يستطعن أن يبعدن عن أذهانهن البتة كل ما تثير الحرب من أفكار.
قالت: «لا يجب أن يحدث ما تنقبض له نفوسهن؛ فالسعادة ضرورية لصحتهن ... ويجب أن يحصلن على ثياب جديدة كل الجدة، وإلا كن مشعثات! كيف تفكر هذه العقول؟! إنها فوق مستواي. إنني - من الوجهة النظرية - أغبط هذا الانعدام في الإحساس. ولكني في الحقيقة أوثر أن أموت على أن أتجاهل ما يدور حولي من حوادث إلى كل هذا الحد.» - «ما دمت قد قدمت الاعتراف، فسوف أقدمه كذلك. وأنا أعرف واحدا من هؤلاء الذين يثيرون الحسد من الوجهة النظرية؛ إنه نموذج لصاحب مزرعة، رجل غاية في الرقة، الدنيا كما هي تلائمه كل الملاءمة، ويلائمها كل الملاءمة. وأشك في أنه شعر ذات يوم بحاجة إلى غير ما يملك؛ بيت كبير، وملعب للتنس، وزوجة، وأسرة، ودخل طيب. وفي لحظات يأسي أقول لنفسي: لماذا لم تستطع أن تكون على غراره؟» - «ولكنك لا تعني ما تقول لحظة واحدة في حياتك.» - «كلا ولا شك؛ كيف حال ألفرد في طقس هذا الفصل من العام؟» - «إنه دائب على العمل، وهو في بعض الأيام أصح منه في بعضها الآخر. ولكنه لا يعاني أمرا خطيرا.»
ثم نهضت وفتحت باب المكتب.
وقالت في صوت منخفض: «إن لوشيان هنا.»
ونم صوته في الداخل عن ترحيب قلبي.
وولجت الغرفة، وكان يجلس على أحد المقاعد الكبيرة، وتحت قدميه ما يسندهما إليه، يقرأ مكتوبا بحروف مطبوعة كبيرة في ضوء مصباح للمطالعة.
وقال وهو ينهض من مكانه: «هذا المكتوب يدلنا على الطريقة التي نحقق بها نظاما عالميا في خلال ثلاثمائة عام، إذا أدرك ما يتحدث عنه الكاتب عدد كاف من الناس.»
فعلقت بقولي: «إن أكثر أمثال هذه المشروعات تفترض أن جميع سكان العالم بعقلية أساتذة الجامعات.»
فقال: «أجل، ويتطلب ذلك مدة أطول من ثلاثمائة عام بكثير، وهذا فوق أن المشروع ذاته يحاط بالشك في الرغبة في تنفيذه.»
ودق جرس الباب. وفتحه، وكانت القادمة جريس دي فريز.
فقال مبتهجا: «سنقضي وقتا طيبا.»
وذكر أحدنا بهذه المناسبة أنشودة من أناشيد الأطفال، وأثير سؤال عن تاريخ هذه الأناشيد.
فقال: «أعتقد أن بعضها يرجع إلى مصر. ويطرأ على هذه الأناشيد شيء من التهذيب كلما انحدرت في عصور التاريخ المتقدمة، ولكنها لا تتغير في صميمها.»
قلت: «الأطفال عندكم هم المحافظون المناضلون. أناشيدهم تنتقل خلال الأغاني الشعبية - بما فيها من كلمات بذيئة - من جيل إلى جيل دون أن تحيد، وبعض الألفاظ إقليمي بحت، وهناك لفظة ألفت الاستماع إليها وأنا صبي في الغرب الأوسط، لم أسمع بها شرقي إليجنيز، حتى استعملها صبي من منتانا كان في زيارتي، واللفظة تحريف محلي على الأرجح لكلمة [جهنمي].»
فقالت جريس: «إن أطفالي يعودون إلى بيتهم بنفس القصص والفكاهات التي كنت أسمعها وأرددها حينما كنت في مثل سنهم، ولم تطرأ على ذهني منذ سنوات.»
وقال هوايتهد: «إن المكان الوحيد الذي يعجز فيه تأمركي هو النكات التي ترويها صحيفة نيويوركر، وأستطيع بوجه عام أن أدرك الفكاهة في الصور، ولكن التعليق كثيرا ما يخرج عن دائرة إدراكي.»
وقالت جريس: «لا ينبغي أن تأسف لذلك؛ فإن أطفالي كثيرا ما يفسرون النكات لي. ويحملني ذلك على إدراك مقدار بعدي عن لون الفكر المعاصر.»
وأردت أن أعزيهما فقلت: «ولا ينبغي أن يأسف المرء لهذا البعد أيضا؛ لأن كثيرا من النكات إقليمي بحت، وقد يتصل بنيويورك وحدها.»
وقالت مسز هوايتهد: «أستطيع أن أفهم النكات التي تدور حول السيدات البدينات.» - «نكات هلن هوركنسن؟» - «نعم، ولكني لا أعتقد أن السيدات البدينات يثرن الضحك، إنني أشفق عليهن، هؤلاء المسكينات.» - «ما أشبهك بروبرت ابن سر رتشارد لفنجستون، ذلك الصبي الطيب، الذي اعتاد أن تقع عيناه على صحيفة نيويوركر فوق أحد مكاتب المطالعة في أكسفورد، فيقول: «إنني أضحك على النكات، ولكني أحس أنه لا ينبغي لي أن أفعل ذلك.»
وقالت مسز هوايتهد: «إنني أحس أن هذا اللحم الزائد قد يكون نتيجة لخلل في إحدى الغدد، ولا ينبغي لنا أن نضحك منه.» - «إني أستطيع أن أريح ضميرك؛ تعالي معي إلى محل هايلر بشارع ترمنت ذات يوم بعد الظهر في الساعة الثالثة، وسأريك عشرات من النساء يلتهمن الفطائر الحلوة المكسوة بالسكر والمحشوة بالقشدة المخفوقة.»
فقالت وقد قطبت جبينها: «أف لما تقول! لا تتوقع مني أن أرافقك!»
وبعدما تحدثنا فيما إذا كان وزن المرء - كميوله وزواجه - مقدرا له، انتقل الحديث إلى موضوع حرية الإرادة. وقالت مسز هوايتهد: إن من رأيها أننا لسنا أحرارا في إرادتنا إلا إلى حد ضئيل جدا، وليس لدينا إلا فرص وقتية ننحرف فيها عن المصير المحتوم، وإن كنا نستطيع - في حدود هذه الفرص - أن نسيطر على أنفسنا إلى حد كبير.
وقال هوايتهد: «إن التفكير السابق اللاشعوري يكيف تصرفنا النهائي حتى يبدو لنا كأنه تلقائي، ولكني أعتقد - بالرغم من ذلك - أنا كنا في الواقع نحدد هذا التصرف بقدر كبير من الانتقاء والاختيار. ويتوقف الأمر كله على أي الآراء نقبل، وكيف نقبلها؛ بعضها ينبذ فورا؛ لأنه منفر مزعج، وبعضها يستبقى؛ لأنه سار بهيج. وبعدما تستمر عملية الانتقاء والاختيار ردحا كافيا من الزمن، يصبح التصرف النهائي مشروطا، ولكن بعدما كان لنا في تحديد نوعه نصيب موفور.»
وتقدمت بهذا الاقتراح: «هل تسمح لي أن أتابع أسلوب تفكيرك قليلا، وأدفعه إلى الإمام؟ أليس وراء ما ننتقي أو ننبذ ظروفنا الاقتصادية، التي قد تحدد للمرء سهولة الوصول إلى المعايير العليا أو صعوبته، ثم أليس هناك الميل الموروث، الذي قد يتلاءم وبعض ألوان الاختيار وقد يتنافى وبعضها الآخر؟»
فوافق على قولي، ثم أردف قائلا: «الظاهر أن نطاق الاختيار يقع بين هذه المقدرات السابقة والتصرف النهائي الذي يبدو تلقائيا. ولكنك تستطيع أن تشهد نفسك وأنت ترحب - بحكم العادة - بأنماط معينة من الفكر، وتنبذ أنماطا أخرى. وهنا - فيما أعتقد - تتقرر إلى حد كبير مصائرنا الشخصية.»
قلت: «إذا استطعتما أنتما الاثنان أن تخرجا لتشهدا فلم «ميجرباربرا» لبرناردشو لجذبتكما إلى هناك. لقد شهدته جريس، وتناقشنا فيه من قبل نقاشا طويلا، ولب الموضوع أن شو قد أعاد كتابة ذلك المنظر الأخير الضعيف، في مصنع الأسلحة، وكأنه يقول الآن: إن قوى الطبيعة هذه ليست في حد ذاتها طيبة أو سيئة؛ إنما يتوقف الأمر على طريقة استخدامها، ووظيفة الإنسان التي ينفرد بها هي أن يتعلم كيف يستخدمها استخداما صحيحا، وإن تكن القيم الخلقية التي نسبغها عليها هي بأسرها من وضعنا. فإذا كانت مما يوفر الراحة والانسجام نعتناها «بالخير»، وإذا كانت على عكس ذلك نعتناها «بالشر»، ولا يزال اللغز العظيم قائما، وهو: كيف ظهرت إلى الوجود على هذا الكوكب أية حياة تستطيع أن تفكر في أمثال هذه القيم على الإطلاق؟»
فقال هوايتهد: «من ذا الذي كان يحلم - حينما كانت هذه الأرض مجرد كتلة منصهرة - بأية صورة من صور الحياة التي ظهرت؟! الظاهر أن طريقة الطبيعة هي إنتاج الجديد؛ فهي تتجه اتجاهات مبتكرة لا يتوقعها البتة أحد. وبمرور الزمن بردت الأرض، وظهرت البحار، وبعد دهور طويلة ظهرت الحياة النباتية، ثم الحيوانات.»
وقالت مسز هوايتهد: «ويا لها من حيوانات عجيبة مفزعة!»
وواصل حديثه قائلا: «وأخيرا ظهر الإنسان بعد نحو مليون عام. ومن ذا الذي يشك ممن يرقبون السموات أن صورا من الحياة لا تقل عن هذه دهشة توجد فوق الكواكب الأخرى؟ وللسديم كذلك دورته الحيوية؛ فهو يظهر في الوجود، ثم يمحى، ويتلاشى في صورة أخرى؛ أين تظهر الأفكار الخلقية أولا؟ إنها في الواقع تظهر «قبل» الإنسان؛ فللحيوانات أفكارها الخلقية، والطيور تعرف متى تفعل الخطأ.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن الكلاب أعلى من الإنسان في المستوى الخلقي بكثير؛ إنها أشد منه محوا لذاتها وتضحية بنفسها! راقب كلبا وهو يحاول أن يساعد فردا يحبه؛ إنه يخجلنا.»
وقال هوايتهد: «أعتقد أن قدرتنا على الابتكار الواعي هي مجال حرية الإرادة. إننا نختار دائما بين ما هو خير وما هو أقل خيرا، سواء أدركنا ذلك أم لم ندرك، حتى الأطفال يكادون يفعلون ذلك قبل أن يتكلموا، حينما كان أحد أولادنا صغيرا كان له ناموسه الخاص بكل تأكيد، وكان يخرق هذا الناموس أحيانا (ولم نكن في ذلك الوقت نعاقبه؛ لأنه لم يفعل شيئا مما يعاقب عليه). والطريقة الوحيدة التي كنا نعرف بها أنه يخالف ناموسه هي حينما نراه زاحفا تحت السرير! ولما كنا نشهد حذاءه الصغير مطلا من تحت السرير، كنا نعرف دائما أنه مذنب، وإن كنا لا ندري قط أي ذنب اقترف، ولم نسأله لأنه لم يكن بوسعه أن يجيب. وما كان يخرج إلا إذا سحبناه من عقبيه، فإن فعلنا ذلك غفر لنفسه. ولا شك أنه كان يعتبر سحبه من عقبيه تكفيرا تاما.»
وقالت جريس: إنها تود لو عرفت طريقة تجذب بها من عقبيها من تحت السرير؛ فإن ذلك يبسط كثيرا من المشكلات الخلقية المعقدة.
وواصل هوايتهد حديثه قائلا: «ولاحظوا أنه لا بد أن يكون لدى الأطفال أمثال هذه الأفكار قبل أن يستطيعوا الكلام بوقت طويل. وكان هذا الطفل يسمي نفسه «جو»، وقد سمعته ذات يوم وهو يمر تحت النافذة المفتوحة بمكتبي يتمتم لنفسه قائلا: إن جو يستطيع الآن أن يمشي، وهو يستطيع الآن أن يتكلم.»
وقالت جريس: «حدث ما يشبه ذلك حينما كان أيفنز صغيرا؛ كان طفلا ثقيلا، ولم يكن خفيف الحركة على قدميه كما كان بولي، كان أشبه بعربة الثلج الصغيرة. وعرف بغتة ذات يوم أنه يستطيع الوقوف، فاضطرب اضطرابا شديدا وصاح: «تان! تان!» وظل يتعثر، ثم يقف على قدميه ثانية، وأعتقد أنهم يرون من يكبرونهم وهم يقومون بهذه الأعمال المدهشة، وقبل أن يستطيعوا الكلام بوقت طويل، يصممون على أن يقوموا هم بها أيضا.»
قال هوايتهد: «إن جانبا كبيرا من تجاربنا الناضجة أيضا لا يمكن التعبير عنها بالكلام.»
قلت: «لقد قال الدكتور ماك في كامبل، أستاذ العلاج النفساني في مدرسة هارفارد الطبية، شيئا شبيها بهذا منذ بضع ليال؛ قال: إن الكلمات قاصرة، أو هي لا تفي البتة بالتعبير عن بعض التجارب أو العواطف.»
وقال هوايتهد: «ذلك ما يفعله الشعر حينما يبلغ قمة الإجادة؛ إنه يكاد يتصيد في شبكة من الألفاظ لحظة من تلك اللحظات القوية الزائلة من لحظات السعادة أو الألم. إن الكلمة - مهما تكن - ليست سوى صوت، والعلاقة بين هذا الصوت والتجربة علاقة مصطنعة تحكمية؛ اكشف عن كلمات الشاعر في المعجم، وستجد أن المعنى الذي يقدمه المعجم لا يحيط بما يجول في نفس الشاعر؛ فلقد «أضاف» إلى المعنى بالنغمات العاطفية، حتى إنك تستطيع في بعض الحالات أن تتابع درجات النمو في معنى الكلمة التي أضافها إليها الشعراء بالتتابع. ولكن في الشعر ذاته دائما عبير التجربة الذي استطاع الشاعر وحده أن يستنشقه، وإن كنا نحسه كذلك كأنه من تجاربنا الشخصية.»
وسألت: «ألا تمر بنا جميعا أمثال هذه اللحظات من الوجود القوي، حينما نحيا بصورة فريدة خاصة، وتستقر هذه اللحظات في نفوسنا، ينابيع دائمة، نغترف منها حينا بعد حين، وبعد سنوات، دون أن ينفد المعين؟»
وقالت مسز هوايتهد مصححة قولي: «أجل، ولكن ليس ذلك هو الخبرة؛ إنما هو «ذكرى» اللحظة التي عشناها عيشة غزيرة؛ هل ترى تلك المرآة فوق الجدار الداخلي؟ لقد أعطتني إياها برناردين، وأصلها من فلورنسة، ولم يقدر لي أن أرى غيرها؛ إنها مرآة «سوداء»، لو كانت بيضاء لكانت الصور والأشخاص الذين ينعكسون فيها مجرد أوجه جديدة لنفوسهم في ضوء النهار. ولكنا حين نراهم في هذا الوسط الأسود العجيب، يبدون لنا كأنهم بغير أجساد، إنهم ذكريات. إن مرآتي السوداء هي عالم الذكرى، وما يستطيع الشعراء عمله بالألفاظ لكي ينقذوا من هوة النسيان هذه اللحظات الغزيرة من البهجة أو الألم هو كالمرآة السوداء.»
وقالت جريس: «حينما أتيت أول الأمر لرؤيتكم عندما كنتم تقيمون على شاطئ النهر، كانت هذه المرآة أول شيء وقعت عليه عيني في حجرة جلوسكم.»
وقال هوايتهد: «إنها تختلف في كل ساعة من ساعات النهار، وفي موضعها المعلقة به تعكس غروب الشمس، ولذلك أثر عجيب. ثم إن هذا الغروب - كما تقول أفلن يبدو كأنه ذكرى الغروب - أو ذكرى فكرة مبهمة هربت من الذهن. إنني كلما سمعت - وأنا أسمع أحيانا - أحد زملائي يقول: إنه ليست هناك آراء لا يمكن التعبير عنها بوضوح في لغة بسيطة، قلت: إني أعتقد أن آراءك لا بد أن تكون سطحية.»
وذكرته: «أنه قال لي مرة: إن بعض الكتاب - ومن بينهم الفلاسفة - يفكرون بالألفاظ، ولكنه يفكر بالصورة الذهنية، ثم يحاول أن يجد الكلمات التي يعبر بها عنها، فما الذي يحدث بين الصورة والكلمة؟ وكيف يترجم إحداهما إلى الأخرى؟»
وقال في حماسة: «الله يعلم! إن العبارة تأتي أحيانا، ولا تأتي أحيانا أخرى.»
وأضافت زوجته معترضة قوله: «إنه يمزق صفحات عديدة من الورق المكتوب.»
وقلت: «هل تبصر آراءك، حتى ما كان منها مجردا؟» - «لست أدري، هل تبصرها أنت؟» - «دعني أولا أعدل من ملاحظتي؛ إنني لا أتناول الأفكار المجردة على المستوى الذي تتناولها به، ومع ذلك، فإني بعد اشتغالي بها ربع قرن من الزمان، أدرك المشقة التي يلاقيها المرء في نقل أبسط الأفكار المجردة نسبيا إلى لغة بسيطة.»
وقال مؤكدا: «إنك تتناول أفكارا مجردة على كثير من الصعوبة، وقد قرأت مقالاتك.» - «وإذن فأنا أستطيع الإجابة، حينما يكون تركيز الذهن على أشده، تبدو الفكرة المجردة كأنها مادة بغير جسد، تطفو في الفضاء، وتحتها مباشرة مشهد منظور لا يمت إليها البتة بصلة، وكثيرا ما يكون مستمدا من طفولتي، كمرعى في ضوء الشمس في فصل الصيف مثلا.» - «هذا أمر عجيب جدا، كلا؛ لا أعتقد أني أبصر أفكاري بهذه الصورة.»
وقالت جريس للفيلسوف: «أرجو أن تشرح لي ما تقصد بالصورة الذهنية.»
وقال وقد بدأت عيناه تتلألآن: «سأحدثك بما أعني؛ هذا لوشيان برايس يجلس مواجها لي. إن في ذهني صورة عنه؛ عن شخصيته، ومظهره، ومن أي ضرب من ضروب الناس هو ... كل ذلك محدد في ذهني. ولكن حينما أحاول أن أصوره في ألفاظ، ماذا أجد؟ أستطيع أن أقول: إنه صديق قيم، ويسرني دائما أن أراه، ومظهره الشخصي من نوع ... ولكني أستطيع أن أقول مثل ذلك تماما عن لورنس لول.»
وضحكت السيدتان أشد مما ضحكت.
وقالت جريس: «لقد بلغ هذا الحديث القمة يا ألفرد! وقلما تستطيع أن تبزه بعد ذلك.»
قال: «هل فهمت الصورة الذهنية؟» - «فهمتها تماما! ولكني لا أعتقد أن لوشيان قد فعل؛ إنه يبدو في غير وعيه. هل فهمت؟» ووجهت إلي السؤال. - «لست على يقين من أني أريد أن أفهم.»
وقالت: «تناول قليلا من شراب الجنجر؛ فإنه ينعشك.»
وبعد الحديث الرائع الذي انتهى بمستر لول، واصل هوايتهد حديثه في صوت منخفض، قال: «إن بعض الخواطر البديهية الخلقية الرائعة تطرأ لقوم غاية في السذاجة. إن هبوط الآراء الشامخة لا يتوقف على التعليم المدرسي النظامي. وأذكر في هذا الصدد الفلاحين الجليليين.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن ماري التي قامت على خدمة بيتنا ما يقرب من عشرين عاما لها ابنة صغيرة اسمها مارغريت، وفي عيد من أعياد الفصح سألت عن قصة المسيح وصلبه، وأرادت لها تفسيرا. فجلست معها ماري وقصت لها القصة. فسألت الطفلة: وهل مات يسوع على الصليب؟ وقالت أمها : نعم. قالت الطفلة: وهل كانت أمه واقفة إلى جواره طوال الوقت؟» قالت الأم: «نعم.» فذهلت الطفلة وقالت: «ولماذا لم تمت أمه في سبيله؟»
وأثير بعد ذلك هذا السؤال: لماذا وكيف تنحط الفكرة النبيلة أو الفكرة الأصيلة - بعد إعلانها - إلى درجة تكاد تختفي فيها معالمها؟! إن الاختراع يتحول من البناء إلى الهدم، والمسيحية تتخذ ذريعة للاضطهاد، والموسيقى السيمفونية الكلاسيكية تباع رخيصة في النوادي الليلية في أداء مزيف يكاد يكون بذيئا! هل تبلغ مثل هذه الفكرة - في صورتها الأصيلة - مستوى شامخا فريدا، ثم تنحط حتما بتعرضها للشيوع؟
وتناول هوايتهد الموضوع فقال: «قد تكون البداهة ملاكا، ولكن الذهن قد يلعب دور الشيطان،
تحقيق الأفكار وتبويبها وتنظيمها وصياغتها في قواعد صارمة. والمسيحية مثال مريع، كان لليهود أصلا قواعد خلقية بربرية، أخذت تدريجا تتخذ صفة إنسانية على أيدي أصحاب الأرواح العالية منهم، وإن كانت هذه القواعد تعود إلى البربرية من حين إلى آخر على أيدي أصحاب النفوس الدنيئة، ولست أذكر أن الديانة البوذية قد ارتكبت في أي وقت من الأوقات إثم أمثال هذه الأفكار التي تنحرف عن الأخلاق السليمة انحرافا شنيعا، كما فعلت علوم الدين اليهودية في صورتها الأولى، أو علوم الدين المسيحية في صورتها المتأخرة. إن البشرية إما أن تنجو وإما أن تلحقها اللعنة، ويحكم عليها بالعذاب الأبدي. أما البوذية فتقول - على خلاف ذلك: إننا جميعا ناقصون، بحيث ينبغي لنا أن نعود إلى الحياة مرة بعد أخرى؛ لكي نتطهر بالمحن؛ حتى نستحق أن نفقد ذاتياتنا في الكل. ولكن اليهود تلفتوا حولهم، فلم يجدوا أبدا غير حاكم شرقي مستبد، ومن ثم تفكروا في الدنيا بأسرها، فظنوا أنه لا بد أن يكون لها حاكم يستبد بالجميع، وترتب على ذلك أنهم تصوروا إلها أبعد عن الأخلاق من أي إله آخر تصوره من قبل إنسان.»
وقالت مسز هوايتهد: «تصور أن يهوه يطلب من إبراهيم أن يضحي بولده !»
واقتبست هذه العبارة من صمويل بتلر: «إن الإله الأمين أنبل عمل من أعمال الإنسان.»
وقالت جريس: «حقا؛ لقد فعل يهوه أشياء يتردد أي منا في فعلها.»
وقالت مسز هوايتهد: «تقولين: يتردد! بل قولي: يفزع.»
وسألت: «هل تذكر تلك الملاحظة التي أبداها توماس هاردي عن «الإله الغيور» في قصته «تسي سليلة دوبرفيل»؟»
قال هوايتهد: «كلا، وما هي؟»
وقالت مسز هوايتهد: «إني أذكرها، اروها له.» «وقد يكون حلول خطايا الآباء بالأبناء قاعدة خلقية ترضى عنها الديانات السماوية، غير أن الطبيعة البشرية العادية تنفر منها.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن آلهة الإغريق يبدون بالمقارنة أقرب إلى النفوس؛ قد تكون لهم جرائمهم وحماقاتهم، وقد لا يكونون أفضل مما ينبغي أن يكونوا، ولكن إساءاتهم كانت أشد ظرفا.»
قلت: «نعم، حتى إن ذهبوا هم أيضا إلى الشيطان في النهاية، فإنهم يذهبون إليه بعد قضاء وقت مرح، والمهم هو أن الإغريق احتفظوا لأنفسهم دائما بحق الضحك من آلهتهم.»
وعلق على ذلك هوايتهد بقوله: «إن انعدام الفكاهة من الإنجيل انعداما تاما من أعجب الأمور في جميع الآداب.»
قالت: «لقد لاحظ ذلك جيته في مقدمته لفاوست، ونرى مفيستوفيليس يعير الله بانعدام الفكاهة لديه، ويقول: «كان لا بد أن تثير أشجاني في جلالتك الضحك.
لولا أنك أقلعت عن الضحك من زمان بعيد.»
وقال هوايتهد: «إن انعدام الفكاهة من كتابات اليهود القدامى قد يكون مرده إلى أنهم كانوا دائما شعبا مكتئبا، تعرضوا دائما للغزو والهزيمة، وتشتتوا هنا وهناك، أما الإغريق - فمهما يكن ما حدث لهم، وسواء كانوا في القمة أم لم يكونوا - فقد كانوا دائما يعدون أنفسهم متفوقين.»
وشرعنا نوازن بين الإلياذة التي يضحك فيها الآلهة، والإنجيل. إن واضعي الإنجيل كانوا يتصورون أن مهمتهم التثقيف؛ إذا لم تكن تحب كذا من الأمور فينبغي لك أن تحبه. أما واضعو (أو واضع) الإلياذة، فكانوا يعدون أنفسهم فنانين؛ إذا أخفقوا في تشويقك، فليس الخطأ منك، إنما هو خطؤهم.
واعترضت جريس بقولها: «ولكن هل كان للإلياذة ما كان للإنجيل من أثر في نشر الخير! لقد قرأت قصص الإنجيل في السن المناسبة، ولم ينطفئ بريقها قط فيما بعد.»
فقال هوايتهد: «ربما كانت الإلياذة منشأ فكرتنا عن الرجل المهذب، ولكن الرجل المهذب لا يستطيع أن يجابه جميع المواقف.»
ولما تقدم المساء أخذنا نتباحث في القيمة النسبية لشراب الإسفندان والحلو الممزوج بالدهن.
وقالت مسز هوايتهد: «شراب الإسفندان؟ تلك المادة اللزجة؟ إني أمقته.»
وناشدت زميلي الأمريكي قائلا: «إنها تشمئز من أنفس ما تستطيع إنجلترا الجديدة أن تنتجه؟»
وقالت جريس: «هون على نفسك؛ إنني لا أميل إلى شراب الإسفندان كثيرا أنا نفسي.»
واعترفت مسز هوايتهد على نفسها قائلة: «أما إن أردتم فعلا أن تمسوا نقطة الضعف في نفسي، فجربوا معي الحلو الممزوج بالدهن!»
وصاحت جريس قائلة: «هذا الحلو الممزوج بالدهن! ذلك المزيج المزعج؟» - «إنه ليس مزعجا، إنه طعام سماوي، إنني في إيثاري له قد أكون في غاية الضلال.»
وقال هوايتهد: «هذا ما بلغناه بعدما تناقشنا في أسمى المعاني المجردة، انحدرنا إلى الحديث في الحلو الممزوج بالدهن، لقد تمت الدورة التاريخية، إنه هبوط المدنية إلى مستوى الحلو الممزوج بالدهن!»
المحاورة السابعة والعشرون
5 من مايو 1943م
قضيت المساء عند آل هوايتهد مع إدوارد ويكس، وقد دبرنا هذا الاجتماع منذ شهور، ولكنا لم نستطع أن نتمكن منه جميعا إلا هذا المساء. ومنذ ظهور مؤلفات هوايتهد في مجلة «أطلنطيق الشهرية» منذ عدة سنوات، تم بينهما التعارف، سواء في العهد الذي كان فيه ألري سد جويك رئيسا للتحرير، أو منذ أسندت رياسة التحرير إلى مستر ويكس.
بعدما تناولنا العشاء سرنا في شارع برسكت حتى بلغنا فندق أمباسادور في شفق مساء من الأمسيات اللطيفة النادرة في هذا الربيع الذي حل بنا متأخرا بعد عناء شديد.
وقد سألني: أعند آل هوايتهد أحد سواهم؟ ولم أكن أعرف، ولكني تعشمت ألا يكون. وكانا وحدهما، مما سرني وسر زميلي. المصابيح مضاءة، والمظلات والستائر مدلاة؛ لكيلا يتسرب الضوء من الخارج، وحجرة الجلوس تزدان بالأواني والزهريات التي ملئت بأزهار الربيع.
وكانت مسز هوايتهد تعاني من قبل التواء شديدا في عقبها، يكاد يكون كسرا فيها، ودهشنا عندما وجدناها تسير عليه.
قالت: «إنه يؤلمني، ولكن لا مناص لي من ذلك ...»
وكانت مقدمات الحديث حينئذ أقصر ما يمكن، وكان قد ظهر في عدد مايو لمجلة أطلنطيق مقال رئيسي لرئيس هارفارد كونانت، عنوانه: «مطلوب: ردايكاليون أمريكان»، ويقترح المقال اختيارا ثالثا يقع بين المعسكرين القديمين، راديكالية محلية على مبادئ جيفرسون، تمجد أندروجاكسن، أمرسونية في نزعة أمرسن إلى «العالم الأمريكي»، شاعرها والت وتمان، تحترم ماركس وأنجلز ولنين، ولكنها تبتعد عنهم. وقد نادى المقال بالتخطيط للعالم بعد الحرب، من حيث السياسة الخارجية، والمشكلات الداخلية؛ كملكية أدوات الإنتاج، أو السيطرة عليها، واللامركزية، ومهاجمة المجتمع الطبقي، ومحاولة إعادة تعريف الثقافة في الحدود الديموقراطية والأمريكية.
ووجه هوايتهد السؤال إلى رئيس تحرير المجلة؛ قال: ما هو رد الفعل عندكم لمقال مستر كونانت؟» - «لم يحن الوقت بعد للحكم.» - «أعتقد أنكم تتسلمون خمسين خطابا في بريد كل صباح، يأخذ أصحابها عليه كتابة المقال وعليكم نشره.» - «وما رأيك أنت فيه؟» - «إن رأيه في إعادة توزيع الثروة في كل جيل رأي جريء، ولا أقول: إنه جديد، ولكنه كما قدمه ليس عمليا؛ إنك تستطيع ذلك بفرض الضرائب، غير أن معنى ذلك استيلاء الحكومة عليها. إن وجود قدر معين من فائض الثروة في أيدي الأفراد المستقبلين يعين على إجراء جميع صنوف التجارب.» - «وما مصير الأرستقراطية الإنجليزية صاحبة ملكية الأرض.»
وأجاب هوايتهد في هدوء: «لقد انتهى مصيرهم، وآلوا إلى الدمار. إن الحكومة تستولي على أراضيهم، وتسمح لهم بالبقاء في البيوت كحراس عليها، ولكن الأرض قد تحولت إلى الزراعة، ولم تعد الأشجار تزرع للزينة، وإنما لمحصولها، وقد قطعت الأشجار الكبيرة لأغراض الحرب، وزرعت مكانها أشجار الصنوبر الصغيرة.»
وتنهدت مسز هوايتهد قائلة: «إنجلترا، يا بلادي! يسرني ألا أراها ثانية بعد هذا.»
وواصل حديثه قائلا: «أشك إن كنا سنقوم بعد الحرب بتجارة خارجية واسعة كما كنا من قبل. ومعنى ذلك أنه ينبغي لنا مضاعفة الجهد في الزراعة.»
ثم تحدث مستر ويكس، الذي عاد حديثا من رحلة عبر القارة، عن التصنيع الشامل للغرب، من تكساس على ساحل المحيط الهادي حتى يوجت ساوند، على حساب الولايات الزراعية الداخلية. وكان الحديث مفصلا والاستماع إليه في شغف؛ لأن الموضوع كان أحدث من أن يوصف وصفا شاملا في صحائف مطبوعة. وأدى بنا هذا إلى مسائل خاصة تتعلق بسير المجلة، وترجع إلى النقص في تموين الورق، وقد أجاب عن هذا الأمر في إيجاز، وإن يكن بوضوح؛ قال: إن الناشرين الأمريكان قد تلقوا التحذير من زملائهم الإنجليز بألا يخلقوا لأنفسهم منافسا قويا في الجهاز الحكومي، الذي يستطيع أن يحصل على ما شاء من موارد الورق، كما أن له السلطة التي يوجه بها المطابع.
وفي أحد الأعوام التي تقع بين سنة 1920م و1930م والمال لا يزال وافرا، قيل لي في مكتبة «الركن القديم»: إن عشرين ألف كتاب جديد قد نشرت في هذا القطر وحده. ذكرت ذلك، وحددت العام الذي حدث فيه هذا.
وصححني ويكس قائلا: «لقد أخطأت في ذلك؛ إن الكتب الجديدة بلغت نحو تسعة آلاف، أما ما عدا ذلك فكان إعادة طبعات.» «حتى إن كانت تسعة آلاف (وهذا ما قصدت إليه) فإن عددا كبيرا منها كان، حتما، عديم القيمة.»
وقال هوايتهد وقد التفت وراءه إلي: «إنك تجابه رجلا نشر اثني عشر كتابا، ثم تقول: إن الكثير منها ما كان ليستحق الطباعة!»
ثم اتجه الحديث نحو البحث فيما إذا كان الرجال من ذوي العقل الممتاز ينجحون كرجال سياسيين.
وقال هوايتهد: «إنهم قلما تسنح لهم الفرص للتجربة؛ إن نوع الرجل المطلوب لإدارة الدولة، ونوع الرجل الذي يديرها في أكثر الأحيان، هو ذلك الرجل الذي يحس بقوة ما تكون الحاجة ماسة إلى عمله، وربما لا يكون صاحب عقل ممتاز.» «وهل لا نستطيع أن نذكر لذلك استثناء؟»
فصاح هوايتهد وويكس في صوت واحد: «دزرائيلي!» وبعد برهة من التفكير أضاف ويكس إلى ذلك قوله: «وتوماس جيفرسون مثال آخر.»
وواصل هوايتهد الحديث قائلا: «إن الرجال الذين أسسوا جمهوريتكم كانوا يدركون إدراكا واضحا بدرجة غير مألوفة تلك الآراء العامة التي أرادوا أن يطبقوها هنا، ثم تركوا وضع التفصيلات للمفسرين الذين جاءوا أخيرا، وقد كانت - على وجه الجملة - ناجحة إلى درجة كبرى، ولست أعرف سوى ثلاث مرات في العالم الغربي وجه فيها رجال السياسة مصائر التاريخ، وهم واعون: أثينا في عهد بركليز، وروما تحت حكم أغسطس، وتأسيس جمهوريتكم الأمريكية.»
وقد أثار ذلك البحث في هذا الموضوع؛ إلى أي حد يمكن لرجال السياسة الحاكمين أن يكونوا في الأزمات التاريخية الكبرى متنبهين إلى ضخامة المصائر التي يتحكمون فيها، كان العالم القديم في أشد المخاطر عندما تولى أغسطس حكم روما، ونحن نتساءل: هل كان بإمكانه أن يتصور على بعد المخاطر التي كان يتعرض لها مستقبل أوروبا والغرب؟
قال هوايتهد: «كلا، كان رومانيا، فأراد أن ينقذ الإمبراطورية الرومانية، وترتب على ذلك أن أصبحت الإمبراطورية الرومانية عنق الزجاجة التي مرت خلالها ثقافة العالم القديم إلى شمال أوروبا وإلى نصف الكرة الأرضية الغربي، والآن بعدما انقضى خمسمائة عام أخذت مدنية النهضة الأوروبية تنهار؛ إنك في الحوادث التاريخية العظمى قلما تستطيع أن تعين سببا واحدا؛ إنما تتضافر عدة أسباب، لقد سئم الروس حكومتهم القيصرية المريعة المبذرة، وكانت ملكية هابسبرج على أهبة السقوط، وكانت فرنسا تتدهور أسرع مما قدرنا بكثير، وكان على رأس ألمانيا ذلك الملك المتردد ولهلم الثاني، ولعب بسمارك دوره جيدا، وإنه ليرتاع لو رأى الأبعاد التي بلغها الدور الذي قام به. إن انهيار مدنية النهضة الأوروبية التي دامت خمسمائة عام لم ينجم عن واحد فقط من هذه الأسباب، وكل هذه الأسباب مجتمعة ليست إلا جانبا فقط من جملة الأسباب، وأضف إليها الثورة الصناعية والوسائل الفنية العلمية الجديدة، وباتت المشكلة هي هذه: هل تقع هذه الأداة بين أيدي قوم أشرار أو قوم من الخيار؟ لقد وقعت الأداة عند بداية الثورة الصناعية - منذ مائة عام - على وجه الجملة فيما أحسب بين أيدي قوم من خيار الناس نسبيا: لقد استغلوا الفقراء، ولكنهم - على أقل تقدير - استخدموا الأداة في الإنتاج. أما في وقتنا هذا فقد وقعت هذه الوسائل الفنية الجديدة بين أيدي قوم أشرار؛ رجال عصابات مفترسين، وإني لآمل، بل أعتقد، أن ذلك لن يدوم طويلا. كانت كل هذه الأسباب قائمة مجتمعة، وكانت الحوادث الفردية نتائج لها، ولست أقول: إن أوروبا قد انتهت إلى الأبد، بل إنها سوف تسترد حيويتها بعد زمن بطبيعة الحال، ولكنها قد انهارت لجيل على الأقل، إن لم يزد على ذلك، وأتعشم أن تبقى ثلاث من الدول الحديثة ذات المجتمعات الطيبة، وهي الدنمارك والنرويج والسويد.»
واستطرد في حديثه عن عنصر المصادفة في التاريخ؛ كيف أن حملة بريطانية حربية كانت في طريقها إلى الصين، انحرفت إلى كلكتا في الوقت الملائم؛ للمساعدة على إخماد ثورة سيبوي. واختتم حديثه متفكها بقوله: «الظاهر أن العناية الإلهية في «جانبنا».»
وقال ويكس ضاحكا: «ولكن العناية الإلهية لا تحابي.» ثم روى تلك السلسلة المتتابعة النادرة من المصادفات التي وقعت على نهر هدسن والتي كشفت عن مؤامرة بندكت آرنولد.
واقتبست مسز هوايتهد هذه العبارة من كتاب أرون (أو المدينة المجهولة) لصمويل بتلر: «شاء الحظ أن تكون العناية الإلهية بجانبي.»
ثم عدنا إلى التساؤل عما هي «المصادفة»؛ إنها تبدو أحيانا من عوامل الخير، كما تبدو أحيانا أخرى من عوامل الشر، كما حدث للأثينيين قبل صرقسه، وإنها لتجيء في تتابع يوحي قطعا بالترتيب السابق؛ ماذا تقول؟ هل تقع الأسباب في أغوار أعمق من مجرد المصادفات الهمجية؟
قال هوايتهد: «إنني أميل إلى الاعتقاد بأن الأسباب قائمة في كل ظرف، وليست الحوادث التي نشاهدها، والتي تبدو كأنها من فلتات المصادفة، إلا الخطوات النهائية في خطوط طويلة من المسببات.»
وجيء بصينية عليها سلة فضية بها فطائر صغيرة، والسلة - كما تدل الكلمات المنقوشة عليها - كانت مهداة لوالد هوايتهد، القسيس، في عام 1858م.
ولما كنا قد سمحنا للمحادثة أن تقف لبضع دقائق؛ فقد توافر الوقت للاستمتاع بمشاهدة الحاضرين، وقد جلس ثلاثتهم في ضوء المصباح المظلل، وبدا ويكس كعادته نحيلا، أنيقا قويا، وإن يكن على درجة من التنبه أكثر مما عهدنا فيه، أما مسز هوايتهد فقد تمددت على راحتها، وأشعة المصباح تسقط مباشرة على وجهها الذي أكسبته الشيخوخة قوة في التعبير، وقد ألقت على ركبتيها شالا مطرزا، وإلى جانبها آنية من أزهار الحديقة، وكانت هي أو ويكس يدخنان سيجارة بين الحين والحين، كما احتفظت عينا هوايتهد ببريقهما الأزرق دون أن ينطفئ، وما زالت بشرته متوردة، وصوته واضحا قويا رنانا وهو يتلفت أثناء حديثه من واحد إلى آخر منا، وحديثه رزين، صحيح النطق، يزن كل أمر من الأمور، والعبارات التوضيحية تذكر في وقتها الملائم، لغته محددة، وتكاد تبلغ حد الدقة الرياضية، أما الشباب البادي على وجهه فيدعو إلى العجب، وكثيرا ما كان موضع ملاحظة الآخرين؛ إنه ضوء الفكر الذي يكسبه هذا البريق والإشعاع، وهو إشعاع ينتقل منه إلى غيره، فيقوى تفكير المستمعين إليه.
واستؤنف الجدل حينما قال هوايتهد: «إن الأمريكان يهتمون بالمساواة أكثر مما يهتمون بالحرية؛
الرجل إذا لم يرق فلا بد أن يكون ذلك راجعا إليه! إن شعور الزمالة بين الطبقات العليا والطبقات العاملة أقوى في إنجلترا منه هنا؛ إن الطبقات عندنا أشد جمودا، ولكنك إن كنت تجد فوارق الطبقات عندنا تسير في خطوط أفقية، إلا أن أواصر الصداقة لدينا تمتد في خطوط رأسية.»
وأدى بنا ذلك إلى القول بأنه من الملاحظ أن الناس هنا يحاولون أن يتعاونوا فيما بينهم، وخاصة منذ أن أعادت الحرب الحالية توزيع السكان.
فقال هوايتهد في نغماته الهادئة: «إن شفقة الأمريكان - على قدر علمي بهم - شيء فريد في تاريخ العالم، وهي التي تسوغ وجودكم. إن المهاجرين إلى بلادكم، قبل عام 1880م وما بعده، حينما صارت الهجرة إليكم تجارة تقوم بها شركات البواخر، جاءوا إلى هنا أساسا لأنهم أحبوا الفكرة الأمريكية، والواقع أنه ربما كان من أسباب انهيار أوروبا أن كثيرا من القادرين فيها هجروها وجاءوا إلى هنا، والألمان الذين رحلوا إليكم في عام 1848م من خير العناصر بين سكان بلادكم.»
وعلق على ذلك ويكس، وقد نهض ليشعل سيجارة مسز هوايتهد، قال: «إننا لم نسئ معاملة أولئك الذين وفدوا بعد العقد التاسع من القرن التاسع عشر، بالرغم من أن بعض من أتى بهم إلى هنا لم يتوقعوا لهم خيرا، ومن المحتمل أن يكون عملهم الرخيص قد أثر على مستوى معيشة عمالنا مدى جيل بأسره، بيد أن أطفالهم التحقوا بمدارسنا العامة، وتعلموا الإحساس الحي بحقوقهم المدنية.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن إنجلترا كذلك قد وفد إليها بعض ألمان عام 1848م، وإنك لتجدهم بين أصحاب المصانع الأثرياء في أماكن مثل برمنجهام، ولهم هذه الخاصية، إن من بينهم وحدهم - على حد علمي - تجد في إنجلترا أعداء السامية.»
ووافقها على رأيها مستر هوايتهد، وقال: «كانت عداوة السامية نادرة جدا، وفي قريتي بكنت كان صديق والدي العزيز سرموزس منتيفيور يهوديا، ولم يهتم بذلك أحد ما.»
وقالت مسز هوايتهد: «لقد أحببت هذا المكان حينما قدمت للعيش هنا، وأنا لا أنقد ما أحب، غير أني ألاحظ قسوة في المعاملة من الزبائن للعاملين في المحلات التجارية، وإنه لمن اليسير أن يكون المرء شفيقا كذلك حينما لا يجد لديهم ما يحتاج إليه، إن الشبان والشيوخ يعاملون معاملة ملكية في عرباتكم العامة، ولن يضطر الشيخ قط إلى الوقوف، ولكن فيما بين هؤلاء رأيت نساء واقفات كان ينبغي أن يجلسن، وبدت إحداهن كأنها على وشك أن تضع في ذلك اليوم عينه ... ومن ناحية أخرى هذا ما يمكن أن يقع؛ حدث ذات صيف في قرية بفرمنت أن انهارت سباكة أحد الأكواخ، وقيل لي: إن السباك رجل غريب الأطوار، مستقل لا يعتمد على أحد، وربما أصلح السباكة وربما لم يصلحها! وأرسلنا في طلبه على أية حال، ولكنه لم يحضر، وفي الأصيل عندما كان ألفرد نورث في الخارج في مكان ما، وكنت أجلس عند عتبة الباب، دخل علي رجل، يلبس قميصا من الطراز الشائع هناك، فقلت له: إن زوجي سوف يعود بعد قليل، ورجوته أن يصعد وينتظر، وتبادلنا الحديث، فوجدته مطلعا وشائقا في حديثه. وبعد قليل سألته: أهو يرغب في تناول الشاي؟ فقال: إنه يرغب. فأتيت به، وتناولنا الشاي، واشتد شغفي بما كان يقول، حتى قال أخيرا: «يجدر بي أن أفحص سباكتكم.» «ألم تشعري قط من يكون؟» «ربما أمكن ذلك، ولكن الواقع أني لم أشعر.»
فقال ويكس: «ينقصنا - مع ذلك - شيء واحد، وذلك هو ماض مشهود محسوس؛ إننا نحاول أن نكشفه، ونستخرجه من الكتب، ولكن ذلك يكلفنا جهدا، وانعدام الماضي هذا تعززه سهولة انتقالنا، إننا لا نموت قط في البيت الذي نولد فيه، وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل إنا لنهجره ونحن ما نزال في سن الصبا، وعندما يعود أحدنا إلى زيارة محل ميلاده يجد أن البيت قد أزيل وأقيمت مكانه محطة من محطات البنزين، ليس في مدينة نيوجرسي حيث نشأت، وحيث امتدت إليها ضواحي نيويورك فبلغت الريف، ليس هناك سوى «بيت واحد كبير»، ونحن أطفال المدينة لم ندع إليه قط لتناول الشاي، وإن كان يسمح لنا بزيارة حدائقه، ولكنه كان يمثل شيئا في حياتنا الخيالية.»
وقال هوايتهد: «إن إحساسنا بالماضي في إنجلترا شامل من جميع النواحي، حتى بات لاشعوريا عندنا. حيثما اتجهنا كان الماضي أمامنا؛ في المباني، والآثار، والتاريخ، والأساطير ... وقد يمتد إلى خمسمائة عام، أو إلى ألف عام، وهو يدخل بطبيعة الحال في كل ما نفكر فيه، وفي كل ما نعمل.»
ووجه إلي ويكس هذا السؤال: «كيف كان انعدام الماضي هذا في المدينة التي نشأت فيها؟» - «إن ماضينا أقل من ماضيكم، وفي [خزان أوهايو الغربي] بناء أقيم منذ خمسة وسبعين عاما، نعده قديما، غير أن ما فقدناه في الماضي عوضناه في المساواة.»
وسأل الأستاذ هوايتهد: «وهل معنى ذلك أن كل من جمع ثروة ترك المدينة؟» - «لم يترك المدينة رجل غني؛ إذ إنه يتحتم على المرء أن يترك المدينة لكي يصبح غنيا.»
وكانت بين الباقين فوارق طبقية قليلة غير واضحة، وكل منهم في أعماقه يحس أنه لا يقل شأنا عن سواه، ما دام يسدد ما عليه من دين.»
وقال ويكس: «لقد نسيت فارقا طبقيا في المدينة الأمريكية الصغيرة، كان قائما منذ جيل.» - «وما ذاك؟» - «لم يكن إدمان الشراب مما يدعو إلى الاحترام.» - «هذا حق؛ إن الاستهتار الذي ساد فيما بين عام 1920م و1930م قد أنساني ذلك.»
ووجهت مسز هوايتهد السؤال إلى مستر ويكس، قائلة: «هل تظن أن هناك احتمالا لإعادة تحريم الخمر؟» - «إن أمواج حركة التحريم تكاد تغرق مكتب مجلة الأطلنطيق، وهي تشتد شهرا بعد شهر. وآمل ألا يكون هناك خطر من تكرار الحملة، ولكن الجدل أعمى وأصم بالنسبة إلى أي درس من دروس التجارب.» ثم سأل هوايتهد عن «تهريب الخمور في إنجلترا، حينما كنت تسكن على ساحل كنت. هل كان هناك حافز للتهريب، أم هل كان كل ما يهرب يمكن الحصول عليه بنفس السهولة في داخل البلاد؟»
وقال هوايتهد: «كانت تقوم وسط المستنقعات القريبة من النهر كنيسة قديمة، وكل ما أعرفه عنه هو أنه منذ مائة وخمسين عاما - أي في عهد نابليون تقريبا - كانت تأتي عبر هذه المستنقعات كميات كبيرة من الكونياك والنبيذ الممتاز، الذي يخزن في سراديب تلك الكنيسة بموافقة القسيس، وفي أكثر من مرة، حينما كان يصل النبأ أثناء الصلاة بأن الضباط قادمون في الطريق، كان المصلون جميعا يؤجلون الصلاة؛ لكي يحصلوا على الشراب قبل أن يصل. وكان يعاونهم على ذلك القسيس!» واختتم حديثه متجها إلينا قائلا: «ويدل ذلك على أن الكنيسة الرسمية كانت تشارك الناس حياتهم في إخلاص شديد.»
المحاورة الثامنة والعشرون
3 من يونيو 1943م
عدت وإدوارد ويكس إلى لقاء آل هوايتهد، وكان يوما من أيام الصيف الحار، حل بنا بغتة بعدما نعمنا بربيع بارد النسمات امتد بنا أمدا طويلا، وكان بيت ويكس غير معد للإقامة فيه - وهو يقع في 53 شارع تشتنت - واستعد ويكس وأسرته للرحيل؛ لقضاء فصل الصيف في مزارع بفرلي في صبيحة اليوم التالي.
ويبدو تل بيكن في يونيو كأنه في موكب عرس؛ الأزهار تتفتح في المساحات الصغيرة بين الأسوار الحديدية، وجدران المنازل المشيدة من الطوب الأحمر، والعليق والنباتات ذات الأزهار البنفسجية تتسلق واجهات المنازل، وكنت ترى أوراق الأشجار اليانعة والبقع المعشوشبة في أفنية المنازل وفي ميدان لويزبرج، وما تكاد المدينة ترتدي حلة جمالها حتى نتركها ونرحل.
وتغير المنظر تغيرا سريعا من بوسطن إلى كمبردج، ولكي نبلغ بيت آل هوايتهد في الموعد الذي ضربناه؛ ركبنا سيارة أجرة، وكانت الستائر التي تحجب الضوء مسدلة في بيتهم، ولما كانت جميع النوافذ في جميع الحجرات مفتحة؛ فقد هبت نسمة لطيفة منعشة. وقد امتلأت أواني الزهر في حجرة الجلوس بأزهار السوسن وعود الصليب والزنبق الأصفر، التي أمدتها بها حديقة من حدائق يونيو.
ولم تكن هناك مقدمات.
قال هوايتهد لويكس: «إن عدد شهر يونيو من مجلتك «الأطلنطيق» عدد ممتاز.»
فقال متواضعا: «إنه الحظ، وإني لأحمد الله عليه؛ إن الموضوعات المناسبة وصلتني في الوقت المناسب.» - وكان من بين الموضوعات المناسبة «عودوا إلى الفنون الحرة» الذي كتبه أ. ك. راند، و«أمريكا التي لم يتصورها العقل» الذي كتبه أرشيولد ماك ليس، و«النجم الغربي» لستيفن فنسان بنيه، و«تكوين عقل هوفر» لربكا وست.
والظاهر أن مستر ويكس كان في واشنطن (حيث تحدثت ساعة مع ويفل، أو لعله من الأصح أن أقول: إن ويفل قد تحدث إلي ساعة من الزمان). - «وكيف بدأ؟» - «كان الحديث عن طبرق وكريت والهند، ولم يكن فيه ما يبعث على الابتهاج، وبدا عليها الإنهاك والتعب، لم يكن متخاذلا، ولكنه منهوك القوى.» (كان ويكس يخفف وقع النبأ؛ فقد نمى إلى مكتب الصحيفة أن الأثر الذي تركه ويفل في واشنطن هو أنه لم يكن قط منهوكا) «وكان حديثه شائقا، وقد تولى القيادة في أفريقيا في وقت دب فيه اليأس في النفوس، وقد دهشوا - كما دهش كل إنسان - لسرعة مسيرهم وللمدى الذي بلغوه.»
وانحرف الحديث نحو الموقف في الهند، وقالوا: إن روزفلت حرص على ألا يتدخل في الشئون الاستعمارية البريطانية.
وقالت مسز هوايتهد: «إني معجبة به من أجل هذا، ويعلم الله أننا أخطأنا كثيرا، وعلينا أن نصحح أخطاءنا بأنفسنا؛ هل أنت في جانب روزفلت؟ ...» وترددت قليلا وهمت بالانسحاب.
وقال ويكس: «إنني أؤيده كل التأييد؛ فأنا من الحزب الديمقراطي.»
قالت: «حسنا، إن المرء لا يعرف قط أي سبيل يسلك الناس في هذا الموضوع؛ إننا نعتاد الإحساس بالأرض التي نقف عليها أولا، يجب أن تكون هناك شارة نستطيع لباسها كي يعرف أحدنا الآخر.»
واقترح مستر ويكس: «أن تكون شارة من شارات الحملات نضعه في العروة، ولكن ربما كان ذلك أسوأ من عدمه.»
وقلت: إن من الناس من لقي حظا سعيدا في بعض الأحيان؛ لأن مذهبه السياسي لم يكن معروفا، وبخاصة في الأوقات العصيبة.
وقال هوايتهد باسما: «هذا حق، وقد كان من حسن حظنا أن ملكينا الأولين من أسرة هانوفر لم يستطيعا أن يتكلما الإنجليزية، فلما تولى علينا ثالث يستطيع الكلام بها، أوقعنا في هذه المتاعب معكم، التي لم نتخلص منها كلية حتى الآن، ومما زاد الطين بلة أن جورج الثالث كان رجلا عائليا مثاليا، يحبه الناس حبا جما، يلقبونه «جورج الفلاح»، والزوج الطيب، والأب الشفيق، وما إلى ذلك. كانت لديه كل الفضائل العائلية التي رجحت كفة خرقه السياسي المريع.»
وقالت مسز هوايتهد: «وحتى المنشقين على العقائد السائدة كانوا يبجلونه.»
وسألته: «ألم تقل: إن أسرة هانوفر لم تحتمل إلا لحسن مسلكها؟»
وقال هوايتهد: «لقد أتت بهم زمرة من النبلاء الأحرار، وتألف من هؤلاء النبلاء «المجلس»، ولو أثبت الملكان الأولان جورج الأول وجورج الثاني أنهما يتدخلان، فربما أعيدا إلى وطنهما. وفي رأيي أن جورج الثالث هو الذي دعانا إلى أن نقف في الجانب الخاطئ حينما جاءت الثورة الفرنسية، وإلا لأمكننا - في ظني - أن نضع في عام 1789م قوانين الإصلاح التي صدرت فيما بين عام 1830م و1840م. ولو فعلنا ذلك لحسنت علاقتنا بالفرنسيين، ولاجتزنا عصر التصنيع في القرن التالي دون تلك الأحياء الشعبية المريعة.»
ثم اتجه الحديث إلى فن الأدب، وسأل ويكس هوايتهد عن الصورة التي يعتقد أن الأدب سوف يتخذها بعد انتهاء الحرب.
وعند الإجابة، تحدث هوايتهد عن الميل نحو السخرية بعد الحروب، وضرب لذلك مثلا لتن ستراتشي بعد الحرب الماضية، غير أنه قال: إن أمثال هؤلاء الرجال - مهما كانوا ممتعين - عقيمون، والراجح أن يكون إنتاجهم - بناء على ذلك - هزيلا.
وسأل مستر ويكس: «وهل تعتقد أن أتباع فرويد سيتسلطون على أدبنا مرة أخرى؟»
قال هوايتهد: «إنهم مثال لما أعني بقبول جانب من الحق على أنه كل الحق في سذاجة! إن آراء فرويد أشاعها قوم لم يفهموه إلا فهما ناقصا، وعجزوا عن بذل المجهود الضخم اللازم لإدراكها من حيث علاقتها بالحقائق الأكبر، فنسبوا إليها - من أجل ذلك - أهمية لا تتفق البتة وأهميتها الحقيقية.»
وقال ويكس: «أضف إلى ذلك شيوعها بين جيل ما بعد الحرب، الذي كان بحاجة إلى أن يذكر له على وجه الدقة ما تعني هذه التفسيرات الناقصة لفرويد.»
وقد كتمت في صدري هذا السؤال فترة، ثم وجهته قائلا: «لقد قلت مرة: إن بين الوقت الذي نمارس فيه التجربة، والوقت الذي نعبر فيه عنها ثانية بالقول أو بالفعل، فجوة لا نعلم عنها شيئا؛ هل تطورت هذه الفكرة لديك بعد هذا؟»
وأجاب هوايتهد قائلا: «في الأسبوع الماضي، في حفل توزيع الدرجات العلمية، كان هناك أخصائي في الذهن. قال: إن خبرتنا البدنية تنتقل إلى الذهن عن طريق العمود الفقري، وبخاصة إلى ذلك الجزء من الذهن الذي يقع خلف رءوسنا، وكثيرا ما رأيت أفرادا لهم خلف جماجمهم نتوء ضخم، وقلت: «أليس مما يدعو إلى الحسرة ألا يكون هذا النتوء في مقدمة الجمجمة حيث يمكن أن يؤدي لهم عملا نافعا؟!» ولكن يظهر أني كنت على خطأ شديد، وقال لي هذا الجراح: «إنه من الممكن نقل جزء كبير من ذهن الإنسان من هنا إلى هنا» (مشيرا إلى عارضيه الأيمن والأيسر) «ويستمر على حاله كما كان، أما إذا حدث انفصال خطير في خلف الرقبة، بات المرء معتوها. وقد عرف الفلاسفة منذ قرون أن حواسنا ليست دليلا قاطعا على وجود العالم الخارجي، ولم يعرف ذلك منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر، وإنما عرف من عهد اليونان. لم يكن هناك البتة سبب لكي نستنتج وجود الحقيقة الخارجية من أي دليل يأتينا عن طريق الحواس، إن كل شيء ذاتي، والعالم الخارجي قد لا يكون هناك البتة! وبرغم هذا، فالواقع أن الأفراد الذين لا يفترضون وجود هذا العالم الخارجي حقيقة من الحقائق، يزج بهم في مستشفيات المجانين، ولكن علمنا به يأتينا في كل وقت عن طريق العمود الفقري بوساطة خبراتنا البدنية، وتأدية أعضائنا لوظائفها أداء سارا؛ لأن أبداننا جزء من هذا العالم الخارجي، كهذا المقعد تماما الذي يستقر فيه جسمي في الوقت الحاضر؛ ولذا فأنا أنصحك ألا تحدث في خلف رقبتك شيئا خطيرا، أما مقدمة رأسك، فلك أن تهملها كما تشاء، ولا تتأثر في شيء، أما إذا تخلخلت مؤخرة رأسك، فأنت في خطر.»
وأدى بنا هذا الحديث إلى التندر على المشتغلين بالتدليك. ولما عاد النقاش إلى رزانته ذكرنا تلك العبارة التي وردت في صفحة 355 من كتاب «مغامرات الأفكار» والتي جاءت فيها جملة تسترعي الانتباه، تتعلق بهذا الموضوع الغامض الذي يتصل بما يحدث بين الوقت الذي تقع فيه الخبرة الخارجية على الجسم والعمود الفقري والذهن، والوقت الذي تخرج فيه ثانية. وهذه الجملة هي: «إن العملية في ذاتها هي الواقع.»
ذكرنا هذه الجملة له، وعلقت عليها بقولي: إن «الناس يقولون: إنها بمجرد دخولها في رءوسهم لا تخرج ثانية. وأعتقد أني أعرف ما تعني، أو أنا على الأقل أعرف ما تعني بالنسبة إلي، ولكن هلا قلت لنا: ما معناها لديك؟»
قال: «لقد استغرق الفلاسفة وقتا طويلا؛ قرونا في الواقع، لكي يتجاوزوا فكرة المادة الثابتة. إن بعض المواد - كالماء أو النار - يمكن مشاهدتها وهي تتغير بسرعة، وبعضها الآخر - كالصخر - ثابت لا يتغير، ونحن نعلم الآن أن قطعة الجرانيت كتلة من الحركة الدائبة، وأنها تتغير بسرعة مريعة، ولكن إلى أن عرفنا ذلك، كان الصخر يبدو كأنه قليل الحياة أو بغير حياة، وإن كان يظهر في ثبات هائل، ولما كان من الواضح فيما مضى أن التفكير القائم ضئيل جدا فقد جاء به الفلاسفة القدامى من الخارج، وكانت تبدو هناك فواصل بين جزء من الكون وجزء آخر منه. أما في ضوء ما نعرف الآن، فليس هناك خط فاصل بين ما لا نهاية لاتساعه وما لا نهاية لضآلته، وعنصر الوقت له أثره كذلك. إن أجسامنا البشرية تتغير من يوم إلى يوم، إن بعض مظاهرها الخارجية لا يتبدل، ولكن التغير دائم، وأحيانا يرى، والمجموعات الكوكبية تبدو كأنها لا تتغير البتة، وإن كنا نعلم أنها تتغير، كما نعلم أن السدم قد اتخذت شكلها الراهن، ولكنها تتحول إلى أشكال أخرى، وسواء كان التغير يحدث في لحظة أم في بلايين السنين، فليس ذلك إلا قياسا إنسانيا. إن حقيقة التغير لا تتأثر باستخدامنا - كبشر - المعايير الوحيدة التي لدينا، والتي تتأثر حتما بحدود حياتنا، إننا موجودون هنا في ظروف معينة من المكان والزمان، علينا أن نؤدي وظائفنا في حدودها، وهذه الظروف تلون أحكامنا ما لم نراقبها ... إن هذه المائدة الصغيرة القائمة إلى جانبي - وقرعها بأصابعه - في حالة تغير، ولو أنك خزنتها في مكان ما عشرة آلاف عام ثم عدت لمشاهدتها، فربما بلغ بها التغير مدى يتعذر عليه معك أن تعرف أنها كانت مائدة! ومع ذلك فإن العملية التي تؤدي إلى هذا التغير الملموس إلى درجة قصوى مستمرة بها الآن، وإن تكن - في جميع الأغراض العملية الإنسانية - هي بعينها المائدة التي رأيتها المرة الماضية عندما كنت هنا، وهي بعينها المائدة التي رأيتها بجانبي مدة أربعين عاما. إن التغير دائم، سواء قسناه بالدقائق أو بآلاف السنين، ونحن أنفسنا جزء منه؛ لقد جئنا إلى الوجود في ركن معين من الكون نتيجة لعمليات التغير، وليس هناك ما يدعو إلى الظن بأن أنواعا أخرى من الحياة لم يوجد مثيل لها في الكون، وإن كان يشق علينا أن نتصور ذلك. وهذه الحيوات الأخرى تختلف عنا فيما نرى أكثر مما نعلم الآن عما بيننا وبين أسلافنا من خلاف. إن بعض أسلافنا المباشرين يبدون من نفس جنسنا، ولكن كلما بعد السلف كان مخلوقات أشك في أننا نشبهها البتة.» (وكان يحدثنا في عبارة بسيطة أن أحكامنا تتأثر تأثرا شديدا بالزمان والمكان، في حين أن الحقائق تخرج عن نطاق الزمان والمكان، وأن التغير هو العملية المستمرة، وهو بعينه الحقيقة.)
وسألته: «إلى أي حد أدت بك الرياضة إلى هذه الأسرار؟»
وأجاب قائلا: «إن الرياضة بطبيعتها هي دراسة الأنواع في أي نظام من النظم. وكانت في صورتها الأولى تتعلق بالعدد والكم، وهذا هو منشؤها التاريخي، أما فكرة المنطق الرياضي فهي حديثة نسبيا، ولكن قد تكون الرياضة نافعة في ربط أنواع معينة في نظام من النظم بإدراكنا، إلا أنها لا تعطينا أية فكرة عن حقيقتها، كما كان يظن فيما سبق، وربما درست هندسة إقليدس، ولكني أشك في أنها قد حلت لك أي لغز من ألغاز الحياة.»
واعترفت ب«أني درست هندسة إقليدس، ولما كنت غير بارع في الرياضة فقد زادت ألغاز الحياة تعقيدا.» - «كانت هندسة إقليدس تعد في وقت من الأوقات وصفا دقيقا للعالم الخارجي، ولكن العالم الوحيد الذي يصح أن تكون وصفا دقيقا له هو عالم هندسة إقليدس، ولما بدأت معارضتها في القرن الثامن عشر، اعتبرت تفاريعها المؤكدة في أول الأمر - حتى من جانب مستكشفيها أنفسهم - من الأخطاء.» «لقد قلت مرة: إنه في الوقت الذي بلغ فيه كشف الإبرة المغناطيسية أوروبا (كانت الرياضة عديمة الفائدة تقريبا منذ ألف عام) كيف كانت عديمة الفائدة؟»
كان أرشميدس - حينما طعنه الجندي الروماني - يعرف من علوم الرياضة ما عرف في أي وقت من الأوقات حتى القرن الرابع عشر تقريبا، حينما عادت الرياضة إلى مواصلة التقدم.» «أوليست عندنا رقابة على الطريقة التي تتقدم بها الفنون والعلوم ، أو تتأخر في عصر من العصور؟»
وأجاب عن السؤال من خبرته قائلا: «لنأخذ عصرنا مثلا؛ كنت في كمبردج فيما بين عام 1880م و1890م أولا طالبا، ثم عضوا في هيئة التدريس، وقد انقضى زهاء مائتي عام أو مائتين وخمسين عاما منذ اندفعت الرياضة دفعة جديدة من رجال من أمثال ديكارت وسر إسحق نيوتن، وكانت هناك مواضع غامضة كانت قواعد هذا العلم تعد فيها غير محدودة، ولكن الطبيعة الرياضية كانت تبدو في جملتها سليمة قوية ثابتة ... ولما تصرم القرن، لم يبق البتة أمر من الأمور لم يتعرض للنقد، بل لم يهتز من أساسه! ولم تسلم من ذلك فكرة رئيسية واحدة، وإني أعد ذلك حقيقة من الحقائق العظمى التي وقعت في دائرة خبراتي.»
قلت: «وهل نستطيع أن نطبق هذا القول على الدين والأخلاق؟» - «نعم، مع هذا الفارق، وهو أن الفلسفة والعلم رحبا بهذه النظريات الجديدة التي هدمت النظريات القديمة، ومن ثم انتفعت بها، في حين أن الدين قاوم الآراء الجديدة ومن ثم كابد كثيرا.»
وسأل ويكس: «وهل ينتظر أن تستمر هذه السرعة في التغير؟» «إن نتائج هذه الآراء الجديدة في العالم ستستمر في التأثير في حياتنا تأثيرا عميقا، وبخاصة في مجال الحيل الفنية، إننا نتكلم عن التغيرات التي حدثت في المجتمع من جراء الثورة الصناعية منذ نحو قرن تقريبا، التي بدأت حوالي عام 1790م، وامتدت إلى القرن التاسع عشر؛ إنها لا تكاد تذكر إذا قيست إلى الثورة العلمية التي استمرت في الخمسين سنة الماضية، منذ نحو عام 1890م. بيد أن الحيل الفنية الجديدة أيسر في إدراكها وأقل أهمية في نتائجها من المستكشفات الجديدة، وهي فوق ذلك وهمية؛ لأنها توهم الناس أن التقدم مستمر، في حين أن الدافع إليه في الواقع قد استنفد أغراضه من قبل.»
وقال ويكس: «نظرا لبعض المنافع التي تعود علينا من الحيل الفنية الجديدة ربما استطعنا أن نتوقف قليلا؛ حتى يتمكن الإنسان من اللحاق بها اجتماعيا.»
وقال هوايتهد: «إنه من طبيعة الأشياء فيما أظن أن تقع هذه الحيل الفنية الجديدة في أيدي الرجال الأشرار ... ثم إن هذه الحيل الفنية - بدورها - عاونت على ظهور مستكشفات جديدة، ولكن بعد تجربة واحدة من هذا القبيل في حياة المرء، تجربة تدل على عدم ثبات أشد الأفكار صلابة في مظهرها، بعد هذا لا بد أن يحرص المرء من شدة الثقة. وفي الكلمات الأخيرة التي كتبتها (في نهاية ذلك المقال الذي يختتم مجلدا عن فلسفتي) قلت: «إن الدقة أكذوبة.»
وعلق على ذلك ويكس قائلا: «ذلك حكم سيئ لرئيس تحرير مجلة، ما مقدار الدقة في صفحاتنا؟» وأضفت في صراحة مماثلة: «إنه أسوأ في صحيفة يومية.»
واقترح علينا هوايتهد لكي يهدئ من روعنا قائلا: «تستطيعون أن تعلقوا بالهوامش في أذيال مقالاتكم الافتتاحية، شارحين للقراء أن ذلك ما يبدو اليوم صدقا، ولكنه قد يكون شيئا آخر في الغد.» - «إن ذلك يقرب من الاتجاه العقلي الذي أكتب به «مقالاتي الافتتاحية» وقد قال نيتشه: إن المرء لا يعرف أي الأنباء هامة إلا بعد مائة عام.»
وفي هذا الصدد قال هوايتهد: «إن حياة الفكرة تختلف اختلافا شاسعا؛ بعضها يعيش مائتي عام، وبعضها يعيش ألفين، وبعضها لا يبقى أكثر من عام أو عامين، في حين أن بعضها الآخر ينتظر قرونا قبل أن يستجيب لها أحد ويضعها موضع التنفيذ! وهنا كذلك يكون عنصر الزمن متقلبا، ولكني لا أظن أن عصرا من العصور قد شهد انقلابا شاملا في طرائق التفكير السائدة كما شهد نصف القرن الأخير، وهناك فيلسوف واحد ما كان هذا ليدهشه؛ إننا حينما نقرأ أفلاطون نقول من حين إلى آخر: مسكين! إنه لم يعرف كذا أو كذا ... ولكنه - بوجه عام - قد توقع أكثر هذه الاحتمالات، ونحن نلتمس له المعاذير - على وجه الجملة - أقل مما نلتمسها لأي فرد آخر. إن أرسطو لو بعث اليوم لفزع ... لأنه قسم وصنف إلى أجناس وأنواع منفصلة، أما أفلاطون فمتماسك، وأجدني أشد انغماسا في مؤلفه الأخير، الذي يشتمل على الآراء الميتافيزيقية - مثل ثيتيتس - مني في مؤلفاته الأولى، التي يشتد فيها اهتمامه بالاجتماع، الذي نرى أن بعض نظرياته لا يستقيم تماما.»
واشتركنا في الموازنة بين ذلك وما يحدث غالبا بعد دراسة مستفيضة لأحد الفنانين الكبار، كيف نجد تدريجا أن مؤلفاته الأخيرة هي مدار إيثارنا، كما يحدث في حكمنا على ألحان بيتهوفن الأخيرة.
وقال هوايتهد: «إن مؤلفات أفلاطون التي أرجع إليها من حين إلى آخر هي تلك التي وضعها بعد «الجمهورية». وطريقته أن يعلن موضوعه، ثم يقدمه على عجل من أوجه متعددة، قل منها ما طرأ لأي إنسان آخر، وهي تثير نشاطا حماسيا في عقل القارئ، وتلك الآراء يلقى بها جزافا إلى حد كبير، وبعدما ينتهي من ذلك يشرع في ربطها بأولئك الناس الذين يعيشون في عصره والذين هم أقرب ما يكونون إلى فهم مرماه. وكلما تقدم «أشاع» هذه الأفكار حتى تبدو كأنها تدخل في دائرة إدراك الجمهور، بيد أني أود أن أنبهك إلى أن كثيرا من مزايا الأفكار يتبدد بإشاعتها.» - «لقد أطلعتني مرة على مقال في «تيميوس» يمثل تماما هذه العملية التي وصفت.» - «إن الأفكار حينما تشيع تميل إلى أن تفقد قوتها! إن ما يربطها بصور الحياة المعينة في أي عصر من العصور سريع الزوال، وجانب من هذه السرعة في الزوال نجده في الآراء ذاتها، حتى في أنقى صورها وأقواها، وقد حاولت أن أضع هذه الحقيقة في اعتباري كلما عالجت آراء الفلاسفة في العصور الأخرى. ومن الواضح أن تفكيرهم - مهما يكن مجردا - كان يتلون إلى حد ما بالمكان والزمان اللذين عاشوا فيهما، وبالقوى التاريخية الفعالة، وبالجو العقلي، وبكل الظروف الخاصة التي كانت تتحكم في الحياة حينما كانوا يفكرون ويكتبون، وقد فاتت هذه النقطة - فيما يبدو لي - كل من كتب عن مؤلفاتي، أو أكثرهم، وهي تجعل كثيرا مما قالوا بعيدا عن الصواب، ولقد وضحت رأيي في الكلام وفي الكتابة، فإذا لم يكن مفهوما فلا حيلة لي؛ فالمرء لا يستطيع أن يعيد ويكرر إلى ما لا نهاية، وفي المحاضرتين الأخيرتين في ختام المجلد الذي ذكرت مثال لما أعني. إن إله أفلاطون إله لهذا العالم، وقد جمع أغسطين بين إله أفلاطون وإله القديس بوليس، وخرج بنتيجة مزعجة . ومنذ ذلك الحين اتسعت فكرتنا عن هذا العالم حتى شملت الكون كله، وقد تصورت اتحادا بين إله أفلاطون وإله الكون.»
ودق جرس الساعة الضخمة في برج مموريال هول معلنا الساعة، فكان ذلك مذكرا لنا ومنبها إلى الوقت وسط هذا التأمل في الأبدية، وهبت النسمات العليلة لمساء شهر يونيو الرطب الحار خلال النوافذ المفتحة، وخرجت مع مسز هوايتهد إلى المطبخ الصغير لكي نأتي بطبق من البسكويت والويسكي والماء، أما شرابهما فكان معتدلا؛ فهي لا تتناول إلا الماء بغير ثلج، وهو يتناول الماء القراح بالثلج.
وبينما كنا نكسر قطع الثلج سمعنا ضحكا عاليا منبعثا من حجرة الجلوس .
قلت: «لقد فاتتنا هذه.»
وهرولنا قافلين.
وقال ويكس: «كان يتحدث عن الفجوة الحديثة بين السياسة والتخصص في العلم. وذكرته بأن مجلة الأطلنطيق قد نشرت بحثه في هذا الموضوع.»
وقال هوايتهد متلطفا: «وذكرته بأنه حذف الصفحات الأربع الأولى.»
فقالت، وقد وقفت تجاهه وهزت سبابتها متهمة إياه: «نعم، وقد أخطأت فيما فعلت؛ إننا أسفنا منذ ذلك الحين على موافقتنا على ذلك!»
وبات تحت رحمتهما، وغطى رأسه بالشال الحريري متظاهرا بالفزع! وضحكنا، وأمست القصة كأنها مسرحية هزلية.
واستطرد هوايتهد قائلا: «كنت أعتبر تلك الصفحات الافتتاحية ضرورية في بحثي؛ ففيها ميزت بين الفنون والعلوم، وبين الأدب والتاريخ، وبين النظام الاجتماعي الجامد والنظام الاجتماعي الناشط، ولكني كبير النفس، فأنا أعفو عنك، حتى إن كنت قد أخفيت فكري؛ لأني لا أستطيع أن أطبع هذه الآراء الآن في أي مكان آخر.»
قلت: «لقد طبعت كاملة في 75-1، من محاضر المجمع العلمي الأمريكي للفنون والعلوم حيث ألقيت المحاضرة، وقد طلبت اثنتي عشرة نسخة من السكرتير لكي أرسلها إلى الأصدقاء.» - «وهل بقيت لديك منها واحدة؟» - «نعم.» - «هل أستطيع أن أحصل عليها؟» - «سوف تكون عندك في الغد.»
وبقي أمامنا ربع ساعة قبل أن ننصرف، وفي خلاله عدنا بالحديث عن الأمور الكونية إلى أمور الساعة؛ كإضراب عمال الفحم المحدق بنا، وماذا يصيب من يحاول أن ينشر وصفا محايدا للقضية، ثم انصرفنا بعد العاشرة بقليل.
وفي سيارة الأجرة شرح لي ويكس لماذا حذف الصفحات الافتتاحية، قال: «إنها تبين أنها ألقيت في محاضرة، والناس يؤثرون أن يقرأوا ما يظهر لهم أنه يوجه إليهم مكتوبا لأول مرة.»
وفي اليوم التالي أعدت قراءة الصفحات الافتتاحية للمحاضرة كما نشرها المجمع العلمي، ويبدو أن هوايتهد قد قال في الأعمدة الثلاثة الأولى من تلك العجالة أكثر مما يستطيع أكثر الناس أن يقولوا في ثلاثين.
المحاورة التاسعة والعشرون
10 من يونيو 1943م
حفل آخر لتوزيع الدرجات العلمية أثناء الحرب، وقد أزيلت من فناء الكلية - حيث عبرت - أخشاب السقالات، التي نقلت إلى المكان الذي تقام فيه الحفلات في الهواء، وتحولت رقعة الحشيش إلى أرض صلبة من أثر السير عليها بالأقدام. وبدت كمبردج العلمية - كأية مدينة جامعية أخرى بعد انتهاء موسم الدراسة - وكأنها قد هجرت على حين غرة.
وكان مساء مكفهرا، يهطل فيه المطر مدرارا وتهب فيه الريح عاتية، وكان هوايتهد وزوجه وحيدين، وبدت عليهما الطمأنينة أكثر مما عهدنا فيهما، وفي لمح البصر تجاوزنا مقدمات الكلام وضربنا في أعماق الحديث، ودار الجدل حول الفجوة بين لغة الكتابة ولغة الكلام، بين الأدب وحديث الناس.
وقال هوايتهد: «يستبعد جدا أن يكون شيشرون قد تحدث إلى أصدقائه بلغة رسائله، فما بالك بلغة خطبه؟!»
وأضافت إلى ذلك مسز هوايتهد قولها: «إن العبيد من السكان يعقدون الأمر كذلك؛ فمهما تكن لغة الناس حية قوية التصوير، فإن المتعلمين يتجنبونها إذا استعملتها الطبقة المستذلة.»
وقلت: «إن الفجوة تبدو عميقة في اللغة الإنجليزية بوجه خاص.»
وقال: إنها ليست بالعمق الذي تظن؛ فإن طبقات لندن الفقيرة - مثلا - تقدر شكسبير تقديرا عجيبا، ولغته لا تبعدهم عنهم البتة، وروحهم الفكاهية من روحه تقريبا؛ فهم يضحكون مما يضحك منه، وليس في كل هذا ما يدعو إلى الدهشة؛ فهم كأولئك القوم الذين كتبت لهم المسرحيات أصلا. وفي شرق لندن مدرسة للتكنولوجيا كنت من لجنة الزائرين بها، ورأيت فيها الكثير، وذات مساء رأيت معلما يقرأ صفحة من الأدب في كتاب مقرر مع تلاميذه، وسأل عن معنى كلمة غير مألوفة من القرن السابع عشر ، وأجابه أحد الشبان إجابة صحيحة. وسئل: كيف عرف؟ فقال: «شهدت مسرحية لشكسبير (وذكرها بالاسم) في مسرح أولدفك مساء الخميس الماضي، وقد استعملت هذه الكلمة فيها بنفس معناها هنا.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن روح الفكاهة الإنجليزية كما تعبر عن نفسها في الحديث الشائع تميل إلى الخشونة، وهي أيضا تثير الضحك إلى درجة كبيرة، وهي تختلف عن العامية الفرنسية، التي تخفي وراءها عادة تلميحا قذرا، أما العامية الإنجليزية فعبارة عن خشونة طيبة صادقة، تجابهك في صراحة.»
قلت: «لو يسمح لي أن أقول كلمة طيبة في العامية الأمريكية، فهي أنها - فوق كونها جديدة قوية - تكاد تكون دائما عذبة نقية، روحها الطبيعية عالية صافية.»
ووافق على ذلك قائلا: «هذا حق، وهو من فضائل شعبكم.» «العامية آفة حياتي في التحرير؛ إن وجودي في مكتب صحيفة يومية يجعلني أسمعها دائما، والآراء المعقدة تحتاج إلى عرضها في لغة بسيطة في ظاهرها لجمهور قراء الصحيفة، مع ضرورة الرجوع إلى اللغة الأدبية عند الحاجة؛ من أجل هذا تبدو العامية كأنها الطريق المختصر، في حين أنها ليست كذلك؛ إنها كالطريق المقفل، أو الشارع المسدود.»
وعتبت علي مسز هوايتهد قائلة: «إن قوة اللغة العامية تثير في نفسك القلق باعتبارك أديبا.» «ربما، وإنما يثير في نفسي القلق كذلك أن أرى الصيغ الشرطية والأفعال المساعدة تختفي من لغة الحديث الشائعة عندنا.»
وقالت بغتة: «من رأيي أن الفارق بين حديثكم وحديثنا - الأمريكي والإنجليزي - فارق في الأسلوب، وإذا كان لحديثنا أسلوب - حتى في لغة الشعب - فذلك بالرغم منا، ودون أن ندري. وأعتقد أن التعابير الاصطلاحية وألفاظ اللغة - في الوقت الحاضر على الأقل - أقل انتشارا هنا، وكثيرا ما ألمس فقرا في الألفاظ حتى عند أصدقائي هنا الذين أتيحت لهم فرصة الإلمام بها. وإن كنت أسمع في الحديث أسلوبا، فهو مكتسب (مهما يكن الاكتساب بطريقة تستحق التقدير) ومعنى ذلك أنه مستمد من الكتب.»
قلت: «لاحظت لما تقولين مثالا رائعا في إحدى مدننا الصغيرة بماساشوست. وكان ذلك من فتى إنجليزي في الرابعة عشرة من عمره جيء به ليعيش هنا، ولم يختلف عن الفتيان الكشافة الأمريكان الذين شاركهم في اللعب من حيث أبواه، ومن حيث الطبقة التي ينتمي إليها، بل ربما تميزوا عنه في ذلك. وبالرغم من هذا فإن هذا الفتى - كلما فتح فاه - أخجلني بحديثه الجميل، بتعابيره الإنجليزية الطبيعية، وذلك دون وعي منه؛ إنما كان يتحدث بالطريقة الوحيدة التي كان يعرفها.»
وقال هوايتهد: «أنتم أيها الأمريكان لكم ميزة وحيدة كبرى جاءتكم بطريق المصادفة، أقصد الأمريكان المنحدرين من أصل إنجليزي، إن الأدب الإنجليزي من عهد شارل الثاني حتى نهاية القرن الثامن عشر تأثر بالفرنسية إلى درجة أفقدته صفته المميزة، وذلك أمر لا يدركه الكثيرون؛ من أجل هذا كان الأدب الإنجليزي في هذه الفترة غير شائق؛ فالمسرحية الهزلية بعد عودة الملكية - مثلا - فرنسية أكثر منها إنجليزية.» «إنها - برغم براعتها - كثيرا ما تنتمي إلى عالم غير عالمنا.»
واستطرد قائلا: إن شعراء القرن الثامن عشر أيضا متكلفون متحذلقون، وينسجون على منوال التقليد الفرنسي، أما أنتم في أمريكا فقد نجوتم من ذلك؛ ابتعدتم هنا، وأخذتم في تنمية ما تريدون التعبير عنه مهما يكن، وبالرغم من أن بعض شخصياتكم الكبيرة - مثل جفرسن وفرانكلن - كانوا في فرنسا إبان الفوران الثوري، الذي انتقل إلى الفرنسيين منكم، ثم انتقل منهم إليكم، حتى افترض أكثر الناس أن تأثير فرنسا في أمريكا كان بالغا؛ بالرغم من هذا، فإنه كان أقل خطورة من أثر فرنسا في الفكر الإنجليزي، وقد كان كولردج ووردزورث والشعراء الرومانسيون الإنجليز: بيرون وشلي وكيتس، ردا على هذه الحركة. وإذا تكلمنا - من ناحية أخرى - عن استخدامكم للغة نفسها، بمعزل عن الأفكار التي تعبرون عنها بها، فإن موقفكم - حقا - شديد التعقيد بسبب دخول عناصر غير إنجليزية في بلادكم.» «إن هذا العبء يقع على كواهل المعلمين بالمدارس العامة عندنا، وهنا في بوسطن - على الأقل - تراهم يواجهون الموقف في شجاعة، إننا في حي الصحافة نسمع الإيطاليين واليونان واليهود وكل من لم نعرف من الأجناس من قبل! من باعة الصحف الصغار ينادون على صحفهم في لغة بوسطونية صحيحة، إلى غيرهم ممن يحرفون النطق في الألف والراء الأخيرة.» «إن هذه الحاجة عينها قد دعت إلى الدراسات في «اللغة الإنجليزية» في كلياتكم، إننا في المدرسة الإعدادية بشربورن في غربي إنجلترا، حيث كنت أتلقى العلم وأنا في الخامسة عشرة من عمري، وقد تولى أبي القسيس تربيتي حتى هذه السن، إننا هناك لم نسمع عن شيء من هذا، ولا سمعنا به في كمبردج أيضا إلى ما بعد ذلك بجيل تقريبا! كنا نتعلم اليونانية واللاتينية والرياضة، وكان التاريخ القديم يأتي عرضا أثناء دراسة اللاتينية واليونانية، أما التاريخ الإنجليزي فكنا نقرؤه؛ لأنه كان يشوقنا، وقد يدهشك أن نعرف كيف كنا نناقش الحضارة القديمة في حماسة بالغة، وكيف كنا نرى دروس جزر بحر إيجه وما جاورها من البلدان ملائما لنا - نحن الفتيان الإنجليز من أبناء الجزر البريطانية - من حيث علاقتها بالبحار والقارات الكبرى، وكانت «روسيا» في تلك الأيام تضاهي «فارس» لبلاد «اليونان» كما عرفناها. وكنا نقرأ الأدب الإنجليزي للمتعة، وبخاصة ما نظم الشعراء. وقد «علمونا» مسرحيتين لشكسبير - ولست أذكرهما - ولكني «أستطيع» أن أذكر أني لم أهتم قط بالعودة إلى قراءة هاتين المسرحيتين، وإن كنت قد قرأت مرارا وتكرارا بقية مسرحيات شكسبير بسرور شديد! ومن اللغات الحديثة درسنا الألمانية دراسة جدية، أما المادتان اللتان لم تنالا منا اهتماما جديا في المدرسة فهما الفرنسية والطبيعة.» وتوقف عن الكلام قليلا، ثم قال وهو يبتسم ابتسامة خبيثة: «ومن العلوم لم نتعلم إلا قليلا بقدر المستطاع.»
وسألته: «ولماذا لم تدرسوا الفرنسية دراسة جدية؟»
وصاحت مسز هوايتهد قائلة: «ماذا تقول؟ هل تريدنا أن نأخذ الرجل الفرنسي الذي يشبه الضفدع مأخذا جديا في تلك الأيام؟! وأذكر أني نشأت في فرنسا ولم أتكلم سوى الفرنسية حتى ذهبت إلى إنجلترا وأنا فتاة في السابعة عشرة من عمري. حينئذ تكلمت الإنجليزية، إلا أن أحدا لم يستطع فهم ما أقول.»
وتطوع مستر هوايتهد برواية شيء من ذكرياته، قال: «لقد قضيت المساء الأول الذي أمضيناه معا في إطلاعها على بعض الصور؛ لأني لم أستطع فهم ما كانت تقول.»
قالت: «نعم ، بيد أني سرعان ما أدركت أني لا أستطيع أن أستمر كما كنت، ومهما يكن ما بذلت من جهد في تعلم الإنجليزية، فقد بذلت جهدا أكبر في التخلي عن لهجتي الفرنسية، وقد التقى مرة أحد أصدقائنا من كمبردج - وهو رجل ظريف، اسمه تيودور بك، سافر إلى مكان ما بالشرق - التقى برجل من ترنتي كان يعرفني، وقال: «هل سمعت أن هوايتهد قد تزوج؟ كلا. من تكون؟ وما شكلها؟» فقال صديقنا لبك: «لقد أخطأ هوايتهد خطأ جسيما؛ إذ اقترن بما ليس على شاكلته.»» - «إن ما حيرني فيكما أمدا طويلا، قبل أن أعرفكما، هو أنه بالرغم من أنكما قد عشتما إلى حد كبير على الصفوة في مجال التبادل العقلي، في كمبردج وفي لندن فيما بعد، إلا أنكما لم تترفعا قط! وبالرغم من أنه لم يطرأ لي أبدا في تلك الأيام أني أستطيع أن أحضر الاجتماع الذي كنتما تعقدانه مساء كل أحد، إلا أنه قد قيل لي: إن كل امرئ هنا يستطيع الحضور إن شاء، وإنكما كنتما تستقبلان الزائرين زرافات.»
قالت فخورة: «ستين في المساء الواحد! ولكنهم كانوا يدخلون المطبخ ويعاونونني.» - «عرفت بعض أسر الأساتذة الذين جاءوا إلى هذا المكان من الجامعات الأخرى، ممن لقوا مشقة كبرى مدة طويلة قبل أن يألفوا العيش في كمبردج. فلما أتيتما تحولت الحال - فيما يبدو - إلى اجتماع حبي.»
قالت: «خبرني. هل بدا علينا في أول الأمر أننا من [الأجانب] إلى درجة قصوى؟» - «أجل، في أول الأمر، وأستطيع أن أذكر متى بدأ التحول؛ كان ذلك بين عامي 34 و35.» - «وفيم كان الفارق؟» - «لقد أحببتكما.»
وقالت: إن في هذا التفسير الكفاية.
وسأل هوايتهد: «منذ كم سنة تعارفنا؟» - «منذ أحد عشر عاما.» - «إن الصداقة تبدد الزمن! إني أشعر كأنني عرفتك منذ أربعين عاما.» - «هناك روائي إنجليزي تعودت أن أقرأه وأن أعود إلى قراءته، ويرجع السبب في ذلك إلى أن صفحاته كانت سبيلي الوحيد في ذلك الحين للاتصال بالعالم الذي كنتما تتحركان فيه تحركا طبيعيا، وهو عالم يفهم فيه الناس الآراء ويتناولونها في يسر؛ وذلك هو جورج مرديث.»
قال: «حقا، لقد نعمنا بمجتمع ترنتي وكنجز، وهما الكليتان اللتان عرفنا فيهما الناس معرفة طبيعية جدا، ولست أقصد «بالمجتمع» بطبيعة الحال معنى الترفع السخيف، وإنما أقصد الاختلاط بأصحاب العقول المتجانسة، ولكنا لم نتخير في كمبردج هنا أو هناك.» وذكر أسماء الكثيرين من زملائه، والتقطت أذني من بينهم اسم جب.
فصحت قائلا: «جب؟ لقد نشر كتابا طالعته عن سوفوكليز، وكان جب دائما في متناولي في نص إغريقي حينما كنت هنا في الكلية، وكثيرا ما تساءلت عن شكله، وهذه هي المرة الأولى التي أتابع فيها أثره.» «كان زميلا لطيفا وله زوجة فاتنة ! لم تكن ضليعة في العلم، ولكنك لا تريدها أن تكون كذلك! وكان لزوجها مزاج حاد، كانت تستطيع أن تخفف مسز جب من وطأته بفتنتها.»
وصححته مسز هوايتهد قائلة: «بل قل: ليدي جب، ولا تظلم ذكراها؛ فقد كانت تحب هذا اللقب.»
واستطرد هوايتهد قائلا: «إن المكان الذي اصطدمت معه فيه كان في انتخابات الزملاء لترنتي، التي كان يحن إليها حنينا شديدا. وكلما خرجنا من معركة من هذه المعارك الانتخابية كان سر رتشارد خصما لأحد زملائه لا يبادله الكلام، وكنت أضطر إلى أن أقول لزوجتي: [ادعي - يا عزيزتي - جب وزوجته للعشاء؛ إن سر رتشارد لا يكلمني في الوقت الحاضر]. ومن الأعمال التي أذكرها جيدا والتي أمتعتني كثيرا ما قام به عندما ركب متن النهر على عجلته.»
وقالت: «كانت ليدي جب شديدة العطف علي حينما وصلت إلى كمبردج وأنا حديثة عهد بالزواج، وقالت لي: اتخذي لك ما شئت من إخوة، ولكن لا تتخذي لك أبناء عم، وكانت نصيحة طيبة استجبت لها.»
قلت: «بالنسبة إلي كطالب كان ناشر كتاب سوفوكليز الذي أرجع إليه عملاقا.»
ووافقتني مسز هوايتهد، وقالت جادة: «... حتى في مزاجه الحاد!» - «وأعطاني كذلك درسا من دروس «اللغة الإنجليزية» التي كنتما تتحدثان عنها منذ لحظة؛ لأني - مثلكما - تعلمت عن الإنجليزية من اليونانية.»
وحذرني هوايتهد قائلا: «لاحظ أن هذه الدراسات في «الإنجليزية» في الكلمات الأمريكية ضرورية جدا. وإن كانت الدراسات الكلاسيكية في اليونانية القديمة واللاتينية لا تدرس، فلا بد من دراسة الإنجليزية، على أحسن صورة ممكنة، وكل ما أرجوه ألا يجعلوا دراستها مملة؛ إن المعلمين - ما لم يكونوا موهوبين بالطبيعة في مهنتهم - ليسوا خير من يحبب الشباب في الأدب الممتاز.»
وسألت مسز هوايتهد بغتة: «هل تستطيع أن تخبرني لماذا يفضل الرجال النساء كثيرا كمعلمين؟ أقصد على وجه الإجمال؛ حينما تكون المرأة المعلمة ممتازة (وقد كنت كذلك من ناحية، ولم أكن من ناحية أخرى) تجدها رائعة، غير أن ذلك استثناء، أما في الرجال فهناك ما يجعل المهنة لهم عملا طبيعيا (إن صح أن نقول ذلك ) وهم يحبون القيام بها.» - «دعنا نحصر ملاحظاتنا في أشخاص غير موجودين» (ولمحت بنظري المعلم الجالس إلى يميني). «يبدو أن هذا الميل يتخذ في الرجال صورة الرغبة في إذاعة العلم والمعرفة؛ كان هذا الميل عند رتشارد فاجنر، وكان يعلم أن هذا الميل في نفسه، وقال في خطاب إلى ماتيلد وزندنك: إن هذا الميل قد اتخذ في نفسه صورة الرغبة في إذاعة المعرفة بين الناس، وإن المرء ليلمس هذا الاتجاه عينه لدى أقل الناس شأنا، ويمكن أن يكون قوي الأثر. وهو مركب من محبة صادقة للجنس البشري، ومن الرغبة في تقديم العون له ...»
وسألت مسز هوايتهد: «وهل ذلك بالإضافة إلى متعة التحدث إلى الجمهور؟» «أقترح أن نحتكم إلى أحد أعضاء هذه المهنة، الموجود بيننا الآن. ما رأيك فيهم؟»
قال وقد نظر إلينا متلطفا بنا: «لولا أني واحد منهم لقلت: إنهم قوم يدعون إلى الإعجاب.»
وتشبثت زوجته برأيها وقالت: «إن الرغبة في السيطرة عامل من العوامل في هذا.»
قال: «لا بد من التمييز بين الرغبة في السيطرة وحب العمل المجدي؛ إن الدنيا مليئة دائما - وهي الآن أشد امتلاء من أي عهد سبق - بالأفراد الذين يريدون أن يسيطروا حبا في السيطرة فحسب (وهنا هز قبضته القوية في الهواء، وكشر عن أسنانه). ولكن رجال الخير، من أمثال الطبقات المهنية وأصحاب الخيال الخلاق، إنما يريدون النشاط المجدي؛ أنت - مثلا - حينما تحرر مقالاتك، لا تدفعك رغبة السيطرة ...» - «حتى إن دفعتني رغبة السيطرة، فإن توهم السلطان لا يمكن الإبقاء عليه.»
وقال هوايتهد: «أعترف أن الخط الفاصل بين الاثنين رقيق جدا، إنما المهم هو الفصل بينهما؛ ففي أحد الجانبين مجرد حب السيطرة، وفي الجانب الآخر متعة التأثير بلون من ألوان النشاط النافع ... خذ مثلا أوبرات فاجنر التي تحبها، لا أظن أنها تؤذيك بتاتا؛ إنها بالنسبة إليك عالم من الخيال الشعري، ولكني على يقين من أنها لعدد كبير من الألمان في الوقت الحاضر تعني أننا سلبناكم مرة، وسنسلبكم مرة أخرى!»
وبدا في نظرة هوايتهد وفي نغمته وهو يذكر هذه العبارة الأخيرة أنه يقتبس من أقوال غيره.
وسألته: «هل حدث في التاريخ أن نبذ أفراد مسئولون - فرضا - قواعد الأخلاق نبذا تاما، كما يحدث في ألمانيا الحديثة؟»
قال: «لقد كان هناك دائما أفراد في جميع الأمم تأججت في صدورهم إرادة السيطرة، دون أن يحد منهم وازع من ضمير، وقد سادوا فترات تطول أحيانا وتقصر أحيانا أخرى، أما ما استجد في هذا الموقف في ألمانيا فهو اتساع مداه، وطول أمده؛ فقد دام أطول من أي عهد سبق وبعنف أشد، وكانت له آثار أبعد مدى وأقوى هدما.»
وقالت مسز هوايتهد: «لقد ذكرت مرديت منذ لحظة؛ كيف استطاع أن يضع طبيعتين لا توافق البتة بينهما في امرأة واحدة كما وضع في ديانا؟ إن الطبيعتين لا يمكن أن يعيشا معا في إهاب واحد، ولو فعلا لتمزق منهما الإهاب!»
وأدى بنا هذا إلى الموازنة بين الروائيين الإنجليز والروس.
وقال هوايتهد: «الظاهر أن الروس قد تميزوا إلى أقصى حد في الرواية على نطاق واسع؛ فهناك تولستوي ودستوفسكي وترجنيف. إن الرواية تهتم إلى حد كبير بالعادات الاجتماعية السائدة في وقت معين ومكان معين، إلا إن تناولتها أمثال هذه الأيدي التي تتعرض لجميع آفاق المجتمع؛ الأسرة، والنظم السياسية والعسكرية والاقتصادية، والصراع بين الشخصيات والآراء، واهتمام الرواية بزمان معين ومكان معين يضعها في المحل الثاني كصورة من صور الفن، فلا ترتفع إلى مستوى تلك الموضوعات العالمية العظيمة التي تعرضت لها المآسي الإغريقية الكبرى. ولكن، ألم تلاحظ أن هناك عددا كبيرا من الأعمال الفنية الثانوية تعيش وتكتب لها حياة طويلة - قد لا تستحقها كما تستحقها الأعمال التي تفضلها - وذلك لأنها تشتمل على موضوع من الموضوعات التي تشيع بين الناس في كل حين؟ وفي الحق إن الموضوع الواسع الانتشار يرجح أن يكون موضوعا جيدا. غير أن العمل الفني - لكي يعيش - لا بد أن يكون مستساغا عند عدد كبير من الناس.»
قلت: «كم يود عالمنا أن يعلم إذا كانت المآسي اليونانية الثلاث والثلاثون التي بين أيدينا هي خير المآسي التي بلغ عددها ثلاثمائة وتسع عشرة، والتي عرف عن شعراء المأساة الثلاثة الكبار أنهم كتبوها. إن جلبرت مري يزعم أن المآسي التي عاشت ربما كانت أفضلها جميعا، أما إذا تحدثنا عن الرواية كدراسة اجتماعية، فإن الكتاب الخيالي الذي أحب أن أقرأه إن أردت صورة عن الطبقة الوسطى في إنجلترا في منتصف القرن التاسع عشر، هذا الكتاب من وضع امرأة، وعنوانه «مدلمارش».»
قال: «سأحدثك عن روائي آخر، يقترب مثلها - إن لم يكن أكثر منها - من الحقيقة، وذلك هو أنتوني ترولوب.»
وقالت زوجته وقد أشارت إليه بحركة في وجهها تدعو إلى الضحك، وفي أحلى أنغام صوتها: «لست أنكر أن الصورة لا تمثل غيرك يا عزيزي، وغير أسرتك الكهنوتية.» وقد أضافت هذه العبارة الأخيرة في خبث شديد.
وسألت: «وما رأيكم في الحوار؟ كم منه مطبوعا أو ملقى على المسرح مما يمثل تمثيلا صادقا الطريقة التي يتحدث الناس بها فعلا؟»
وصاحت مسز هوايتهد قائلة: «ها نحن أولاء قد عدنا إلى موضوع الفجوة بين لغة الكتابة ولغة الكلام.» - «الأمر شبيه بالموسيقى التي يتكرر فيها النغم ... إن الحوار كما يجري على ألسنة الناس فعلا قلما يكتب ويكون له أثر إلا إذا تناولته يد الكاتب بالتحرير ولو قليلا. لا بد أن يكون جرسه بالطريقة التي يتحدث بها الناس، ولكنك إن حاولت أن تدون حديث الناس حرفيا فإنك قد تجد أنه لا ينم عن الحياة كما ينبغي.»
وتدخل هوايتهد لينقذنا : «الفن هو صياغة خبرة من الخبرات في قالب معين، واستمتاعنا الجمالي حين نتعرف إلى هذا القالب، ومن الخطأ أن نظن أن للكلمات كيانا ذاتيا؛ إنها تعتمد في قوتها - كما تعتمد في معناها - على ملابساتها العاطفية، وعلى نغمها حين النطق بها. وهي تستمد كثيرا من تأثيرها من أثر المقال كله الذي وردت فيه، إنك إذا استخرجت الكلمات من محيطها أصبحت زائفة، وكم عانيت من الكتاب الذين اقتبسوا مني عبارة من العبارات؛ إما بعيدا عن محيطها أو إلى جوار مادة غير ملائمة، مما حرف معناي كل التحريف، أو هدمه هدما شاملا.» - «وهل هذا أمر يحتمل أن يقع فيه أساتذة الفلسفة؟»
قال: «إني لا أقدر الفلاسفة - كطبقة - قدرا كبيرا؛ إن العقول الفلسفية الممتازة القليلة بحاجة إلى أن تفهم من حيث علاقتها بالعصور التي عاشت وفكرت فيها، وهذا بعينه هو ما لا يحدث إطلاقا، إن الفيلسوف صاحب الباع الطويل لا يفكر في فراغ مطلق، وحتى أشد أفكاره تجريدا يتكيف إلى حد ما بما هو معروف أو غير معروف في الوقت الذي يعيش فيه؛ ما هي العادات الاجتماعية المحيطة به؟ وما هي الاستجابات العاطفية؟ وماذا يعده الناس هاما؟ وما هي الآراء الأساسية في الدين والسياسة؟ إن ديكارت - مثلا - كان رجلا بسيطا نسبيا، وأعتقد أنه نسي القرن السابع عشر.» «وكذلك نسيه أولئك الذين حاضروا عن ديكارت هنا حينما كنت طالبا، وهكذا كانت حالهم حينما بلغوا سبينوزا وليبنتز.»
وقال هوايتهد: «إن أرسطو يوضح ما أرمي إليه توضيحا حسنا؛ لقد أسس العلم الحديث، وتقسيمه للظواهر الملاحظة، الذي حسبه حقائق كاملة، تبين أنه لا يزيد عن أنصاف حقائق، بل أقل من ذلك! إن أقسام أرسطو - الأنواع والأجناس - صادقة بمعنى أننا نعرف أن الكلب يختلف عن القرد الأفريقي، وأن كليهما يختلف عن الإنسان، ولكنك أنت وأنا والكلب والقرد كلنا ننحدر من جزيئات دقيقة من المادة الحية التي نشأت في مكان ما، عند حافة البحر والأرض منذ ملايين وبلايين السنين، ومع ذلك فإن أردنا علما، فإن ما فعل أرسطو كان عين الصواب؛ لا بد لك في العلم من النظام، ومن أجل هذا لا بد من عزل أنواع معينة من هذا النظام وإخضاعها للملاحظة. غير أن الموضوع في العلم - كما هو في الفلسفة - لا يمكن فهمه دون دراسته من حيث علاقته بالحياة المحيطة به، وكان من الممكن أن يأتي العصر الصناعي في عهد أرشميدس؛ فإن كل ما هو ضروري كان معروفا، ولم ينقص العهد سوى الشاي والقهوة! وقد أثرت هذه الحقيقة في عادات الناس، حتى إن العصر الصناعي كان لا بد أن يتخلف قرونا حتى يلاحظ الناس في أسكتلندا غلاياتهم والماء يغلي فيها، وهكذا اخترعوا الآلة البخارية.»
واستطرد قائلا: «هناك فيلسوف واحد يمدنا بتفسيره الخاص لمحيطه الاجتماعي، وهو صاحب أعظم عقل أنتجه إنسان الغرب، وذلك هو أفلاطون؛ إنه يكتب في صيغة الحوار، حيث يتناول الحديث أشخاص كثيرون، فترى وجهات نظرهم المختلفة، وتتكون لديك فكرة عن أي أنواع الأشخاص هم، وبأي العادات الاجتماعية المحيطة والنظم السياسية تأثر تفكيرهم؛ المدينة الحكومية وصناعاتها، ونظامها الاقتصادي، وحياتها العائلية، وعاداتها التقليدية. وقد قلت منذ لحظة: لا يمكن أن نعامل الألفاظ - ونحن مطمئنون - كأنها معان مستقلة بذاتها، أو أفكار منتزعة من محيطها؛ إنها تكتسب معناها الحقيقي من قوة المقال الذي وردت فيه، كما أن جمال النجم لا ينحصر في لونه وبريقه فحسب، ولكنه يكتسب كذلك من جلال الكون المحيط.»
وكان ذلك يحتاج إلى بعض الوقت للإغراق فيه، وحيث إنا كنا مشتركين في حديث، ولم نكن نقرأ كتابا نستطيع أن نلقيه جانبا، أو أن نعيد قراءته؛ لكي نحصر الفكر في إحدى فقراته؛ فقد قلت لكي أتيح لنفسي راحة عشرين دقيقة: «لقد قضيت الليالي في العام الماضي
ومن خصائصها العجيبة أيضا أن لها في الوقت عينه محتوى عاطفيا وعقليا. ولست أدعي أني أعرف الموسيقى، ولكني أعتقد أن الموسيقى هي رياضة الجمال.»
قال: «إني أقبل هذا التعريف؛ لأني أعتقد أنا نستوعب عن طريق حاسة السمع عندنا بمقدار ما نستوعب عن طريق حاسة النظر، وربما أكثر، وأرجو ألا تظن أنني أقصد أن أوازن بين اعتمادنا على الحاستين؛ لأنا أكثر اعتمادا على النظر ما دامت لدينا القدرة على الانتقال، غير أني أعتقد أننا أشد استجابة للصوت الرزين؛ للموسيقى، أو لجرس عظيم؛ إنه ينبه العاطفة في اللحظة عينها التي يطرق فيها السمع، ولا نفكر فيه إلا فيما بعد، إن موسيقى الأرغن توجهنا توجيها دينيا أيسر مما تفعل الأشياء المرئية بدرجة كبرى. إن سلامكم الوطني الذي كثيرا ما أستمع إليه مذاعا بالراديو، لا يوحي - لحسن الحظ - بأن تردده الجماهير جماعة، ولكنه يؤدي الغرض منه بدرجة تدعو إلى الإعجاب، وإني حينما أصغي إليه أكون أشد تأثرا مني وأنا أشهد العلم، ولا أقول شيئا (وابتسم وهو يقول هذا) عن المزايا النسبية لعلمكم الوطني كعلم؛ إنما الرأي الذي أرمي إليه هو أن الفكرة - بحاسة النظر - تبعث العاطفة، في حين أن العاطفة - بالصوت - تبعث الفكرة، وهو اتجاه أكثر مباشرة، ومن ثم أشد قوة.»
فعلقت بقولي: «حضرت مع مستر جد، مدير أركسترا بوسطن السمفوني، تمثيل مسرحية أبسن «جون جبرائيل بوركمان»، وفي الفصل الثاني يعزف أحدهم «دانسي ما كابر» لسنت سائين خلف المناظر، إن المسرحية قوية، ولكن حينما سكتت الموسيقى تبادلنا النظر وابتسمنا! إن الموسيقى - وإن تكن قد خفتت حتى لا تطمس الحوار - قد طغت على المنظر. لقد فعلت ما قلت تماما، تحدثت إلى العواطف مباشرة.»
وأجاب بقوله: «إن تسعين في المائة من حياتنا تسيرها العاطفة؛ إن أذهاننا تسجل فقط، وتنفذ ما ترسله إليها خبراتنا البدنية، إن العقل بالنسبة للعاطفة كالملابس بالنسبة لأجسادنا. وما كنا لنستطيع أن نمدن الحياة جيدا بغير ملبس، أما لو كانت لدينا ملابس بغير أجساد فنحن إذن بغير قيمة.»
ودقت ساعة مموريال هول التاسعة، وجاءت مسز هوايتهد بمائدة الشوكولاتة الساخنة. وفيما تبقى لدينا من وقت تحدثنا عن فترة من فترات التاريخ كانت - فيما يبدو - سعيدة الحظ. وهي فترة عاشت فيها ثلاثتنا مددا متفاوتة.
قال: «إن من أسعد الأوقات - التي عرفت في تاريخ الإنسان - فترة الأعوام الثلاثين التي تقع على وجه التقريب بين عام 1880م وعام 1910م، ولست أقصد إلى القول: إنه لم تكن هناك أشياء عديدة كانت بحاجة إلى التغيير، ولكنا نوينا أن نغيرها وشرعنا في ذلك، كانت الظروف مثالية لأمثالنا، الذين نستمتع بقدر معقول من الراحة، لم يكن لدينا مال كثير، وأمامنا عمل ضخم لا بد من أدائه، وإحساس بالهدف والتقدم في العالم.»
وقالت مسز هوايتهد: «وكنا نعمل أيضا لأغراض كثيرة ما كانت تتعارض وصالح الطبقة التي ننتمي إليها.»
قال: «كانت زوجتي، فيما بين سن العشرين والخامسة والعشرين، تعاني وقتا عصيبا؛ كان عليها أن تكسب قوت يومها في لندن.» - «كنت شابة، لا يحميني أحد، وعلي أن أتوجه إلى عملي وأعود منه وحدي، وقد عرضتني ملابسي للمضايقة؛ لأنها لم تكن مما يلائم فتاة عاملة، ولكن كان لا بد لي من ارتدائها؛ لأنها كانت كل ما أملك.»
وعاد إلى الكلام فقال: «أما عن نفسي، فإني أستطيع أن أقول: إن ظروفي كانت على خير ما يرام طوال حياتي، وفي تلك السنوات التي تقع بين عام 1880م و1910م كثيرا ما كنا نتحدث عن ذلك العالم العجيب، الذي لا بد أن يعيش فيه أبناؤنا.
المحاورة الثلاثون
19 من يونيو 1943م
تغيب هوايتهد عن الغداء السابق بنادي السبت في شهر مايو. وأرسل يقول بأن القرار الذي يحرم استخدام الغاز في الذهاب إلى الحفلات الاجتماعية كان ينطبق - فيما يتعلق به - على عربات الأجرة، ولما كان لا يفكر في ركوب قطار كمبردج الذي يسير تحت الأرض، فقد تحتم عليه عدم الحضور، وأسف الجميع لغيابه. وقلت: «لا بد أن نفكر في الإتيان به إلى هنا بأية وسيلة؛
وقال الرئيس: «لقد ألفنا منك ومن ألفرد كدر لجنة؛ لترى ما يمكن أن يعمل.»
وقادتني هذه المهمة إلى الطرف الجنوبي من المدينة؛ إلى إسطبل شركة تشكر لعربات الأجرة، وهنا كان القرن التاسع عشر لا يزال في حيوية شديدة؛ فهناك خدم للخيول، وسائسون، ولا يقل عن ثلاثين حصانا قويا، وعربات أصبحت الآن مما يصح أن يودع المتاحف، وعربات من التي لا تتسع إلا لاثنين، وحناطير وعربات ركوب، ومركبات مقفلة، وعربات تتسع لأربعة أشخاص، وعربات خفيفة ذات عجلتين، وعربات تجرها الكلاب، وعربات يجرها حصان واحد، وصيحات السائسين، بل إن رائحة الإسطبل نفسها كانت قمينة بالمتحف. إنها تذكر بالأيام السعيدة الخالية! واخترنا عربة يجرها حصان واحد، أنيقة، منجدة بالجلد الفاخر، نوافذها من الزجاج البلوري، بها بوق للنداء، ومصابيح على الجانبين، عمرها أربعون عاما، وكانت ملكا لأسرة ثرية نسيت اسمها، وكانت تسير في الطريق المؤدي إلى واشنطن كل شتاء. ••• (يبلغ نادي السبت عيده المئوي في عام 1955م. «كثيرا ما كان مستر أمرسن يترك مكتبه في كنكورد يوم السبت؛ لكي يتوجه إلى مكتبة أثينيم، ويزور أصدقاءه أو يقابل ناشريه بشأن العمل، والأرجح أن يتوقف عند «مكتبة الركن» عند ملتقى شارع واشنطن بشارع المدرسة.» وقبل إنشاء النادي بست سنوات كان أمرسن يبحث مع أصدقائه مشروع إنشاء ناد؛ حيث يستطيع العلماء المنعزلون والشعراء والطبيعيون - كأولئك الذين كانوا في كنكورد - أن يجدوا صحبة ملائمة حينما يأتون إلى المدينة، وقد انتهى الأمر في الواقع إلى إنشاء ناديين في وقت واحد تقريبا؛ أحدهما نادي المجلة، الذي تولدت عنه في عام 1857م مجلة أطلنطيق الشهرية، ثم نادي السبت الذي حل محله تدريجا، أو ابتلعه ابتلاعا، ومن بين أعضائه الأوائل أمرسن وهوثورن ولنجفلو ولول وهولمز وموتلي ودانا وهويتير وبرسكت وجاسز وباركمان. وكان يقدم الغداء فيه - ولا يزال - في السبت الأخير من كل شهر من سبتمبر إلى يونيو، مع بذل المحاولة في كل يونيو لحضور حفلات توزيع الدرجات العلمية بهارفارد. وفي تلك الأيام الباسلة من القرن التاسع عشر كان الأعضاء يجلسون من الساعة الثالثة حتى التاسعة، في بيت باركر، في حجرة أمامية فسيحة حيث تطل النوافذ الطويلة على تمثال دكتور فرانكلن البرونزي - وكان يصلح أن يكون عضوا له قيمته! - في حقول ستي هول الخضراء، ويلتقي الأعضاء الآن في نادي الاتحاد بشارع بارك، على مرمى حجر تقريبا من ذلكما المعلمين الأولين - أثينيم ومكتبة الركن القديم التي انتقلت الآن إلى شارع بريفلد - وهذه الحقائق والمقتبسات مأخوذة من العدد الأول من مجلدين ضخمين عن تاريخه، بعنوان: السنوات الأولى من نادي السبت، تأليف إدوارد والدو أمرسن.) •••
كان موعد الغداء في الساعة الواحدة والنصف، وطلبت من العربة أن تكون بفندق أمباسادور في كمبردج في الساعة الثانية عشرة والنصف، وكانت هناك في الموعد المضروب تماما، ولكنها غير العربة التي اخترناها.
وتبين لنا السبب في ذلك فيما بعد، كانت هذه العربة معيبة قليلا؛ المقبض مخلوع من الباب من جانب الدخول، وكانت منجدة بلون أرجواني ملكي، وكانت تفوح بروائح مختلفة، بما فيها رائحة الخيول، ولكني لم أتبين منها أثرا لرائحة أكاليل الموتى، وركبنا.
لم تكن سيارة، المقاعد مغطاة بالوسادات، ولكنها برغم ذلك جامدة، والمساحة التي تتحرك فيها الركب ليست فسيحة، وعجلات المطاط الجامدة التي تكسو الإطارات الخشبية لا تخفف كثيرا من هزات الكتل المرصوفة (وكان ذلك كله يعد من أسباب الترف)، ولكن النوافذ كانت مفتوحة، وكان اليوم من أيام يونيو الصافية تهب فيه نسمات نقية، وتتوهج فيه أشعة الشمس، وأقصر الطرق إلى شارع بارك كان يمر بكمبردج من خلال حي المصانع، وفوق قنطرة لنجفلو.
وكان منظرنا يسترعي الانتباه؛ كان وليام هل - سائق العربة - يلبس قبعة من الحرير سوداء عالية، ليست جديدة كما كانت من قبل، وسترة زرقاء، ليست جديدة كذلك، ذات أزرار نحاسية، وبدت الدهشة على وجوه المشاة، وأعتقد أنهم ظنوا هذا المنظر في أول الأمر حركة بهلوانية للإعلان، وأخذوا يبحثون عن اللافتة، فلما لم يجدوها طرأت لهم فكرة أخرى، وهي أننا ربما كنا طالبين في حالة من حالات المرح، وتطلعوا داخل العربة ليروا من فيها. فوجدوا أن راكبيها لا يتفقون وما تصوروا، وفغر الناس أفواههم، وانفجر بعضهم بالضحك، ولما انحدرت العربة خلال حي المصانع، صاح صغار الأطفال الذين يلعبون في الطرقات بعبارات السخرية، لا تزعج نفوسهم نوازع الضمير، ومن حين إلى آخر كنا نمر بسائق سيارة أخرى، فنراه يطل برأسه ويلقي على سائقنا نكتة، مثل: «تقدم ولا تخش شيئا يا جدي!»
كل هذا لم يزد على أن يكون صورة لاشعورية لازمت الموضوع الذي طرح للمناقشة.
قال هوايتهد: «نحن في دور الانحلال من تلك الفترة التاريخية التي أؤرخها على وجه التقريب من حوالي عام 1450 بعد الميلاد، والتي بدورها تعتبر بداية لنهاية العصور الوسطى، وأشك إن كان أحد في القرن الثالث عشر يدرك ما كان قد بدأ بالفعل يحدث.»
وسألت: «هل من الممكن عادة للناس أن يدركوا حقيقة الانهيار الاجتماعي الكبير، حتى يحل بهم؟»
وأجاب: «إن والدي يوضح ذلك؛ ولد في عام 1827م، وعاش حتى عام 1898م، فامتد عمره واحدا وسبعين عاما، وقد شاهد الثورة الصناعية الأولى - وعدها أمرا طبيعيا - وهي الثورة التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر، وكان من مظاهرها الآلة البخارية، ونظام المصانع وما إلى ذلك، ولكنه لم يتخيل ولو في صورة باهتة الثورة الثانية، وهي أعظم من الأولى، الثورة التي أحدثتها التكنولوجيا؛ كان قسيسا، وكان العالم الذي يعيش فيه يبدو آمنا ثابتا، بالرغم من أنه كان في نهايته تقريبا في سنة وفاته ... ولما كانت إنجلترا أول ما تصنع فقد أثر ذلك في تاريخنا بطريقة عجيبة عكسية؛ فبدلا من أن نتحرر في عهد الثورة الفرنسية، أصبحت حكومتنا محافظة، وقاومنا آراء القرن الثامن عشر التقدمية، بدلا من أن نرحب بها.»
وقلت: إن في عصور التغير السريع، يتوقف كثير، وكثير جدا، على نوع الشخصيات التي ترتفع إلى مراكز الحكم.
وقال هوايتهد: «من الأسف الشديد أن أرازمس لم يكن شخصية أقوى مما كان؛ كانت آراؤه صائبة، كان من الممكن أن تمد العالم بحلول لتقدم العالم المسيحي أوفق من الحل الذي انتهى إليه الأمر، ولكنه كان يفتقر إلى القوة ، وآلى الأمر إلى أيدي لوثر وكالفن، اللذين وقعا في أخطاء جسيمة، كانت نظرة أرازمس هي نظرة الأفراد العاقلين المستنيرين، ولو أن من قام بتطبيقها كان زعيما قادرا لما كانت هناك حاجة إلى أجنيشس ليولا أو «مجلس الدين». لقد ارتكب كالفن ولوثر خطأ فاحشا بنبذهما كل جاذبية للكنيسة من الناحية الجمالية، وهي أحد عناصرها الطبيعية، وأنت تعلم مقدار جفاف الصلوات البروتستانتية؛ قليل فيها ما يغذي العاطفة، وهي لا تلجأ إلى الجمال إلا قليلا، أو لا تلجأ البتة إليه.» - «وقد يشوقك أن تعرف أن صديقنا لفنجستون ، بعدما أتم قراءة سيرة لوثر التي كتبت منذ عهد قريب، كتب إلي يقول: إن لوثر بدا له وكأنه «هتلر آخر غير عف اللسان».»
قال هوايتهد: «إن لفنجستون رجل أقدر رأيه في مثل هذه الأمور أكثر من أي شخص آخر؛ إن من كان مطلوبا في عصر الانتقال ذاك رجل يعمم الآراء القديمة ويوجهها توجيها حرا، أو يفسرها تفسيرا رمزيا يمكن أن يجعلها مقبولة للناس الذين يتطلعون إلى المستقبل؛ ذلك ما فعله شعراء المأساة العظام أيسكلس وسوفوكليز ويوربديز، ثم ما فعله فيما بعد الفلاسفة، وبخاصة أفلاطون؛ ذلك ما فعله هؤلاء بديانة أولمب الإغريقية القديمة في القرن الخامس ق.م استطاعوا أن يتناولوا الآلهة القدامى؛ زيوس وأبولو وبالاس أثينا وغيرهم، وأن يخففوا من بربرية العقائد القديمة، وينقذوها، ويحولوا الأساطير البدائية إلى رمزية، ويبنوا قنطرة بين ما كان الناس يعتقدون فيه سابقا - ولم يستطيعوا بعد الإيمان به - وبين الآراء التي يمكن أن يقبلها القوم المتمدنون، استطاعوا أن يبنوا هذه القنطرة بسوقهم الناس معهم في مجتمعات شعبية ضخمة، تشهد أداء مسرحياتهم أمام الجمهور.»
وعلقت على ذلك بقولي: «يقال: إن الأسطورة هي الصيغة التي ينقل الناس بها الحقائق التي يحسونها إحساسا عميقا، قبل أن تبلغ مرحلة الآراء العامة، وكانت لكتاب المسرحية الأثينيين هؤلاء - باستخدامهم موضوعات أسطورية لمسرحياتهم - ميزة كبرى؛ لأنهم يناشدون فى وقت واحد العقل والعاطفة، يناشدون المواطنين العاديين كما يناشدون المتعلمين؛ مما أدى إلى أن تتمكن المجموعتان من زيادة الانسجام فى الشعور والعمل.»
وقال هوايتهد: «إن أية طريقة من طرق التفكير تقوم على أرضنا هذه محدودة جدا فى تصوراتها - سواء أكان ذلك فى الدين أم فى الفلسفة - وقد كانت أكثر الطرق كذلك فعلا. إننا نعلم الآن أن أرضنا كوكب تافه يدور حول شمس ثانوية في جزء من الكون ليس كبير الأهمية. وأثر هذه المعرفة عند خيار الناس وهم يتبادلون الحديث كما أتبادله معك - على فرض أننا من خيار الناس (وقال ذلك وهو يبتسم) - ينبغي أن يكون أعظم من ذلك بدرجة لا تحد، ولست أرى سببا يدعو إلى الظن بأن الهواء المحيط بنا والسماوات التي تعلونا قد لا تكون مسكونة بأصحاب عقول، أو بذاتيات، أو صور من الحياة، لا نفهمها كما لا تفهمنا الحشرات.
إن الفارق - حجما - بين الحشرات وبيننا لا يقاس إلى الفارق بيننا وبين الأجسام السماوية - ومن يدري؟ - ربما كانت السدم ذاتيات حساسة، وما نستطيع رؤيته منها هو أجسامها، وليس ذلك أبعد عن المعقول من أنه ربما كانت هناك حشرات لها عقول حادة، وإن تكن نظرتها أضيق أفقا من نظرتنا (وهنا ابتسم مرة أخرى). أقصد أننا جزء من سلسلة لا متناهية، وما دامت السلسلة لامتناهية، فيجدر بنا أن نضع هذه الحقيقة في اعتبارنا، وأن نقر في أذهاننا هذه الإمكانيات التي لا تنتهي.» - «كانت لديك في شبابك ميزة الاستماع إلى ما كان يدور الحديث فيه في حجرة الجلوس العامة في ترنتي، والمساهمة فيه.»
قال هوايتهد: «وأضف إلى ذلك كنجز.» - «كنجز وترنتي إذن! وقد دام ذلك خلال العقدين الثالث والرابع من عمرك، وكان أولئك الناس من غير شك من الطراز الأول، وكان من بينهم كثير من رجال العلم، كما كان من بينهم كثير من أساتذة العلوم الإنسانية، وقد حدث ذلك كله ما بين عام 1880م و1990م، في الفترة السابقة مباشرة لتلك التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية الكبرى التي انقضت علينا، ويبدو لي أنه لو كان بالإمكان التنبؤ، لاستطاع هؤلاء أن يتوقعوا حدوث أمر ما. فماذا كان مقدار توقعهم فيما تظن؟» - «كان كبيرا بالتأكيد في الناحية العلمية ؛ ذهبت إلى كمبردج في عام 1880م، وكنت رياضيا ممتازا بالنسبة إلى فتى في التاسعة عشرة من عمره، وكان معلمي تلميذا لكلارك ماكسويل، الذي مات قبل ذلك بنحو عام، وهو أيضا كان مبرزا، وكانت آراء نيوتن لا تزال في تمام قوتها، وقد عمل كلارك ماكسويل على التوفيق بينها وبين المستكشفات الحديثة آنذاك في الكهرباء، أما في الطبيعة الرياضية فيبدو أن الجهد فيها كاد ينتهي، واتجهت المحاولة نحو شرح بعض ما تبقى من مفارقات بين ما كان مفهوما وما لم يكن؛ وذلك بطريق التفسير الرياضي. وفي محاولة ذلك انقلب كل شيء رأسا على عقب، وكان الناس في ترنتي بين عام 1885م وعام 1895م تقريبا - وبعضهم من العباقرة - يعرفون على وجه العموم ما سوف يأتي في سبيل التقدم العلمي، أما ما لم يستطيعوا بطبيعة الحال أن يتنبئوا به فهو ما سوف يترتب على الحيل الفنية الجديدة من الناحية الاجتماعية؛ ليست هناك فكرة واحدة في طبيعيات نيوتن - مما كان يعلم كحقيقة كلية - لم يحل محلها غيرها. إن آراء نيوتن لا تزال نافعة، كما كانت في أي وقت سبق، ولكنها لم تعد صادقة بمعنى الصدق الذي تعلمت أنها تمثله، وقد أثرت هذه التجربة في تفكيري أثرا عميقا؛ لقد ظن الناس أنهم على يقين، بل وعلى يقين من أصلب شيء في الكون على ما يبدو، ثم رأوا أن هذا اليقين قد تحول على أيديهم إلى لانهايات لا يتصورها العقل، فأثر ذلك بالنسبة إلي في كل شيء آخر في الكون.»
وقد عبرت العربة قنطرة لنجفلو، وأخذت تتجه نحو شارع كمبردج بدلا من شارع شارلز.
فأطل هوايتهد وسأل: «في أي طريق تعتقدون أنه يسير؟»
قلت: «هذه هي الطرقات شديدة الانحدار التي تقع خلف بيكن هل، إنه لا يستطيع أن يصعد في أي واحد منها، أعتقد أنه بحث مع رئيسه الطريق الذي يسلكه، واختار أيسر الطرق للحصان.»
فقال هوايتهد: «إن الحصان يترنح كثيرا من جانب إلى آخر، والظاهر أنه لم يعتد جر العربات، وأعتقد أنه يصلح أن يكون مسرجا، إن فكرته في تيسير الأمور على نفسه هي - فيما يظهر - أن يحاول السير في كل شارع جانبي.» (وكانت تلك ملاحظة تنم عن ذكاء؛ ففي نهاية الرحلة اعترف لي وليام هل أنه لم يمتلك هذا الحصان إلا منذ يوم الإثنين السابق.)
وانطلق خلال ميدان سكولاي، وعلى امتداد شارع ترمنت إلى جوار مخزن الحبوب، ومدافن كنيسة كنجز إلى زاوية شارع بارك، متجنبا بذلك كل التلال حتى المائة الياردة الأخيرة من الطريق، حيث أول انحدار بشارع بارك حتى مقر الحكومة، وهنا أيضا اجتذب الانتباه الشديد منظر عربة يجرها حصان تقف عند نادي الاتحاد، ومما زاد في اجتذاب الانتباه أن العربة كانت تسير في الطريق الضيق الذي يقع بين النادي وعمارة تكنر، ثم توقفت فجأة بين الرصيفين، وقد اعترضت سيارة نهاية الطريق المسدود من الداخل. وطلب إلي سائق العربة أن ينزل الركاب ليحركوها.
وخيرا فعل، ودخلنا النادي في الساعة الواحدة والدقيقة الخامسة والعشرين بعد الظهر، وسلمت رسالة السائق إلى الكاتب في مكتبه، ونظر إلي في دهشة وذهول، وأعدت الرسالة.
قلت: «إن الأستاذ هوايتهد قد أتى ليحضر غداء نادي السبت في إحدى العربات ويقول السائق: إنه لا يستطيع أن يسير بالعربة فوق التل، وهو يريد أن يسير في طريقكم هذا، ولكنه مسدود بإحدى السيارات.» ونظر إلي الكاتب وكأنه لم يفهم شيئا، قلت: «اخرج معي؛ لأريك.»
وخرج معي. ثم ضحك مقهقها، ولكنه حرك السيارة، وانطلق سائق العربة إلى الداخل، وقد لزم جانب الطريق، ملتمسا الظل للحصان، ومبتعدا عن حركة المرور (نهاية النصف الأول، وقد تقدمنا).
وليام فلبس، الذي شغل منصب وكيل وزارة من عام 1933م حتى عام 1936م، كما كان سفيرا في إيطاليا من عام 1936م حتى عام 1941م، أحد أعضاء النادي، وكان حاضرا، وقد عاد من وقت قريب جدا من مهمته في الهند كممثل شخصي للرئيس بلقب سفير، وبعد الغداء تحدث عن هذا الشأن بناء على طلب الحاضرين لمدة نصف ساعة تقريبا ثم دعا إلى سؤاله، ولو استثنينا بعض ما ذكره عن لنلثجو نائب الملك وأوكنلك رئيس قوات الجيش وفيلد مارشال ويفل ؛ فقد حرص على ألا يزيد في كلامه عما يمكن أن يذاع في مؤتمر صحفي، ولكنه أظهر في جلاء أن الولايات المتحدة تتصل بهذا الجزء من العالم اتصالا لا يسر، وأن أعمال الحكومة البريطانية التعسفية تكذب في آسيا مزاعمنا كمحررين.
وفي الحديث الذي تلا ذلك وجه إليه السؤال هوايتهد والأستاذ هارلوشابلي، عالم الفلك بهارفارد، وبلس بري وجيروم هنسيكر، مهندس الملاحة الجوية، ورئيس القسم بالمعهد التكنولوجي بماساشوست، وكامرن فوربس، الذي كان حاكما عاما في الفلبين، وسفيرا في اليابان، والذي تحدث كرجل له خبرته الخاصة كسياسي عمل في آسيا.
وكانت الحجرة باردة مريحة، بالرغم من أن جو الظهيرة في الخارج كان شديد الحرارة، وهي طويلة، مرتفعة السقف، لها مدفأة مزخرفة في أحد طرفيها على طراز أوائل القرن التاسع عشر؛ لأن البناء كان في الأصل منزل أبوي لورنس لول بالمدينة، وقد ذكر مرة أن هذه الحجرة كانت حجرة نوم لأمه. ويطل المكان على قمم الأشجار في الحقوق العامة التي أينعت وأورقت واشتدت خضرتها بفعل الربيع المطير، وتعلو هذه الحقول سماء يونيو الزرقاء، مبيضة من أثر ضوء الشمس القوي، ومليئة بالسحب الفضية التي تجري سريعة تدفعها الرياح الجنوبية الغربية. وقبل أن ننصرف طلب إلي إدوار فوريس سكرتير النادي أن ألقي نظرة على دفتر الزيارات، ولم تكن أمامي سوى لحظة واحدة؛ لأننا كنا قد طلبنا عودة العربة في الساعة الثالثة وخمس عشرة دقيقة، وهي الآن الثالثة والنصف تقريبا. وفي هذه اللحظة التي توافرت لي رأيت توقيعات فرانسسن باركمان ووليم جيمس وتوقيع جده وجد أخيه كامرن، ر. و. أمرسن.
وخرج إدوارد بكمان وألفرد كدر؛ لكي يلقيا على العربة نظرة، وتذكرا السنوات التي قضياها في الكلية، وقالا: إن الرواية لا تتم فصولا إلا إذا تناولوا قليلا من الشراب، وإن السائق - لكي يعيش وفقا للتقاليد - ينبغي أن يكون ثملا، ولكنه لم يكن، غير أنهما ابتهجا لما عرفا أنه لم يكن من الممتنعين عن الشراب.
ولما كان الوقت مساء السبت، والجو لطيفا، فقد كان الناس وزوجته وابنهما الصغير في المدينة يسيرون على الأقدام فوق الأرصفة، وأكثرهم في شارع ترمنت، حيث كان علينا أداء رسالة منزلية عند س. س. بيرس: كان لا بد لنا من تسلم ثلاث علب ثقيلة مصنوعة من الكرتون، طلبناها من قبل بالتليفون؛ لأن قلة تموين الغاز لا يمكنهم من توصيل البقالة إلى كمبردج. ولما اقتربت العربة من الرصيف الذي يقع أمام المحل التجاري، شق على المشترين - وأكثرهم من السيدات - أن يلزموا آداب السلوك. دهشن لأول نظرة، ثم ابتهجن، ثم تحيرن، ثم حاولن أن يكتمن ضحكاتهن! واستطعن لأول وهلة بطبيعة الحال أن يدركن أننا اضطررنا إلى ذلك بسبب قلة تموين الغاز، ولكنهن لم يكن على استعداد لأن يتقبلن التقاليد الملكية كلها التي سادت في القرن التاسع عشر بغير تحوير.
وقال هوايتهد بعدما وضعنا بضاعتنا في العربة؛ علبتين إلى جوار ركبتي السائق، وعلبة إلى جواره على المقعد: «أظن أننا لو أطللنا برءوسنا من النوافذ وانحنينا، استقبلنا الناس بالهتاف.»
ولم يكن الأمر يختلف عن ذلك كثيرا؛ فقد لفت الملاحون - وهم في زيهم البحري - رءوسهم صوبنا، وابتسموا ساخرين، ووقف الفتيان - وهم في زيهم العسكري - صامتين في طريقهم تبدو عليهم الدهشة، كما وقف المشترون وأيديهم مليئة بالحزم، وتطلعوا إلينا في ذهول، محاولين أن يكيفوا موقفنا من غير شك، ولما كنا نكف عن المسير عند علامات المرور، كنا نستمع في وضوح إلى ما يبديه بعض المارة من ملاحظات، وكنا نستطيع أن نتلقى كثيرا من نكات الجمهور السائرين فوق الرصيف لو أردنا ذلك.
وأذكر فوق هذا كله روعة هذا اليوم من أيام شهر يونيو، ولا يرى المرء كثيرا من الخضرة - فيما خلا مخزن الحبوب وحقوق مدافن كنيسة كنجز - وهو في طريق العودة كما كنا، وقد لزمنا نفس الطريق الذي أتينا به، خلال ميدان سكولاي إلى شارع كمبردج عبر قنطرة لنجفلو، ولكن العين تقع هنا وهناك على شجرة أو على رقعة خضراء، مترعرعة، كثيفة. وقمم الأشجار كلها تتمايل وتهتز من فعل الرياح الجنوبية الغربية، والمدينة في رداء يونيو، تحت سماء يونيو الزرقاء، بدت جميلة على غير عادتها.
وكنا نثب فوق الكتل الحجرية التي تعترض شارع كمبردج، وكان هوايتهد يتحدث عن اختلاف المميزات العامة بين النساء الإنجليزيات والنساء الأمريكيات.
قال: «إن التشابه السائد بين تربية البنات والبنين في أمريكا يجعل النساء الأمريكيات جامدات، والنظرية هنا هي أن تربية البنات مع البنين، ولعبهن معهم، واشتراكهن في ألعابهم، ومرافقتهن لهم إلى المدرسة، بل وإلى الكلية أيضا في كثير من الأحيان، ذلك كله يكسبهن قوة في شخصياتهن. والواقع أن هذه التربية لا تنجح النجاح الذي يتوقعه الإنسان، وأعتقد أن أنجح النساء - كنساء - كن في القرن الثامن عشر (وأنا أتحدث بطبيعة الحال عن نساء الطبقة الممتازة)؛ فقد كان لهن مجال أفسح لقدراتهن الفطرية التي يتميزن بها، وزوجتي سيدة من هذا الطراز؛ فقد نشأت في أسرة على طراز القرن الثامن عشر من الوجهة العملية من الأرستقراط، وخفف من حدة هذا الأثر الأرستقراطي اضطرارها - كشابة لم يكمل استعدادها - إلى كسب قوتها، وقد فعلت! أما إن أردت أن تعرف كيف كانت المرأة في القرن الثامن عشر فاقض مساء مع زوجتي.»
قلت: «لقد قضيت معها أمسيات كثيرة، فتكونت لدي نفس هذه الفكرة.»
وواصل حديثه قائلا: «وأرجو ألا تفهم أني أقول: إن نساءكم الأمريكيات لسن على حيوية شديدة وذوات تأثير كبير؛ إنهن في كثير من الأمور أشد تحررا من نسائنا الإنجليزيات، ولكن من بين النساء العاملات - إذا حكمنا عليهن كطبقة - أولئك اللائي يقمن بعمل عام إلى جانب إدارة بيوتهن وأسراتهن بجدارة وحسن تدبير - أعتقد أن لنسائنا الإنجليزيات مجالا أوسع ...» ولخص رأيه في اقتضاب قائلا: «لو أني ولدت امرأة؛ لأردت أن أولد في أمريكا
- «هل صداقة أسرتكم مع خدمكم، التي لاحظت أنها عميقة خالصة، أمر فردي أو أمر شائع؟»
قال: «بل إنه أمر شائع أكثر منه فرديا، وأستطيع أن أذكر لك السبب؛ إن العلاقة بين المخدوم والخادم بيننا أمر لا نفكر فيه - وإن بدا ذلك عجيبا - بطبيعة نظام الطبقات عندنا؛ لما ترسب فيه من نظام الإقطاع. إن الصداقة بين أشخاص من طبقات مختلفة أقرب إلى الإمكان؛ لأنا لا نحط من شأن المرء الذي لا يرتفع في طبقته؛ حيث إنا ندرك أن الطبقة التي يولد فيها المرء مسألة تتعلق بحظه.»
وأمنت على هذا القول، ثم أضفت: «كان المفروض في هذه البلاد حتى عهد قريب أن المرء إذا لم ينجح في هذه الدنيا فإنما يرجع ذلك إليه، ولا يزال في هذا شيء من الصدق حتى هذا الجيل الحاضر، وبخاصة في الغرب الأوسط حيث نشأت، وهذا أحد الفوارق الكبرى بين الجيل الماضي وهذا الجيل؛ كان عندنا أمان - أو نحسب أنه كان عندنا - أما أبناء الجيل الحالي فلم يعرفوا الأمان قط، ولا يبدو أمامهم لكي يتطلعوا إليه.»
وقال هوايتهد: «كان الخدم دائما أصدقائي، اعتدت وأنا صبي في السادسة من عمري أن أقفز هنا وهناك متنقلا مع البستاني وهو يؤدي عمله، وقد علمني أسماء الأزهار والنباتات، واعتدت كذلك في صباي أن أقضي الشهور متواصلة في بيت جدتي لأمي، الذي يطل على جرين بارك في لندن، وكانت وصيفتها جين وايكلو تقرأ لي دكنز بصوت مرتفع، وقد قرأت لي «صحائف بكويك» كما قرأت «دافيد كبرفيلد»، وأكسبتهما عندي حياة قوية، وكانت أسرة أمي أرفع مكانة بدرجة ما من أسرة أبي من الناحية الاجتماعية، بيد أنه لم تكن لها ما لأسرة أبي من امتياز عقلي، وكان أفرادها شديدي التنازع، فلما كان يدب بينهم خلاف - وكثيرا ما كان يحدث ذلك - كانوا في أغلب الأحيان يرفعون أمرهم إلى جين وايكلو، وكانت تسوي الأمر؛ كانت جين السمنت «المادة اللاصقة» الذي يضم أفراد الأسرة بعضهم إلى بعض.»
قلت: «هل وقعت من نفسك شخصيات دكنز موقع الصورة الهزلية لأشخاص أطوارهم غريبة، وأنت تستمع إلى وصيفة جدتك تقرؤه عليك بصوت مرتفع هناك وسط لندن؟» «كلا، إن شخصيات دكنز هي الطبقات الفقيرة في لندن، وليست البتة صورا هزلية؛ إن هذه الفكرة تنشأ بطبيعة الحال بين القراء الذين لا يعرفون أهل لندن، أما بالنسبة إلينا فإن متعة دكنز تنحصر في أنه يصف أشخاصا حقيقيين، عرفنا أشباههم. وأطوارهم الغريبة من أخص مميزاتهم، ولست أعرف مكانا يولد هذه الأطوار مثل لندن.» - «كنا نتحدث منذ بضع ليال عن روائيين استطاعوا ذلك، وغيرهم ممن لم يستطيعوه؛ ما رأيك في ثاكري؟» - «إنه يرى أكثر مما ينبغي في طبقة ما، ولا يرى ما يكفي في طبقة أخرى، إن محاولاته طموحة، ولكنها ليست ناجحة كل النجاح، وشخصيات ترولوب أقرب إلى الحقيقة من شخصياته، إني أعرفهم معرفة دقيقة؛ لأني عشت بين أمثال هؤلاء الناس بعينهم.» - «كنا نتحدث عن الخدم منذ لحظة، وكنت أريد أن أقول: إن المرء في الغرب الأوسط - في صباي - إذا لم يصادق «الفتاة المستأجرة» كما كانت تسمى الخادمة، وإذا لم تجالس هذه الأسرة على مائدة الطعام، فكأنه لم يحصل على واحدة منهن!»
واستطرد هوايتهد قائلا: «إن الإحساس بالمساواة بين الناس ينشأ عن الآراء السائدة عن تهيؤ الفرص، إن القدرات البشرية تتنوع تنوعا لا حصر له، وبعض الناس يتميزون بالنجاح في بيئة معينة، وبعضهم لا يتميز قط. وصور التآلف الممكنة للقدرات البشرية سلسلة لا حصر لحلقاتها، وهي في ذلك كالبيئات الممكنة التي تصلح لإظهار هذه القدرات. وتلاؤم القدرة مع البيئة أمر يتوقف على الحظ إلى حد كبير، ومن الخطأ الفاحش أن نحسب - كما يحدث في كثير من الأحيان - أن القدرة الحقيقية تنحصر في صور الاستعداد الذي يتفق عرضا أن تكون مطلوبة في وقت معين ومكان معين، وفي الصور التي تؤدي إلى التقدم الاقتصادي كذلك. إن المواهب التي تتجاوب مع مثل هذه الفرصة قليلة جديدة بالنسبة لمجموع القدرات البشرية.»
قلت: «لقد تحدثت أكثر من مرة عن عنصر الحظ، حتى في أكثر الحيوات تحديدا في مصيرها، فما رأيك في حياتك؟» - «كانت هناك في كمبردج في شبابي وظيفتان شاغرتان، وكان ذلك من حسن حظي؛ إحداهما وظيفة الزميل، والأخرى وظيفة المحاضر، ولولا الوظيفة الثانية لكان من الأرجح أن أشتغل بالتدريس في مدرسة خاصة، وألا أتقدم أكثر من ذلك.»
وذكرت: «أن بعض الناس يتركون في نفسي انطباعا بأنهم يحملون بين جوانحهم مغناطيسا يخلق لهم الفرص، ويبدو كأنه الحظ! ولا أعتقد أنه كذلك، وربما كنت واحدا من هؤلاء.»
وقال مؤكدا: «كلا، إنني لم أخلق فرصي بنفسي قط، ولقد نجحت إلى حد كبير، ولكن بعض هذا النجاح يعود إلى عنصر الحظ.» - «لقد قمت بجانب كبير من العمل الإداري في ترنتي، ثم في جامعة لندن فيما بعد؛ مما جعلك تحيا حياة العمل جنبا إلى جنب مع حياة الفكر ... وقبل أن أضع سؤالي الرئيسي، اسمح لي أن أوجه إليك سؤالا عارضا: ما رأيك في جامعة لندن؟»
وفي الإجابة عن هذا السؤال وصف في شيء من التفصيل وظائفها، وبعض واجباته في عمل مجلس الجامعة، واختتم حديثه بابتسامة وهو يقول: «ولما كنت أحد أعضاء المجلس؛ فإنني أعتقد أننا أدينا عملا رائعا!» - «ويؤدي بي ذلك إلى سؤالي الثاني: أي الحياتين عمل على نموك أكثر من الآخر؛ حياتك كعالم، أو حياتك كإداري؟» - «تعلمت مهنتي من الكتب بطبيعة الحال، بيد أن العمل الإداري لم يكن أقل أثرا في تنميتي، بل إني في الواقع لأميل إلى القول بأنه كان أشد أثرا، ولولا مقابلاتي المستمرة ومعاملاتي وحديثي مع الناس لانحصرت في زوايا العالم الباحث. إنني قوي الإيمان بالمحادثة، وأعتقد أني حصلت على الجانب الأكبر من نمو شخصيتي من الحديث الجيد الذي أسعفني الحظ دائما بالحصول عليه، وذلك فيما يخرج عن نطاق معرفة الكتاب الضرورية لتدريبنا المهني.» - «يصح ذلك في ترنتي، وفي لندن فيما بعد. ولكن هب أنك قضيت تلك السنوات في مكتب صحيفة من الصحف ...»
قال: «أنت أيضا أتيحت لك فرصة عظيمة من الأحاديث التي جرت في مكتبك.» - «حقا إن الحديث في مجلة «جلوب» يفضل كثيرا ما يتصور أكثر رجال العلم، والواقع أني أعترف أنه أعلى قدرا مما أستطيع أن أحصل عليه في كثير من المجتمعات العلمية؛ إن رجال العلم لا يقابلون من صنوف الحياة بقدر ما نقابل. ومن ناحية أخرى، نجد أن رجال الصحافة يحيون حياة عمل، إنهم لا يعيشون عيشة التأمل؛ لأننا حتى بعد أن نعود من الطريق حيث نلتقط الأخبار، ثم نكتب كما أفعل، لا بد أن نكون قادرين على الأقل أن ندون شيئا عن موضوعات الساعة، وأن نرويه مع تقدير مسئوليته؛ حتى لا تقذف نوافذ مكاتبنا بالطوب في صبيحة اليوم التالي.»
وقال هوايتهد: «إنني أسمي هذه الحياة حياة عملية، كما أسميها حياة فكرية. أما عن حياتي - وأنا أستعيد ذكراها الآن - فترجع إلى أيام الدراسة؛ كنت زعيما في الألعاب، وكنت أجيد لعب كرة القدم ، كما ألعب الكركت بدرجة مقبولة، وإن كنت قد لا تتخيل ذلك الآن. كان بمدرسة شربورن أربعمائة طالب تقريبا، تسعون منهم داخليون، وكنت رئيس الطلبة وزعيم الفرق الرياضية، فكان علي من أجل هذا أن أحفظ النظام في الداخلية، ومن ثم فقد تدربت طوال حياتي كلها على إدارة الأمور ... أعتقد أننا أوشكنا على الانتهاء من رحلة العودة.» وكان يطل من نافذة العربة، حيث كان المشاة على الجانبين - وقد ازداد عددهم مرة أخرى ونحن ننطلق في الشوارع السكنية في كمبردج - كانوا يتطلعون إلى إعداد العربة بدهشة، ثم يثوبون إلى أنفسهم في الوقت الملائم، فيكتمون الضحك.
وقطعنا الرحلة عائدين في خمس وأربعين دقيقة، وقد نقلنا وليام هل ذهابا وإيابا دون حادثة، اللهم إلا إذا حسبت الرحلة حادثة واحدة متصلة! وفي المسكن في الطابق العلوي كان إدوار بكمان في الانتظار؛ لينقلهما إلى مزارع ددلي في بدفورد، وكانت مسز هوايتهد أنيقة الملبس، ترتدي القبعة، وتلبس القفاز؛ استعدادا للرحلة. وسألتنا: كيف كانت رحلتنا في العربة؟
وقال هوايتهد: «ذهبنا وجئنا في جو من انتباه الجمهور الشديد.»
قالت: «تقصد سخرية الجمهور؟»
وأجاب في شيء من المجاملة: «كلا، بل أقول: «بسمات» الجمهور.»
وقلت: «إن الرحلة كانت أقل إتعابا وأكثر سرعة مما توقعت.»
ولم يعلق هوايتهد على جانب التعب. أما عن جانب السرعة فقال في لطف:
المحاورة الحادية والثلاثون
27 من يوليو 1943م
بعدما قضيت يوما حارا في العمل بالمدينة كان من الترفيه أن أتوجه إلى كمبردج؛ لأتناول العشاء مع آل هوايتهد في الساعة السادسة والنصف، ولم يكن هناك أحد غيري، وقد هب النسيم العليل، وتخلل نوافذهم المفتوحة في الطابق الخامس، المطلة على الحقول والأشجار.
وتبادلنا النكات عن العشاء؛ قالت مسز هوايتهد: «أشك أننا نستطيع أن نقدم إليك
وكان الأستاذ هوايتهد في مكتبه، فدخلنا عليه، وكان يرتدي لباسا أبيض ويخلع سترته (وقد طلب إلي أن أخلع سترتي كذلك، ففعلت). فبدا عليه الارتياح إلى الجو، كما بدت عليه صحة غير عادية، وكان مسوليني قد سقط من عهد قريب جدا، وتذكرت أن هوايتهد منذ صيفين مضيا في نفس هذه الحجرة قد قال لي: «لقد دون مكيافلي قواعد النجاح قصير الأمد، الذي يمتد من خمسة عشر إلى عشرين عاما تقريبا، وتذكرت أيضا أنه كان هناك رجل روماني في الزمان القديم بعث سفيرا إلى ألمانيا العليا في عهد الإمبراطورية دومتيان، وقد هده الألم وأعياه، وتعلق برغم ذلك بالحياة «حتى أعيش على الأقل يوما واحدا بعد وفاة هذا القاطع للطريق.» فقلت: إنه مما يريح النفس ولو قليلا أن يشهد المرء سقوط مسوليني.
فقال هوايتهد: «هذا أمر جميل.»
وقالت: «أتسميه قاطع طريق! إنه عقرب قذر.»
وسألت مستر هوايتهد إن كان يكتب شيئا ما.
فقال: «ولكني كنت أقرأ ما كتبت.»
ولم أستطع أول الأمر إدراك ما يعني؛ لأني كتبت مقالات صحفية قصيرة منذ إبريل، ثم تذكرت أن مجلة الأطلنطيق لشهر أغسطس، والتي صدرت منذ وقت قريب قد نشرت لي «مركز الإعصار».
وقد انعقد مؤتمر يضم نظارا عديدين لمدارس إنجلترا الجديدة الإعدادية وأعضاء هيئة التحرير بمجلة «جلوب»؛ لبحث موضوع التربية الحرة في زمن الحرب، وأثرها في الأولاد ممن هم دون سن التجنيد، وهي الثامنة عشرة. وموضع الخطر أن يتركوا تربيتهم هذه ليتجهوا، إن لم يكن كلية إلى العلوم الحربية؛ فمن المؤكد إلى العلوم على حساب المواد الإنسانية. ولم يعلم أحد إلى أي مدى تدوم الحرب. وإذا حرمت عدة أجيال متعاقبة من المراهقين من سبيلها الوحيد إلى التربية العامة وإلى العادات المدنية للعقل التي اعتمد عليها مجتمعنا في نقل تقاليده الحرة، إذا حدث ذلك فقد تكون حربنا كسباق الزوارق على نهر المسيسبي؛ توقد فيه النار بشحنة الزورق وأثاث الحجرات؛ لكي ينتهي بنصر يكسبه بعدما يصبح هيكلا يفرغ من كل شيء سوى المواقد والآلات الحربية.
فقال هوايتهد: «إنك تثير كل الموضوعات الصحيحة، ولكني لا أستطيع أن أتفق معك في كل نتائجك. لو أخذتم على عاتقكم في أمريكا - على خلاف إنجلترا وبعض بلدان القارة الأوروبية - أن تقدموا تعليما ممتازا، لا إلى القلة ولكن لكل أفراد الشعب؛ فإن الصيغة التي يتخذها هذا التعليم تحتاج إلى تعديل! إنني أميل إلى القول بالحاجة إلى التعليم العام حتى سن السادسة عشرة تقريبا، ثم - فيما بين السادسة عشرة والتاسعة عشرة - أدخل فيه العناصر العملية، وبعد ذلك لا بد من إتاحة أكثر الفرص للدراسة، سواء في داخل المعاهد وفي خارجها، بالمحاضرات العامة الجامعية مثلا؛ حتى يستطيع الناس أن يشبعوا شغفهم بكل أنواع الموضوعات، ويجد كل منهم مجالا لاستعداده الخاص، وأرى أيضا أن تصبح قراءاتهم حية باتصالهم الشخصي بالمحاضرين، ولو كان بيدي الأمر لجعلت بعض هذا التعليم المتقدم إجباريا، وأبقيت على عملية التعلم حتى سن التسعين.» وقد قال هذه العبارة الأخيرة وهو يبتسم، ولكنه - برغم هذا - كان يقصد ما تمنى.
واستطرد قائلا: «ولاحظ أني أشك في أن هذه الجامعات العظيمة بما فيها من تخصص في العلوم يبلغ غاية التركيز، وبمن فيها من جماعات الأساتذة الذين ينعزلون عن الحياة اليومية لأوساط الناس، أشك في أن مثل هذه الجامعات تكون شيئا حسنا على إطلاقه.»
قلت: «لقد طرأت لي مثل هذه الفكرة مرارا، ووصفي الخاص لها هو أن المتعلمين على هذه الصورة يصبحون متأنقين من الناحية العقلية.» - «هناك جماعات عديدة لأصحاب المهن الرفيعة في هذه المدينة - بل في أي مدينة - تعليمهم له ما لأساتذة الجامعة من قيمة بالنسبة إلى الجمهور» (وهنا دعينا لتناول العشاء، وكنا في طريقنا إلى مائدة الطعام) «وإحدى هذه الجماعات رجال الصحافة، وينبغي لهم أن يحاضروا أكثر مما يفعلون.» - «من الألغاز عندي» (وقد صممت أن أبوح بما في نفسي) «أن هارفارد ظلت ثلاثة قرون تمد مدينة بوسطن برجال متعلمين فرضا، وحقيقة في كثير من الأحيان، ومع ذلك فالعائد أقل مما كان ينتظر، ألم يكن من الواجب على المدينة أن تؤدي عملا أفضل مما فعلت؟!»
وأجاب مؤكدا: «لقد أحسنت أداء واجبها، بل لقد أدته بدرجة لم يألفها أحد من قبل. وهل تستطيع أن تسمي مدينة أمريكية قامت بأفضل مما قامت به؟! إن أصحاب المهن العالية عندكم يحتفظون - على وجه الجملة - بمستوى رفيع جدا، وبخاصة أصحاب المهن الطبية. ماذا كنت تتوقع؟» - «أعتقد أن ما يرضيني هو اشتعال العبقرية على الدوام، ثم إني ربما كنت أعرف من خفايا المدينة أكثر مما ينبغي.»
وجلسنا إلى مائدة صغيرة جميلة من طراز دنكان فايف، أعدت لثلاثة أشخاص، وقد تسرب ضوء شمس الأصيل الأصفر من ناحية الغرب خلال الستائر البندقية التي فتحت شرائحها قليلا، والتي رفعتها كلها مسز هوايتهد، بعدما غربت الشمس خلف برج مموريال هول، فسمحت لضوء الشفق - الذي ما برح قويا صافيا، وإن يكن أشد شحوبا - بالدخول، وقد سقط بأكمله على وجه الفيلسوف الرزين. ومن المؤكد أن خمس لقمات للعشاء كان تقديرا خاطئا؛ لأننا تناولنا في العشاء - فيما أظن - طعاما فاخرا (وإن كانت مسز هوايتهد قد وصفته بالبساطة) وقد وضعت إلى جوار الأطباق زجاجات الشراب المثلج، وشرحت لنا كيف طهت الطيور، والسلطة، وفطيرة التفاح. وقد جاءت «روعة» الطعام من اللمسات الماهرة في الطهو، ثم ذكرت لي هذه اللمسات، وأضافت إلى ذلك قولها: «إن الطهو واجب من الواجبات التي
وقال هوايتهد: «لا يحتمل أن يجد المرء طعاما جيدا، مهما يكن عنده من طهاة ماهرين، ومهما يكن ما يدفع لهم من أجور، إلا إذا كان الطهاة يحبون من يطهون له .»
وقلت: إن أحسن طاهيتين عرفتهما في حياتي؛ إحداهما امرأة من يوركشير، والأخرى من أيرلندا، تندرجان تماما تحت هذا التقسيم، ويضاف إلى ذلك أنهما كانتا متدينتين؛ إحداهما بروتستانتية، والأخرى كاثوليكية.
وأجاب هوايتهد فى احتشام: «الطهو أحد تلك الفنون التى تتطلب الأداء من أشحاص لهم طبيعة دينية إلى حد كبير.»
وأضافت إلى ذلك زوجته: «والطاهي الماهر يطهو لمجد الإله.»
وتلكأنا على مائدة الطعام في ضوء الشفق الذي أخذ في الزوال، وقد أمسى النسيم الذي هب خلال النافذة الكبرى باردا ممتعا منعشا. وفي ذلك الضوء الهادئ كان المساء من تلك الأمسيات الصيفية التي تبدو كالخلود البهيج.
وانتقلنا إلى حجرة الجلوس، فتغير المنظر، وكان هوايتهد يقول: إن تركه كمبردج في سن الخمسين وذهابه إلى لندن كان أحد العوامل التي حددت مصير تطوره: «فقد زج بي ذلك في المشكلات العملية للتربية؛ في كمبردج اكتسبت خبرة في العمل السياسي وفي التنظيم، ولكن حقائق الحياة في لندن كانت أوسع من ذلك بكثير.» وذكر لنا كثيرا من الأشياء التي كانت يتحتم عليه أداؤها، وكيف ساقته إلى جميع الطبقات، وقال: «إن مدارسنا الفنية مثال لما قصدت إليه حينما كنا في بداية هذا المساء نتناقش في التعليم العام، وأنا أعرف أن نظام التعليم الشعبي في لندن قد وصم بالنقص، ولكني وجدته رائعا بعدما خبرته عن كثب؛ إنه ييسر لجميع أنواع الناس الدراسات التي تنفعهم في الحياة العملية، وفي الفنون كذلك، وإنك لتجد الناس من جميع الطبقات وجميع الأعمار باحثين عنها.»
وقالت مسز هوايتهد: «ومما يدل على أن هذه الدراسة لا تنتمي إلى طبقة بعينها أن شابا ممن نعرف عظيم الثراء؛ تلقى أحسن تعليم في التصوير في القارة الأوروبية مما يمكن أن يحصل عليه بالمال، هذا الشاب وجد عند عودته إلى الوطن أن أحسن تعليم تلقاه في أي مكان يمكن الحصول عليه في إحدى مدارس لندن الفنية هذه.» - «إنني أستمع مرة أخرى إلى تفسير جزئي لشيء حيرني بشأنكما منذ عرفتكما؛ فإنكما قد امتزجتما بمجتمع يهتم بالتمييز بين الناس طوال حياتكما تقريبا ، ولكنكما - برغم هذا - أقل الممتازين اعتبارا للامتياز.»
وسألت مسز هوايتهد: «في أي جانب لاحظت ذلك؟» - «فهمكما للحياة العامة. ولأحصر كلامي في عطفكما على الطبقة العاملة؛ وذلك شيء علمتني التجربة ألا أجده قطعا في أوساط أساتذة الكلمات، في هارفارد أوف في أي مكان آخر، وقد أجده هنا أو هناك لدى أحد الإخصائيين، أجل، وربما صح ذلك في علماء الاجتماع، وقد لانوا شيئا ما في السنوات القلائل الماضية، وربما يرجع السبب في ذلك إلى أن شعورهم بالأمن قد تعرض للخطر.»
قال هوايتهد: «إن من الأخطاء الكبرى في التفكير الأمريكي أن مجموعة معينة من الاستعدادات التي تؤدي إلى التقدم الاقتصادي، هي التي تحدد القيمة الإنسانية! وليس هذا حقا على الإطلاق؛ إن ثلثي الناس الذين يستطيعون كسب المال من المتوسطين، ونصفهم على الأقل في مستوى منحط من الناحية الخلقية؛ إنهم على الجملة أحط بكثير من الأنواع الأخرى التي لا تدفعها العوامل الاقتصادية، وأقصد الفنانين والمعلمين، وأصحاب المهن الذين يؤدون عملا لأنهم يحبونه لذاته، ويكسبون ما يكفي ليقيموا به أودهم فحسب. وهذا التقدير السامي الذي اعتدتم أن تنسبوه لنوع القدرة الذي يؤدي إلى التقدم الاقتصادي من أفحش الأخطاء في تفكيركم الأمريكي، وهو بحاجة إلى التصحيح دائما وبغير انقطاع من الأفراد الذين يخاطبون الجمهور، كما تفعل أنت.»
قلت: إن بعض ذلك متخلف من أيام المهاجرين الأوائل حينما كان إخضاع هذه القارة يحتاج إلى الشجاعة وإلى القدرة العملية.
وقالت مسز هوايتهد: «أجل، ولكن حتى في هذه الحالة ينبغي أن نلاحظ هذا الفارق الدقيق؛ فإن المهاجرين الأوائل قلما كانوا يجمعون الثروات الطائلة، إنما كان يجمعها أولئك الذين أتوا من بعدهم.»
وقال هوايتهد: «إن الضرر الذي ينجم عن رفع مكانة تلك الفئة من الناس التي تتميز بالقدرة على التقدم الاقتصادي، هو إنكار الصور الرفيعة من القدرات التي توجد لدى أفراد غاية في البساطة؛ من ذا الذي يقول: إن المرء إذا عاش عيشة رفيقة نبيلة ولاقى مشكلاته بشجاعة من يوم إلى يوم لا يكون ذلك فنا عظيما، أو أن أولئك الذين يستطيعون ذلك ليسوا فنانين عظاما؟! إنا نفهم علم الجمال بمعنى ضيق جدا؛ إن الناس الذين يستطيعون أن يعيشوا عيشا جميلا في ظروف متواضعة يفهمون الجمال فهما عميقا، فهما إذا قيست إليه القدرة على رسم الصورة على اللوحات (ومثل هذا العمل تمثيلا صامتا) مهما تكن هذه القدرة رائعة، كانت هذه القدرة الأخيرة صيغة بدائية.» - «إنك تؤيدني في تلك النشوة التي كثيرا ما أشعر بها حينما ألتقي بجيراني في طرقات القرية؛ النجار، وساعي البريد، وصائد السمك؛ إن نفوسهم الطيبة ولطف عشرتهم تدفئني حتى أعماق قلبي، وأبتسم في دخيلة نفسي، ذاكرا أن الحياة تسبق الأدب.»
وقال هوايتهد: «منذ خمسين ألف عام أو خمسمائة ألف عام - لست أدري كم طول الزمن - حينما اتجه الإنسان في تطوره - وربما كان ذلك فجأة - اتجاها نشأت عنه قدرته على الاستمتاع؛ منذ ذلك التاريخ استحدث الإنسان شيئا إمكانياته لا حصر لها، إن الكائن البشري - أنت، أو أفلن، أو أنا - عنده قدرات معينة على الاستمتاع تطورت لديه؛ لأنها فطرية من ناحية، ومن أثر التربية من ناحية أخرى. والحظ يلعب دورا كبيرا في ذلك.
أنت، مثلا، إلى جانب استمتاعك بالأدب، لديك القدرة والتدريب على الاستمتاع بالموسيقى.
ومن الناس من لديه القدرة على الاستمتاع بالرياضيات، ولكنها كامنة، وبحاجة إلى إبرازها بالدراسة؛ إننا لم «نولد» بالقدرة على الاستمتاع بالرياضيات. وآخرون، وإن كانوا قد ولدوا بقدرة كامنة على الاستمتاع بالموسيقى، إما كمستمعين أو عازفين، لم «يولدوا» عازفين أو مستمعين على درجة عالية من التمييز؛ إنما هذا وذاك بحاجة إلى التطوير. إن مدى قدراتنا على الاستمتاع واسع، ولم نستكشف منه بعد سوى الأطراف، إنها قدرة لا بد أن تكون كذلك لدى الحشرات، وإن كنت لا أعرف عنها ما يمكنني من تقدير أي أنواع الاستمتاع عندهم ... والعجيب أن الإنسان - في نظمه الاجتماعية - لم يهيئ حتى الآن إلا فرصة ضئيلة لتطوير قدراتنا على الاستمتاع، وقد مرت عصور عديدة كانت في ذلك محظوظة؛ فبالرغم مما كانت عليه المدن الإيطالية من الاضطراب في عهد النهضة؛ فقد كان يسودها أحيانا حكام ذوو حس دقيق بأنواع المتع البشرية المتعددة المستحدثة، وكذلك كان حكام بعض الإمارات الألمانية الصغيرة في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر يشتهرون برعاية صور مختلفة من المتع، وبخاصة الموسيقى والمسرح. وأعتقد أن الدول الصغرى أنجح في ذلك من الدول الكبرى؛ كانت الولايات الألمانية الصغرى قادرة على إنتاج الأوبرات الريفية الرائعة خلال القرن التاسع عشر، في حين أن الحكومة الفرنسية مالت إلى الجمود الكلاسيكي، بالرغم من امتلاكها لمسرح ممتاز.» - «هذا «التخلف الزمني» بين الفرد ونظامه الاجتماعي يعيد إلى ذاكرتي ملاحظتك التي أبديتها في العام الماضي عن العلاقة بين إمكانيات الإنسان التي لا حصر لها، والقيود ذات الحدود الضيقة. إن الدول تهتم بتنظيم الوجود المادي، وهو أمر محدود جدا، وقد تذكر كيف تحدثنا مرة، حينما كنت تقطن في «التلال الزرقاء» عن هذه الحقيقة؛ وهي أنه لم توجد في التاريخ - اللهم إلا إذا كان ذلك عرضا - دولة ثقافية، إنما وجدت دول قوية على هامشها قليل من الابتداع، وقد أبديت شكك في أن الدولة هي أفضل الحالات التي تعين على رعاية الفنون الخلاقة.»
قال: «حينما تحاول ذلك الدول الكبرى، تميل إلى أن تصب قدرات الناس على الاستمتاع وعلى الابتكار في قالب معين، ويميل ذلك نحو الجمود. وإني أشك في أن رقابة الدولة في صالح الفنون في أمريكا؛ إن حيوية التفكير في المغامرة، وذلك ما بشرت به طوال حياتي، وقل بعد ذلك ما بشرت به! إن الأفكار لا تدوم، ولا بد أن يتناولها التغيير، والفكرة يجب أن ترى دائما في صورة جديدة، ولا بد أن يمازجها عنصر من عناصر الجدة غضا من حين إلى آخر، وحينما ينتهي عصر الجدة تنتهي الفكرة؛ إن معنى الحياة هو المغامرة.»
فقالت مسز هوايتهد جادة: «من المغامرة أن يولد الإنسان، بل هي مغامرة خطرة جدا!»
وتكلمت وهي واقفة، وخلفها حائط طلي بلون عجيب يكاد يكون سوادا، وكانت تلبس رداء أسود بتطريز أبيض عند الرقبة، وشعرها أبيض. وفي شفق الصيف الهادئ، كانت تبدو بصورة رائعة رسمها على لوحة مصور ذائع الصيت، ولم يدم هذا المنظر إلا لحظة، وذلك حينما تهيأت لتبدي ملاحظتها، ثم انصرفت إلى غرفة الطعام.
وسألت: «وما رأيك في المغامرين الذين يخطئون المغامرة ويسببون الأضرار برغم ما عندهم من حسن النية.»
فقال هوايتهد مؤكدا: «يا لهم من حمقى! وهنا يأتي دور المعرفة؛ لا بد للمغامرين من استخدام عقولهم، ولا بد لهم من معرفة الماضي؛ لكيلا يستمروا في تكرار أخطاء التاريخ، إن من بين مخاوفي من هذه الحرب أن يفرض على الإنسان نظام صارم، وأن تتجمد تلك الصفة الرفيقة، أعني قدرته على استحداث الآراء، وعلى إيجاد الأوجه الجديدة للآراء القديمة، ثم يطوي السنين قرنا بعد قرن، وهو يشتد غباء، وتمسكا بالقواعد، حتى يبلغ هو ومجتمعه مستوى الحشرات الراكد، وقد عرفت آسيا شيئا من ذلك. وليس من شك في أن أقوالا جميلة قد قيلت في الصين منذ ألف عام، بيد أن كل قرن - لمدة ألفي عام على الأقل - كان أقل مما سبقه تشويقا. وإذا أراد الناس أن يذكروا لي ما تدين به المدنية للهند كان لا بد لهم من العودة إلى حوالي عام 500ق.م وربما تعجبت لشعوري البارد، لا نحو جون ديوي شخصيا - الذي أجله كرجل، والذي أعجب ببعض أوجه مؤلفاته - ولكن نحو تفكيره. ويرجع السبب في ذلك إلى أنه يهتم في تفكيره بالأمان، في حين أن حيوية عقل الإنسان في المغامرة؛ كان للمصريين في عام 500ق. ... من غير شك تاريخ جليل وراءهم، ولكنه يخلو من المغامرة، وقارن بالقليل الذي ورثوه للرجل الغربي تلك الوفرة من علوم الجمال وقواعد الأخلاق التي ورثناها عن الإغريق والعبرانيين.»
كنت أقوم بهذه المقارنة وأنت تتحدث! إن ذلك الكاهن المصري القديم في قصة أفلاطون كان يدرك لا شعوريا شيئا من هذه الموازنة، حينما كان يقول لسولون: «أنتم أيها الهلينيون لستم إلا صبيانا ... إنكم جميعا شباب في عقولكم، والصبي مغامر.»
وأجاب هوايتهد قائلا: «أملي أن تتسلم أمريكا قيادة البشرية بعد هذه الحرب؛ إن أمريكا - كما أرها - هي الأمل الوحيد. هنا مغامرة، وترحيب بالجديد ، وتستطيعون أن تفعلوا لمستقبل البشرية ما فعلت اليونان وأرض الميعاد للعالم الحديث، مقابل ما تفعله آسيا وأوروبا. لقد كانت لليهود بعض الآراء الخلقية، ولكنها ما كانت لتثمر لولا الإغريق.» - «ما هو فضل الإغريق في رأيك؟» - «النظرة الجمالية إلى الحياة.» - «لاحظت منذ لحظة وأن تستخدم هاتين اللفظتين: «الجمال» والأخلاق في معرض الكلام عن الهلينيين والإسرائيليين؛ أنك تقدم الجمال.»
قال: «هذا صحيح.» - «هل ترى أن الجمال فكرة أوسع وأعمق جذورا من الحق؟» - «أجل؛ فإن الحق - إذا انفصل عن الجمال - لا يكون خيرا ولا شرا.»
قالت مسز هوايتهد التي عادت أثناء المناقشة: «وهذا ما وقع فيه البيورتان؛ نبذوا الجمال، وقد بدأوا بداية حسنة، حينما اعتقدوا أنهم خلقوا في صورة الله، ولكنهم انتهوا بأن جعلوا الله في صورة الإنسان.» - «وبأية سرعة يخثر هذا اللبن، أو تفسد الأمور! لقد انقضى أقل من عام ما بين مستعمرة بلبموث ووليم برادفورد، وبين كوتون ماثر.»
قال هوايتهد: «كانت الفكرة تفقد حيويتها؛ لقد كفت عن المغامرة، وورثتها يرثون الفكرة دون وراثة حرارتها! كان السلف لا يمتنعون عن الموت في سبيلها، وقد فعل بعضهم، وربما لم يعد أمام الخلف ما يموتون من أجله، لقد عرفوا قوة الإيمان عند أسلافهم، وشعروا أنه لا بد لهم من الإحساس بالحرارة القديمة، وحاولوا أو تظاهروا بذلك، ومن ثم أعطوا عن أنفسهم فكرة المنافقين.»
وذكرته مسز هوايتهد بقولها: «إن أبويك نفسيهما لم يعتقدا بقوة كما حسبا.»
واستطرد قائلا: لقد «حسبا» أنهما ما زالا يعتقدان بقوة، وكان «أبواهما» من المؤمنين بشدة، ولكن لما جاء أبواي، كانت الفكرة قد برزت إلى درجة ربما اعتبر معها موقف أبوي اليوم موقف نفاق! وأود أن أنبه إلى أني لم أقل: إن موقفهما كان موقف نفاق؛ بل لقد كانا مخلصين، ولكن الموقف تغير، فعرضا علينا ديانتهما باعتبارها أساسا وسيلة لحفظ النظام، في الأسرة وفي المجتمع. ولكن ذلك أمر يختلف كل الاختلاف عن العقيدة الدينية.»
وعلقت بقولي: «إن المرء يلحظ تغيرا شبيها بهذا في كتدرائية ستراسبرج؛ إن أحدا لم يعدني لها من قبل، وكانت مفاجأة لي؛ صحن الكنيسة وأجنحتها غوطية من عصر متأخر، خفيفة لطيفة في كمالها المنطقي الرشيق، أما الأجزاء القديمة في ركن المذبح فهي رومانسيكية، من عصر الإيمان الشديد، وتأثيرها من العنف بحيث يضعف قوة الصحن، برغم جماله.»
قال هوايتهد: «إن فن العمارة مثال طيب لدورة الحياة في مغامرات الأفكار، وهو من الصور الفنية التي أهتم بها أشد الاهتمام، ولأضرب مثلا بالفن الغوطي الإنجليزي؛ إنه يبدأ بالنورماندي الرومانسيكي القديم، ثم يستمر قرنا بعد قرن، مجتازا الأساليب الأربعة المتتالية تقريبا حتى القرن الخامس عشر، حيث يبلغ نهايته. إن ما كان يحدث في ذلك القرون الأربعة المتتالية هو أن الأوجه الجديدة للفكرة كانت تستكشف وتتطور، وكانت عناصر متتابعة من الجدة تظهر وتدخل الفن، مثل كثرة النوافذ، وارتفاع الأعمدة، وجمال القطع الحجرية المتشابكة التي تزخرف بها النوافذ الغوطية، وما إلى ذلك، حتى بدا كأنه لم تعد هناك زيادة لمستزيد! إن إمكان ظهور وجه جديد قد نفد، وبلغت الفكرة الغوطية نهايتها، فكفت عن التطور، وتوقفت وقوفا تاما، فتراهم يعودون إلى فن البناء اليوناني والروماني، ويطبقونه على عالم النهضة المتغير، فترى كنيسة سنت بول مكان الدير الغوطي، بيد أن الأسلوب الكلاسيكي لفن البناء القديم الذي أدخل على العالم الحديث كانت له - فيما أظن - هذه الخاصية العجيبة، بالرغم من أنه يؤدي أغراضا عدة بدرجة تدعو إلى العجب، ويمكن - على وجه العموم - أن يظهر بمظهر الجمال إن تناولته يد صناع ماهرة، بالرغم من ذلك فإنه ينقصه ذلك ... ذلك الشيء النهائي ... ماذا أسميه ...؟»
واقترحت مسز هوايتهد أن يسميه «التجاوز».
وقبل هذا التعبير وقال: «أجل، هذا التجاوز النهائي؛ أقصد أنه لا يقيم ذلك البناء الذي أقطع في سبيل رؤيته رحلة تستغرق أربع ساعات بالقطار.» واستطرد قائلا: «إن المادة الجديدة، والزاوية الجديدة للنظر إلى الفكرة، قد يعطيها المعنى السعيد، كما فعل النازحون الأوائل إلى إنجلترا الجديدة عندكم حينما أدخلوا البيت الإنجليزي إلى هذه السواحل، ولكنهم اضطروا إلى بنائه من الخشب، لقد كان على نفس الأسلوب، ولكن مع تعديل جديد بهيج ، وأشك في أنكم بلغتم هذا الإتقان في بيوتكم الحجرية ...» - «إننا لم نقمها حتى بعد 1840م وما بعد 1850م، وكان «إحياء غوطيا» وأنت تعلم مدى قصر الوقت الذي استغرقه ...» - «لا أظن أنها تعتبر ناجحة.» - «كانت محاولة للعودة إلى الأسلوب الغوطي دون التقاليد الغوطية.»
ووجه هوايتهد بغتة فكرته الخاصة وجهة جديدة حين قال: «إن عظمة لورنس لول تضمنت هذا الإدراك لصعوبة الاحتفاظ بالفكرة حية، ولم تقدر بعد هذه الصورة من صور عظمته بوجه عام ؛ رأى أن المطلوب هو فترة معينة من التعليم المنظم للشباب، ثم يسمح لهم بعد ذاك بأن يكشفوا بأنفسهم - بإرشاد الأساتذة أو بغير إرشادهم - ميادين متنوعة من العلم أو العمل، وإلى جانب ذلك رأى الحاجة إلى إضافة أقدم صورة من صور التسلية والتعليم عرفت للجنس البشري، وهي المحادثة. وتلاحظ أن تأسيسه «للزملاء الصغار» يقوم على هذه المبادئ؛ إنهم يختارون لجدارتهم - بقدر الإمكان - من جميع أنحاء هذه القارة، ودراساتهم تتنوع بمقدار تنوع الفنون والعلوم، وقد ظفروا بقدر معين من التدريب المنظم، ومن العمل الذي يميزهم. وقد نظمت جمعيتهم بحيث يجتمعون على العشاء، ويقضون معا على الأقل ليلة كل أسبوع ينفقونها في تبادل الحديث بعضهم مع بعض، ومع عدد كبير من مختلف الضيوف البارزين الذين ينتمون إلى مختلف المهن، ولا تقوم بينهم «عصبية علمية»، فالشباب الذي يدرس الأدب يلتقي بالشباب الذي يدرس الأحياء والرياضة، في حين أني ألاحظ قدرا كبيرا من العصبية العلمية بين هيئة التدريس في هارفارد ذاتها. ويخيل إليك أن الشباب في قسم من الأقسام لا يتعلم شيئا من زملائهم في قسم آخر، بل لقد يخيل إليك» (وهنا ظهر الاستياء في نظرته) «أنهم يقون أنفسهم من الفساد، وأعتقد أنه من الخطأ الفاحش أن يزعم المحاضرون الجامعيون أنهم قادرون على توجيه الكلام عاما بعد عام إلى الشباب، إلى الطلاب، مع ابتعادهم عن فرصة التعلم من الشباب المتحمس، وهو من أثمن الأشياء في هذه الدنيا ...»
وأبدت مسز هوايتهد هذه الملاحظة: «كأن المحاضرين قد رخص لهم بالغرور!» - «إنك تصف «الشباب المتحمس» بأنه من «أثمن الأشياء في هذه الدنيا»، وأرجو أن تشرح، في وضوح أشد، ما تعني بذلك.» «أعني» (وهنا تردد، وفكر في التعريف) «وميض الشاب، (وأخشى أني سأضطر إلى استخدام تعبير ضخم، ولكني لا أعني به الضخامة) إنما أعني وميض الشاب الذي كشف لتوه عملا أدبيا عظيما؛ ليس المهم هو الكتاب الذي استكشفه، إنما هو ما يلقي عليه من ضوء. هنا تجد معنى المغامرة والجدة، وتجد أن الفكرة القديمة ترى من جديد من زاوية جديدة، وهذا هو ما ينبغي لمعلمي الجامعة أن يرقبوه في يقظة شديدة، وما ينبغي لهم احترامه كلما ظهر، بدلا من أن يحسوا بشيء من السخط على الشبان الذين تشتد بهم حماستهم.» - «لما كنت من القادمين من الغرب الأوسط، فقد أحسست بأن الحماسة في إنجلترا الجديدة غير مستحبة، وقد لاحظ ذلك أيضا هارفي كوشنج الذي قدم كذلك من الغرب الأوسط، وقال بأن مقاومة العقل الجامد والمادة جامدة - فيما يختص به - لأي تجديد، سواء في الجراحة أو في غيرها، هذه المقاومة تشق على امرئ لديه - مثله - أمر جديد عسير لا بد من أدائه، حتى إنه ليتحتم أن تتوافر لديه حماسة شديدة تكون له بمثابة العجلة التي تدفع فكرته وسط المشاق وكأنها المنشار الذي يشق عقدا من الكتل الخشبية.»
وقالت مسز هوايتهد: «كل من قدم من إنجلترا إلى إنجلترا الجديدة - مثلنا - لا يحس هبوطا في درجة الحرارة كما أحسست لقدومك من الغرب الأوسط، بل يحس بارتفاع فيها؛ بعد الجو الاجتماعي الذي لمسناه في إنجلترا أحسسنا كأن الجو في إنجلترا الجديدة لهيب يندلع من نار.»
قلت: «إن العقل في إنجلترا الجديدة (كما لاحظ ذلك كثير من الأجانب) كثيرا ما يترك في أول الأمر أثرا أطيب مما يتركه القلب في إنجلترا الجديدة.»
وسألت مسز هوايتهد: «هل طرأ لك أن سكان إنجلترا الجديدة قد يكونون من الجبناء؟» - «كلا، لم يطرأ لي ذلك، ولكنهم كثيرا ما يكونون كذلك، حتى خيارهم، وإذا كنت لم أحبهم، فلماذا لبثت بينهم؟ إنني أعجب بالناس وبالمناظر، وبالثقافة الناضجة، وبالمكتبات، والأركسترا. وأكاد لا أذكر أني استمعت إلى محادثة طيبة بين الشباب من قبل حتى أتيت إلى هنا.»
وقال هوايتهد: «في كمبردج ناد كنت أروده في شبابي، وكان تنيسون وصديقه هلام، الذي مات في ريعان شبابه، من بين مؤسسيه. وكانا يطلقان على نفسيهما اسم «الرسولين»، أما الأعضاء فطلاب، وبعد تخرجهم تكون لهم «أجنحة» ويصبحون من الملائكة، وكان الأعضاء الجدد يختارون جميعا بوساطة هؤلاء الطلاب، وعلى أساس أنه يحتمل أن يثبتوا أنهم من الأشخاص الممتعين ، وفي كل اجتماع - وكانت الاجتماعات تعقد مساء السبت دائما - كان يتقدم أحد الأعضاء ببحث يقدم فيه بعض الأفكار للنقاش، ويستغرق ذلك ما يقرب من عشرين دقيقة، وقد سبق للأعضاء إجراء الاقتراع لترتيبهم في الكلام بعد التقديم الأولي للفكرة، وينتظر من كل فرد منهم - في دوره - أن يقف عند الموقد ويدلي بما يعن له، والمفهوم بينهم ألا يذاع في الخارج شيء مما يقال هنا على اعتبار صدوره من أي عضو من الأعضاء. والواقع أنه من المفروض ألا يعرف أحد من هم الأعضاء، وإن كان يصيب الحدس في حقيقة الأمر، وكم من عضو من الرجال البارزين قد مر «بالرسل»! وكانوا يتناولون العشاء في لندن مرة كل عام يحضره «الملائكة». ويرأس الاجتماع أحد «الملائكة» ويجلس على قمة المائدة، وينوب عنه في الرياسة آخر من اختير ليكون «رسولا»، ويجلس على الطرف الآخر للمائدة، ولا يسمح لأعضاء كليات كمبردج بالدخول في كلية أخرى بعد العاشرة مساء، ولكنا كنا نجتمع قبيل العاشرة، ونحدد عدد المجتمعين باثني عشر، ويستمر النقاش بيننا حتى الفجر، وكان مستوى النقاش عاليا إلى درجة مذهلة، على الأقل حتى نشوب الحرب.»
وتحول الشفق إلى الغسق، ثم إلى الظلام، وكانت الحجرة باردة بهيجة يهب عليها نسيم المساء خلال النوافذ، مما أغرانا باستمرار الجلوس في الظلام، الذي دفعنا - إن كان له أثر - إلى رفع مستوى الحديث، وواصلنا الكلام تحت هذه الظلال المريحة.
وقالت مسز هوايتهد: «لقد ذكرت الصحف بطبيعة الحال تأسيس مستر لول لجماعة صغار الزملاء، بيد أن ذكرها لها لا يدنو من مقدار أهميتها للمستقبل التي تستحقها؛ ما هو الخبر لو أن مسز لول هربت مع السائق، أو لو أن مستر لول أساء الاتصال بالخادمة؟ لما خصصت الصحف مثل هذا الحيز الضيق كما فعلت في موضوع صغار الزملاء.»
قلت: «إنك تسألين على من تقع الملامة؟ إن ذلك يتوقف على من توجهين إليه السؤال؛ ولو سألتني قلت: إني أعتقد أن وراء ذلك أن الصحيفة كالسلعة التجارية؛ لا بد أن تجلب الربح مضافا إلى تكاليف إنتاجها ، إن ما تحتاج إليه هو قسم أبقراطي لرجال الصحافة! كيف تكون الجامعة لو عاشت على ما يدفعه الطلبة من نفقات؟!»
قال هوايتهد: «إنها لا يمكن أن يكون لها وجود.»
واستطردت مسز هوايتهد قائلة: «في جنوبي إنجلترا قليل جدا من الموسيقى، وكان من المفروض أن السكان هناك غير موسيقيين بفطرتهم، وأخيرا منذ أن أخذت محطة الإذاعة البريطانية تذيع الموسيقى الجيدة فقط، نما في الناس هناك حب الموسيقى، وتكونت لديهم الجماعات الموسيقية في القرى، ولا يريدون إلا أحسن الموسيقى لأنفسهم. إن كل من يملك جهازا للراديو في إنجلترا يدفع ضريبة صغيرة، وذلك يسد نفقات محطة الإذاعة البريطانية، ولا يسمح بالإعلان على أمواج الأثير. ومن التخريف الشديد أن نظن أن الناس لا يريدون أحسن الأشياء، وعلى هذا الزعم تقدم إليهم المادة المنحطة التي ينتظر أن تجد في السوق رواجا، وتميل هذه المادة إلى الهبوط تدريجا.» - «بعد مقاومة هذه الخرافة الكبرى داخل مكتب الصحيفة لفترة تربو على نصف العمر، وبعدما أثبتنا أنها بالفعل خرافة - ومن الإنصاف أن أقول: إن ذلك لم يكن دون بعض المعونة من إدارة الجريدة ومن أصحابها - بعد ذلك، ما زلت أدهش حينما أرى أفرادا عليهم سيما الاحترام في العربات العامة يقرأون الخط الدقيق في الأسطر التي تدرج تحت العناوين المبتذلة إلى درجة فاضحة! ولا يبدو عليهم أنهم أناس يهتمون بهذا اللون من الأخبار.»
وعلقت مسز هوايتهد بقولها: «وقد يذعنون في نهاية الأمر، ويتعلمون استساغة السم بعدما يتناولون منه قدرا كافيا» ...
وقال هوايتهد: «ومن الإنصاف أن أذكر أن جانبا كبيرا مما يكتب للمقالات الجديدة في صحفكم يضع أمام القراء مسئوليتهم عن الاحتفاظ بالنظام الاجتماعي. وأوجه ذلك متنوعة، ولكنها جميعا تنتهي إلى هذه الغاية: تذكير القراء بأن الاحتفاظ بالنظام الاجتماعي يتوقف عليهم. والمسئولية عن أي نظام اجتماعي هي أساس الحضارة؛ فإذا لم يكن هناك مجتمع يأمن فيه المرء على حياته وملكه، لا يمكن أن تستمر الحياة إلا على أحط المستويات؛ لا يمكن أن توفر حياة طيبة لأولئك الذين تحبهم، ولا يمكنك أن تكرس جهودك لنشاط على مستوى أرفع. ومن ثم فإن الإحساس بالمسئولية عن استمرار نظام اجتماعي ما أساس لأي نظام أخلاقي، وهذه الصورة من صور المسئولية تنتفي بتاتا من المسيحية، ويكاد يسوع ألا يذكرها، اللهم إلا في عبارة واحدة أو عبارتين.»
وقالت مسز هوايتهد: «وإحدى هاتين العبارتين (أعط ما لقيصر ...) فيها مراوغة.»
واستطرد قائلا: «أود أن أذكر أنه كانت هناك أسباب تاريخية لهذا النقص؛ فلم يكن لليهود دولة مستقلة يحكمونها، ولا يمكن أن نلقي اللوم على امرئ لأنه قصر في اعتبار ما لم يكن هناك في عصره فرصة لاعتباره! لقد قال ما كان ينتظر من مفكر قدير أن يقوله؛ إن ظروف التاريخية لم تستنبط قانونا أخلاقيا يتعلق بالمسئولية عن النظام الاجتماعي، بيد أن انتفاء مثل هذه المسئولية كان خاصية من خواص اليهود لعدة قرون، وهذا سبب من أسباب عدم محبة الناس لهم. وقد تقول: إن الطريقة التي عوملوا بها في كثير من البلدان التي نزحوا إليها لم تسمح لهم بالإسهام في هذه المسئولية. وأنا أوافقك على ذلك كل الموافقة، ولكن هذا الانتفاء قد أوقع المسيحية في تناقض يكاد أن يكون دائما؛ إنها تقول بأن مظاهر الحياة الخارجية لا تستحق الاهتمام، وهي تصر في الوقت عينه على ضروب من السلوك الخلقي التي لا يمكن مراعاتها - بغير هلاك - إلا إذا نظمت مظاهر الحياة الخارجية تنظيما حسنا كافيا. إن مجتمعا يسير على مبادئ مسيحية بحت لا يمكن له البتة أن يعيش!»
وعلقت بقولي: «لقد ظهر ذلك في أحيان كثيرة في النقد الاجتماعي للقرن التاسع عشر، وبخاصة بين الروس، أمثال تولستوي وكروبتكن: فوضوي مسيحي، وفوضوي فلسفي. أما بين النقاد الاجتماعيين في البلدان الأوروبية (والأمريكية) الأخرى؛ فإن المرء لا يفتأ يقابل هذا الإحساس بالسخط والحيرة؛ إنكم تسمون أنفسكم مسيحيين، ومجتمعكم مجتمعا مسيحيا، إذن فلماذا لا ...؟ وما ظهر لنا اليوم - مما لم يظهر في ذلك الحين - هو أن الاستقرار الاجتماعي النسبي في القرن الذي يقع بين عام 1815م وعام 1914م قد خدع حتى الكثيرين من أقدر المفكرين ، فظنوا أن النظام الاجتماعي المستقر أمر مؤكد.»
فأجاب بقوله: «لم يدرك الناس أن الاستقرار الاجتماعي من متطلبات السلوك الخلقي إلا بعد توحيد العالم الحديث بالوسائل الفنية العلمية، وقد أرغمنا على ذلك أنماط الرجال الذين يتولون قيادة الأداة الحكومية في بعض البلدان، وهم الذين أجبرونا على مقاومتهم حتى نستطيع أن نحتفظ بأي نوع من أنواع حسن المعاملة الاجتماعية.»
وأثرت هذا السؤال: «وإذا ما اعترفنا بذلك، فأي نوع من أنواع الأخلاق تريد أن يحتفظ به النظام الاجتماعي المستقر؟ منذ بضع ليال راعني أن أستمع إلى أحد المؤلفين - وهو رجل أحترمه كثيرا - استمعت إليه وهو يشير إلى شخص ما، في كتاب أو في خطاب عام، (يشيد بالفضائل البرجوازية). والآن أراني أستمع إلى نقد البرجوازية نقدا مرا، وأعرف بعض الأسباب التي يقوم عليها هذا النقد، ولكن هل لا يستطيع عالمنا أن يفيد من بعض الفضائل البرجوازية؟»
قال هوايتهد: «إن إحدى فضائلهم أنهم يدفعون ديونهم، وهي فضيلة كبرى، ولن يستقر المجتمع بدونها.»
وقد دقت ساعة مموريال هول العاشرة، ولما كانت مسز هوايتهد تعلم أن علي أن ألحق بالقطار؛ فقد نهضت في أدب جم وأشعلت أحد الأنوار. وكنا قد جلسنا في الظلام قرابة الساعة.
وخرج معي مستر هوايتهد إلى المصعد، وقال: «أشعر دائما أن علي واجبين لا بد من أدائهما للضيف الراحل؛ أحدهما أن أتأكد من أنه لم ينس شيئا مما يملك، والآخر أن أتأكد من أنه لم يحمل معه شيئا مما أملك.»
المحاورة الثانية والثلاثون
13 من يناير 1944م
ظهر من وقت قريب المجلد الأول من سيرة سنتايانا بقلمه تحت عنوان «أشخاص وأماكن»، وقد أثار جدلا حول موضوع التهكم عند آل هوايتهد، حيث كنت أقضي المساء.
وذكرت هوايتهد قائلا: «إنك عرفت التهكم من عهد ليس ببعيد، وأذكر الألفاظ ولكني لست على ثقة من أني أفهم ما تعني؛ قلت: «إن التهكم حالة عقلية مقبضة.»»
قال هوايتهد: «لا أذكر المناسبة التي قلت فيها ذلك؛ ولذا فيجدر بي أن أبدأ من جديد.» وفكر قليلا، وقد تغضن جبينه، وتشابكت أصابعه ، وأسند مرفقيه إلى ذراعي مقعده، ثم تحدث بعد لحظة قائلا: «أعتقد أن التهكم ينم عن الحالة العقلية للشعب أو للعصر الذي فقد الإيمان؛ إنهم يخفون ما فقدوا، أو يتفاخرون به عن طريق الضحك! إنك قلما تجد التهكم إلا عند المنبوذين على صورة من الصور، وإلى حد ما.» - «مثل لتن ستراتشي؟»
قال هوايتهد: «كان اسمه على شفتي!»
قالت مسز هوايتهد: «كان إنسانا ممتعا، ولكنه عانى كثيرا.» - «بدنيا أو عقليا؟» - «لم يعان كثيرا من الناحية الجسمانية، وإن كان دائما على ضعف، وكثيرا ما كان يتألم (وكان ابنا لأب مسن)، بل كان عناؤه أشد من الناحية العقلية؛ كان مظهره الخارجي مثيرا للضحك، وكان بذلك عليما. وتلك الصورة التي رسمها له أغسطس جون، التي كثيرا ما يظن خطأ أنها رسم كاريكاتوري، ليست كذلك، بل إنها - على العكس - صورة صادقة له. وكان صوته مرتفعا كالصرير؛ لقد كان يعاني من شدة الخلاف بينه وبين الآخرين.»
وقال هوايتهد: «إن تهكم ستراتشي هو تهكم تلك المجموعة العالية الثقافة التي نبذت مسئوليتها عن النظام الاجتماعي، وقد عانت إنجلترا كثيرا من أمثال هؤلاء بعد الحرب الماضية، وأستطيع - من قبيل التيسير - أن أسميهم «مجموعة بلومزبري»، وأؤكد لك أن بعضا منهم كانوا أفرادا قادرين ...» ثم واصل حديثه قائلا: «ولكنا لو حصرنا حديثنا في المهذبين، قلت: إني عرفت منهم اثنين معرفة جيدة في شبابهما، وكثيرا ما أفكر فيهما معا، مهما كان بينهما من خلاف؛ أما أحدهما فهو لوجان بيرسول سمث، وأما الآخر فهو ستراتشي. وكان كلاهما من رجال العلم والثقافة، غير أنه كان بينهما هذا الاختلاف الكبير على الأقل كما عرفتهما؛ كان بيرسول سمث موهوبا في إجادة الكتابة، وقد فعل. أما ستراتشي فقد كتب؛ لأنه اضطر إلى ذلك اضطرارا؛ كانت الكتابة في نفسه، وكان لا بد من ظهورها. وبرغم هذا، فمن التناقض العجيب ألا يكون لبيرسول سمث أتباع؛ لأنه كان يفتقر إلى الابتكار الذي تلمسه عند غيره. أما ستراتشي الذي كان له أتباع، فقد كان السبب في ارتكابهم أضرارا جمة!»
وأضافت إلى ذلك قولها: «ثم إن بعضهم كان فاسدا حقا» ...
واستطرد هوايتهد قائلا: «ولقد جاء ستراتشي في نهاية عصر قوي، وأؤكد لك أنه كان قديرا ذكيا، ولكن أولئك الذين حاكوه مباشرة كانوا جماعة من الكتاب الذين ينقصهم ذكاؤه كما تنقصهم مقدرته، وقد ارتكبوا أضرارا كثيرة، كيف تعرف تهكم سنتايانا؟»
وأسرعت زوجته إلى الإجابة قائلة: «شائن هدام.» وروت تكرار مقابلتها له في حجرات طالب في أكسفورد، كان شديد القرابة به، وكان معجبا بسنتايانا، فكان يدعوه دائما لتناول الشاي، «وكان سنتايانا دائما يعامل الشاب بتهكم، ولم يكن الشاب من أصحاب الفكر العميق، ولكني راقبت ما كان يجري، وحكمت عليه بالسفالة؛ إنه تهكم رجل فقد الإيمان، فحاول أن يحطمه في الشباب، وهو عندي عمل شيطاني!»
وأجبت بقولي: «كثيرا ما يقال عنا نحن الأمريكان: إنا سذج، لا يرجى لنا صلاح. ولكني بعدما قرأت هذه المجلد من سيرة سنتايانا بقلمه، وأعجبت بنثره الرائع وبما حوى من ومضات الإلهام، وبعدما ضحكت من نقده لنا، بعد هذا وجدت نفسي في شك ما إذا كنا جميعا من الغباء بحيث لا ندرك ما يسخر به غيرنا منا من وراء حجاب من التهكم!»
وقالت مسز هوايتهد: «إن شعبكم يستقبل ذلك بروح طيبة، كما يستقبلون النكتة التي تقال فيهم. ولكن من الخطأ أن يظن أحد أنكم لا تفهمون ما وراء ذلك؛ منكم روائي معاصر بيننا يسخر منكم بنفس هذه الطريقة، وأنتم تأخذون سخريته بنية حسنة، وهو لا يستغل أحدا، وسخريته تصدر عن عدم الإيمان، الذي يبدأ - كما هي الحال في السخرية دائما - من عدم إيمانه بنفسه.» - «إن ذلك ينبهنا إلى أمر يحير في سنتايانا؛ إنه يكتب عن الكاثوليكية نثرا غنائيا، ولكن هل من الممكن، وهو يلم بكل هذه المعارف - أقصد كل شيء من الفنون الشعبية القديمة إلى علم النفس الحديث - أن يعد نفسه، برغم هذا، من بين المؤمنين الصادقين!»
وقال هوايتهد: «إن الكاثوليكية تسمح بأن تكتب «فيها» كتابة جميلة؛ إنها قديمة جدا، وهي متنوعة تنوعا ضخما، رائعة في مظهرها، لها أوجهها الشعرية والجمالية، ويمكن أن تكون ممتعة إلى أبعد الحدود. وليس المرء بحاجة إلى إيمان شديد لكي يقوم بذلك، بل إني لأقول: إن الكاثوليكي الذي لا يمارس الكاثوليكية مثل سنتايانا - الذي يعتبر بوصفه كاتبا فنانا كبيرا - يؤدي أداء ساحرا ... أما عن فلسفته فإني أعترف بأني أحس إزاءها إحساسا مختلفا؛ إن متعة الفلسفة تتوقف على إخلاص الفيلسوف، لقد نظر إلى العالم بطريقة معينة، ورأى الظواهر المختلفة من وجهة جديدة، إنه مليء رؤياه، ومشغوف بنقلها إلى غيره، وقيمته عند الآخرين فيما رأى. إن أكثر الفلاسفة يعنون بقوة ما يقولون، وكل العظماء منهم يفعلون ذلك. أما فيما يتعلق بفلسفة سنتايانا، فإني أحس أنه يلعب بالأفكار فحسب؛ كل ما يقول فاتر، مفكك، ويكاد لا يهمه منه شيء؛ لقد فاتته العظمة، وأعتقد أن السبب يرجع إلى افتقاره إلى الإخلاص.»
وسألت: «وما رأيك في تهكم سقراط؟ هل ينطبق عليه ما عرفت به التهكم أولا؟ وما رأيك في التهكم المسرحي لشعراء المأساة الإغريق؟ أقصد الصورة التي ترتعد لها الفرائص التي رسمها سوفوكليز لأوديب، وهو يحكم على نفسه بلسانه في غباء، فيلقي خطبا تعني عنده شيئا، وتعني نقيضه تماما عند المستمعين الذين يصيبهم الذهول. أو التهكم التراجيدي الذي يقدمه لنا أيسكلس في أجاممنون؛ مناظر كتلك التي يمشي فيها الملك داخل قصره فوق ذلك البساط الأرجواني، وهو ما أغرته الملكة بأن يفعله كرمز بأنها سوف تفلح في قتله. إن المأساة الإغريقية غارقة في أمثال هذا اللون من التهكم.»
وقالت مسز هوايتهد: «ذلك هو التهكم الذي يوحي به الموقف.»
قال: «إن الانحلال يمتد بالتأكيد إلى الإغريق في القرن الخامس ق.م، وهو بطبيعة الحال عصر كبار المسرحيين. وأشك أن يكون الناس قد عاشوا بمثل هذه الحيوية أو وسعوا من آفاق الملكات البشرية أكثر من ذلك في أي مكان أو زمان آخر. ولكن ما تجده في هذا القرن هو التساؤل عن الصيغ الدينية القديمة، وقد كفوا عن الاعتقاد أن الآلهة أشخاص غير عاديين كما كان أسلافهم يعتقدون، بيد أنهم كانوا يرون أن الآلهة ما زال بوسعها أن تؤدي أغراضا مفيدة باعتبارها رموزا. أما عن تهكم سقراط - سواء اعتبرته شخصية تاريخية، أو نظرت إليه قليلا في ضوء شخصيته الأدبية في «محاورات» أفلاطون - فقد كان هناك بطبيعة الحال نقد حي فيه تشكك للديانة التقليدية، من السفسطائيين ومن إليهم، ولكنك تجد كذلك في ذلك المجتمع شيئا شبيها لما تجد، بصورة أكثر شيوعا في مجتمعنا اليوم، أعني أنك قد تجد في نفس الوقت والبيئة - كما تجد عندنا في لندن بين جماعة البلومز بري - حركة عقلية تتميز بالانحلال، وفي الزاوية الأخرى قد تكون هناك بداية حياة جديدة قوية للعقل والمجتمع، حتى إنك قلما تستطيع أن تقول: إن العصر قطعة واحدة؛ في كل عصر من عصور الانحلال قد تكون هناك بعض بذور للمستقبل، كما كانت هناك نشأة المسيحية عند انحلال الإمبراطورية الرومانية، ولكن المرء لا يستطيع أن يتبين في حينه أي هذه البذور سيموت، وأيها سيحيا ليرث ما بقي من شئون روما. ويدعونا ذلك إلى زيادة التسامح ما دمنا لا ندري من أي هذه البذور سينبثق المستقبل. وهناك خطاب رائع من الإمبراطور تراجان
1
حول هذا الموضوع، عن المسيحيين، الذين كانوا يعدون من أسباب القلق والضيق. يقول تراجان: إنه من الأفضل إن أمكن مسالمتهم وتهدئتهم، بدلا من اضطهادهم.»
ثم أثير هذا الموضوع: هل الأسطورة هي الصورة التي تعبر بها الشعوب البدائية عن آرائها العامة قبل أن تكون لهم لغة من المجردات، مما يؤدي في آخر الأمر إلى الظن بأن الأساطير لم تكن سوى أفكار مجردة. وقد أثرت هذا الموضوع من قبل، بيد أني أثرته مرة أخرى ظانا أن شيئا مختلفا قد يتمخض، وقد حدث.
قال هوايتهد في وثوق: «إن الأسطورة تأتي قبل ظهور الأفكار العامة. وعند أول ظهورها لا تكون هناك - فيما أعتقد - فكرة تشخيص أي تصور مجرد على الإطلاق. بل الأرجح أن واضعي الأساطير يرون شخصيات معينة متصارعة، يؤدي صراعها إلى نتائج معينة، أو يرون قوة ناهضة في العالم المحيط بهم، تعارضها أو تؤازرها قوة أخرى، ثم يشخصون هذه العمليات، وفيما بعد تعيد النظر في هذه الأساطير عقول أكثر فلسفة، فترى أنها تحتوي على بذور الأفكار المجردة. كما كنا نقول منذ لحظة عن الإغريق حينما كفوا عن الاعتقاد في أن آلهتهم كائنات فوق البشرية، ولكنهم رأوا فيها بعض أوجه الحق الرمزي.»
قلت: «إن أحد الذين أرخوا سيرة شلي، وهو كلتن بروك - فيما أعتقد - قال: إن شبلي أحد واضعي الأساطير القلائل الذين عاشوا في العالم الحديث.»
فقال هوايتهد: «إن شلي شاعر عظيم جدا، وكنت أكثر من قراءته في وقت من الأوقات حينما كنت أقرأ الشعر، ولكني لا أقرأ الشعر اليوم.» - «إن ما دفعني إلى إثارة السؤال هو أن أكثر الآداب العظمى وراءها أساطير شعبية، ويبدو أنه ليست عندنا نحن الأمريكان أساطير، على الأقل بهذا المعنى، وهو أن أكثر ماضينا في هذه القارة قد حدث في ضوء شديد؛ هو ضوء التسجيل التاريخي القوي.»
قال هوايتهد: «أنتم أيها الأمريكان تخلقون اليوم أساطيركم.»
وأدى ذلك إلى مناقشة حادة عن بعض أساطيرنا.
وأجابته مسز هوايتهد في خبث: «إن إحدى هذه الأساطير هي الديموقراطية.»
وقال هوايتهد: «إن الآراء السياسية التي يقوم عليها مجتمعكم الأمريكي نوع من الأساطير، ولها تاريخ طويل إذا بدأنا بالعصر الحديث نسبيا (أقصد أن نترك الأصول الإغريقية الرومانية، والهلينية العبرية) قلنا: إنها تنبعث عن لوك في القرن السابع عشر الإنجليزي، ثم تنحدر إلى الفرنسيين العظام في القرن الثامن عشر، ولكنها لم تطبق عمليا قط حتى أتت إلى مؤسسي جمهوريتكم. والهدف من هذه الأسطورة السياسية هو تحسين حياة الرجل العادي وتأمينها، بيد أن هذه الأسطورة في القرن التاسع عشر في أمريكا تعرضت لانقلاب جدي؛ فقد فسر حق الرجل العادي في الحياة الطيبة بحق بضعة أفراد استئثنائيين، بنسبة واحد لكل ألف تقريبا - أو أقل - أقصد بحقهم في استغلال موارد قارة جديدة بطريقة يجعلون بها أنفسهم مفرطين في الثراء، وحينما أقول: «استثنائيين» أرجو ألا تفهم أني أعني أنهم ممتازون، بل لقد يكونون في كل آصرة من أواصر الحياة - ما خلا تكوين الثروة - على درجة من الانحطاط، وكثيرا ما يكونون كذلك. ولكن بتقدم القرن التاسع عشر في هذه القارة، كان هؤلاء الأفراد هم الذين حملوا هذه الأسطورة السياسية، وبهم انحطت إلى هذه الفكرة الخاطئة المبتذلة؛ وهي أن أي فرد في أمريكا يستطيع أن يصبح ثريا إذا أصر على ذلك. وفي هذا القرن الحاضر عليكم أن تنقذوا المعاني الأصيلة لأسطورتكم السياسية من أولئك الأفراد القلائل الذين يسيطرون على ثروات ضخمة، والذين أساءوا معنى الأسطورة.»
قلت: «إنك تحيرني بشأن الحكم الذي سيصدره المستقبل على العصر الفكتوري.»
قال هوايتهد: «كان جو هذا العصر من الناحية الاجتماعية خانقا، وقد كان هذا الجو الخانق عقبة في سبيل جانب كبير من أدب العصر؛ لأن الأدب يخضع إلى حد كبير للصور الاجتماعية التي ينشأ فيها. إن الناس في القرن الثامن عشر - في إنجلترا وفرنسا على الأقل - كانوا أكثر حيوية وأشد نفاذا الناس في القرن التاسع عشر، ولكنا حين نقول بهذا يجب أن نذكر دائما أننا لا نتحدث إلا عن القلة المحظوظة التي تعلو قمة المجتمع. ولا يتفوق القرن التاسع عشر إلا في اهتمامه بعامة الناس؛ فهذا شيء جديد. وكان هذا الاهتمام في أول أمره يتعثر ولا يستقيم، ولم يمتد إلى الناس جميعا بأية حال من الأحوال، ولكنه كان صادقا، وهو يميز القرن التاسع عشر عن كل قرن آخر سبقه، وحينما يتلاشى هذا الصراع العالمي الحاضر، فسيكون ذلك هو الجانب في عصرنا الحاضر الذي يستحق الإنقاذ، إن أمكن إنقاذه.» - «وما هي في رأيك مرتبة العصر الفكتوري من الناحية الثقافية؟» - «إنه في مرتبة عصور العالم القليلة العظيمة، ولكنه أقلها شأنا .» - «وهل يمكنك أن تعطيني فكرة عن مكانته وقيمته؟» - «أجل، إنه يشبه إلى حد ما تلك الفترة من الإمبراطورية الرومانية التي جاءت بعد تاستس، حينما كانت الحياة آمنة سليمة إلى حد كبير، ولكنها لم تكن براقة جدا، فكان عصرا فضيا، ولم يكن عصرا ذهبيا.»
وسألت مسز هوايتهد: «ما هي التواريخ التي تحدد بها العصر الفكتوري؟»
فأجاب: «ربما كان القرن التاسع عشر تعبيرا أفضل، ويبدأ القرن التاسع عشر عندي بعام 1830م، وينتهي بطبيعة الحال بعام 1914م. في عام 1830م كان معظم الرجال الذين خلقوا عظمة هذا القرن لا يزالون في الكليات.»
وسألت مسز هوايتهد بغتة: «قل لي أي شاعر أو شعراء من الإنجليز في القرن التاسع عشر لا زلت تقرأ، إن كنت تقرأ البتة شعرا؟ ... هل هو شلي؟»
ولما كان سؤالها موجها إلي، فقد ذكرت قائمة طويلة من الشعراء، ومن بينهم تنسن. - «أي القصائد تقرأ؟» - ««الكأس المقدسة» في عيد الميلاد، و«موت آرثر» في عيد رأس السنة، و«للذكرى» في فترات كثيرة.»
قالت: ««للذكرى» ليست قصيدة ناجحة، وكان لا بد لكي تنجح أن تكون تدفقا لروح معذبة، ولكنها لم تكن كذلك.»
ولما كنت أعلم أن زوجها يقدر القصيدة قدرا أعلى من ذلك بكثير، وقد تحدث عنها باعتبارها واحدة من تلك القصائد الجدية الكبرى في الأدب الإنجليزي؛ فقد نقلت الموضوع إليه.
قال: «كان تنسن شاعرا عظيما يعالج موضوعات لا أعدها جليلة؛ كان موضوعه إنجلترا في عهد فكتوريا.»
قالت: «إذا ذكرنا الروائيين الإنجليز في القرن التاسع عشر، قلنا: إن بعضهم كان مجيدا، وبعضهم أقل إجادة. ولكن ألم يتفوق هذا القرن في العلوم؟ فهناك داروين ...»
ولم يعلق هوايتهد على ذلك، وأحسب أني عرفت السبب في هذا؛ وهو أن القرن التاسع عشر - حتى نهايته بالتأكيد - كان ضعيفا في العلوم إذا قيس إلى القرن السابع عشر، وهو «قرن العبقرية» كما أطلق عليه في كتابه «العلم والعالم الحديث». وهنا حاولت أن أقحم جيته وبيتهوفن، غير أني ذكرت أن قرننا التاسع عشر قد حكم عليه أن يبدأ في عام 1830م، في حين أن جيته قد توفى في عام 1832م، وبيتهوفن في عام 1827م.
واستطرد هوايتهد قائلا: «ولكن إذا كان هذا الاهتمام بعامة الناس يميز عصرنا وهو صفة من صفاته التي تدعو إلى الإعجاب، فهناك إلى جانب ذلك هذا السؤال: ألا يثبط انتشار الفرص على نطاق واسع من الموهبة والعبقرية، ويهبط بهما إلى مستويات أقل ارتفاعا؟ كانت للقرن الثامن عشر وسائله التي يتعرف بها الموهبة ويتعهدها، بالرغم من أن هذه الوسائل كثيرا ما كانت ناقصة؛ فكيف يمكن أن نتعرف إلى القدرات الاستثنائية - ولا أعني المواهب العادية، وإنما أعني القوى الاستثنائية حقا - في مجتمع ديمقراطي تماما؟»
فقالت مسز هوايتهد جازمة، ومؤكدة رأيها بهزها في عنف شديد كرة خيط النسيج التي كانت بيدها: «إنني لا أتفق معك في هذا؛ إن التسوية تطلق المواهب التي لم تكن تنطلق من قبل و«ترفع» المستويات بنشر الفرص، وإليك مثالا من تطبيق هذه النظرية: لم يصل إلينا من روايات القرن التاسع عشر إلا أحسنها، وقد نشرت بين روايات أخرى أكثر عددا وأقل قيمة أو لا قيمة لها البتة، وكلما ظهرت رواية جديدة في القرن التاسع عشر عد ذلك حدثا من الأحداث. أما اليوم، فإن عدد الروايات - السيئة والحسنة والعادية - التي تصدر قد ازداد بدرجة كبيرة، ومع ذلك فإن نشر الرواية الجيدة لا يعد حدثا؛ إذ إن هناك عددا كبيرا منها.»
قلت: «باعتباري رجلا لا يقرأ من الروايات المعاصرة ما يكفي لأن يكون لي حق إبداء الرأي؛ أقول: إنه مما يسترعي انتباهي أن تولستوي ودوستوفسكي، وترجنيف، وتشيكوف، وجوركي، الذين كتبوا الروايات في ظل الأوتقراطية القيصرية، هؤلاء على الأقل لم يتفوق عليهم كاتب ممن عرفنا منذ ثورة سنة 1917م.»
وسألت مسز هوايتهد: «ولكن هل تسمي روسيا السوفيتية ديمقراطية؟»
وأجاب هوايتهد قائلا: «نحن الإنجليز والأمريكان ضعفاء التصور بدرجة فريدة في تفسيرنا لمعنى «الديمقراطية»، ويبدو أننا لا نستطيع أن ندخل تحت تعريفنا أية صورة من صور المجتمع لا تتفق تمام الاتفاق وصورة المجتمع عندنا! انظر إلى الطريقة التي تقاتل بها جيوشهم في هذه الحرب؛ إن الشعب الروسي كله متحد بالتأكيد في تصميمه على تحرير أرضه من الألمان، ولا جدال في أنهم سيفعلون ذلك. إن اتحادهم في الدفاع كامل؛ لأنهم يدافعون عن نظام اجتماعي يحسون أنه نظامهم، وأعتقد أن القوتين العظيمتين اللتين ستتمخض عنهما هذه الحرب هما روسيا وأمريكا؛ على تناقض في المبادئ التي تدفع كلا منهما؛ المبادئ الروسية ستدور حول التماسك، والمبادئ الأمريكية حول الفردية. - «هل ترى في أية ناحية من نواحي الفكر السياسي المعاصر أية فكرة جديدة فيها قوة المستكشفات العلمية، وما يترتب عليها من مخترعات في الخمسين سنة الماضية؟» - «هناك ماركس بالطبع، وإن كنت لا أستطيع التحدث عنه في وثوق.» - «لقد وضعه لنين موضع التطبيق.» «نعم، ومن الحقائق الفذة أن نبي الثورة العالمية قد وجد أول تطبيق عملي لآرائه في مجتمع تسوده الزراعة.»
وقد تطوعت لتصويبه مسز هوايتهد بقولها: «ذلك لأنه بلغ غاية الفساد، وأوشك على الانهيار.»
وقال هوايتهد: «ألم يمت لنين في الوقت الملائم؟ ألم ينته من مهمته، وأصبح المطلوب رجلا ذا موهبة أقل قدرة على النظر، وأكثر قدرة على العمل؟» - «ألا ترى أن تروتسكي يفي بالمطلوب؟»
وقال هوايتهد: إنه يشك في أن يكون تروتسكي ذا فائدة كبرى كرئيس لوطن اشتراكي - أو بصراحة أوفى - لروسيا السوفيتية. وعلقت بقولي: «حينما طرد ستالين تروتسكي من روسيا، قال تروتسكي، فيما أذكر: إن ستالين تدهور شنيع بعد لنين، وسيحكم روسيا لا كمفكر عظيم، ولكن كرجل بالعقلية السياسية لرئيس من رؤساء السجون.»
وقال هوايتهد وهو يبتسم متلطفا: «يبدو أن قدراته الخاصة تجد في الوقت الحاضر مجالا نافعا.» - «إنك تذكرني - وأنا أذكرك - بما قلت لكنستابل في «نادي السبت» حينما كنا نبحث فيما إذا كان إيدن يستطيع - عند الضرورة - أن يحل محل تشرشل، بعدما أصيب تشرشل بالالتهاب الرئوي، وقال كنستابل الذي كان على معرفة بإيدن: «إنه ليس رجلا لامعا، ولكنه شخص مهذب.» ثم قلت أنت ...»
وقالت مسز هوايتهد وفي نفسها شر: «ماذا قال؟!» - «قال: «إن تشرشل وهو ملقى على سريره يعاني الالتهاب الرئوي أفضل كرئيس للوزراء من أي رجل آخر في إنجلترا ممن يدنون منه؛ قد يكون إيدن شخصا مهذبا، ولكن هذا الوقت ليس بوقت التهذيب!» (وأثار ذلك في الجالسين إلى المائدة عاصفة من الضحك.)
ثم جيء بالشكولاته فوق الطاولة، وقد بلغت الآن نحو العاشرة، وكانت الشوكلاتة أفضل من أي وقت سبق، أو ربما كنا جميعا أشد جوعا مما اعتدنا. ثم انتقل الحديث في الوقت نفسه إلى النظام المدرسي.
وقال هوايتهد : «كنت رئيسا للطلاب في شربورن، وقد اضطررت ذات مرة أن أضرب أحد الطلاب علقة، وكان ذنبه سرقة بعض النقود. وقال ناظر المدرسة: «إما أن تضربه على مشهد من المدرسة أو أطرده!» ولم يعد بعدئذ مجال للاختيار، وكان لا بد لي من التنفيذ، ولم يكن الأساتذة بالطبع حاضرين، وتم الضرب بحضور الطلاب فقط.» - «وماذا كان إحساسك به؟» - «لم أحب أن أفعل ذلك، وإنما أرغمت عليه إرغاما، وكان الضرب في تلك الأيام - في السنوات المتأخرة ما بين عام 1870م و1880م - ضرورة من ضرورات النظام معترفا بها، وكان ناظر المدرسة - وهو رجل طيب القلب بدرجة غير عادية - يضطر بين الحين والحين إلى أن يقوم بالضرب بنفسه. وكلما ضرب طالبا رأيناه يخفي رأسه بين ذراعيه ويبكي. وكنت تستطيع أن تسمع وقع الديوس!» - «ألم يضربك أبواك قط في طفولتك؟» - «كلا. إذا احتاج الأمر إلى ضربي، كانا يقدمان إلي جرعة من دواء، ويقولان لي: إنه يؤسفهما اعتلال صحتي!»
وقالت مسز هوايتهد ثائرة: «لقد ضربني أبواي، ولم يؤد ذلك قط إلى نتيجة حسنة؛ إنما كانت التربية في بريتون حازمة، ونشأنا في طفولتنا على قصص العصور الوسطى الشعبية التي كانت ما تزال تروى في الريف، وأذكر مرة أن قيل لي وقد أخطأت - كما قيل للفارس الجريح الذي قال في حلبة اللعب: [إنني أحس بالعطش] - قيل لي ما قاله له الملك: «اشرب دماءك يا بوما نوار، ولن تعطش بعد ذلك.»»
وكنا نتصفح ألبوما من الصور الفوتوغرافية القديمة، ونبحث عن فريقين من فرق الكركت في شربورن عندما كان هوايتهد شابا لم يبلغ العشرين من عمره، وقد أخذت الصور أمام ما يشبه أن يكون بوابة غوطية قديمة، وقلت: إنها تبدو قديمة جدا.
وقال هوايتهد: «لقد احتفلت المدرسة بعيدها المائتين بعد الألف في عام 1941م، والمعتقد أن تاريخها يرجع إلى عهد الملك ألفرد، وكان أحد مبانيها ديرا، والمظنون أن الحجرة الصغيرة التي شغلتها في سنتي الأخيرة كانت حجرة الراهب.»
وسألت مسز هوايتهد: «هل تستطيع أن تتبينه من بين هذه الجماعة من الشباب ؟»
وكانت هناك مجموعتان من الصور الفوتوغرافية في نفس المكان من عامين متتاليين، وكان التعرف إليه في المجموعة الثانية وهو أكبر، أيسر منه في المجموعة الأولى وهو أصغر.
وقال هوايتهد: «من الأمور التي تسترعي الانتباه في تربيتنا بهذه المدرسة - ولم يكن ذلك خاصا بشربورن وحدها بأية حال من الأحوال، وإنما كان من مميزات كل تربية مدرسية إنجليزية في ذلك الوقت: أننا درسنا أدب اليونان وتاريخهم، ولكنا أخذنا منهما تلك الأوجه التي كانت تشبه - فيما يبدو - حياتنا وشئوننا الإنجليزية، واكتفينا بذلك. فأثينا مثلا كانت قوة بحرية، وكان لإنجلترا أسطول بحري، ولما كانت الآفاق الواسعة للقوة البحرية الحديثة لم تعرف بعد؛ فقد ظننا أنها تنطبق أساسا على سواحل أوروبا، كما كانت القوة البحرية الأثينية تمارس نفوذها على السواحل والجزر في شرق البحر المتوسط، مع ملاحظة أن أحدا لم يدرك أن ذلك كان يحدث بالفعل، إنما كنا نأخذ من العالم القديم ما كان يمكن تطبيقها علينا، وكذلك - فيما يتعلق بروما - قرأنا كبار المؤلفين في العصر الجمهوري المتأخر وفي عهد أغسطس، ولكن الجانب من التاريخ الروماني الذي بدا مشابها لتاريخنا هو تلك القرون المتأخرة بعدما فقد الأدب أعظم أسمائه - وكان تاستس آخرهم في رأيي - وهي القرون الثلاثة التي تلت عام 70 بعد الميلاد، حينما كان المهم هو احتفاظ روما بمستواها المرتفع عن طريق السياسة الحكيمة والإدارة المدنية ... وإذا وازنا بين المؤلفين الإغريق والرومان كل في عصره الزاهر، أي: في القرن الخامس في اليونان وفي عصر أغسطس بالنسبة لروما، وجدنا أن الإغريق يتفوقون على الرومان بدرجة لا يمكن قياسها؛ فالآراء عندهم أشد ابتكارا وأقوى حيوية بدرجة كبيرة. والواقع أن المؤلف الروماني الوحيد الذي أرى أنه يمكن أن يقاس إلى اليونان في صفات الحيوية والابتكار هو رجل قد يدهشك؛ هو لوكريشس.»
وأجبت بقولي: «إن لوكريشس لديه ما يقوله لشعوب عصرنا، وذلك لا يدهشني؛ لأني أذكر كيف أن أرنولد توينبي قد وجد عند لوكريشس في إحدى مقالاته تلك الأسطر التي تجادل في أن الموت يحطم الشخصية، وطرأت هذه الأسطر على ذهنه خلال ربيع عام 1918م. وقد كتبت بعد مائة وخمسين عاما تقريبا، بعدما جلا هانبال عن إيطاليا، غير أن قرع ذلك الغزو كان لا يزال حيا في أذهان الناس، إلى حد أن لوكريشس ظن أن مجرد ذكراه جعل النسيان يبدو أفضل من الخلود الشخصي ... ويؤدي بي هذا إلى موضوع أردت أن أفاتحك فيه، وهو ليس موضوعا سارا، وسأجد مشقة في صياغته بدقة؛ لأنه لا يصدر عن دليل واحد، وإنما يصدر عن آلاف الانطباعات المتناثرة، عما أقرأ وعما أشاهد، وما أسمع وما أمارس، وما يترك لي استنتاجه. ثم تتجمع آثار ذلك كله، والطريقة الوحيدة التي أعرف كيف أعبر بها عنه، في آخر الأمر قد تبدو تافهة، بالرغم من فداحته. والموضوع هو هذا: إننا نعيش وسط انحلال مستمر لما اعتاد الناس أن يسموه «الحياة المتمدنة».»
فقال: «لا أعد ذلك موضوعا تافها، بل إني أراه صادقا، وأعتقد أن صديقنا العزيز آدم سمث كان له به شأن كبير؛ لا بمعنى أن كلمات فرد واحد قد يكون لها كل هذه النتائج البعيدة، ولكن بمعنى أنه عبر عن نصف الحقيقة التي كانت من قبل كامنة في عقول الناس، وهي الحقيقة التي تكمن في الواقع هناك دائما، ثم أخذها الناس كحقيقة كاملة، وشرعوا يعملون طبقا لها. وأقصد بها فكرة سيادة الدافع الاقتصادي عند الإنسان؛ إنني لا أنكر أن الدافع الاقتصادي موجود، إلا أن ما يسيء إلى أمور الناس هو أن يأخذوا أنصاف الحقائق على أنها حقائق كاملة، وقد اكتسب ذلك الدافع المادي أهمية قصوى، وحفز الناس إلى العمل بمقتضاه بما حسبوه ضميرا حيا، إلا أنه لم يكن هناك فيما مضى عصر عظيم، ولا يمكن أن يوجد مثل هذا العصر العظيم، ما لم يعمل وفقا لدوافع رفيعة مثالية، وقد نبذت المثالية في عصرنا جانبا، وها نحن ندفع الثمن.»
قلت: «إن كلمة «المثالية» نفسها كانت محل السخرية منذ الحرب العالمية الأولى. ولما كنت أكتب لقراء الصحافة اليومية، فقد أصبحت شديد الحساسية لأي نوع من الأفكار يقبله الناس وأي نوع لا يقبلونه، كما أحس بالطريقة التي لا بد منها لإعادة صياغة الآراء غير المقبولة؛ حتى تستطيع أن تشق طريقها. وفي نفس الوقت تقريبا بدأنا نلاحظ أن هناك تدهورا ظاهرا في تأثير الديانة المسيحية.»
قال هوايتهد: «لقد اتجهت الديانة المسيحية وجهة خاطئة جدا.»
وعلقت على ذلك بقولي: «إن الديانة البوذية، وإن كانت شديدة التعقيد - أشد تعقيدا في الواقع من أن أستطيع إدراكها - إلا أنني أتخيل، برغم ذلك، أنها تدعو إلى الاحترام من الناحية العقلية.»
وأضاف هوايتهد إلى ذلك قوله: «إن الهنود أدركوا - من بين ما أدركوه - أوجه الشبه بيننا وبين الحيوانات، وضمنوا ذلك تفكيرهم الديني، ولكنك لا تستطيع أن تسميها فكرة تدعو إلى المساواة؛ لأنهم كانوا يرون أن من واجبنا جميعا على السواء أن نتخلص من شخصياتنا اللعينة» (قال ذلك وهو يبتسم، ولكنه سرعان ما عاد إليه جده)، «أما عن الديانة المسيحية، فهل تستطيع أن تتصور شيئا أشد بلاهة من الفكرة المسيحية عن السماء؟ أي رب ذلك الذي يريد أن يخلق الملائكة والناس ليتغنوا بحمده ليلا ونهارا وإلى الأبد؟ لا شك أن تلك هي صورة الحاكم الشرقي المستبد، بغروره الوحشي الفارغ! إن مثل هذه الصورة إساءة إلى الله ... ولكني أقول لك برغم هذا: إن المسيحية - من ناحيتها العاطفية والجمالية - تلعب دورا هاما في حياة الناس الذين لا يرقون إلى مستوى عقلي رفيع، في حياة النساء خاصة، وهي تشد أزرهم بدرجة تمس مشاعرهم مسا شديدا. إن من أسوأ ما صادف الأوروبيين من حظ، هو أنه لما حل موعد إصلاح الكنيسة، وضع مارتن لوثر الصور الجديدة، التي نبذ فيها الجانب الجمالي والعاطفي، ولم يبق إلا على العظام الجافة لعلوم الدين مجردة من اللحم.»
وقد أدى الحديث عن الديانة الجرمانية إلى الحديث في الدراسة الجرمانية، وصفاتها التي تتميز بها إذا نظرنا إليها بجوار الدراسة في فرنسا وإنجلترا. وسرعان ما عمم هوايتهد الحكم في أنواع الدراسة الثلاثة بغير تحيز، فقال: «إن البحث العلمي في ألمانيا
عليه هذه الكلمات من الناحية العاطفية في البيئة التاريخية التي نطق بها فيها أولا. ماذا كان مجموع الدلالات العاطفية لتلك الألفاظ حينما نشأت في أول الأمر، وكيف غيرت من فهمنا لها التطورات التاريخية التي طرأت عليها من ذلك الحين؟» - «حكم شاب ألماني بعد استماعه إلى محاضرة ألقاها أحد العلماء البارزين في برلين، ومعه بلس بري حينما كان طالبا في شبابه هناك، حكم عليه بقوله: إن اطلاعه أوسع مما ينبغي، وقد استمع بلس إلى ممسن، الذي أعجب به، وإلى فون تريتسكي، الذي يقر بأنه لم يستطع في حينه أن يسبر كل غوره، وكذلك إلى كثير من عظماء الرجال في ذلك العهد، وقد انتهى رأيه إلى أن كثيرين منهم كانوا كذلك (أوسع اطلاعا مما ينبغي). والأرجح لمن يكون اطلاعه أوسع مما ينبغي أن يقنع بأنصاف الحقائق.»
قال هوايتهد: «إن أكثر الفروض أنصاف حقائق، والفرض من ناحية قد يكون خاطئا، ومن ناحية أخرى قد يكون صوابا، وهو - سواء أكان خطأ أم صوابا - يعتمد على مطابقته؛ فعندما يكون مطابقا نسميه صدقا، وحينما لا يكون مطابقا نسميه كاذبا. والواقع أنه لا هذا ولا ذاك، وهو هذا وذاك، فهو يعتمد على الملابسة التي نراه خلالها، إنه نصف حقيقة، وينشأ الضرر من اعتبار أنصاف الحقائق هذه حقائق كاملة.» - «وهل نعتقد أن الاقتصاديين كانوا بأنصاف الحقائق أشد ضررا من المؤرخين؟»
فأجاب: «كلما ازددت اطلاعا في التاريخ قل تقديري للمؤرخين! أعتقد أنهم رجال يدعون أنهم يكتبون متثبتين عن حوادث ليسوا أهلا لإدراكها، وإن لم يكونوا كذلك فهم يقبلون الوثائق الرسمية لعصر من العصور على أن لها قيمة كاملة، ناسين أن أهمية العصر الحقيقية هي في الجو العاطفي الذي يدفع الناس الذين يعيشون فيه، والآراء العامة التي يتأثرون بسلطانها. واستثنى من الحكم اثنين: أحدهما جبن والآخر ثيوسيديد؛ فقد كانت لجبن خبرة عملية حينما رأس كتيبته تلك التي كانت تعرف باسم «متطوعي هامبشير». وكانت له خبرة كذلك بشئون السياسة، كما عرف مجموعة من الأدباء الممتعين في لندن، ثم إنه في اللحظة الملائمة تماما هاجر إلى جنيف حيث احتك بآراء أبناء القارة الأوروبية المثقفين المتنقلين، وهذه الخبرات بالإضافة إلى المؤهلات الأخرى أعدته لكتابة التاريخ، وميزته بين المؤرخين المحدثين. أما عن المؤرخ القديم ثيوسيديد؛ فقد كان قائدا، يعد جزءا من الحياة ومن العصور التي يصورها.»
المحاورة الثالثة والثلاثون
9 من مايو 1944م
من الأمور العجيبة التي يتكرر حدوثها في أوقات الحروب ما وقع لي في طريقي إلى آل هوايتهد لتناول العشاء؛ في كل ربيع في الليالي اللطيفة ترتل جوقات هارفارد وراد كليف من عتبات ودنر هول، من مكتبة الجامعة، تلك الأناشيد التي تعرف عادة باسم رباعيات سفر، وهذه العتبات المشيدة من الحجر المتين تصعد إلى واجهة كلاسيكية قوية الأثر في الناظر إليها، من الطوب الأحمر، واجهة من الأعمدة الأكاديمية من طراز جورج وكورنثيا. والمكان يتسع لبضع مئات من الأشخاص، وتواجه الأعمدة رواقا مشابها في كنيسة مموريال، عبر مرج وغابة من شجر الدردار، فيتكون منها صالة للموسيقى بهيجة في الهواء الطلق. وقد بنيت الكنيسة تخليدا لذكرى رجال هارفارد الذين قتلوا في الحرب العالمية الأولى.
وكان ستة من الطلاب - ثلاثة منهم في زيهم الجامعي - يدفعون آلة من آلات البيانو فوق حامل ذي عجلات نحو العتبات، وقد أخذ الناس يتجمعون لكي يستمعوا من غير شك إلى الموسيقى في الهواء الطلق، ولم يكن الفتيان على علم بالبرنامج، ولكن في تلك اللحظة وصل الأستاذ والاس وودورث رئيس الجوقة وقال لي: إنهم سينشدون ثلاث فقرات من «نشيد الموتى الألماني» لبراهم، واتفقنا على أنها قطعة فيها سخرية تاريخية، ويمكن أن تؤدى بإحدى الطرق العديدة للأداء.
وكان المساء من أمسيات شهر مايو ذات اللون الذهبي من أثر أشعة الشمس المتخلفة خلف الخضرة الجديدة لأشجار الدردار المزدهرة، ووقعت عيني على شجرة قرنفلية اللون مترعرعة بالقرب من الكنيسة، وكانت طيور الهزار قد بدأت بالفعل في الغناء.
وكان هوايتهد وزوجته يجلسان في فندق إمباسادور إلى جوار نوافذهما القريبة، التي كانت مفتحة على مصاريعها؛ فقد حل الربيع فجأة في أربعة أيام دافئة! وتناولنا العشاء إلى جوار نافذة أخرى تفتح ناحية الغرب، وما زالت تغمرها أشعة الشمس الغاربة في لحظاتها الأخيرة، وتناولنا عشاء فاخرا، بالرغم من أنه لم يكن على المائدة صنف واحد من المقرر بالتموين، اللهم إلا قطع يسيرة من الزبد والسكر. وبينما كنا نتناول العشاء، أخذ هوايتهد يتحدث عن أثر تحقيق الثراء المفاجئ على إسبانيا في القرن السادس عشر.
قال: «إن تدفق الذهب من جزر الهند الغربية وأمريكا الجنوبية دمر إسبانيا في مدى جيلين من أجيال العمر تقريبا؛ فما إن استنفدوا ما جمعه الأهالي، حتى انتهى كل شيء. ولم يشهد الشعب الإسباني كثيرا منه؛ لأن شارل الخامس استخدم الذهب في تمويل حروبه الأوروبية ومناوراته السياسية، فلم تنشأ صناعات جديدة، ومن ثم فإن السبائك الذهبية المتدفقة من العالم الجديد لم تخلق ثروة دائمة. وكان أكثر الأطعمة والسلك المصنوعة يستورد من الخارج، وقد قيل: إن السلع المصدرة كانت تنحصر «في الجنود والقسس». غير أن رفاهية الأمة الحقيقية تستمد من نشاطها الصناعي «الداخلي». ولا بد - بطبيعة الحال - من توزيع ثمار هذا النشاط توزيعا عادلا بقدر المستطاع. أما إذا جاءت الثروة من الخارج دون أي جهد معين من أكثر أفراد الشعب، فإنها تؤدي إلى الدمار! إن الأمة تنتعش وتعيش بنشاطها الداخلي، إنكم حتى إذا لم تستردوا ديونكم للأمم الأخرى بعد الحرب - ولا أظن أنكم ستستردونها - فسيكون لديكم في هذا البلد إعدادكم الصناعي الضخم، وإنتاجكم الزراعي، وشعبكم بما عنده من مهارة فنية، وبهذا تكفلون لأنفسكم إبلالكم مما أصابكم بدرجة كافية.»
وعلقت على ذلك بقولي: «لقد حلت بالإسبان كارثتان أخريان في نفس هذا الوقت تقريبا؛ في كتاب «التقاليد والتقدم» لجلبرت مرت صفحة تسترعي الانتباه، يقول فيها: إن الاضطهاد قد يكون نجاحا سياسيا كاملا مهما تكن نتائجه البعيدة وبالا. ويضرب لذلك مثلا معاملة البروتستانت واليهود في إسبانيا؛ حيث لم تكن بالتأكيد دماء الشهداء بذور الكنيسة كما يقولون.»
وقالت مسز هوايتهد: «إن التسامح ينتهي دائما بنتائج طيبة جدا؛ لقد أدى اليهود خدمات كثيرة لإنجلترا، وأعتقد أنهم - كيهود - في طريقهم إلى الزوال! أنتم في حاجة إلى اليهود في بلدكم هذا؛ إنهم يكونون جانبا من السكان يدعو إلى العجب؛ فهم أدق وأحد ذهنا من سلالتنا الأنجلوأمريكانية. أما مشكلة الزنوج عندكم - من ناحية أخرى - فهي مشكلة حقيقية، وحينما يرثي الإنجليز لإحضارهم إلى هنا، فإني أسألهم: ومن الذي بدأ بذلك؟ إن المزارعين من أهل الجنوب عندكم وأصحاب السفن من أهل الشمال قد واصلوا على نطاق أوسع ما بدأه الإنجليز، ويجدر بنا أن نذكر أننا ألغيناه قانونا بحلول عام 1833م، ولكن رق السود لم يكن قط في جزرنا، إنما كان مشكلة في المستعمرات.»
وقال هوايتهد: «كان في إحضارهم من أول الأمر قصر نظر شديد؛ إن خيالا يسيرا كان من الممكن أن يحذر أي مخلوق من حقيقة ما يحدث، إن الدافع المباشر - دافع الكسب الفردي - أضعف أثرا من أن يصلح أساسا لمجتمع مستقر، وكذلك من هذه الناحية؛ الفائدة المباشرة لأي أمة بمفردها. كما أعتقد أننا ندرك ذلك جميعا اليوم.»
وسألت مسز هوايتهد: «هل تقابل دكتور بروننج؟» - «من حين إلى حين فقط، ولا تتهيأ لنا فرصة كبيرة للحديث الشخصي.»
وأجابت: «كان هنا ذات مرة، وخلوت معه في حديث، ومما قاله: إنه كان من الممكن أن ينجح رئيسا على ألمانيا لو أن أمريكا وبريطانيا أيدتاه! وإني لأعجب؛ أية حكومة هذه تلك التي تحتاج إلى تعضيد حكومتين أخريين؟!»
وقلت: «حدث ذات مرة في بيت دكتور هانز زنسر، حيث كنا خمسة فقط على مائدة الطعام، أن تكلم بروننج في حرية تامة، وربما كان ذلك؛ لأن زنسر كان من سلالة جرمانية، وما ذكره بالتفصيل عن ازدياد نفوذ هتلر، واستيلائه على الحكم كان أشبه بالمسرحية الحزينة. والظاهر أن بروننج كان على علم بما يجري وما كان يعتزمه هتلر، ومع ذلك فقد كان - فيما يبدو - عاجزا عن صد التيار.»
وهنا لاحظ هوايتهد «أن بروننج رجل تقي جدا، ولكن الرجل قد يكون تقيا دون أن يكون طيبا؛ قد يكون صاحب ضمير، ولكن هذا الضمير قد يكون سيئا لعينا؛ لأن الضمير يفرض أن حوافزه نافعة من الناحية الاجتماعية.»
وانفض العشاء، ودخلت مع هوايتهد حجرة الجلوس، حيث جلسنا إلى جوار النافذة المفتوحة في ضوء الشفق الرقيق، حتى انتهت مسز هوايتهد من إزالة آثار الطعام من المائدة. وسألني رأيي في إبعاد الحكومة لسول آفري من مكاتب حراسة منتجومري في شيكاغو.
قلت: «أعتقد أن أبلغ تعليق على ذلك تلك الصورة الفوتوغرافية لآفري التي تصوره مطرودا على يدي جنديين صغيرين يتنازعانه فيما بينهما؛ فذلك أسوأ من تصوير الجنديين ضاحكين؛ لأنهما كانا مهذبين، وحاولا جهدهما أن يرفعا رأسيهما. أما من كان ساخطا على ذلك - في ظني - فهم أصحاب الأعمال الصغيرة وأصحاب الملكيات الصغيرة الذين كانوا يتشبثون بالحياة العزيزة لما يملكون وسط حرب عالمية، يموت فيها الشبان الذين لم يعيشوا بعد!»
وقال هوايتهد: «أية فكرة تلك التي تفترض أن الناس - وسط أعظم كارثة في تاريخ البشرية - ينبغي ألا يضطربوا في أعمالهم التي ألفوها وكرروها! كم كنت أود أن أكون هناك لكي أركل آفري بقدمي!»
وأبديت رأيي قائلا: «كان ذلك مهرجانا لمن يكرهون روزفلت.»
وقال هوايتهد: «لو سمعتهم يتكلمون تصورت أن مستر روزفلت تولى الرياسة في عهد من الرفاهية لم يسبق له مثيل!»
قلت: «إنني أصبر على جدلهم.»
وقال هوايتهد: «إنه ليس جدلا؛ إنما هو ثرثرة.»
وقبل أن نستقر في جلسة المساء طفنا حول حجرة الجلوس قليلا، متفقدين ما بها من قطع صغيرة من خشب الماهوجاني الإسباني، الذي لم يعد بالإمكان الحصول عليه كما ذكرت مسز هوايتهد.
وقال هوايتهد: «إن المكتب تحفة من التحف، وأحد هذه المقاعد اليعقوبية تقليد سيئ للطراز الفكتوري، أما الآخر فيعقوبي صحيح.»
وكان لأحد القطع تاريخ عائلي وراثي، يمتد إلى أربعة أجيال؛ فقد انتقل من جدة ثانية في التسعين من عمرها إلى جدة أولى عاشت بدورها حتى بلغت التسعين أو أكثر، وقد أخذت مسز هوايتهد أحد مقاعد حجرة الطعام التي كانت تملكها إلى بوسطن لإصلاحه، وسألت عن قيمته، وسألها المشتري: «كم قطعة لديك من هذا الطراز؟» فأجابت: «ست قطع»؛ لأن بعضها محفوظ في بيت أبنائها، فقال المشتري: «مائتان وخمسون ريالا» - «للقطع الست؟» - «بل للقطعة الواحدة.»
واختتمت حديثها بقولها: «ولذا فقد أمنت عليها.»
وخلال حديث دار حول تحلل عالمنا مما كان يظنه آراء منيعة، لا في الدين فحسب، بل حتى في علوم الطبيعة؛ قال هوايتهد: «كنت أقرأ «خطابات» هكسلي، وبخاصة المجلد الثاني منها، وقد استرعى نظري أنه أحد أولئك الرجال الذين لا يبلغون الصف الأول؛ فهو قدير جدا، ولكنه ليس عظيما. أما دارون - من ناحية أخرى - فعظيم حقا، ولكنه أغبى عظيم ممن أذكر! لقد أدرك هو وهكسلي مبدأ التطور في الحياة المادية، غير أنه لم يطرأ لهما قط أن يسألا: كيف يمكن أن يؤدي التطور في الحياة المادية إلى رجل كنيوتن على سبيل المثال؟!» - «هناك رجل واحد أدرك هذا النقص من زمن مبكر جدا، وذكر ذلك، وهو صمويل بتلر.»
وقال هوايتهد: «إنهما لم يميلا إليه.» - «تقول: يميلان إليه! لقد حاولا أن يتجاهلاه، ولكنه كان أقوى من أن يتجاهله أحد.» - «إن نكران دارون لانتقال الصفات المكتسبة غلطة أخرى؛ من ذا الذي يعرف أين تبدأ أجسادنا وأين تنتهي، أو كيف تنتقل الصفات بطريقة غير الوراثة؟ قد يكون لدى الطفل ألف ميل فطري مردها إلى حرف أسلافه المباشرين، وقد يسري في الأسرة لون معين من ألوان النشاط لعدة أجيال، فيميل إليها الطفل بفطرته؛ هل هذه بيئة، أم هل هي وراثة؟»
وعلقت على ذلك بقولي: «لقد انحدر هارفي كشنج من أربعة أجيال من الأطباء، في هذه الولاية أولا، ثم في أوهايو . ولا يستطيع كليفلاندرز أن يتذكر وقتا لم يكن فيه طبيب باسم دكتور كشنج، كما أنه لا يستطيع أن يتذكر وقتا لم يكن فيه أحد من أسرة كشنج يعالج إنسانا ما؛ فلا بد أن يكون ذلك قد ضاعف من قوة الدفعة الأولى عنده كثيرا.»
وقال هوايتهد: «كان أبي، وكان جدي، وأعمامي، جميعا مشتغلين بالتربية أو الإدارة المحلية، أو كلتيهما. وكذلك كنت.»
وقالت مسز هوايتهد تعليقا على ذلك: «ولكنك تغايرهم بالرغم من ذلك، وتختلف عنهم اختلافا لا يكاد المرء يتصوره، وقد كنت دائما أعزو الحرارة الكلتية فيك إلى جدتك تلك الويلزية؛ ماري وليامز.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلا: «إن هذا الركون إلى الوراثة له أثر سيئ؛ فلقد اطمأن الناس إلى إهمال البيئة؛ لأن «الوراثة ستتولى أمر كل ذلك» كما يقولون. لكنك إن أردت لمدنية أن تتقدم فعليك بأداء أمرين أو ثلاثة؛ إن القوى التي تؤثر في عقولنا وأجسامنا على الدوام لا يحصرها العد إلى درجة لا تصدق؛ كالأشعة المنبعثة - مثلا - من نجم يبعد عنا ملايين من السنوات الضوئية، وهي قوى خيالية كهذه ... كما أن صور الحياة التي يمكن للمخلوقات أن تحياها فوق الكواكب الأخرى التي تبعد عنا ملايين من السنوات الضوئية كما تبعد ملايين السنين من وقتنا الحاضر! هذه الصور لا نهاية لها، وهي تسمح بكل إمكان يمكن للخيال أن يتصوره. إن آلاف الأفكار تمر بعقل الإنسان يوما بعد يوم، ويجب عليه أن يرحب بها ويديرها في ذهنه ويتدبرها في كل وجه من وجوهها، ويعطيها حقها من الاعتبار. إننا بحاجة إلى أن نرحب بكل وجه من أوجه الجدة، وبكل فرصة يمكن أن تنتهي بتشكيلات جديدة، ولكنا في الوقت عينه بحاجة إلى أن نرحب بها بعين الفاحص المتشكك، وأن نخضعها إلى البحث الدقيق المحايد؛ لأن الأرجح أن تسعمائة وتسعا وتسعين منها سيتمخض عن لا شيء؛ إما لأنها عديمة القيمة في حد ذاتها، أو لأنا لن نعرف كيف نستخرج قيمتها! غير أنه من الخير لنا أن نرحب بها جميعا - مهما كنا متشككين - لأن الفكرة الألفية منها قد تكون هي الفكرة التي ستغير وجه الأرض!»
قلت: «لقد رأى الناس في زماننا هذا أن المستحيل كثيرا ما يتم، ومن ثم فهم مستعدون للاعتراف بإمكان ذلك في عالم الكشوف العلمية، ولكنهم ليسوا مستعدين لذلك حتى الآن في عالم الأفكار العامة الأوسع.»
قال: «سأعطيك مثالا يبين كيف أن هذه الفرص للابتكار الجديد لا يمكن التنبؤ بها؛ إننا ونحن جالسون في هذه الحجرة نستطيع بجهاز ما أن ننقل أفكارنا إلى شخص آخر يجلس في حجرة أخرى في بوسطن أو أبعد منها، ولكنك منذ سبعين عاما لو أردت أن تتصل على عجل مع رجل في طوكيو كان لا بد لك أن ترسل إليه برقية! إنك تستطيع اليوم أن تتحدث إلى شخص ما في آسيا يحمل معه جهازا في حجم الجهاز الذي في الحجرة الأخرى، لقد فكر ماركوني أن مثل هذا الاتصال ممكن؛ إنه لم يكن - بطبيعة الحال - على ثقة من ذلك في أول الأمر، وكان هناك كثير من رجال العلم الممتازين ممن يستطيعون أن يقولوا له: إن ذلك ليس بالإمكان، كما يستطيعون أن يبينوا له السبب في عدم الإمكان؛ فالذبذبات بدلا من أن تدور حول الأرض ترتفع إلى الطبقات العليا من الجو ثم تتبدد، وكانت الذبذبات فعلا تصعد إلى طبقات الجو العليا، ولكنها بدلا من أن تتشتت انعكست ثانية صوب الأرض، وهكذا أمكننا أن نتصل اتصالا لاسلكيا. ولم يتنبأ أحد بهذه الحقيقة التي جعلت هذا الاتصال ممكنا حتى ماركوني نفسه في بداية الأمر، ولكن شيئا مجهولا لا يمكن التنبؤ به مجرد مصادفة - إن أردت أن تسميها كذلك - حتمت نجاح هذه الوسيلة من الاتصال البشري، التي تكاد حتى اليوم ألا تصدق. وكذلك قد تغير إحدى الأفكار العامة أسلوب حياتنا فوق هذا الكوكب أكثر من أثر اللاسلكي في تبادل الصلات. وهذه الفكرة - كفكرة اللاسلكي - لا يمكن للأحياء اليوم أن يتصوروها.»
قلت: «إن أوروبا، برغم كل ما انتابها من اضطرابات، لم تقصر في الابتكار المستحدث، على الأقل منذ النهضة، ولعدة قرون قبل سقوط روما . أما إذا مات من الشباب في هذه الحروب الكثير، وتكرر انحلال المجتمعات المدنية، فإني لأعجب - بعد هذا - من أين يأتي الدافع إلى الآراء الجديدة.»
قال: «يمكن أن يأتي من روسيا.»
وقالت مسز هوايتهد: «ولكن يكون مشوبا بالروح الآسيوية، وأرجو ألا يغيب ذلك عن ذهنك، وهذا لا يجعله نفس الدافع بعينه.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلا : «ليست هناك أسباب كافية حتى الآن تدعونا إلى أن نفرض أن الدافع سيأتي من أمريكا الجنوبية؛ إني أتوقع أن يأتي منكم هنا في الولايات المتحدة، بأمريكا الشمالية، فإذا عجزتم عن ذلك فأعتقد أن العالم سيتجه وجهة سيئة، وقد تحتاجون إلى قرن آخر؛ لكي تؤلفوا بين أجناسكم، وأعتقد أنكم ستكسبون من الامتزاج بالعناصر الذكية القادمة من جنوبي أوروبا، ولو ترك العنصر الأنجلوأمريكاني القديم وحده لبقي على شيء من الغباء.»
قلت: «إن هذا الامتزاج بين الأجناس لم يبدأ إلا من عهد قريب، ويحتمل حتى الآن أن يتخذ صورة الأفراد الموهوبين الذين يرتفعون إلى مستوى يسترعي الأنظار. إن الأجناس تمتزج، ولكنا لا ندري حتى الآن ماذا ستكون النتيجة؛ قد تكون النتيجة ارتفاعا في الذكاء، وقد تكون هبوطا نحو الغباء.»
قال: «إني لم أكف قط عن الاعتقاد في إمكان ارتفاع الجنس البشري إلى حد معين، يبدأ بعده في الانحدار، ثم لا يستعيد مكانته قط مرة أخرى، وكثير من صور الحياة الأخرى قد فعلت ذلك، والتطور قد يسير صعودا وقد يسير هبوطا، ورأينا في آسيا كيف يمكن أن تركد الحياة قرونا، ويبدو أن جانبا من هذا الركود قد نشأ عن التصوف الديني، من أمثال هذه العبارات: «لا تعبأ بهذه الدنيا» أو «إن ما يصيبنا من حظ سيئ نتيجة لمراحل وجودنا التي تحتم مصائرنا، والتي تعرضنا لها في تجسيدات سابقة، ولا بد من التكفير عنه» أو «أن الأهداف التي تتحكم في الكون لا يمكن أن يسبر لها غور، ومن نكون نحن حتى نتساءل عنها؟»»
قلت: «أما الغرب - فعلى نقيض ذلك - قلما تردد في حمل السلاح يواجه به خضم المشقات.»
فقال هوايتهد: «إن في الأديان الجامدة فناء الفكر.» - «وهل ذلك لأنها تزعم أنها تجيب عن كل سؤال قبل أن يسأل؟» - «إن أية طريقة من طرق التفكير اليقينية تفعل ذلك، وحينما تسود الكهانة في مجتمع من المجتمعات، لا تجد حرية البحث تشجيعا، وإذا ما طالت سيادة الكهان انحط مستوى الذكاء العام.»
المحاورة الرابعة والثلاثون
29 من أغسطس 1944م
أشرف الصيف على نهايته، وبدأت أشجار الدردار في كمبردج بالفعل تظهر بمظهرها في شهر سبتمبر، وأوراقها الذابلة تتساقط فوق المروج، وكانت الساعة السابعة والدقيقة الأربعون حينما دققت جرس بيت آل هوايتهد، وكان الرجل وزوجه كلاهما يبدوان في صحة جيدة غير معهودة، وقلت لهما: «لا بد أن تبدوا كذلك، وقد عدتما بعد شهر قضيتماه في جزيرتكما بمين، ثم سمعتما بهذا الفيض من أخبار الحرب السارة، لا بد أنكما تتعجبان - كما نتعجب جميعا - إذا كنا نعيش في عالم 1940م-1942م بعينه.»
وقال هوايتهد: «حقا، إن هذه الحوادث تتذبذب.»
وسألته: «هل هي حقا لم يسبق لها مثيل، أم هل هي على نطاق أوسع من الناحية المادية فحسب؟» - «لم يحدث ما يشبهها مما أعرف في ألف عام، وإن حدث ما يشبهها فقد استغرق مائة عام، في حين أن هذه الحوادث لم تستغرق سوى بضعة أشهر، إن ضخامة مثل هذه الحوادث - فيما سبق - لم يمكن إدراكها إلا فيما بعد، ثم لا يدركها أساسا إلا المؤرخون والباحثون، أما حوادث اليوم فيمكن أن يلمس وقوعها كل إنسان، من يوم إلى يوم، بل من ساعة إلى ساعة.» «إني آتيكم وقد كدت أفقد البصر من قراءة الصحف، أو إدمان النظر فيما يرد إلى المكتب من أخبار مكتوبة، وذلك منذ السادس من شهر يونيو؛ ما الذي يقع - في ظنك - وأنت تقرأ هذه الحوادث من حيث المغزى والجوهر؟» - «أمران: أولهما مجرد الاحتفاظ بالنفس، فقد أرغمنا على الدفاع عن أنفسنا ضد نوعين من الرجال الألمان العسكريين، بعدما كان نوعا واحدا (وهؤلاء يمثلون بطبيعة الحال الشعب من ورائهم)؛ النوع الأول: ضباط الجيش الألماني النظاميون من الطبقة الأرستقراطية القديمة، والنوع الثاني: هؤلاء المغامرون الجدد من الطبقة الوضيعة. وكلاهما يقول لنفسه: أليس من الأمور العظيمة أن نسترق أوروبا بأسرها؟! وهددونا باستبعاد من نوع جديد مريع؛ إن أكثر الغزاة السابقين كانوا يرغبون في الإبقاء على الثقافات الإقليمية بغير مساس! ...»
قلت: «كان الرومان يؤثرون ذلك؛ فإن البلاد المغلوبة أيسر في حكمها بهذه الطريقة.»
قال: «ولكن هؤلاء الألمان شرعوا في استئصال كل ذلك، ولست على يقين من أنهم يرمون إلى «حكم العالم» أو على الأقل أنهم حتى الآن لا يرمون إلى ذلك. بيد أنهم لو كسبوا الحرب لسببوا لكم إزعاجا شديدا عن طريق أمريكا الجنوبية. والأمر الثاني الذي يجري كما أرى هو هذا: أنك لا تستطيع أن تشعل حربا بمثل هذه الضخامة دون أن تفتتح عصرا جديدا. لقد كان حظنا حسنا في تشرشل؛ فهو قائد يدعو إلى الإعجاب في إثارة الوطنية في شعبه في حرب يائسة، ولكنه لا يفكر اجتماعيا في حدود عهد جديد، وأشك إن كان يدعو إلى الإعجاب في إبرام الصلح.»
قالت مسز هوايتهد مؤكدة: «إن تشرشل يفكر في حدود القرن الثامن عشر، ولطبيعته جانبان: فهو في جانب سياسي بريطاني من الطراز الذي نعرفه، ونعجب به في كثير من الوجوه، ولكني عرفت أمه، وهي أخف منه عقلا ... وهو من هذا الجانب روتري مازح، يتغنى بالأناشيد المرحة مع «الصبية».»
واستطرد هوايتهد قائلا: «وأنتم أحسن منا حظا في رجلكم؛ فإن مستر روزفلت يفكر - فيما أعتقد - إلى حد كبير في حدود عهد جديد، وقد ظهر ذلك قبل أن تبدأ هذه الحرب في سياسته الداخلية، التي أغضبت بعض أصدقائنا الأثرياء، دعنا نأمل أن يعيش؛ حتى تكون له يد طولى في تشكيل السلام. ثم إني في العهد الجديد أتطلع إلى روسيا كذلك.» - «حينما أفكر في الأثر السيئ الذي تركته روسيا في أمريكا لمدة خمسة وعشرين عاما، ثم أرانا اليوم متشابكين في عناق أخوي ...»
ثم تحدث هوايتهد في بطء شديد، وهو يزن ما يقول: «يبدو لي أنكم أيها الأمريكان على شيء من ضيق العقل في آرائكم عن تفوق شكل حكومتكم، وإمكان تطبيقه تطبيقا عاما؛ كيف استطاع الروس أن يقوموا بما قاموا به؟ في القرن السابق، أو القرن ونصف القرن، قبل ثورتهم، كانوا كلما دخلوا في شئون غرب أوروبا يؤيدون عادة الجانب المخطئ، كما فعلوا مع مترنخ في مؤتمر فيينا! حقا كان هناك أفراد فاتنون موهوبون ممن عرفناهم في قمة مجتمعهم، وقد أجادوا في الفنون؛ في الأدب (تلك الروايات التي كتبها تولستوي ودستوفسكي وترجنيف التي تفضل كثيرا رواياتنا في هذا العصر نفسه) والمسرحية، والموسيقى، والتصوير ...» - «ولا تنس الرقص ...»
قال: «وكذلك هزيمتهم لنابليون كانت إعلانا مقدما لما هو آت، كما تكون عادة أمثال هذه الحوادث العظام، ولكن العالم لم ير العظمة الحقيقية الجديرة بها روسيا حتى هذا القرن الذي نحن فيه.» - «متى يبدأ هذا التاريخ؟ هل من نوفمبر عام 1917م؟» - «بل من رحيل تروتسكي وبلوغ ستالين الحكم.»
وقالت مسز هوايتهد: «لما كان لنين أرستقراطيا ثائرا، فقد احتفظ بالثورة لطبقته، كما يفعل عادة أمثال هؤلاء الأبناء العصاة، أما ستالين فهو رجل من الشعب، وأحسن لهم منه تمثيلا بدرجة كبيرة.»
ووافقها على ذلك هوايتهد قائلا: «يرجع السبب في ذلك عندي إلى أن ستالين كان من جورجيا؛ كان يعتقد أن روسيا - برغم تفرعها واتساعها - يمكن أن تتحد في شعب واحد عظيم. ومما يستحق النظر ظهور هذا العدد الضخم من المواهب من صفوف جماهير الشعب الروسي في مثل هذه الفترة الوجيزة! خذ مثالا لذلك قوادهم في هذه الحرب؛ إن أكثرهم من الشبان، ولا بد أن ينتقيهم أحد ما، ولست أعتقد أن ستالين قد اختارهم مصادفة؛ إن من وظائف المجتمع الرئيسية إطلاق المواهب على أوسع نطاق ممكن، والظاهر أن ذلك هو ما حدث في روسيا، حينما تنتقل حياة الناس انتقالا عظيما، فإن ذلك يكون عادة نتيجة لاجتماع سببين أو أكثر، وبالرغم من أن رجلا واحدا لا يستطيع أن يبتدع أمثال هذه الانتقالات الكبرى، إلا أنها ما إن بدأت حتى يمكن لرجل واحد أن يوجهها هذه الوجهة أو تلك. لقد استولى نابليون على الحكم على آراء الثورة الفرنسية، ولكنه لم يهتم قط - في صميمه - بهذه الآراء؛ ومن أسباب ذلك أنه في قيادة الجيوش أبرع مما ينبغي، وكان تطبيق العلوم الحربية أشد إثارة لاهتمامه، وكأن الآراء الثورية قد أوقدت النار في جهازه الحربي.» - «هل توافقني على أن نجم نابليون كان يرتفع ما دام خاضعا لآراء الثورة الفرنسية العظيمة، ثم بدأ في الأفول حينما طغى عليها بشخصه الإمبراطوري؟» - «أجل، ونحن الإنجليز كنا في الجانب المخطئ طوال الوقت؛ كانت طبقاتنا الحاكمة وأرستقراطيتنا المالكة للأراضي مرتاعة من عهد الإرهاب ومن إطاحة رأس الملك.» - «كأن الإنجليز لم يطيحوا برأس ملك ...»
قالت مسز هوايتهد: «أجل، ولكن الأمر كان مختلفا.» «ألم أسمع أنه كان بالأمر انفعال ديني أيضا، وأن الإنجليز المنحرفين عن الدين السائد اعتقدوا أن توحيد الفلاسفة الفرنسيين والقادة الثوريين ضرب من الإلحاد؟»
قالت مسز هوايتهد: «كان ذلك يضع شعبنا متماسكا خلف أرستقراطنا، حيث كانوا بالفعل.» - «وإني لأعجب من ذلك من أن حرب استقلالنا الأمريكية قد وجدت - من بدايتها إلى نهايتها - كتلة كبيرة من الأصوات تؤيدها في مجلس عمومكم البريطاني.»
قالت مسز هوايتهد: «أعتقد ذلك، ولكني أود لو استطعت أن أقنع بعض أصدقائي الأمريكان بأن ذلك هو الواقع.» «هل ترون أن الناس لا يستطيعون أن يفكروا تفكيرا عالميا كافيا، يمكنهم من أن يدركوا حركات التحرير البشرية مهما تكن صبغتها القومية، إلا بعد أن تمر بهم بعض المحن المخيفة؛ شخصية كانت أو اجتماعية؟»
قال هوايتهد: «إن ذلك لا يتحتم دائما؛ خذ مثالا لهذا ذلك الطراز من الفرنسيين الذين غالبا ما تتمخض عنهم المعارضة الكاملة للكنيسة؛ إن هذا الطراز يسترعي نظري بسوء حظه، ولقد كانت حركة الإصلاح الديني من أشد ما عرف التاريخ من أنواع الإخفاق الذريع؛ فقد نبذت كل ما يجعل الكنيسة محتملة أو رحيمة؛ أعني جاذبيتها الجمالية، ولكنها أبقت على عقائدها البربرية.»
وقالت مسز هوايتهد جادة: «إن ما يشغلني هو أنه ما دامت المسيحية تفقد سلطانها، فأين تجد البشرية مكانا تستطيع فيه أن تعبر عن نيتها الطيبة مجتمعة؟ إنني لا أنكر الآلام المريعة التي سببتها العقائد المسيحية للنفوس ذات الحس والخيال البعيد؛ فلقد كان ذلك - علم الله - أمرا فيه مما يصدم النفس الكفاية! ولكن كما أن الأسرة هي الموئل الوحيد الذي يستطيع المرء أن يقصده حينما يسلك سلوكا شائنا (ونحن جميعا قمينون بمثل هذا السلوك في فترة من فترات حياتنا، حتى إن كان ذلك عن غير قصد )، فكذلك يجب أن يكون هناك مكان يستطيع الناس فيه أن يتجمعوا، لا لكي يؤدوا هذا العمل أو ذاك بعينه، ولكن ليذكروا أنفسهم، ويذكر كل منهم الآخر، بنواياهم الطيبة، وبإرادتهم الحسنة العامة. ولو كنت أعتقد أن الكنيسة، أو أية صورة من صور المنظمات المسيحية، لا تزال تفعل ذلك، أو لا يزال في إمكانها أن تفعله، ما قلت هذا الذي ذكرت؛ إن الحاجة لا تزال قائمة، فكيف نسدها؟»
ولم نثر الاعتراض بأن جماهير زوار الكنيسة قد يقولون بأن الكنائس لا تزال تسد هذه الحاجة. لم نثر هذا الاعتراض؛ لأن ما ينادي به صوت واحد منعزل اليوم، كثيرا ما تنادي به الجماهير في الغد. وإنما أثرنا - بدلا من ذلك - هذا الموضوع: هل لا يمكن أن تكون الخبرة الجمالية صورة من صور العبادة الدينية؟! «أليس الجمال صورة من الصور الأخلاقية؟»
فأجاب هوايتهد: «كلا، إن الجمال والأخلاق يتحركان في ميدانين مختلفين.» - «أمهلني لحظة، ودعني أحاول أن أعيد صياغة السؤال: أليس في عمل الفنانين العظام فحوى خلقية عالية؟» - «وماذا تعني بالفحوى الخلقية؟» - «أعني الأثر الذي يتركه في المشاهد أو المستمع الفنانون الذين عاشوا وعملوا في مستوى مرتفع تتوافق فيه المعيشة مع العمل، ومن المؤكد أنه ليس من المبالغة في شيء أن نقول: إننا نسمو بالروح حينما نستمع إلى أداء جيد في الموسيقى يقوم به رجال عباقرة أكثر مما نسمو بها حينما نستمع إلى صاحب النيافة أو صاحب القداسة ... وإني ألاقي الكثيرين ممن يرون رأيي؛ فكيف يمكن أن يكون أثر أمثال هذه الأعمال الفنية غير ديني؟»
فقال هوايتهد وهو يسخر مني: «بينما كنت تتكلم كنت موزعا بين فكرتين؛ إحداهما تقول: أجل هذا يبدو صحيحا. والأخرى تقول: يا لله، ماذا يعني؟» واستطرد قائلا: «كلا. إن الأمر الوحيد في الجمال هو هذا: هل العمل الفني جيد أو رديء؟ فلو كنت أنا وأنت مثلا نستمتع بغروب جميل، فإني لا أهزك بذراعي لأنبهك سائلا إياك: ماذا تفكر أن تعمل بهذا الغروب؟ إننا نستمتع بالتجارب الجمالية من أجل ذاتها فحسب، وهذا كل حقنا فيما نتوقع منها.» - «ربما كان ما سمعت مني من رواسب مذهبين من مذاهب آبائنا المنحرفين، أحدهما مذهب بيوريتان إنجلترا الجديدة، والآخر مذهب الصحابة في فيلادلفيا.»
قال هوايتهد: «إن للفنان تيارا دائم التدفق من التجارب الجمالية الجديدة، ولا بد أن يكون له هذا التيار، وهو يترجم هذه التجارب إلى صورة فنية، وعن طريق هذه الأعمال الفنية تنتقل خبرته إلى حياة الآخرين.» وانتهى عند هذا، ولكنه كان يعرف - كما كنت أعرف - أن ما قاله يعني أكثر مما يطرق الأذن. - «وإذن فالأخلاق لا شأن لها بالشعر الجيد؟»
وتساءل باسما: «وهل كان بيرون «أخلاقيا»؟»
وبذلك ضمني إلى رأيه في لحظة. - «هذا شيء يؤلم الكثيرين من شعرائنا الأمريكان في القرن التاسع عشر؛ فهم يلتزمون «الاستقامة» على إطلاقها أكثر مما ينبغي، على الأقل فيما يدونون من مشاعر، وعندما يقرأهم المرء اليوم يجد نفسه مضطرا إلى التشكك: «إنكم لم تعتقدوا في ذلك حقا، وليس من الممكن أنكم لم تكونوا أكثر من ذلك معرفة، ولكنكم لم تجرءوا على القول بهذا!» والمغزى «الخلقي» الضعيف الذي يزج به هوثورن في خاتمة كتابه «الخطاب القرمزي» مثال في النثر لهذا الجبن؛ إذ يقول: «كن صادقا! وبين للعالم في حرية أسوأ ما عندك، أو على الأقل صفة من صفاتك تكشف عن أسوأ ما عندك!» وحينما كنت أقرأ ذلك، حتى في طفولتي، كنت أشعر بما ينطوي عليه من مراوغة «إذا لم تستطع أن تكون صادقا، فكن صادقا على قدر ما تستطيع!»»
وقالت مسز هوايتهد: «إن الشاعر الذي يتحاشى كل ذلك عندكم هو هويتمان، ولم يبلغ الشعر الأمريكي في أي موضع آخر مثل ما بلغ من السمو في قصيدته التي رثى فيها الرئيس لنكلن .»
ومن هنا انتقل الحديث إلى أثر الحيل الفنية العلمية في عالمنا الحديث.
فقال هوايتهد: «إن هذه الحيل الفنية قد خلقت موقفا لم يسبق له قط مثيل؛ لقد سألتني في بداية هذا المساء عما إذا كنت أظن أن هذه الحوادث العالمية - الحركات الحربية وما يترتب عليها من تطورات اجتماعية - أقوى دلالة في حقيقتها عما يشبهها من أزمات في الماضي، أم هل هي أوسع منها نطاقا من الناحية المادية فحسب؟» «نعم، هل حوادث اليوم أعظم وأبعد أثرا؟ أم هل هي أكبر فحسب؟» «الأرجح أنها ليست «أكبر» ولا «أعظم» من انهيار أثينا في نهاية حرب بلبونيزيا بالنسبة للإغريق، والأرجح أيضا أنها ليست أعظم ولا أكبر من سقوط روما عند الرومان في القرن الخامس بعد الميلاد، ولكن هذا هو ما استجد: في تلك الأزمات السابقة في تاريخ البشرية، وفيما شابهها، استغرق التطور الذي لمسناه في السنوات الخمس الأخيرة، بل في الخمسة الأشهر الأخيرة، مائة عام. هذا أمر جديد، وهو شيء مريع، ويرجع ذلك إلى سبب واحد، وهو أن جهاز الاتصال يعمل بسرعة تكاد تكون كالبرق الخاطف، وقد تعودنا جميعا هذه السرعة حتى أصبح ذكر هذه الحقيقة لغوا من القول، ولكن الحقيقة في حد ذاتها أبعد ما تكون عن اللغو. ثم إن اطراد التقدم في الحيل الفنية الجديدة بلغ من السرعة أن نسبة الزيادة منذ عام 1900م في المخترعات التكنولوجية أصبحت ضعف ما كانت عليه فيما بين عام 1800م وعام 1900م. وقد ولدت في عام 1861م، وأستطيع أن أقرر أن الوسائل الفنية للعيش قد تطورت بدرجة أسرع وأكبر فيما بين عام 1861م وعام 1944م مما كانت تتطور - لو رجعنا إلى الماضي فيما بين عام 1861م و...» - وهنا صمت برهة، ثم ابتسم وقال: «كنت أريد أن أقول: فيما بين عام 1861م وعام 61ق.م!»
وواصل حديثه قائلا: «وآثار هذه الحيل الفنية الجديدة - فوق ذلك - متشابكة؛ فإن تطويرها في طرق حياتنا اليومية يؤثر في آرائنا الخلقية، كما أن التطور في طرق تفكيرنا يؤثر بدوره في طرق انتفاعنا بالوسائل الفنية الجديدة، فيؤدي إذن إلى مستحدثات جديدة. وكما حدثتك كثيرا، أكاد لا أذكر فكرة كانت تعد حقيقة أساسية في شبابي فيما بين عام 1880م وعام 1890م؛ أكاد لا أذكر فكرة من هذا التاريخ لم يتناولها التعديل الشديد، إن لم تصبح بائدة من أثر التطورات التي كنا نتحدث عنها؛ ومن ثم فإن آراءنا الخلقية تتأثر بهذا الفيض من التغيرات، كما أن التطور الذي يطرأ على الأفكار يؤثر في طرق انتفاعنا بالحيل الفنية.»
قالت مسز هوايتهد: «منذ لحظة حينما كنا نتحدث عن الدافع إلى العبادة، سألت نفسي: من أين - في نهاية الأمر - مأتاه؟ وما هو هذا الحس الخلقي عند الإنسان؟ إنه لدى الطفل، بل الرضيع، وهو يحس بالذنب - وهو ذلك الحمل المسكين - حينما يعتقد أنه خالف صورته الصغيرة عن الخير.»
قلت: «إنني أستطيع أن أرى - وأنت تتحدثين - حذاء إريك الصغير بارزا من تحت السرير.»
1
قالت: إننا لم نعرف قط ما كان يظن أنه ارتكب من إثم، وأول ما كان يدلنا على أن هناك خطأ قد ارتكب هو بروز عقبيه وحدهما؛ إنني لم أرفعه قط من موضعه، وكان يسر جدا من جذبه من إحدى قدميه، وسحبه على بطنه الصغيرة. ولكنا لم ندرك خطأه أبدا.»
وقال هوايتهد وهو مشرد الذهن: «كان أشد الناس الذين عرفت في حياتي جاذبية، وقد جاءنا رائد فرقته فيما بعد، وأخبرنا بالكثير مما لم نكن نعرف، وكان مما قاله: إن حديث الفسق الذي كان يدور حول مائدة الطعام كان يخف إذا حضر إريك؛ لا لأنه كان متصلفا - لأنه لم يكن كذلك - ولكن احتراما لصفة فيه. وكان شديد المرح، وفي أيام التهريج كان يقود إحدى الفرق.»
وقالت مسز هوايتهد: «إنهم لم يصدقوا أنه كان يقضي لياليه الحرة في البيت. (فيم أنت شارد يا هوايتهد؟) لا يكاد يصل البيت حتى يدق التليفون؛ هل أستطيع أن أتكلم مع إريك؟ وقد دق التليفون ذات مساء خمس مرات، فقلت: ما دهاهم؟ ألا يستطيعون أن يتركوك وشأنك ليلة واحدة؟ فأجاب قائلا: إنهم زملاء جذابون، وما يفعلونه لا يؤذيهم البتة فيما يبدو، بل ينزلق من فوقهم كما تنزلق المياه فوق ظهر البط! ولكني إن فعلت مثلهم، ما استطعت أن أقابلكم وجها لوجه، ولست أدري أي أنواع البيوت نشأوا فيها؛ ربما كانت أمهاتهم من أولئك النساء اللائي بلغ بهن الطهر حدا لا يناقشن فيه أبناءهن أمور الجنس .» - «إن هذه العقدة التي تحل بالألسنة في حضرة صبي حسن التربية أمر يدعو إلى العجب؛ لقد شهدت ذلك بنفسي، ولكني لا أستطيع أن أدرك على وجه الدقة ماذا يحدث؛ كانت «جماعة سجنت» في هارفارد حينما كنت طالبا مجموعة من الشبان الأذكياء، وهو أول مكان استمعت فيه إلى الشبان وهم يتحدثون حديثا طيبا، ولكن كان من بين هذه الجماعة شابان أو ثلاثة من الطبقة العليا، وكانوا منفرين لغيرهم. وقد انضم إلى الصف السابع في الفصل الأول من المرحلة فتى من فلادلفيا له - في حكمي - شخصية كشخصية إريك. وقد لوحظ على الفور أنه إذا ما جلس إلى المائدة خفف الشبان الثلاثة المنفرون من غلوائهم. ولم يكن ذلك لأنه يقول شيئا بعينه، أو يفكر في شيء بعينه، ولكنهم كانوا يخشون ما يمكن أن يفكر فيه؟ والطالب لا يحب أن يسيء سبنسر إرفن الظن به.»
قال هوايتهد: «إن هذا الإدراك للقيمة البشرية يظهر في سن مبكرة، وأكثر المحاولات للتعبير عنها باللفظ يفشل.» «إنني حينما ألتقي بها - هذه القيمة الهادئة - حيث توجد أكثر الأحيان في الحياة العامة، أجد أنها قيمة تفوق كل القيم الأخرى، وأنها مرتبة تعلو جميع المراتب، وصاحبها - برغم ذلك - لا يحس البتة بوقارها، وكان هذا أول ما اكتشفت حينما ذهبت إلى العمل في المدينة، وكانت بوسطن في تلك الأيام أكثر شرا مما هي اليوم؛ كانت عابسة حقا، وكان بعض أحيائها نحسا وشؤما، ولكن المرء برغم هذا كان يلتقي دائما بهذه القيمة البشرية الصامتة الفطرية في أبعد الأماكن احتمالا لوجودها، في أحواض السفن، وفي أقسام الشرطة، وفي المساكن الشعبية. لم يكن لها اسم، ولكنها كانت هناك، والمرء يعرفها دائما حينما يلتقي بها، وأستطيع حقا أن أقول لكم: إنها الشيء الوحيد فيما أعرف مما له أهمية، ولا أستطيع أن أنقلها إليكم كما ترون. وكل ما أستطيع أن أقوله لكم هو أني رأيت «شيئا ما» ولكنه لا يعبر عنه بالألفاظ.»
قال هوايتهد: «إن الألفاظ لا تعبر عن أعمق ما ندركه بالبداهة، بل إننا لنفقده عند محاولة صياغته في ألفاظ؛ إن ما نشكو منه هو أننا قد اعتدنا أن نحسب الألفاظ أشياء ثابتة ذات معان معينة، والواقع أن معاني الألفاظ اللغوية في تذبذب شديد، وجزء كبير مما نحاول أن نعبر عنه باللفظ يقع خارج نطاق اللغة.»
كثيرا ما تكون الموسيقى - فيما يبدو - أقرب إلى التعبير عن أعمق مشاعرنا.»
قال: «والنحت صورة أخرى من صور التعبير العميق، وأنا أزكي خاصة النحت القديم؛ لأنه - فيما أظن - كان الفن الأساسي في العالم القديم، وكانت لهم أيضا آدابهم، وهي آداب عظيمة، وموسيقاهم، وإن كنا لا نعرف عنها إلا القليل ...»
قالت مسز هوايتهد: «لقد حاولت المسيحية أن تعبر عن شيء عن فكرة القيمة البشرية هذه، إذا تقبلنا صورة المسيح التاريخية، بالرغم من تعقيد الأسانيد التاريخية وتشويهها.»
وقال هوايتهد: «لقد صاغت بعض المبادئ المفيدة، ولكنها على وجه الجملة كانت ساذجة التفكير، وعلى غير علم.» - «لشد ما صعقت نفسي، حينما أدركت ذلك لأول مرة!»
وسألت مسز هوايتهد: «ومتى كان ذلك؟» - «بعد الحرب الأولى، وقد أخذ إدراكي ينمو عدة سنوات قبل أن أعرف ذلك.» - «وهل اتخذ عندئذ شكلا معينا؟» - «اتخذ عشرات الأشكال، وأحسن ما أتذكره منها هو أن المسيحية لم تخترع القيمة البشرية.»
وقال هوايتهد: «بينما هذه الحرب تستعر، ويموت فيها كثير من الشبان قبل أن يتسع لهم الوقت لكي يعيشوا؛ لا أفتأ أسأل نفسي: ما هذا الذي يمكن أن يوحي بمثل هذه البطولة وهذا التفاني؟ ولو أن جانبنا فشل في هذه الحرب، لما كانت للحياة على أرضنا هذه قيمة كبيرة، وقد أدركت الجموع أخيرا هذه الحقيقة، ومن الواضح أن أكثر هؤلاء الشبان العسكريين لم يندفعوا ببواعث الآراء السياسية المعقدة، وأعتقد أن عددا قليلا منهم فقط يرون أنفسهم مسيحيين وهم بذلك واعون. إن آراءهم تتخذ صورا متعددة، وهي آراء متعارضة؛ لأنهم يعدون بالملايين، بيد أن هناك برغم هذا رأيا شائعا بينهم؛ وهو - وإن لم يصوغوه في لفظ، وبالرغم من أننا قد اعترفنا بأنه لا يعبر عنه بالكلمات - فكرة القيمة البشرية، وذلك أقرب ما يمكن أن نصل إليه من تعريف. إنهم يموتون من أجل ما في العالم من قيمة.»
المحاورة الخامسة والثلاثون
14 من نوفمبر 1944م
كان مستر هوايتهد نائما في مكتبه عندما وصلت، وكانت الساعة الثامنة من مساء خريف معتدل؛ الجو رطب، وشذى الأوراق المبتلة المتساقطة تعطر الشوارع السكنية. (كل شيء في ظلام الموت الصامت والخريف المتساقط.)
كنت عائدا لتوي مباشرة من المكتب، فكان ذهني مليئا بأهوال مذبحة الألمان لقرية ديستومو الإغريقية، وقد تم تحقيق تفصيلات المذبحة، ونشر عنها في الطبعة الأخيرة، وبعد نصف ساعة وجدني الفيلسوف مع مسز هوايتهد نبحث في موضوع القسوة الألمانية، وذلك حينما خرج من مكتبه. ومما قاله في هذا: إنه في الحالات الأخرى التي لا تقاس إلى هذه الحالة إلا في بعض المواضع من بعيد «نجد أن القسوة ترتكب لغرض ما، ولكن الألمان يرتكبونها لذاتها، حتى حينما لا يكون لها سند من عقل، ولا يكون من ورائها ربح، وهم يتقهقرون؛ لمجرد أن تسوء الأمور!» - «عندي لك نبأ سار» (وقد آثرت أن أنقل الحديث إلى موضوع آخر) «وهو أكثر تهذيبا؛ لقد أصبح صديقنا لفنجستون نائبا لمدير أكسفورد، أو لعله من الأصح أن أقول: إنه عين.» - «أصحيح ما تقول؟ يسرني أن أسمع ذلك.» - «إنه يقول: إنه سوف يقرأ (ولكن في تواضع جم كما أتعشم) ملاحظات أفلاطون عن عودة الفلاسفة إلى الكهف، ومهما يكن من شيء فقد كان لفلاسفته نفوذ أكبر من نفوذ نواب المدير، وكانوا من غير شك يمتازون بأنهم فلاسفة أحسن. هل ترى أن هذه الوظيفة ستستنفد كثيرا من وقته وقوته في الواجبات الإدارية؟» - «لن يكون ذلك إلى حد المبالغة فيما أعتقد؛ فهناك مجلس سوف يرأسه، ولكن تسعة أعشار العمل الإداري يقوم به عمداء الكليات.» - «قيل لي: إن وظيفة نائب المدير لا ترتفع ارتفاعا مذهلا، ولكن مما يحط من قيمة المرء ألا يشغلها.»
وقالت مسز هوايتهد باسمه: «ليس الأمر جديا إلى هذا الحد، ولكن أصدقاءك يتهامسون عليك إن لم تشغلها (وقد وضعت إصبعها على شفتيها).»
قال: «إن الوظيفة تمر بالدور على عمداء الكليات، وكل منهم يشغلها بدوره إلا إذا كانوا يعدونه عاجزا؛ كم يبلغ لفنجستون من العمر؟» - «قرابة الواحد والستين فيما أظن.» - «ألا يكبر هذه السن؟ إني أقدر عمره بالسبعين.»
وصاحت زوجته: «غير معقول؛ فقد كانوا شبابا أول ما عرفناهم!» - «دعنا نبحث عنه في «الدليل».» وذهب إلى مكتبته وعاد منها بمجلد، ووضعه تحت ضوء المصباح، ووضع تحت عينه نظارة قراءة كبيرة ذات عدسات ثقيلة، ثم فحص إحدى صفحات الدليل وقال معلنا: «أربعة وستون ... ولكنه قام بأعمال كثيرة؛ كان نائبا لمدير جامعة بلفاست من عام 1924م إلى عام 1933م، ثم رئيسا للجماعة المسيحية بأكسفورد، كما أدى كثيرا من الأعمال العامة. لقد عرفته معرفة جيدة أول الأمر في عام 1920م حينما كنا معا في لجنة رئيس الوزراء لبحث دراسة الآداب القديمة، وقدرته قدرا كبيرا.»
قلت: «أضف إلى ذلك كل كتبه، وهي تبدأ بكتاب «العبقرية اليونانية» في عام 1911م، وهو كتاب يدعو إلى العجب إذا عرفت أنه كان حينئذ في الحادية والثلاثين من عمره.»
وقال هوايتهد: «إنني لا أجادل في قيمة الكتاب، ولكن السن التي كتبه فيها لا تدعوني إلى الدهشة؛ فليس من غير المألوف أن يبدأ المرء في إخراج أحسن مؤلفاته في سن الثلاثين أو ما حولها.» - «لقد غلبتني؛ فهناك بيتهوڤن، وجيته، وميشيل أنجلو.» - «إن الأفكار الأساسية التي تسري في أعمال المرء مدى أيام حياته قد تتكون في ذهنه عندما يبلغ الثلاثين، وقد يصب هذه الأفكار في صيغ متنوعة فيما بعد، وقد يطيل في شرحها، ولكن خطوطها الرئيسية ترتسم في هذه السن.» - «ألا تعد سيرة لفنجستون إحدى السير الإنجليزية القوية المعاصرة؟» - «أجل، وحيث إن نشاط مري قد فتر، فأعتقد أن لفنجستون سيخلفه. ما أكثر ما ينتفع الإنسان «بالدليل».» وأخذ يقلب صفحات هذا المجلد الضخم، ذي الغلاف الأحمر، والطباعة الدقيقة، بين يديه. ثم تفرس فينا ضاحكا وقال: «لو أنهم قذفوا بي في تلك الجزيرة المهجورة، وسمحوا لي باصطحاب كتاب واحد، لما ترددت في مصاحبة «الدليل».»
ونزلت عند رأيه وقلت: «إنه يستغرق وقتا طويلا، ولكن المتعة التي يستخلصها منه المرء تفترض فيه إعدادا خاصا سابقا.»
وسألت مسز هوايتهد: «ما شكل ليدي لفنجستون؟ إني لا أذكرها إلا وهي شابة صغيرة، شديدة الخجل، حينما كان طفلها الثاني لا يزال رضيعا.» - «إنها هادئة قوية الأثر، إذا عرفها المرء أعجب بها، وأستطيع أن أطيل الكلام في هذه الصفات إلى حد ما. وهي كذلك الزوجة الملائمة تماما لعميد كلية من كليات أكسفورد.»
وخلال حديثنا عن كتب لفنجستون، ذكر هوايتهد ما يلي: «يدهشني أن البشرية
- «بل في أمد أطول من هذا.» - «إذن في ثلاثة آلاف عام.» - «في ألفي سنة وخمسمائة أو ستمائة عام فيما أظن.» - «لا يختلف ذلك عن تقديري كثيرا.» - «إن العصر الذي كنت أفكر فيه هو القرن الخامس قبل الميلاد في اليونان، والقرن السادس الذي سبقه والذي كانت تتجمع فيه قواه. وإذا ذكرت أثينا في القرن الخامس، فليست المشكلة هي أن الإنسان الحديث لم يحرز بعده تقدما، بل هي الشك في أننا قد احتفظنا بالمستوى الذي بلغته.» ورويت وقائع تاريخية معينة لا جدال فيها أدلة على هذا الرأي.
وفكر فيما قلت قليلا، ثم قال: «ليس من المستحيل فيما أرى (وإن كنت أتعشم أن يكون بعيد الاحتمال)
الحرب قد تحدد مصيره ارتفاعا أو هبوطا. إن قوة الاندفاع، والباعث على التفكير المستقل، من الأمور التي يسهل فقدانها. وقد يستغرق الناس في مجرد التكرار الروتيني لما ألفوه من أعمال وما اعتادوه من علاقات اجتماعية في مستوى وضيع، وكأنهم بغير عقول. كما تستطيع بعض الحشرات أن تدير مجتمعا مستقرا بالرغم من انعدام التفكير لديها ... ثم ما أشد ما أساء الإنسان استخدام دياناته!» - «إن من يعرف تاريخ هذه الديانات يميل إلى التردد حتى في استعمال كلمة الديانات.» - «هل فكرت في عدد كبار مؤسسي الديانات الذين ظهروا حوالي القرن الخامس قبل الميلاد؟» - «كلا . ومتى جاء بوذا؟» - «حول هذا التاريخ فيما أظن. دعنا نتأكد.» ثم عاد إلى مكتبته مرة أخرى، وخرج هذه المرة ومعه مجلد من دائرة المعارف البريطانية، وتأكدت من ظهوره في القرن الخامس.
وسألته: «ومتى ظهر موسى؟» ولم يكن أحد منا على ثقة، وكنا على حق في شكنا، كما ثبت ذلك فيما بعد. - «دعنا نبحث عنه أيضا.» - «لا أريد أن أرهقك بالعمل، دعني أقوم بالبحث.» - «كلا؛ فإني أريد أن أرى بنفسي.» وجاء بمجلد آخر من دائرة المعارف البريطانية. - «(موسى) أين تواريخه؟» وقد أمسك بالمجلد الضخم تحت ضوء المصباح، وفحصه بنظارة القراءة، ولم يجد أي تاريخ. وشاركته في البحث، ولم نجد تاريخا.
فقال: «هذا أمر عجيب! إنهم لا يعطونك أية فكرة عن تاريخه حتى في مدى قرنين.» - ««موسى!» في فراغ من الزمن.» - «دعنا نبحث في «الخروج».»
وبحثنا في الخروج. وقلبنا الصفحات، وطالعنا عمودا بعد عمود، وعنوانا بعد عنوان، وفحصنا المطبوع معا، من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى. فلم نجد تاريخا، وليس من شك في أن المؤلفين الذين اشتركوا في تحرير المقال ووقعوا بالأحرف الأولى من أسمائهم في نهايته، لا شك أنهم كانوا متحفظين. وربما سمعوا - كما سمعت - بالشك الذي يلقي ظله على الفكرة التي تقول بأن شخصية تاريخية باسم موسى قد عاشت بالفعل، وإن «الشخصية العظمى في القصة هي شخصية يهوه.»
وتمتم هوايتهد قائلا: «لا بد أن يكون هؤلاء الكتاب باحثين من الطراز الأول؛ فإنهم لا يمدوننا إلا بقليل من العون. دعنا نبحث عما تدل عليه هذه الأحرف الأولى من الأسماء في الفهرست الذي يقع في أول المجلد؛ لنكتشف من يكون هؤلاء الجحوش!»
وقد صعقنا معا.
قلت: «كوك! إنه عضو من جامعتك المقدسة كمبردج، وهو مشترك في تأليف «تاريخ كمبردج القديم»، وهو المؤلف الذي أقدسه.»
وأعاد المجلد إلى مكانه من الرف.
وقال: «حين أقرأ التاريخ، أريد أن أعرف أين أنا، وينبغي أن يكون الزمن على قمة كل صفحة.» - «إن ترفليان يقوم لك بهذا على الأقل في مجلده الوحيد «تاريخ إنجلترا».»
واستطرد قائلا: «حينما كنت أطالع فرود في شبابي كنت أنتقل من صفحة إلى أخرى، ومن فصل إلى آخر، دون أن ألتقي بزمن للتاريخ.»
قلت: «إن المؤرخين المتحذلقين حقا يعدون ذكر التواريخ محطا بقدرهم! كم من مرة في «تاريخ كمبردج القديم» تجد الحادث مذكورا في صراحة تامة في إحدى الصفحات، ثم تجد أنك مضطر إلى أن تقرأ عدة صفحات قبله وبعده، حتى تعثر على السنة التي وقع فيها الحادث تماما.»
وقال هوايتهد: «إنهم لا يريدون أن يجدوا في طريقهم حوائل؛ فالتواريخ تعترض تدفق الأسلوب الأدبي الجميل المستقيم.»
وسألته: «هل سعدت كثيرا في أي وقت من الأوقات بالبوذية؟» - «لا أستطيع أن أقول: إني سعدت؛ إذ يبدو أنها كلها تؤدي في النهاية إلى تأمل سلبي لا يثمر! وربما كان لذلك الجو المثبط الذي نشأت فيه بعض الأثر في هذا؛ ففي مثل هذه الحال يجد المرء أن أسهل الأمور أن يجلس ساكنا ولا يؤدي عملا، ولكن ذلك يؤدي إلى الجمود الاجتماعي، كما شهد العالم.» - «يقال: إنها لم تنجح كثيرا في هذا البلد إلا مع الزوجات الملولات. أما فيما بين عام 1920م وعام 1930م، حينما كنت أدرسها - وأؤكد لك أني كنت أدرسها في تقدير شديد لها - فقد كنت أعتقد أن إدراكها بطبائع النفوس يقترب جدا من وقائع الحياة، ولكني لم أنفق العشرين سنة التي سبقت هذا التاريخ في لفظ دين؛ لكي أستوعب مكانه دينا آخر بأسره.»
وقال هوايتهد مؤكدا: «تستوعب شيئا بأسره! إننا نعيش حتما بأنصاف الحقائق، ونسير سيرا مرضيا ما دمنا لا نخطئ، فنحسبها حقائق كاملة، ولكنا حينما نعتقد أنها كذلك، نجد أنها تسبب لنا مشكلات كثيرة.» - «إن تلك الخبرة التي مرت بك في شبابك، حينما شهدت طبيعة نيوتن - التي كانت تعد ثابتة كالدهر - وهي تنهار تحت ناظريك؛ إن هذه الخبرة لا بد أن تكون قد تركت في نفسك أثرا عميقا.»
قال: «لقد علمتني أن أحذر من اليقين! كنا نظن أن كل ما يتعلق بالطبيعة معروف، لو استثنينا بضع نقاط مظلمة قد تستغرق بضعة أعوام حتى تتكشف. وما إن حل عام 1900م حتى وجدنا أن طبيعة نيوتن - وإن كانت لا تزال وسيلة نافعة مريحة للنظر إلى الأشياء - قد انتهت بكل معنى من معاني الانتهاء! وكما ذكرت لكم من قبل، إن ذلك كان يثير دهشة أرسطو، ولكنه لا يدهش أفلاطون؛ فلو راجعت محاوراته - لو استثنيت محاورة «القوانين» التي تظهره في شيخوخته حينما بدأت آراؤه تتجمد، بالرغم من احتوائها على مادة تدعو إلى الإعجاب - لتذكرت أن أية محاورة منها حينما تنتهي لا تفض أمرا بصفة نهائية؛ كل متحدث يدلي برأيه، فيفحص الموضوع من نواح متعددة، وقد تكون بعض الأوجه أشد إقناعا من بعضها الآخر. ولكن من الخطأ أن ننسب إلى أفلاطون رأيا واحدا بعينه دون سواه؛ إنه يتجول بنا خلال وجهات النظر المختلفة، وهو يتعلم أن كلا منها يحتوي على شيء من الصدق، ولكن ليس منها رأي واحد يحتوي على كل الصدق، والأثر النهائي لهذا في العقل المستقبل المرن لا يبعد عن الصواب. إننا ننتهي بمعرفة نافعة إلى حد كبير يجب علينا أن نتعلم كيف نطبقها بأنفسنا؛ ليس هناك أمر كله صدق، ولكن هناك بعض الصدق في كل وجه من الوجوه، ولو أحسنا فهم أنفسنا، لأدركنا أن هذه هي الوسيلة التي نعالج بها الخبرة، اللهم إلا إذا بدأنا نتيقن، حينئذ تبدأ المتاعب! إننا ننتفع بأنصاف الحقائق إلى درجة كبيرة ما دمنا نذكر أنها لا تعدو أن تكون أنصاف حقائق.» - «والآن، ما دمنا نتحدث عن اليقين؛ ماذا نستطيع أن نقول دفاعا عن المتحمسين للرأي؟» - «المتحمس للرأي عضو نافع في المجتمع.» - «إنك تدهشني بذلك، لقد انقضى الوقت الذي كنت أعد فيه المتحمس أملنا الوحيد. أما اليوم فأنا أنظر إليه في ارتياب!» - «إن المتحمس يقوم بالعمل؛ إنه يخترق الأمور المألوفة الثابتة. إن قدرا معينا من الحماسة ضروري لإخراج الناس أصحاب العادات من الأركان التي ألفوها، وأنت تعلم أنه من اليسير أن يكرر المرء عملا بعينه أو فكرة بعينها؛ لا لشيء سوى أن هذه الأعمال وهذه الأفكار هي التي أداها الناس ، أو فكروا فيها عدة أجيال. وهذا أمر خطر أيضا؛ لأن الإنسانية - إن تركت وشأنها - تميل إلى أن تدور في نفس الأفلاك التي ألفت الدوران فيها، والمتحمس صورة من صور عنصر الجدة في الحياة، وآراؤه قد لا تكون مبتكرة (والواقع أنها قلما تكون كذلك)، ولكن نشاطه ودأبه صورة من الصور التي تتخذها قوة الابتكار.»
وقلت لمسز هوايتهد: «لقد قدم إلي دفاعا اجتماعيا عن الحماسة، فهل تستطيعين أن تقدمي إلي مسوغا شخصيا لها؟» - «نعم، إنه يجعل الطبقات المطمئنة قلقة.» - «ذلك ما فعله عندنا دعاة إلغاء الرق؛ كان بعضهم منفرا إلى حد كبير، وكانت لهم نزوات في طباعهم، استرسلوا فيها تحت ستار الثورة على الاسترقاق، وكان بعضهم ممن يحب الرأفة والعدالة، وبعضهم من طراز الأبطال.»
واستأنفت مسز هوايتهد حديثها قائلة: «إن بعض الناس يقبلون أبشع الإساءات التي توقع على الآخرين؛ لأنها مألوفة، أو ليست مما يثير نفوسهم، أو لبلادة حسهم، أو انعدام الخيال لديهم. إن انعدام الشعور - الذي يرى المتحمس ضرورة إثارته عند بعض الناس - يتطلب عنصر المبالغة الذي نلمسه لديه.»
وقلت: إن الخيال الذي يمكنك من العطف على الآخرين أشد ضرورة مما يعتقد أصحابه. وأضاف إلى ذلك هوايتهد وهو يبتسم قوله: «وكذلك قوة الابتكار ... وربما تذكر عبارة لي يرويها لفنجستون في كتابه عن التربية ...» «نعم، أذكرها؛ إن التربية الخلقية مستحيلة دون أن تكون العظمة صورة أمام أعيننا دائما، وهو يتخذ هذا الرأي موضوعا من موضوعاته الأساسية.»
وابتسم هوايتهد متفكها وقال: «زارنا يوم الأحد الماضي زميل من كلية لفنجستون. وكان قد قرأ الكتاب من قبل؛ قال: لقد حاولت أن أذكر من أين جاءت هذه العبارة، فهي مألوفة لمسمعي؛ أين وجدتها؟»
المحاورة السادسة والثلاثون
19 من يناير 1945م
منح جورج السادس وسام الاستحقاق لهوايتهد في رأس السنة، وقد وضع أساس هذا الوسام إدوارد السابع عند تتويجه ، ويتحدد عدد حامليه من الأعضاء البريطانيين بأربعة وعشرين. وقد كتبت عنه في مجلة جلوب تحت عنوان «الفيلسوف والملك»، واختتمت مقالي بهذه العبارة: إن من بين أسباب العلاج من شرور هذه الدنيا عند أفلاطون أن يصبح الفلاسفة ملوكا. وذلك من فكاهات أفلاطون الصغيرة؛ فالفلاسفة ملوك بالفعل؛ لأن الملوك يحكمون في العالم المادي وحده، أما الفلاسفة فيخلقون ذلك الذي تخلق منه العوالم! وقد كرم هذا الملك نفسه حينما كرم فيلسوفا.
وحياني هوايتهد وهو يخرج من مكتبه بقوله: «لقد ربت كتفي، ويخيل لي أن للفنجستون يدا في منحي هذا الوسام.» - «هناك آخرون كثيرون في إنجلترا يهمهم ذلك إلى جانب لفنجستون.» (في عيد القيامة في عام 1947م بأكسفورد أخبرني سر دافيد روسي - وكان حينئذ محافظا لأوريل، كما كان من قبل نائب مدير - أنه قد اقترح منح هذا الوسام لهوايتهد من قبل، ومن الجائز أن يكون كلاهما قد تقدم بالاقتراح.)
واستطرد هوايتهد في حديثه قائلا: «أعتقد أن لفنجستون اليوم رجل عظيم الأهمية، إن وظيفة نائب مدير أكسفورد تبدو كأنها في المحل الثاني، ولكنها في الواقع في المحل الأول؛ إن المدير كالملك، أما نائب المدير فهو رئيس الوزراء.» - «إنه يكتب لي كتابة شائقة عن مشكلاته الإدارية، ويقول: إن وظيفته - ككل عمل إداري - تنحصر في دفع الحوادث له، وهو يحاول أن يجد حلولا مباشرة للمشكلات المباشرة، والصعوبة في أن يبقى المرء من وراء اضطرار الضرورات مدركا لأمر غائي، وأن يتجنب إغفال المستقبل، وهو يقول: إن الإدارة تجعله يدرك إلى أي حد كبير يعيش الناس في الحاضر المباشر، وإلى أي حد ضئيل تدخل في عقولهم أية فكرة عن الأهداف البعيدة.» - «هذه آراء غير عادية بالنسبة لرجل إداري؛ ولذلك ينبغي أن يقوم بالعمل الإداري رجال من أمثال لفنجستون.»
قلت: «بهذه المناسبة أذكر لك أني عرفت أن تكريمك في رأس السنة أكسبك نجاحا عظيما في البدروم.» (البدروم هو ردعة الفندق، الذي يقع تحت مستوى سطح الشارع بقليل.)
وقالت مسز هوايتهد: «وأصدق من ذلك ما ذكره لي مدير الفندق؛ إذ قال: «قرأ لي النبأ هذا الصباح قبل مطلع الشمس حارس الليل»، وكلفني في شمم أن أبلغ مستر هوايتهد ما يلي: «قل له: إنه يستحق كل جزء منه!» ولما نزلت إلى لوحة الأخبار في الساعة العاشرة، ألفيت صاحبة اللوحة تقرأ النبأ بصوت مرتفع لمجموعة من النازلين معنا في الفندق المعجبين به. ولما كانت تعرف أنني لا أستطيع الرؤية حتى أقرأ، فقد تطوعت أن تقرأ لي النبأ بصوت مرتفع، وذكرت لها أني على عجل؛ ولذا فقد باعتني نسختها الأخيرة. ولما خرج ألفرد للنزعة بعد ظهر ذلك اليوم، حدثه بائع الصحف عن الخبر، وقال: ثم إن الخبر مقروءا خير منه مسموعا! وقد عرف بائع الصحف الخبر؛ لأنه يهودي.»
قلت: «لقد كانوا خير المستمعين إلي لمدة ثلاثين عاما؛ إنني والعبرية عاشقان من زمان بعيد، قد نختلف متحابين، ولكني أعرف أصدقائي حين أراهم.»
وقال هوايتهد: «من عجب أن الفكر العبري هو الذي اتجه شمالا بين الأوروبيين بدلا من الفكر الهليني.»
قالت: «كنا برابرة، وكان الفكر العبري يمثل شيئا خيرا مما كنا نملك.»
فقال هوايتهد: «المسيحية هي الصورة التي انتقلت فيها عقلية الإسكندرية شمالا في أوروبا، وأكثر ما لا نحب من معانيها ومن نتائجها يصدر عن لونها الشرقي؛ ما فيها من زهد، وصفتها الاستبدادية، ويقينيتها الجامدة. ولكن لولا الإسكندرية ما انتقل إلينا الفكر الهليني بتاتا؛ إن الإسكندرية نظمت هذا الفكر، وبتنظيمه فقد كثيرا من قوته، بيد أنه كان بحاجة إلى قدر من التنظيم لكي يبقى؛ لأنه في صيغته المجردة مائع زائل. لقد أعطتنا الإسكندرية المفاتيح التي استطعنا بها أن نسترد معناه الحقيقي بعد قرون. ولكن التنظيم غريب تماما - لا أقول عن أرسطو - ولكن عن أفلاطون بالتأكيد. في «القوانين»، وهو ما ألفه في شيخوخته، عناصر من اليقينية حقا؛ إنه يقول: إن أنواعا معينة من الناس لا يمكن أن تحتمل، ولكنه فيما ألف في شبابه كان حريصا؛ إذ إنه يقول في أحد خطاباته: إنه لا يقدم لنا «نظاما» للفلسفة الأفلاطونية؛ ليس هناك «نظام» كما يقول، ولكن الباحثين الكلاسيكيين الألمان أجهدوا أنفسهم كثيرا - برغم هذا - في القرن الخامس عشر لبناء نظام أفلاطوني للفلسفة! «ماذا كان يعني أفلاطون على وجه الدقة؟» لقد كان شديد الاهتمام بألا يعني شيئا على وجه الدقة! لقد أعطى كل جانب من جوانب أي موضوع ما يستحق، وكثيرا ما قمت بمثل ما قام به، وقدمت وجها حسبت أنه يستحق الالتفات إليه، ثم أجدني في مؤلف بعد ذلك أقدم ما يناقضه! ومن ثم فإني أتهم بالتناقض وعدم الثبوت على رأي.» - «هل أستطيع أن أعلل ذلك؟ إن ما تراه من أن جميع الحقائق هي بالضرورة أنصاف حقائق؛ إن هذا الرأي قد استغرق مني شهورا، بل سنوات؛ لكي أدركه تماما. أجل، لقد سمعت كلماتك لأول مرة، ووعيتها في ذاكرتي، ثم دونتها، وتدبرت معناها. بيد أن إدراك ما تعنيه الفكرة لا يتضح إلا تدريجا؛ لكي يصبح فعالا في تفكير المرء اللاشعوري، والآن أدرك أن أبسن كانت لديه حتما نفس هذه الفكرة؛ فقد كان يكتب في فترة مسرحياته الاجتماعية - منذ «أعمدة المجتمع» تقريبا حتى النهاية - مسرحية، كما فعل في «الأشباح» لكي يعرض جانبا من جوانب قضية من القضايا، ثم يكتب أخرى، كما فعل في «البطة المتوحشة» لكي يعرض الجانب الآخر، وأعتقد أن مسرحياته الأخيرة تسير إلى حد كبير في مثل هذه الثنائية ... ولكن لماذا كان الفكر العبري هو الذي انتقل شمالا في أوروبا ولم ينتقل الفكر الهليني؟» - «من خصائص الفكر الهليني أن يتلون بلون القوم الذين يستقبلونه؛ فهو في الإسكندرية إسكندري، وفي روما روماني.»
قلت: «ولكنه لم يكن في كليهما هلينيا حقا.» - «كلا. ولكنهما نقلا منه إلينا ما يكفي حتى استطعنا أن نجد شكله الحقيقي لأنفسنا؛ أمدتنا الإسكندرية بالهيكل العقلي للديانة المسيحية، وأعتقد أن الرجل الذي شوه تعاليم المسيح وقلبها أكثر مما فعل غيره هو بولس، وإني لأعجب ما كان يظن به الحواريون الآخرون، إذا كانوا قد وضعوه موضع التقدير! الراجح أنهم لم يفهموا ما كان يرمي إليه، وأشك أنه هو نفسه كان يفهم ما يرمي إليه! ومن المستحيل أن نتخيل شيئا أشد بعدا عن المسيح من الديانة المسيحية! والمسيح ربما يعجز عن فهم هذه الديانة.» - «هل تظن أن الفكر اليوناني في العصر الذهبي كان من الممكن أن يظهر في الوجود بغير تلك الأداة التي لا تبارى - أداة الفكر - وأعني اللغة اليونانية؟»
قال هوايتهد: «إن العبقرية الفطرية التي ولدت الفكر هي بعينها التي ولدت اللغة.»
قلت: «إن دقة اللغة اليونانية، ومرونتها، وقدرتها على التعبير عن ظلال المعاني بدقة تامة، وجمال جرسها المجرد وعظمة مواردها، وبساطتها في كل هذا؛ ذلك كله مصدر للدهشة لا ينضب.»
قال: «ما كان أسعدنا حظا لو أصبحت اليونانية لغة أوروبا بدلا من اللاتينية.» - «لو كان ذلك لتخلصنا من كثير من أسباب الخلط في المعاني، لسبب واحد؛ لأن العبارة اليونانية تعني عادة بالضبط ما تقول، ولا تعني شيئا آخر. منذ ما حذفنا من مناهجنا الدراسية التدريب على اللغات الكلاسيكية، كانت النتائج فاضحة في إنتاج الكتاب المعاصرين؛ لقد كنا نتعلم قواعد الإنجليزية باللاتينية واليونانية، فإذا كان التركيب الإنجليزي مطابقا لقواعد اليونانية واللاتينية، كان عادة في إنجليزية جيدة، ولكن كثيرا ممن يكتبون الإنجليزية اليوم يكادون يكونون أشباه أميين.»
فقال هوايتهد: «إني لم أتعلم القواعد الإنجليزية بتاتا؛ لقد علمني أبي - وكان مدرسا قبل أن يكون قسيسا - في المنزل حتى بلغت الرابعة عشرة، ولم يرسلني إلى مدرسة حتى هذه السن؛ لأني كنت ضعيف البنية في طفولتي، وقد علمني قواعد اليونانية من قواعد اللاتينية؛ كانت كلها مكتوبة باللاتينية، وتعلمت وحفظت القواعد اليونانية باللاتينية، فلم أتعلم القواعد اليونانية منفصلة بتاتا، ومع ذلك فأنا أقرأ اليونانية بالسهولة التي أقرأ بها الإنجليزية.» - «من نتائج إلغاء الكلاسيكيات (الدراسات القديمة) أن أصبحت الروايات الإنجليزية «تعلم» في مدارسنا الثانوية، وإني أقدر كل التقدير أولئك الرجال الذين يعلمونها لأنهم معلمون قادرون مخلصون، ولكني أعجب من فكرة تعليم الإنجليزية!»
وقال هوايتهد: «كنا نقرأ الروايات في طفولتي، ولكنا كنا نقرؤها للتفكه.» - «وكذلك كنا في جيلنا، ولم يطرأ لنا قط أن ندرسها، قل لي متى بدأت تقرأ الروايات؟» - «بدأت قراءتها ببكويك، وكنت عندئذ في السادسة ، أجلس على مقعد منخفض إلى جوار الموقد عند قدمي وصيفة جدتي، جين وايكلو ... وكانت جدتي سيدة ثرية، ولكنها أخطأت إذ أنجبت ثلاثة عشر طفلا، وحينما تقسم الثروة - مهما تضخمت - على ثلاثة عشر، فلا بد أن تتضاءل. وحينما وصلت إلى الأحفاد لم أحصل على الكثير، ولكني أنفقت وقتا طويلا من طفولتي في بيت جدتي بلندن، وكانت جين وايكلو تقرأ لي الساعات، فكانت أول من علمتني تذوق الأدب، وكان «بكويك» أول ما بصرني بالنظام الاجتماعي الإنجليزي.» - «ألم تعتقد أنه بالغ في رسم الشخصيات؛ إنها كاريكاتور؟» - «أبدا! إن شخصيات دكنز كانت كلها حولنا، كانوا من سكان لندن، أو جنوبي إنجلترا. إن بكويك - كما ترى - لا يوغل شمالا، لا يعدو نورتش ... إنني أتخيلني الآن واقفا عند نافذة من نوافذ بيت جدتي ...» وأخذ يفكر.
وقالت مسز هوايتهد في لهفة واشتياق: «81 ميدان بيكادلي؟»
واستطرد قائلا: «... مطلا على حدائق جرين بارك، والملكة فكتوريا تمر.» - «هل كنت تراها؟ ...» - «بالتأكيد، ولم يكن ذلك مرة أو مرتين؛ إنما كل يوم، أو ما يقرب من ذلك.» - «لا أستطيع أن أتصور أنك كنت تشاهد الملكة العجوز مرارا كما تشاهد عربة توزيع البقالة!» - «لم تكن «عجوزا» في ذلك الحين؛ إنما كانت في زهرة الشباب، ولم تكن شعبية جدا؛ إنها لم تصبح شعبية إلا بعد عام 1870م. وانتهت حياتها بأن صارت نظاما بأسره، حتى إننا لم نكد نصدق أنها ماتت.»
قالت مسز هوايتهد: «حتى الفقراء لبسوا الحداد، ومن عجز منهم عن شراء الملابس السوداء كان يصبغ ملابسه العادية بالسواد، إنما كانوا يحزنون على العصر الفكتوري، وإن لم يدركوا ذلك آنئذ.» وقد قالت ذلك وهي مكتئبة.
وواصل هوايتهد حديثه قائلا: «كنا نخشى بأس إدوارد السابع كثيرا، وكان أبعد ما يكون عن الشعبية عندما اعتلى العرش، ولكنه أمسى في نهاية حكمه محبوبا جدا، أما جورج الخامس وجورج السادس - من بعده - فقد شقا طريقهما فيما أظن.»
قالت: «وإن يكون جورج السادس يبدو لي شخصا لا لون له - إلى حد ما - بعد أبيه؛ فقد كان لجورج الخامس مزاج.»
قلت : «من العجيب أن الملكية قد عاشت حتى عام 1945م.»
قال هوايتهد: «كلا، ليس ذلك عجيبا؛ إن الإنجليز لا يبلغون شيئا، بل يحفظونه في مخازن التبريد؛ ولذلك فوائده ، فإن احتاجوا إليه ثانية وجدوه!» - «إن ذلك ينطبق أيضا على كنيستهم الرسمية، لو سمحت لي أن أقول ذلك يا سيدي.»
فعلق على ذلك هوايتهد بقوله: «إن الإصلاح الديني يبدو لي - كما ذكرت لك من قبل - كارثة من كوراث التاريخ! أعتقد أن الكنيسة كانت تصلح من داخلها إذا اتسع لها الوقت.»
كانت لأرازمس الآراء الصائبة عينها، وقد منح قلنسوة الكاردنال قبل وفاته، وإن يكن قد رفضها، ولكن ثورة البروتستانت قوت مقاومة الكنيسة، وقد نبذ البروتستانت ذلك الجانب عينه من الكنيسة الذي يجعلها رحيمة محتملة؛ أقصد جاذبيتها الجمالية العاطفية. ولو كنت لأختار مذهبا من مذاهب المسيحيين المعاصرين لاخترت مذهب الموحدين، ولكني أود لو كان نفوذهم أشد! إنني أدرك أنهم يقربون من مذهب «استقلال الكنيسة»، وأعتقد أنه من الأفضل أن يشتد قربهم، فلا أدهش إذا سادت الكاثوليكية الولايات المتحدة، في خلال مائة عام أخرى.»
قلت: «إن الأمر الوحيد الجذاب من الناحية الجمالية والعاطفية الذي لم ينبذه البروتستانت هو الموسيقى.»
فقال هوايتهد: «إن الديانة لا يمكن أن تبقى بغير موسيقى؛ فهي شديدة التجريد.» - «هذا حق! وحتى المتطهرون «البيورتان» في إنجلترا الجديدة الذين استغنوا عن الأرغن والأدوات الموسيقية في الكنائس، احتفظوا بترتيل مزاميرهم!»
قال: «إن الموسيقى تأتي قبل الديانة؛ لأن العاطفة تأتي قبل الفكر، والصوت قبل الحس. ما أول ما تسمع حينما تدخل الكنيسة؟ عزف الأرغن. وما آخر ما تسمع عندما تغادرها؟ الأرغن. والصلاة نفسها تكون غناء عند الكاثوليك. إن الموسيقى تسبق الدين بأجيال كونية! إن البلبل لا يغني لأنثاه لأي سبب سوى متعة الحياة؛ من أجل حب الغناء. إن هذه الأمور أعمق غورا من الفكر، كما أن الصوت أعمق أثرا في نفوسنا من النظر، وأعتقد أننا حينما كنا متوحشين كنا أشد تأثرا بصوت الرعد من وميض البرق.»
وعلقت مسز هوايتهد بقولها: «نستطيع أن نحمي أنفسنا من النظر بإغلاق أعيننا، ولكننا لا نستطيع أن نغلق آذاننا! إننا لا نستطيع أن نتقي الصوت. عندما كنت أرود المسرح في شبابي كان عناق العاشقين على المسرح يؤذيني أحيانا بتمثيله. فما كان علي إلا أن أغلق عيني.» - «قلت لي مرة: إنك تعتقد أن الإنسان قد أولى الانطباعات التي ترتسم لديه عن طريق العين نصيبا من العناية أوفر مما ينبغي.»
قال «إن تربيتنا تعتمد إلى حد كبير على المكتوب والمطبوع.» «ولكن الصوت يتبخر، أما الكتابة والطباعة فثابتة إلى حد كبير؛ لقد ألقى بركليز مرثية، ولكنها وصلت إلينا؛ لأن ثيوسيديد دونها.»
وصححت مسز هوايتهد قولي وهي تبتسم: «الأرجح أن المرثية لثيوسيديد، وليست لبركليز كما تعلم.» - «ولو صح هذا فإن الحكم لا يتغير!»
قالت: «بل ربما كان حكما أصدق.»
ووافق على ذلك هوايتهد قائلا: «إن ما أنقذ الكتابة هو قيمتها من حيث شكلها الثابت نسبيا؛ مما يؤدي إلى بقائها. ولكن الصوت يخاطب العواطف، ثم تتحول العواطف إلى تفكير، والتفكير إلى عمل.»
وصححت ذلك مسز هوايتهد بقولها: «إن العاطفة قد تتحول إلى عمل دون أن تمر بمرحلة التفكير، وأرجو أن تذكر ذلك.»
قال: «إني أذكره، والعلاقة بين الصوت والعمل قد تكون أنفذ كثيرا من العلاقة بين النظر والعمل! إن ما نراه يوحي إلينا - عامة - بالتفكير، أما ما نسمعه فيثير العاطفة، والموسيقى تخاطب العواطف مباشرة، وأنا أعترف أنها قد توحي بالأفكار أيضا ...»
قلت: «ولكنها إذا أوحت بالأفكار صراحة، فهي على الأرجح ليست موسيقى جيدة.»
وقالت مسز هوايتهد: «لما كان أطفالي صغارا بدأت أسمعهم موزار، وقيل: إن هذا تعال من جانبي. ولكني لم أسمعهم غثا قط في بيتي، وعندما سمعوه فيما بعد عرفوا أنه غث ولم يعبأوا به.»
قلت: «لا صلة للموسيقى بالأخلاق؛ إنها كأية قوة أخرى في الطبيعة، ليست في ذاتها خيرا أو شرا، إنما يتعلق الأمر كله بطريقة استخدامها، إنها تنشط ما هو كامن فينا من قبل؛ إن شرا فشر، وإن خيرا فخير.»
قالت: «لا أوافق على أن الموسيقى ليست لها بالأخلاق صلة؛ إن موسيقى فاجنر كثيرا ما تثير الحواس بشكل واضح، ولا أعدها موسيقى «خالصة»، سواء من الوجهة الجمالية أو الأخلاقية، وأود أن أنبه إلى أني أحبها أحيانا، ولكني - برغم هذا - أعرف أثرها.»
وقال هوايتهد: «إن الموسيقى يمكن أن تكون خلقية وغير خلقية؛ خذ فاجنر مثالا إن شئت. إنكم أيها الأمريكان تحبون موسيقاه، ولا أرى أنها عادت عليكم بأي سوء، ولكني أعتقد أنها عادت على الألمان بضرر بليغ؛ إنها توحي إليهم بأحلام القوة التي تؤدي إلى العنف.» - «أعترف بأن فاجنر يمكن أن يكون موضع جدل حتى الآن، ولكنا ينبغي أن نستثني بيتهوفن؛ هل هناك ديانة أنقى من موسيقى رباعياته الأخيرة؟! وهي كذلك صوت خالص.»
قال هوايتهد: «أميل إلى الاتفاق معك، وأعتقد أن من عواطف الإنسان التي ظهرت مبكرا في تاريخه ما كان استجابة لصوت رزين.»
المحاورة السابعة والثلاثون
25 من مايو 1945م
تناولنا الغداء في نادي السبت، وكان الجو ربيعا مشرقا. ولما كان خطر استخدام عربات الأجرة قد ألغي، فقد أتى هوايتهد في واحدة منها. وجاء بلس بري بالأستاذ كارل وبر من كلية كلبي ضيفا على النادي، وهو الرجل الذي كون تلك المجموعة الفريدة من مخلفات توماس هاردي. قال لي: «أردت أن أدرس هاردي، ولم تكن هناك مجموعة من مخلفاته؛ لذا اضطررت إلى تكوين واحدة. إنني أعمل الآن في كمبردج، وكثيرا ما وددت العودة إلى كلبي لأسد حاجتي إلى بعض المواد.»
وكان على مائدة الطعام ما يقرب من خمسة عشر عضوا، وكنت مع هوايتهد وحدنا في الطرف القصي، فقلت له: «ينبغي أن تحرص فيما تقوله لي من الآن فصاعدا؛ فأنا رئيسك بعدما أصبحت أحد أعضاء اللجنة الزائرة لقسم الفلسفة.»
قال: «عجبا، وكذلك أنا!» - «إذن لنبدأ من جديد.»
ولكي يكون حريصا فيما يقوله لي، أبدى لي هذه الملاحظة همسا: «هل تستطيع
- «إن المسيحية تتعرض للنقد أحيانا من أفراد كفاة، بيد أنه من العجب أن النظرة السائدة - بالرغم من ذلك - هي أن المسيحية محصنة ضد النقد، مهما يكن الناس - من الناحية العملية - غير مبالين. ولو حاول أي فرد أن ينظر إلى الأمر من خارج، ألفاه شذوذا وحمقا.»
قال: «إن المتعلمين الذين نشئوا بروتستانت ثم اعتنقوا الكاثوليكية - كما فعل بعضهم فيما بين عام 1920م وعام 1940م - هم عندي قوم قرءوا التاريخ دون أن يفهموه، أو قوم لا يعرفون التاريخ؛ فإن أي فرد يتدبر معنى الحوادث التاريخية لا يمكن أن يتقهقر هكذا على علم منه. إن ركود الفكر عثرة من عثرات البشرية. وإدراك ذلك أيسر في الرياضة منه في الدين (الرياضة هي دراسة الإمكانيات). الرياضة في أثينا في القرن الخامس كانت عديمة الفائدة إذا استثنينا التطبيق العملي المباشر، مثل 12 × 12؛ كانت الرياضة صورة من صور التأمل، وكان أفلاطون شديد الانفعال بموضوعها، وكان عقله مليئا بها؛ كان يستخدمها كأداة للتفكير، وكانت توحي إليه بجميع ضروب الإمكانيات التي لم تطرأ على ذهن أحد من قبل. ولو أنك تحدثت إلى أرسطو عنه في ذلك الوقت، فلا شك أن أرسطو كان يقول لك على انفراد: «مسكين أفلاطون! إنه مغمور في تلك الأفكار الرياضية التي ليس وراءها نفع.» (وابتسم ابتسامة ماجنة وهو يقول ذلك.) والواقع أن هذه الأفكار الرياضية في عهد أفلاطون كانت عديمة الجدوى، وبقيت كذلك ما يقرب من ستة عشر أو سبعة عشر قرنا، ومنذ القرن الثاني عشر بعد الميلاد تقريبا جعلت هذه الأفكار الرياضية - التي انفعل بها أفلاطون انفعالا شديدا - العالم الحديث ممكنا.» - «وهل هناك سبب خاص نعرفه جعلها تثمر كما فعلت بين عصر النهضة والقرن الخامس عشر تقريبا في فرنسا وإنجلترا؟» - «كلا، فإن كل ما يلزم للعلم الحديث والتكنولوجيا الحديثة كان موجودا في عصر أرشميدس. وإني حينما أقول لك - كما قلت من قبل - إن كل ما كان ينقص صقلية أو اليونان العظمى - فيما يظهر - هو أن الناس لم يجلسوا إلى جوار النار ويشاهدوا أغطية غلاياتهم ترتفع ببخار الماء الذي يغلي. إني حينما أقول ذلك قد يعتقد الناس أني أمزح مزاح البلهاء، ولكني جاد جدا فيما أقول.» - «ثم نعود إلى «إذاعة» تجربة معينة. التجربة - كما قلت لي - بحاجة إلى اتساع إذاعتها لكي تستمد الاستجابة لها من أوسع انتشار ممكن للمواهب؛ فنحن لا نجد عازفين ممتازين على البيانو بين رعاة المزارع الغربية في القرن التاسع عشر، مهما تكن المواهب الكامنة لامعة؛ إذ لم يكن هناك بيانو.»
والحديث يدور عادة بين كل اثنين حتى يدق رئيس الجلسة المائدة ليسود النظام؛ ولذا فقد سألني هوايتهد عن الأخبار التي نميت إلى مكتبي في ذلك الصباح فنبأته، ثم قلت: «هل
والعشرين قرنا الماضية، منذ عهد اليونان القدماء؟ هل تستطيع أن تذكر مثل هذه الأمة التي كان يمكن أن تقوم بما يقال عن الألمان في الوقت الحاضر إنهم يقومون به؟»
قال: «ليس في أعمالهم التي تنسب إليهم جديد؛ فالغلبة، والسرقة، والقتل، بل والتعذيب، كان دائما موجودا في مكان ما وإلى درجة ما. والجديد عند الألمان هو المدى؛ فإن ذلك لم يحدث من قبل بمثل هذا المدى.» - «وإلى أي حد تعتقد أنهم سيحسنون السلوك بعد هذا؟»
قال: «لقد هدموا الإمبراطورية الرومانية، وهدموا نظام العصور الوسطى، وهدموا مدنية أوروبا الحديثة، وأعني تلك المدنية التي بدأت منذ خمسمائة عام، في عهد النهضة تقريبا. والراجح أنهم سيواصلون الهدم؛ لأنهم يحبون الهدم.»
وهنا دق مارك هاو رئيس الجلسة المائدة، وطرح موضوع اليابان للمناقشة. وقام بأكثر الحديث لانجدن وارنر الذي عاش وتجول كثيرا في الصين واليابان؛ وكامرون فوربس، الذي كان سفيرا في اليابان كما كان حاكما عاما للفلبين. وكان مدار حديثهما هذه الموضوعات الهامة: ماذا سيتم في حالة النصر بشأن مواني المعاهدة الصينية، وبشأن منشوريا، وكوريا، وقواعد الطيران الجزرية؟ وأي لون من ألوان الحكم سيسود في الجزر اليابانية الوطنية؟ وظن كام (كامرون) أن مواني المعاهدة ينبغي أن ترد للسيادة الصينية، ولكن ربما ردت القواعد لبريطانيا لتحتفظ بظاهر كرامتها الاستعمارية كلها ما عدا هنج كنج، التي رأى أنها مركزية في حيويتها حتى إنه لا يصلح لها إلا التدويل. ولم ير هوايتهد سببا لأن تسترد بريطانيا مواني المعاهدة، ثم قال: «أما سنغافورة فهي تهمنا من أجل أستراليا ونيوزيلندا.»
وواصل هوايتهد حديثه قائلا: «إنني في شك من أهل الصين. إن تطورهم الثقافي لا ينم عن الاطراد؛ فلم يكن هناك تقدم يذكر فيما بين عام 500ق.م وعام 1200 بعد الميلاد تقريبا. ويظهر أنهم في العصر الحديث يحاولون أن يتشبهوا بالأمريكان ما استطاعوا، ولكن هب أنهم نجحوا في التشبه بأمريكان القرن العشرين، فهل لديهم المقدرة - بعد ذلك - أن يواصلوا التقدم بطريقتهم من هناك، أم هل سيبقون قرونا بعد ذلك متشبهين بأمريكان القرن العشرين؟»
وقال كامرون فوربس عن الشيوعيين في الصين: «إنهم يختلفون أشد الاختلاف عن الشيوعيين في روسيا السوفيتية؛ فإن الأصول التاريخية التي تكيفهم تعود إلى الماضي السحيق، ماضي الصين الذي يخصها دون سواها، حتى إنك حينما تقول عنهم إنهم «شيوعيون» فأنت لا تكاد تتحدث عن نفس المعنى الذي يفهم من الشيوعية في روسيا.»
وقال هوايتهد: «إن ما تقول يشوقني؛ لأن الناس يعتقدون - فيما يظهر - أنهم حينما يستعملون لفظة «الشيوعية» يسمون شيئا بعينه على وجه الدقة، وأنهم يعرفون ما يتحدثون عنه؛ والواقع أنه ليس هناك - كما ذكرت - ستة آراء وتعاريف للشيوعية في أذهان الناس حينما يثيرون الموضوع للمناقشة، ليس ذلك فحسب، بل إن هناك ما يقرب من ستمائة تعريف مختلف.»
وانفض الاجتماع في نحو الساعة الثالثة والنصف، وناديت وهوايتهد عربة أجرة عند برمستون كورنر، وطوينا شارع بارك وهبطنا في بيكن حتى شارلز مارين بمروج كومون التي اخضرت الآن في شهر مايو. وقال هوايتهد: «إني لم أستمع من قبل إلى كام وهو يتحدث بمثل هذه الحكمة التي تدعو إلى الإعجاب. إن السامع - عادة حينما يبدأ - يستعد للاختلاف معه، أو للتسامح، أو يلزم الصمت حذرا، ولكن لشد ما كانت دهشتي حينما وجدتني على اتفاق تام معه في كل ما قال.»
وسرنا عبر قنطرة لنجفلو، وضربنا في كمبردج، التي كانت أيضا نضرة بهيجية بعدما لبست رداء مايو القشيب الأخضر، وكانت في زهريات مسز هوايتهد في حجرة جلوسها أعواد الأزهار ذات الزرقة الشاحبة، كما تدفقت من النوافذ الغربية أشعة شمس الأصيل اللامعة، وذكرنا لها بعض ما دار من حديث حول المائدة معادا؛ بناء على طلبها، ثم عطفنا نحو الحديث في النظام الاجتماعي الأمريكي.»
وقال هوايتهد مؤكدا: «أعتقد أن النظام الاجتماعي الأمريكي - على وجه الجملة - خير ما وجد من نظم. إن له عيوبا خطيرة، وللنظام الإنجليزي بعض نواحي التفوق، غير أن نظامكم لا يزال خير ما أنشئ من نظم حتى اليوم. ومن المتناقضات أنكم لستم في الحقيقة شعبا «سياسيا»؛ إن ثلث مواطنيكم - في رأيي - من الطراز الأول حقا، ولكنهم ليسوا من هذا الطراز في السياسة؛ ومن الثلثين الباقيين نحو النصف - في زعمي - من الطراز الثاني، ولكنهم طيبون برغم ذلك؛ أما النصف الثاني (وهنا تردد ثم استمر في حديثه) فمجرمون.»
قلت: «ويتضمن كثيرا من رجال السياسة عندنا.»
قال: «نعم.»
وتقرر أن نعدل عن الحديث في هذا الموضوع.
قال: «لقد دعيت لحضور الحفل الذي سيقام في السادس من شهر يونيو، وقد سارعت إلى التلبية قبل أن يتسع لهم الوقت لسحب الدعوة.»
وقالت مسز هوايتهد: «المفروض أن يتوجه المرء إلى قصر بكنجهام ليتسلمه؛
1
فإنه تسلمه في هذا البلد، فمن يد السفير، ولكن لما كانت لدى لورد هالفاكس أعمال كثيرة أخرى، فإن القنصل البريطاني يقوم بتسليمه.»
وكان من رأي هوايتهد أنه ربما أثيرت بشأنه ضجة كبرى.
فقلت: «لن يكون ذلك من وجهة نظر الجامعة. متى كان أستاذ الشرف المتقاعد للفلسفة في أية جامعة أمريكية قبل اليوم رجلا يحمل وسام الاستحقاق؟»
قال هوايتهد: «هذا أمر لا أهمية له.» - «أنا أعرف أنه عديم الأهمية، ولكن هذه الجامعة قد وقعت في أخطاء جسيمة في السنوات الأخيرة؛ من تلك الأخطاء أنها سمحت لهارفي كشنج أن يذهب إلى ييل، ومنها أنها سمحت كذلك أيضا بهذا لجورج بيرس بيكر، وهناك وآخرون.» وقد ذكرت لهم رأي هارفي كشنج في هذا كما أخبرني به ذات أحد بعد الظهر في صيف عام 1932م حينما كنا وحدنا في بيته القديم بشارع والنت في بروكلين.
قال هوايتهد: «إن عادة إحالة الرجل إلى التقاعد رغما عنه في سن الستين عادة سخيفة.»
وصححت زوجه رأيه بقولها: «يقال إنها في حالة الجراحين ضرورة؛ فقد عرفت أنهم لا يستطيعون في هذه السن أن يثقوا في يد ثابتة.» - «إن كشنج لم يشك التقاعد في سن الثالثة والستين، بل لقد حدد هذه السن بنفسه حينما قام بتنظيم مستشفى بيتر بنت بريام، والواقع أنه لم يشك شيئا قط، ولم يقل إلا إن الماليين المنحرفين - الذين وضع فيهم ثقته - قد محوا جزءا كبيرا من ضيعته، بما فيها ما ورثه عن الدكتور الكليفلاندي، الذي لم يمسه قط بل احتفظ به لشيخوخته. وقد تدهورت صحته - كما تذكر - وعرف عنه ذلك كله، فمنح في هارفارد أستاذية بغير مرتب.»
وبدا هوايتهد متجهما عابسا.
وغيرت مجرى الحديث بسؤالي: «كم كان عمرك حينما أحسست أولا بالتضلع في مادتك؟»
قال: «لم أحس بذلك قط.» - «إذن فقد وجهت السؤال في صيغة نابية. ربما كان ما حاولت أن أسألك عنه هو: متى بدأت أولا تحس بالكفاية في عملك؟» - «لم أحس قط أني كفء له.»
قالت زوجته: «يا لله! أنا أعلم منه بذلك. لم يمر عام ويعود شهر سبتمبر ويستأنف التدريس، إلا وانتابه الضعف.» - «أنت شاهدة كفء.» - «لم أراقبه إلا واحدا وخمسين عاما.»
وقال هوايتهد الذي كان يصغي في شرود: «هذا رأيي في عادة الإحالة على التقاعد رغما. إنها عادة سخيفة؛ لأن الإنسان قد لا يفكر في أمر جديد بعد الستين إلا أنه كثيرا ما يجد وسائل جديدة لاستخدام ما عرفه من قبل.»
المحاورة الثامنة والثلاثون
29 من مايو 1945م
أقام مستر ومسز وليام چيمز حفلا لآل هوايتهد، في 95 شارع أيرفنج، في البيت الكبير المريح الذي بناه الأستاذ جيمز فيما بين عام 1890-1900م، وحيث عاش حتى وفاته في عام 1910م. وأنا أذكر حجرة الدرس لأني زرتها وأنا طالب في الجامعة لكي أستشيره في موضوع رسالة.
وقد دعا الضيوف للحضور «في أي وقت بعد الثامنة والنصف». وكان مساء لطيفا من شهر مايو، وكمبردج في هدوء. والمروج النضرة من أشجار الدردار واللبلاب في فناء الكلية كانت تغري بالتلكؤ. ولما وصلت وجدت أن آل هوايتهد وضيوفا آخرين عديدين قد سبقوني إلى حجرة الدرس. والتفت جماعة حول الموقد حيث كانت نار الحطب تشتعل، وأخذ الآخرون يتواترون حتى كان بالغرفة ثلاثون أو أربعون شخصا، وجلس الضيوف، ولكن المجموعات كانت في تغير مستمر. ولاحظت أن التئام الجماعات كان يتم في مهارة ولباقة شديدة.
واستطعت من حين إلى آخر أن أجدد عهدي بهذه الغرفة، وكانت جدرانها لا تزال مليئة بالكتب، ولكن وليام جيمز - وهو أكبر الأبناء - الذي سرعان ما اتصل بي في حديث منفرد في إحدى الزوايا إلى جوار مكتب أبيه قال: «ليست هذه كل الكتب، ولا كل كتبه، وقد رتبت إلى حد كبير وفقا للأحجام والمجموعات. كانت مكتبته مكتبة باحث، رصت فيها الكتب من كل الأحجام وكل الأشكال جنبا إلى جنب وفقا للموضوعات.» - «إنها تبدو كما أذكرها إلى حد كبير؛ فهناك المجلدات ذات القصاصات الورقية في ظهرها، وهناك النشرات ... وأرى هناك في الرف الذي يلي القمة مجموعة كاملة من جورج مرديث، طبعة أدنبرة، كنستابل وشركاه.» - «إنها مجموعة العم هنري، وكانت هدية من مرديث.»
وكانت على الرف الذي يعلو موقد النار صورة فوتوغرافية رائعة؛ أربع بوصات في ثمان تقريبا، في إطار مغطى بالزجاج، للأخوين وليام وهنري. وقد اختفى النضد الذي كان يتوسط الحجرة، وكذلك اختفى مصباح القراءة الغازي المظلل باللون الأخضر الذي كان هناك في السنين الخوالي، ولكن بقي المكتب الكبير المصنوع من شجر الجوز الأسود، وقد بلغ من الطول ما يسمح لرجل طويل يتمطى عليه كأنه سرير خلوي، ويقوم على قاعدتين ذواتي أدراج من شجر الجوز الأسود. وقد بدا في الواقع كأنه سبق في تاريخه استئجار الأستاذ جيمز للمكان، وربما كان ملكا لأبيه.
وقال الابن: «كان أبي يجلس للعمل في الجانب الآخر منه، في ذلك الركن.»
وشعرت بميل شديد إلى تجاهل الحافلين وإنعام النظر في تلك الرفوف وتسجيل مذكرات عن العناوين والمؤلفين، كما استطعت أن أفعل مرة أو مرتين في مكتبة هوايتهد. وقد اشتغل الأستاذ رالف بارتن بري - راوي سيرة وليام جيمز - في حديث مع هوايتهد إلى جوار الموقد.
وكان يتحتم علي أن أغادر الحفل مبكرا. ولما خرجت إلى الردهة لأسترد سترتي وقبعتي، وجهت ملاحظة إلى مضيفي الذي رافقني إلى الخارج.
قلت: «ماذا نصنع لنرسم صورة زيتية لهوايتهد؟»
قال: «لقد رسم شارلز هبكتسن تخطيطين بالزيت؛ أحدهما لم يبلغ حد الإجادة، أما الآخر فجيد جدا. ثم - كما يحدث لنا كثيرا نحن المصورين - أخذها إلى مرسمه لكي يضع فيها اللمسات الأخيرة، ويظن بعض الناس أنه أتلفها.» - «رأيت التخطيطين في مرسمه، وأحدهما شديد الشبه بالصورة، وقد تحدثت عنه منذ بضعة أيام مع شارلز، وقال لي، في تواضع يدعو إلى الإعجاب: «أشك في أني كفء لرسم هوايتهد.» ... ولكن هل نسمح لهوايتهد أن يغادرنا دون صورة جيدة له؟ أنت مدين لنفسك برسم صورة لهوايتهد.»
فأجاب ضاحكا: «كنت في شبابي أطلب إلى أي فرد أن يجلس أمامي لتصويره. أما الآن فإني حينما أحاول أن أتعلم لغة أتردد في أن أطلب إلى شخص أن يجلس للتصوير حتى أتعلم الحديث بهذه اللغة.»
ولما أغلق الباب الخارجي للمنزل رقم 95 بشارع أيرفنج خلفي، وخرجت مرة أخرى في ليلة من ليالي شهر مايو، رأيت في لمحة خاطفة ذلك الفناء الفسيح الذي يقع جنوبي المنزل، والذي تطل عليه نوافذ حجرة الدرس. وهناك، في يوم من أيام سبتمبر بعد الظهر من عام 1903م، كنت قد رأيت وليام جيمز لأول مرة، وكنت قد أديت امتحان القبول بنجاح، ولم ألتحق بالجامعة بعد، ولكني سألتحق بها بعد يومين. وقد انقضى عامان منذ شرعت أقرأ ما كتب وليام جيمز، ولما كنت صبيا في السابعة عشرة من عمري في مدينة صغيرة بالغرب الأوسط، فقد وضع مقالان من مقالاته خاصة في قلبي بأسا وشجاعة، وكنت عارفا بفضله، وقد أحببته غيبا. ولما التحقت أخيرا بكمبردج، طرأ لي فجأة أني - بعدما توجهت إلى كنكورد وشهدت أين كان يقطن أمرسن وهوثورن - أستطيع أن أطوف لأشهد أين كان يسكن وليام جيمز، وقد عرفت من دليل الكلية اسم الشارع ورقم المنزل، وكان الصيد في هذه المرة أفضل بكثير من البيت نفسه. فهناك في فناء البيت كان وليام جيمز جالسا فوق مقعد في الحديقة يتحدث مع بعض زائريه. ولم أشك قط في أنه هو! فلقد رأيت له من قبل صورا فوتوغرافية. وبلغت الممرات الخارجية نغمات صوته، وهي نغمات عذبة عالية الرنين، وإن لم تبلغها كلماته. وكانت هذه - فيما أظن - أول مرة أشهد فيها رجلا مبرزا بشخصه. إنه مشهد يفتح العيون، لا يستطيع المرء أن يتخيله إلا إذا قيل له عنه، وما أيسر أن تظن أنه لا يختلف كثيرا عن غيره، وهذا حق من ناحية، وباطل من ناحية أخرى. ومهما يكن من أمر، فهناك كان يجلس وليام جيمز فوق مقعد بالحديقة يتحدث إلى أصدقائه وديعا كالملاك. ولو خيرت بين أن أشهد ملاكا أو وليام جيمز لاخترت بالتأكيد وليام جيمز. وما زلت أعتقد أن الاختيار صحيح.
المحاورة التاسعة والثلاثون
6 من يونيه 1945م
في مساء الأربعاء في الساعة الرابعة، في حجرة الأساتذة، في قاعة الجامعة، قدم وسام الاستحقاق - الشارة وشهادة التكريم - لألفرد نورث هوايتهد، الدكتور في العلوم، والدكتور في الآداب، وصاحب الشهادات العلمية الأخرى، وأستاذ الفلسفة المتقاعد في جامعة هارفارد.
وكان التقديم على هذه الصورة في المرتبة الثالثة، فلو كان في إنجلترا لكان المنظور أن يتوجه إلى قصر بكنجهام، ولو كان السفير البريطاني أقل انشغالا لقدمه إليه إما في واشنطن أو كمبردج. ولما كانت الظروف غير ذلك، فقد قام بالتقديم القنصل العام البريطاني في بوسطن. وإذا وضعنا في اعتبارنا أبعاد العالم الذي سيعيش فيه هوايتهد، وأبعاد الإمبراطورية البريطانية، كانت فكرة منحه تكريما أو وساما أشبه بقاربي الصغير الذي أملكه في سوامبسكت إذا قيس إلى الباخرة «الملكة إليزابث»، والواقع أن هوايتهد نفسه قد أنكر أن يكون لذلك أية أهمية في ذاته. وأذكر أيضا أن جورج مرديث عندما منح وسام الاستحقاق (واختصاره بالإنجليزية
O. M. ) قال إن هذين الحرفين إنما يعنيان أنه رجل عجوز (بالإنجليزية
old man ، والحرفان الأولان
O. M. ).
وعلى أية حال فقد كان منظر الطبيعة خلابا، واليوم يشبه في جوه يوما من أيام شهر يونيو في إنجلترا؛ رياح جنوبية غربية، وشمس مشرقة أحيانا، ومطر خفيف أحيانا أخرى، وسحب بيضاء في أطرافها رمادية في صدرها تندفع في سماء زرقتها صافية. ولما حلت الساعة الرابعة كانت أشعة شمس الأصيل تتدفق خلال النوافذ ذات الأقواس المرتفعة في الجانب الغربي من الردهة، في حين أن كراسي الأساتذة وعددها نحو مائتين تقريبا صفت بحيث تواجه النوافذ الشرقية التي تبلغ نفس الارتفاع، والتي تطل على الحقول الخضراء في مربع كنيسة سفر وأيدنر التذكارية.
ويدل مظهر الغرفة على الجلال في هدوء، ويبلغ ارتفاعها طابقين؛ الثاني والثالث من ردهة الجامعة، ومهندسها المعماري هو شارلز بلفنش، والجدران مطلية باللون الأخضر الشاحب، الذي يبدو في بعض الأضواء أزرق فاتح اللون، وترتفع الأعمدة القصيرة البيضاء المخططة الأيونية من الأرض إلى الكورنيش بين النوافذ المقوسة، وتتدلى من السقف أربع نجفات بلورية.
وقد صرفت نظري عن أكثر رفاقي القريبين مني تماثيل نصفية من المرمر وضعت على قواعد حول المنصة التي تحاذي الجدار بأبعاد الردهة الطويلة. وهناك تمثال رائع لبنيامين فرانكلين، من نحت هدسن فيما أظن، وهناك آخر للرئيس إليوت، وآخر لصديقي ومعلمي القديم دين برجز، وكأنه حي إلى درجة مذهلة، حتى بريق عينيه، وأدق تجاعيد خده الأعجف الأمريكي. وقد علقت فوق الجدران الأربعة صور لرؤساء هارفارد وللعلماء البارزين في القرون الثلاثة الماضية. وهذا هو أستاذ القواعد اليونانية و. و. جودوين، وعلى كتفه ثوب الدكتوراه القرمزي، ببشرته النضرة الوردية، وشعره الأبيض الناصع، وابتسامته اللطيفة السماوية. وإذا استثنينا بضعة أفراد بارزين، فإن الرجال المعلقة صورهم فوق الجدران أكثر أهمية من الأفراد الجالسين فوق المقاعد.
وقد وضع فوق كل مقعد برنامج مجلد بالورق الأخضر الرمادي الثقيل. وبدأ البرنامج بالرئيس كونانت الذي قال - من بين ما قال - إن هوايتهد قد جاء إلى هارفارد بعد حياة طويلة حافلة في إنجلترا ليلقي سلسلة محاضراته الأولى في الفلسفة، و«أول محاضرة في برنامج دراسي للفلسفة استمعتم إليها هي المحاضرة التي ألقيتها».
وروى القنصل قصة وسام الاستحقاق. ولما اطلعت على قائمة أعضائه الحاليين، وعددهم ثمانية عشر، لاحظت من بينهم أسماء جلبرت مري، و. ج. ترفيليان، وج. و. ماكيل، وفون وليامز، وجون ميسفيلد، وأغسطس جون. وكثيرا ما طرأ لي أن عددا كبيرا من الرجال البارزين في إنجلترا يشعرون بالسخف في قبول ألقاب العصور الوسطى، وربما كان وسام الاستحقاق هذا حيلة اخترعتها الحكومة أخيرا (بما فيها الملكية) لكي تواصل تشجيع استمرار العبقرية الإنجليزية.
وأشعل المصور الفوتوغرافي المصباح مرتين بينما كان القنصل يعلق شارة الوسام بشريط حول رقبة الفيلسوف، والوسام كحلية يخطف البصر.
وجلس المشتركون في الحفل - ومن بينهم بك عميد الكلية، الذي كرم الفيلسوف بحضوره - حول مائدة مستديرة، بدت كأنها تلك المائدة التي جلس حولها وليام جيمز وجوشيارويس وجورج هربرت بامر، لترسم لهم صورة وهم جالسون معا.
وعلى الحائط الشمالي صورة نبيلة لوليام جيمز، تراه واقفا إلى جانب مكتبه الذي يبلغ في ارتفاعه مستوى صدره، في غرفة دراسته بشارع أيرفنج رقم 95، وخلفه رفوف الكتب وصفوف عن المجلدات المغلفة باللون البني، ومكتبه من خشب الجوز البني، وهو يلبس بدلة رمادية، وشعره ولحيته أحمران وخطهما المشيب، ويمثل ضوء الغرفة لون جو الخريف الرطب الأحمر الداكن ووجهه وردي وكأنه اكتسب هذا اللون من قضاء الصيف في الخلاء في كوكروا بهامبشير الجديدة، ونظرته في الصورة أعنف قليلا من حقيقة نفسه العادية الرقيقة، وقد ألقت شمس الأصيل التي تدفقت خلال تلك النوافذ الغربية ضوءا جميلا على الصورة. وبينما كنت أبدي إعجابي بعد أن انفض الحفل، جاءني الأستاذ رالف بارتن بري، تلميذه في أول الأمر، ثم زميله، ومؤرخ سيرته أخيرا، وتحدث إلي.
سألته: «متى رسمت؟»
وأجاب: «حوالي عام 1908م فيما أظن.» - «وإلى أي حد ترضيك هذه الصورة؟» - «إنها ترضيني جدا! لأن «مس ألن أمت» كانت ترسم بخطوط جريئة.» - «كان عام 1908م قبل وفاته بعامين فقط. لا بد أنه كان ضعيفا (والواقع أن كلينا كان يعرف ضعفه) ولكنه في الصورة يبدو قوي البنية موفور النشاط.»
فقال الأستاذ بري: «كان دائما يبدو أقوى بنية من حقيقته، وربما كان ذلك لشدة نشاط ذهنه.»
وقد لاحظت نفس الشيء في هوايتهد؛ فهو يتكلم بقوة الشباب؛ لأنه يفكر بقوة الشاب ...
وسألته بعد تقديم الوسام إليه إذا كان يحتفظ بنسخة من كلمته. وكان التبادل بيننا شفويا كله تقريبا، حتى إني لم أحتفظ إلا بقطعتين من الورق مكتوبتين بخط يده، وقد أجابني بأنه سيرسل إلي المخطوط. وفي اليوم التالي تسلمته ونصه كالآتي:
سيادة الرئيس كونانت، يستحيل علي أن أوفي التعبير عن فضل الجامعة التي ترأسها علي وعلى زوجتي. لقد مكنتني هارفارد - كمعهد وكمجموعة من الأفراد - أن أعبر عن الآراء التي أخذت تنمو في ذهني طوال حياتي. وأود أن أؤكد إعجابي ومحبتي الشخصية لكثير من الأصدقاء في هارفارد، الذين حضر اليوم بعضهم. لقد سعدت خلال حياتي سعادة عظمى بالتعليم في بلدين أضافا كثيرا إلى العلم وإلى كرامة البشرية.
المحاورة الأربعون
19 من يونيو 1945م
كان يوما عاصفا، هبت فيه عاصفتان بحريتان؛ إحداهما عند ماريلهد، والأخرى عند ناهانت، كما هبت عاصفة ثالثة في مكاتب تحرير مجلة «جلوب»، حيث غضب فريق لنشر مذكرات شيانو في الصحيفة، وعدوا ذلك دفاعا عن الفاشية؛ وسر فريق آخر لعرضها في جميع الأنحاء وتمكين الشعب من التفرقة بين الغث والسمين.
وأخذ آل هوايتهد بالرأي الثاني، وقد مر هوايتهد وزوجه عرضا بكمبردج لبضعة أيام في الفترة ما بين عودتهما من لدن بكمان في بدفورد وقضائهما شهرا في مين حيث يعتزمان الرحيل إليها في يوم الجمعة القادم. وكانت جميع نوافذ مسكنهما مفتحة على مصاريعها تستقبل هواء الليل الرطب، الذي يتسلل منه إلى الداخل نسيم حفيف، وفي آنيات الزهر أعواد نبات الصليب الضخمة البيضاء منكسة رءوسها، وقد رفعت جميع السجاجيد وأسدلت ستائر النوافذ، فأكسب ذلك الغرف جوا باردا نقيا منعشا، وعطرت الجو أزهار شهر يونيو فبدت هذه الغرف المألوفة في صورة غير عادية، وأشاعت في المكان جو الصيف.
وكنا نقول: كيف أن الطلاء الجميل لخشب الأرض المتين - الذي انكشف الآن - يعكس الماهوجاني كما يعكس أعواد نبات الصليب البيضاء؟ وعندئذ دخل علينا هوايتهد قادما من مكتبه.
قال: «أرى أن سجاجيدنا قد رفعت. إنني لم ألحظ ذلك من قبل.»
قالت، وقد سخرت منه: «نعم، ألم ترني أجوس خلال البيت أجمعها لأبعث بها إلى محلات التنظيف.» ثم نهضت وتوجهت نحو دولاب طويل من خشب الماهوجاني وقالت: «لدينا شيء نريد أن نطلعك عليه.» وكان ذلك الشيء في كيس من الجلد القاتم، موضوعا فوق محمل لونه عاجي؛ ذلك هو شارة وسام الاستحقاق. إن الصليب المالطي مصنوع من الميناء الثمينة ذات اللون الكهرماني التي تكسو الذهب، يعلوه تاج ذهبي، ودائرة من اللآلئ حول مركز من الميناء ذات اللون الأزرق الملكي، وقد نقشت عليها هذه اللفظة «للاستحقاق» مكتوبة بالذهب وحولها إكليل من الغار.
قلت: «لا أعتقد أنهم يقصرون في تكاليف الوسام.»
قالت: «من حسن حظنا أنه لم يكلفنا شيئا. إن كل وسام آخر مما تمنحه الحكومة لا بد أن يدفع ثمنه الشخص الذي يتسلمه إلا هذا، فهو هدية من التاج.» - «أعتقد أن التاج قد دفع فيه مبلغا ما، وأود أيضا أن أذكر أن الجامعة قد أقامت حفلها على صورة رائعة؛ فلم تلق الخطب الطويلة، ولم يشعر أحد بالملل، ولا ضجيج ولا حواشي، ولم يحضر إلا العدد المطلوب فحسب. هل ترى أن مائتي شخص حضور عادي في الكلية؟»
فقال باسما: «كان حضورا عاديا بالنسبة لمن حضر؛ فقد كانوا أعضاء في قسم الفلسفة.»
قلت: «من الرجال والنساء بطبيعة الحال.» - «ومن صغار الزملاء وكبارهم.» - «هؤلاء استطعت أن أتبينهم؛ لأني عرفت بعضهم.»
واستأنف حديثه قائلا: «ومما بعث السرور في نفسي حضور السكرتيرين من القسمين رجالا ونساء ممن يحملون كثيرا من عبء الإدارة.»
وقالت: «لم يكن لنا شأن بالدعوات، فلم ندع سوى جون وماري من ناحيتنا، وهما بطبيعة الحال جزء من الأسرة، وقد أرضانا ذلك كثيرا، ولم يكن من المؤكد حتى اللحظة الأخيرة أن يتمكن ألفرد من الحضور؛ فقد رقد طول النهار، وأخيرا نهض وحاول الحضور بنفسه.
وفي اللحظة التي وصل فيها إلى ردهة الجامعة أحس بالعافية، وأود بهذه المناسبة أن أذكر لك أن دعوتك جاءتك عن طريق علاقتك الرسمية بقسم الفلسفة.»
وجاء دوري في الكلام فقلت: «عندي لكما نبأ سار؛ إن لفنجستون سيحضر ليحاضر في تورنتو في سبتمبر المقبل. إنه لم يطلب إلي أن أخطر أحدا بذلك، ولم أخطر سواكما حتى الآن.»
وقال هوايتهد: «لا بد من رؤيته. هل هناك أمل في حضوره هنا؟» - «لست على ثقة من ذلك. إنه يقول إنه ينفق الساعات متنقلا في تفكيره من مشكلة جامعية إلى أخرى، وإنه سوف يحاضر في تورنتو إذا أمكن أن تكتب المحاضرات.»
فقال هوايتهد: «قل له عندما تكتب إليه إننا سنشعر بخيبة الأمل شعورا قويا إذا لم نره.»
وتباحثنا في الطرق والوسائل في شيء من التفصيل. - «إن كتيبيه الصغيرين عن التربية قد أعيد نشرهما في هذا البلد في مجلد واحد بواسطة ماكملان، وأطلق عليهما هذا العنوان البسيط: «في التربية». ويقول لي بائع الكتب في مكتبة «الركن القديم» إنه يوزع توزيعا حسنا.»
قال هوايتهد: «إنه يستحق ذلك؛ قرأت الكتيبين في الطبعة الإنجليزية، وقدرتهما قدرا كبيرا.» - «متى نشر كتابك «أهداف التربية»؟» - «دعني أر؛ فقد نسيت.» ثم توجه إلى مكتبه وعاد بالمجلد وقرأ في المقدمة تواريخ فصوله المختلفة. ويقع أكثرها بين عام 1912م وعام 1922م. ثم واصل الحديث قائلا: «إن كتاباتي في الفلسفة كانت كلها بعد قدومي إلى هذا البلد، بيد أن الأفكار كانت تتوالد في ذهني في خير سني حياتي، وقد نبت بعضها لدي عندما كنت في المدرسة وقبل أن ألتحق بالجامعة، وكنت أستمع إلى المناقشة في التربية دائما منذ حداثتي؛ فقد كان أبي واثنان من أعمامي مشتغلين بها، وكنت في كمبردج - كما تعلم - عضوا في «جماعة الرسل».»
قالت: «كان في ذلك شيء من الشذوذ، أليس كذلك؟ ألم تكن العالم الرياضي الوحيد في المجموعة؟»
وأجاب: «... ربما كان ذلك لأني كنت العالم الرياضي الوحيد الذي يهتم بالآراء العامة.»
ثم تبين أن هوايتهد قد نجح في امتحانات الزمالة في ترنتي مصادفة (وللطالب ثلاث فرص). وكان الأمل ضعيفا في قبوله حتى لقد انصرف في الصيف دون أن يترك عنوان إقامته.
قلت: «أشك في أني قد قرأت في العبارات الإنجليزية تفكيرا محكما يبلغ ما بلغ في كتابك «أهداف التربية». هل الكتابة سهلة عندك؟»
قال: «نعم، إذا كانت في موضوع أود الكتابة فيه.»
وبدا الشك على وجه زوجته فسألها: «ما رأيك؟»
فذكرته بقولها: «إنك مليء بالأفكار، وأنت تدونها كلها أولا، وهي تشتمل على كل شيء، ثم يأتي بعد ذلك دور الترتيب والتهذيب.» - «بمعونتك ...» - «نعم. أنت تقرأ بصوت مرتفع وأنا أصغي ...» ثم قالت لتؤيدني: «عنده عادة سيئة في تكرار لفظة بعينها مثل «لذلك» أو «بينما»، وفي كل صفحة بعد أخرى ترد هذه اللفظة ...» - «هل يفعل ذلك أيضا؟ إن التكرار نوع من التأثير المغناطيسي في النفس.»
وأضافت موجهة إلي الكلام: «إني لأعجب كيف تستطيع أن تكتب بهذه الكثرة.» - «وإني لأعجب أيضا لذلك. والجواب على هذا هو أني لا أكثر الكتابة؛ فأنا أكتب مرتين كل أسبوع في هذه الأيام، أو ثلاث مرات عند الضرورة، ولكني أتغيب شهورا أسترد فيها الأنفاس.» ثم سألت هوايتهد: «ماذا تفعل لكي تقي نفسك الإجهاد؟»
وأجاب، وقد ابتسم ابتسامة رقيقة على ما يصيبني من حبوط، قال: «لقد حاضرت مرتين في اليوم عدة سنوات منذ كنت في الرابعة والعشرين من عمري، ومن الحق أن عطلة الصيف كانت تمتد من أواخر يونيو إلى أوائل أكتوبر، كما كنا نتعطل أربعة أسابيع في عيد الميلاد وخمسة في عيد القيامة؛ فلم يكن جدول الأعمال ثقيلا.»
وذكرته زوجته بقولها: «ولكن من الحق أيضا أنك لم تكف عن العمل قط. إذا قمنا برحلة في القارة الأوروبية لم تدع ظرف خطاب في جيبك لم تملأ ظهره بالكتابة فوق ركبتك في قطارات السكك الحديدية أو في الفنادق كلما طرأت على ذهنك الأفكار، وإذا مكثنا في إنجلترا في مكان ما في الريف كنت أيضا تتصفح مذكراتك الفلسفية الخاصة.»
ووجهت إليه خطابي قائلا: «الظاهر أنك لا تعتقد أن الرجل يستنفد نشاطه وينفق كل طاقته للعمل بالتعبير الدائم عن نفسه، في حدود وقته وحيويته.» (وكنت أفكر في أكثر من باحث علمي ألقى محاضراته حديثا وكان بإمكانه أن يصدرها كتابا، وكنت كذلك أفكر في الإجهاد الذي ألمسه حولي بين الصحفيين الذين لا يستطيعون - أو لا يريدون - أن يتوقفوا عن العمل وقتا كافيا.)
وأجابني هوايتهد بقوله: «كلا. إني أعتقد أن المرء يفيد من مثل هذا التعبير؛ فهو يوضح الآراء الغامضة بصياغتها حديثا أو كتابة. وبالتعبير يطور أفكاره ويشق طريقه إلى أفكار جديدة.» - «ربما كان ما كنت أريد السؤال عنه هو: هل تستمتع بالكتابة؟» - «نعم، أحب أن أكون في جوها.» - «وإحكام الفكر في أسلوبك، هل تعتقد أنه نشأ عن تدريبك الرياضي؟ لقد تعلمت طريقة من طرق التعبير ثم انتقلت إلى غيرها، وكأنك - بعد تدريبك تدريبا ذهنيا قاسيا - انتقلت في يسر إلى فن الكتابة والكلام.»
فقالت زوجته: «لقد مر وليام جيمز بشيء من هذا؛ فقد تعرض لتدريب ذهني شاق في الطب أولا، ثم انتقل إلى الفلسفة، وعلم النفس، وتستطيع أيضا أن تقول إلى الأدب.»
قال هوايتهد: «لقد أفدت من الاشتراك في المناقشات العامة في ترنتي، ثم من خبرة واسعة فيما بعد بمشكلات التربية في جامعة لندن، وذلك بعينه هو نوع التربية الذي يرضى عنه أفلاطون. إن الرياضية لا بد أن تدرس، أما الفلسفة فيجب أن تناقش.»
وكان هذا الرأي قنبلة عنيفة ألقى بها، صمت بعد إلقائه برهة لكي يعطيني فرصة لاستيعابه.
ثم واصل حديثه بعد ذلك قائلا: «ولا بد أن تتسامح في انعدام الدقة في اللغة، ومهما قلت فلست مبالغا في ذلك، وهو موضوع أعود إليه حينا بعد حين، ومن يقل بأن الفكر يمكن أن يعبر عنه بالرموز اللفظية تعبيرا كاملا أو مقبولا فهو معتوه أحمق، وقد عاد هذا الفرض على الفلسفة بالضرر البالغ. خذ مثالا أبسط عبارة عن حقيقة من الحقائق؛ إننا نحن الثلاثة نجلس في هذه الغرفة. فإن كل ما له أهمية تقريبا لم يذكر في هذه العبارة؛ فإن «هذه الغرفة» تفترض وجود بناء، وكمبردج، والجامعة، والعالم من حولنا الذي نحن جزء منه، والنظم الكوكبية التي يكون عالمنا جزءا منها، والماضي السحيق الذي انحدرنا منه، والمستقبل البعيد الذي ينبض في عروقنا ويسبقنا إلى الأمام. والعبارة تفترض سلفا شخصياتنا المستقلة ؛ كل منا يختلف عن الآخر، كما تفترض كل ما نعرف، وكل ما نحن عليه، وكل ما قمنا به من عمل. إن التعبير باللفظ عن جلوسنا هنا يكاد لا يعني شيئا. وبالرغم من هذا، فإنا - في موضوعات أكثر من هذا جدية بكثير، وعلى نطاق أوسع مدى - نقبل دائما أقوالا عن حقائق تاريخية وتأملات فلسفية أشد افتقارا إلى الدقة أو إلى أية علاقة بالحقائق الدقيقة. وحينما نخاطب بهذه الأفكار المبالغ في تبسيطها أشخاصا لا يستطيعون أن يحيطوها بالفروض المحذوقة، فإنها لا تعني شيئا، ولا تفهم، بل ولا تطرق الذهن ...»
وعلى مائدة صغيرة على يساره وضعت كأسان من النبيذ، له ولي، فمسهما وقال: ««واحد وواحد يكونان اثنين.» واحد وواحد من ماذا؟ كأس واحدة، أو كأس واحدة بها بعض النبيذ؟ أو واحد وواحد في أي مكان؟ على المائدة، أو في هذه الغرفة، أو في هذا الكون؟ ثم إن كأسين ليستا ولا يمكن أن تكونا متساويتين تماما بأية حال، ولا يمكن أن تمتلئا بكميتين متساويتين من النبيذ. فهل نعني إذن «واحد زائدا لواحد» بعد حساب كل نقص أو إضافة ضرورية؟ ولكن الكأسين تموجان أيضا بالنشاط الذري. ولولا أننا تعودنا أن نقيس الوقت بمقاييس ناقصة مضحكة من وعينا بامتداد الحياة البشرية، لتذكرنا أن هاتين الكأسين تنحلان أمام أعيننا. إني أرفض أن أخدع بمثل هذا الانعدام في الدقة الشنيع في استخدام الألفاظ.»
وكان فيما قاله ما يملأ الرأس بالتفكير في برهة واحدة، وقد حوم قليلا حول هذا الموضوع وسألني: «هل تظن أن الإغريق كانوا أول شعب في التاريخ أحس بالحاجة إلى شيء يخضع للدقة في اللغة؟ لقد كانوا بحاجة إلى تفسير صحيح لهومر. متى كان ذلك؟» - «في وقت ما في القرن السادس ق.م، والمفروض أنه قد تم بأمر من بزستراتوس.» - «ومتى تظن أن الأدب العبري القديم قد بدأ؟»
وتحدثت عن الطريقة المعروفة التي جمعت بها في التوراة، ثم أضفت إلى ذلك قولي: «إن العهد القديم والقصائد الهومرية كلاهما من «الكتب التقليدية» التي استغرقت في استكمالها قرونا . وفي طريقة جمعهما - أحدهما بوساطة اليهود القدماء، والآخر بوساطة الإغريق القدماء - ترى الفرق واضحا جدا في أسلوب الشعبين وروحهما؛ فقد أخرج أحدهما كتابا في الأخلاق، والآخر عملا فنيا.»
قال: «إن العبقرية العبرية فريدة في بابها، كانت خلقية إلى درجة كبيرة، كان اليهود من أبرز الشعوب التي عاشت في التاريخ.» وكرر ما قال من قبل، وهو: «إني بالرغم من هذا لا أعتقد أني كنت أحب العيش بينهم؛ فقد كان الإغريق أقوى منهم منطقا.»
قلت: «وبالرغم من هذا فقد أخرج اليهود كتابا من أعظم الكتب التي عرفت في التاريخ، وقد فاق «الإلياذة»!»
فقال هوايتهد وعيناه تبرقان: «إذا اعتقدنا في الوحي المنسوب إلى الإنجيل، تعجبنا كيف يختار لتدوين بعضه رجل مثل سليمان، برغم من أنه كانت لديه مليون زوجة وألف محظية.»
وكان من رأيي «أنه لو كان كذلك، فلا بد أن يكون قد حدث في شبابه حينما لم تكن له سوى زوجتين، وحينما كان في بداية حياته.»
وأضافت إلى ذلك مسز هوايتهد قولها في جد ورزانة: «وقبل أن تبدأ تبعاته العائلية الثقيلة.»
وعلقت بقولي: «إن داود شخصية أدعى إلى العطف، وليس من شك في أن مذكرات قصره أشد إخلاصا مما يكون عليه عادة هذا النوع من الأدب. ولا تزال الألوف من الفتيان الخارجين على الدين يسمون باسمه، بعدما بطلت التسمية بهكتور بزمان طويل. إن داود اسم جميل. أما عن سليمان، أفليست زوجاته الإحدى ومليون مجرد قصة طويلة؟ إذا كان المرء سيقص أكذوبة كبرى، فأحر به أن يروي قصة جيدة.»
وسأل هوايتهد: «هل هناك ما يدعو إلى الظن بأن الأمم المحيطة قد أعارت اليهود القدماء اهتماما كبيرا؛ أي قبل عهد الغزوات الرومانية؟»
واعترفت بجهلي في هذا، ولكن ما كان ينطبع في ذهني هو أن هذه الأمم لم تعر اليهود القدماء إلا اهتماما قليلا نسبيا.
واستطرد قائلا: «إن ما أود معرفته هو إلى أي حد كان الساميون والهلينيون يعيدون التعبير عن آراء كانت سائدة بوجه عام في ذلك الجزء من العالم القديم، أم لم يفعلوا ذلك قط؟ وأعني تلك الآراء التي تدفقت إليهم من شعوب أقدم وأمم مجاورة. إننا نعلم بالطبع أن شيئا من هذا قد حدث، وأن بعض الآراء الشرقية كانت معروفة لأفلاطون، وأن الأنبياء القدماء قد سبقوا يسوع في كثير من آرائه.» - «حينما أسأل - وكثيرا ما يحدث ذلك - كيف أعلل تفجر العبقرية في اليونان من القرن السادس إلى القرن الثالث ق.م، أكاد لا أعرف من أين أبدأ.»
وأجاب هوايتهد بقوله: «لا بد أن تذكر أن شرقي البحر المتوسط كان بقعة عجيبة، واستمر كذلك أمدا طويلا؛ فهناك إلى جانب الهلينيين والساميين الثقافة المنوانية الميسينية، والفينيقيون، والإمبراطوريات الثلاث الكبرى؛ بابل وآشور ومصر.»
وهذه اللمحة السريعة للنظام الرتيب الذي تنهار على أساسه الإمبراطوريات دفعه إلى التحدث عن زيادة السرعة في تطور عالمنا اليوم عنها في أي عهد سبق.
واعترضت الحديث مسز هوايتهد بهذه العبارة: «لقد اتفقنا - لو استطعنا - أنا وألفرد أن نعود مرة كل خمسين عاما لنرى ما حدث.»
قال: «ولا نحتاج إلى البقاء سوى شهرين في كل مرة.» - «إنك تريد «أن تموت موتا مؤقتا» مثل توم سوير.»
قالت: «كلا، بل ثلاثة أشهر. إننا في حاجة إلى مثل هذه الفترة لكي نتمثل بقدر ما نستطيع.»
وتابع هوايتهد الحديث في الموضوع الأساسي قائلا: «وسواء أرخت هذا الاطراد في سرعة التطور منذ مائة وخمسين عاما، أو منذ خمسين عاما، فإن التغير في مجتمعنا يفوق كل ما سبقه في التاريخ. إن الآراء بعيدة المدى في الطبيعة البشرية لم تتغير، فهي تتعلق بطريقة التفكير، والشعور، والعمل. أما ما استجد في موقفنا فهو ...» وهنا توقف قليلا وابتسم، ثم واصل الحديث قائلا: «ما أسميه «الحيل».» - «وماذا تعني ب «الحيل» على وجه الدقة؟» - «أعني بها الأسماء التي تطلق على مختلف الشعارات السياسية والتي تسهل قبولها؛ أعني الوسائل التي نقابل بها الأزمات الاجتماعية المختلفة؛ أعني الأسماء التي نطلقها على التطور الاجتماعي ... وما شابه ذلك.»
وتدخلت في الحديث مسز هوايتهد وهمت قائلة: «سأعطيك مثالا؛ عندما تجد حكومتكم نفسها مضطرة إلى اتباع سياسة استعمارية، تسمونها «حسن الجوار»، ولكنكم برغم هذا تحتفظون بجزر المحيط الهادي، وينبغي لكم أن تفعلوا ذلك؛ فقد كلفتكم كثيرا. أما إذا فعلت إنجلترا مثل ما تفعلون أطلقتم عليه «مناطق النفوذ».»
ووجهت حديثي إلى هوايتهد سائلا: «هل تعتقد أن الولايات المتحدة استعمارية؟»
قال في هدوء: «لا شك في ذلك.»
ولما تأكدت من آرائهما لم أتابع الموضوع، بل عدت إلى تعريف «الحيل».
قلت: ««الحيل» إذن هي الطريقة التي يدور بها الناس حول الأركان على عجلة دون الاحتكاك بصنابير المياه.»
قال: «إنهم لا يتحاشون دائما هذه الصنابير.»
فعلقت على ذلك بقولي: «إن الحيل، مألوفة جدا لدي؛ فهي تشغل الجانب الأكبر من فراغ الصحف، ولكن ما رأيك في الآراء بعيدة المدى للطبيعة البشرية؛ كيف نفكر ونحس، ولماذا نسلك هذا السلوك؟»
قال هوايهد: «هذه الآراء مألوفة لديك أيضا؛ فقد دونها الإغريق. والعجيب في الأدب اليوناني أنه لا يشيخ؛ فهو اليوم في مثل الحيوية التي كان عليها عندما كتب.»
قلت: «بل أكثر من ذلك. إننا ندرسه لكي نفهم أمورا عن أنفسنا لا يستطيع كتابنا أن يذكروها بمثل هذا الوضوح.»
واستطرد هوايتهد قائلا: «إن فناء الآداب دراسة فريدة. هب أن الأدب اليوناني قد أبيد كله - وقد كان ذلك شديد الاحتمال - لو حدث ذلك ما كان ينقصنا ذلك الذي لم نعرفه قط، ومع ذلك فإن حياتنا بأسرها كانت تمسي أفقر مما هي بدرجة كبرى! أعتقد أن جامعة الإسكندرية هي التي أنقذت هذا الأدب، واحتفظت بأوراق البردي ونشرت تأثيرها ومحتوياتها على نطاق واسع مكن لها البقاء. إني أسأل نفسي أحيانا: ما الذي يجعل للأدب قيمته التي تخلده؟ إن أدب القرن الثامن عشر - على سبيل المثال - قد فقد كثيرا، بل أكثر ما فيه من عناصر التشويق، اللهم إلا إذا كان يقرؤه لكي يفهم كيف كان الناس يعيشون ويفكرون خلال تلك الفترة، وإن سرعة التطور الاجتماعي وعنفه في وقتنا هذا كفيل بأن يحكم على آداب كثيرة أخرى بالإهمال، بما فيها بعض ما كبته معاصرونا الذين ظفروا منا بالتقدير. أعتقد أن الآداب «الاجتماعية» هي التي تسقط في البحر حينما ينبغي أن نخفف حمولة السفينة لكي تنجو من العاصفة.» - «لست على ثقة مما تعني بالآداب الاجتماعية.» - «الآداب التي تفترض سلفا استمرار نظام اجتماعي قائم، وأقصد به النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه.» - «هذا الشرح يجعل الأمر أشد وضوحا، ويستطيع المرء فعلا أن يذكر أعمالا أدبية عديدة كان لها قدرها في القرن التاسع عشر - وهي بالفعل من الطراز الأول في بعض الأحيان - وقد ألقى بها في اليم التطور الاجتماعي في وقتنا الحاضر.»
قال: «إن كتابات الفترة الأخيرة من القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر أقدر على البقاء.» - «وأعتقد أنك ذكرت أيضا قدرة الأدب اليوناني على البقاء؛ فهو وإن يكن قائما على النظام الاجتماعي السائد في ذلك الحين، إلا أن ذلك النظام الاجتماعي قد تعرض للفحص والنقد المستمر من القرن السادس إلى القرن الرابع، كما أن بقاء هذا النظام كثيرا ما تعرض للخطر، وقد تنوعت أشكاله وتطورت بسرعة هائلة، حتى إن أكثر كبار الكتاب من الإغريق قد سلموا - فيما يبدو لي - بأنه نظام ثابت دائم حتما. وبعض كبار الكتاب منهم - كأفلاطون، وثيوسيديد، وأرستوفان - كانت لديهم في نهاية القرن الخامس تقريبا فكرة واضحة جدا بأن نظامهم الاجتماعي مهدد بالانحلال.»
وقال هوايتهد: «وإن أردت مثالا آخر مما أسميته «الحيل» ذكرت لك معاملة الهيئة الصناعية الكبرى. لقد بدأنا باعتبارها «أشخاصا»، وكانت هذه الفكرة تؤدي خدمة طيبة لإنجلترا في القرن الثامن عشر في علاقاتها بالهند، وإن كنت لا أقر بأن الهنود قد رضوا عنها كما رضي عنها الإنجليز، ولما بلغنا نهاية القرن التاسع عشر أصبحت هذه الفكرة عتيقة لا يمكن الدفاع عنها؛ فقد تدخلت هذه الهيئات - إن خيرا أو شرا - في كل أركان حياتنا، وأصبح الزعم بأن الهيئة «شخص» كلاما لا معنى له؛ فللمرء مشاعر وعواطف ورغبات ومطامع، والهيئة وحدة مستقلة لا شخصية لها. ومن خطل الرأي أن نفترض أنها لن تخضع تدريجا للرقابة العامة.»
وقد دقت الساعة العاشرة من زمن بعيد من ساعة البرج بالقاعة التذكارية، التي تمكن مشاهدتها من نوافذ مسكنهما، وكان المطر يتساقط.
وبناء على اتفاق سابق سحبت مسز هوايتهد مقعدا إلى جوار المكتب المصنوع من خشب الماهوجاني ذي الأدراج الستة الضخمة، وبدأت تبحث عن صورة ألفرد الفوتوغرافية التي وعدت بها، وتطور هذا الجهد إلى عمل ضخم، وأخرجت الأدراج واحد بعد الآخر، وانقلبت محتوياتها رأسا على عقب، أو سقطت على الأرض حزم ثقيلة من المخطوطات. وكانت طريقتها في البحث، واستغراقها فيه كلية، شائقة لافتة للنظر. وقد نسيت نفسها تماما، وأمسى موقفها يدعو إلى المتابعة في حد ذاته، وطرأت على ذهني فكرة طالما وردت على خاطري من قبل، وهي هذه: «إن هذا العمل يكون له أثره فوق المسرح، إنها تبحث عن شيء في المكتب، ومحتويات المكتب تقلب بصورة شائقة، وبعضها يسقط فوق الأرض، وهي تفحص بعضها الآخر في حجرها؛ إن هذه المرأة ربما قامت بدور الممثلة خير قيام. وقد خطرت لي هذه الخواطر كوميض البرق.» وكانت أنيقة الملبس، وفي مطلع المساء حينما كنا نقلب شارة وسام الاستحقاق، وضعت الشارة على نسيج ردائها لتبين لنا تناسق الألوان، ولكنها لم تعلق الشارة حول عنقها، ولم تكن هي المرأة التي تفعل ذلك!
قلت: «تخلي عن البحث، فهو عمل شاق جدا، وترقبي فرصة أخرى.»
قالت: «إن انتظرنا فلن نجدها.» - «هذا حق. وقد انتظرت بالفعل تسع سنوات.»
وأخيرا أخرجت ما كانت تبحث عنه؛ صورة فوتوغرافية لألفرد في مكتبه حينما كانا يقطنان في كانتون. وكان جالسا في مقعده المنجد بالجلد، ولوحة كتابته موضوعة على ذراعي المقعد، ويداه معقودتان فوق كومة من المخطوطات، وخلفه صفوف من الكتب فوق الرفوف، وإلى جواره فوق نضد منخفض قدح من تلك الأقداح المألوفة التي كثيرا ما تناولنا فيها الشوكولاتة.»
قلت: «إنني أفضل هذه الصورة على صورته في عيد هارفارد المئوي الثالث؛ لأنه في هذه الصورة يغض الطرف ولا يرى المرء عينيه.»
قال: «دعني أريكم أول صورة أخذت لي.» ثم توجه إلى حجرة أخرى وعاد بمجموعة من الصور القديمة، وتصفحها، ثم قال في نهاية الأمر: «إنني لا أستطيع أن أجدها.» ثم قال: «ولكن ها هو ذا ناظر شربورن حينما كنت بها طفلا ، وهو من أعظم من عرفت من نظار المدارس، وهذا هو جدي.» - «إنه يبدو مثالا للرجل الإنجليزي في عهد فكتوريا. هل عاش حياته كلها في القرن التاسع عشر؟» - «تقريبا. وقد ولد في عام 1794م، وعاش عيشة طيبة إلى ما بعد الثمانين من عمره، وقد أخذت له هذه الصورة وهو في نحو الثمانين من عمره.» - «إذن كان هذا الوجه لا يدل على إنجلترا في القرن التاسع عشر!»
فقال حفيده في نغمة فكاهية استعاد بها الماضي: «كان يحكم المدينة، وكخطيب للجماهير لم يكن له مثيل.» - «كم كان عدد سكان المدينة؟» - «عشرين ألفا.» - «إننا نسمي هذه مدينة كبيرة. أما أنا فقد نشأت في مدينة صغيرة، عدد سكانها ثلاثة آلاف.» - «إننا نسمي هذه قرية.»
وقالت مسز هوايتهد: «ها هي ذي.» وأخرجت بغتة من درج خفي بمكتبها صورة فوتوغرافية صغيرة في إطار بيضاوي من البرونز المذهب محفوظ في قطعة من المخمل القرمزي بهت لونها ولكنها ما زالت داكنة، وكانت الصورة مبطنة بالجلد المقوي، ومعدة بحلقة من النحاس تعلق منها فوق الحائط. وقد أطلعني عليها وقال: «هذه أول صورة لي.»
ورأيت في حجر مربية باسمة طفلا في سن الواحدة، وقد انحنت نحوه في عطف شديد، وكان الطفل في رداء من الشفوف «الموسلين» الأبيض، ملامحه غليظة، وشعره أشقر، لم يطل بعد لكي يقص، ورأسه قوي الاستدارة، ملامحه ثابتة، ونظرته حازمة. ولو طلب إلي أن أحدس لمن تكون الصورة لكان من اليسير علي أن أتكهن بأنها صورة لطفل بريطاني.
ثم قالا إنهما سيذهبان إلى مين يوم الجمعة. - «وما عنوانكما؟»
قالت مسز هوايتهد: «جزيرة باتلشب، بحيرة سيباجو الصغيرة، جراي الغربية. إن جزيرة تبلغ في مساحتها ربع الفدان تقريبا ولها هذه الميزة الكبرى (وهنا ألقت نظرة جانبية إلى ألفرد) وهي أن المرء لا يستطيع فيها أن يقوم برحلات طويلة على قدميه.»
المحاورة الحادية والأربعون
في أغسطس من عام 1945م
كانت حرب 1939-1945م في شهر أغسطس تسير مسرعة نحو نهايتها. ومن بين الانفجارات التي حدثت القنابل الذرية التي ألقيت في مكانين؛ الأول في هيروشيما في 6 من أغسطس، والثاني في نجازاكي في 9 من أغسطس. وقد شغلت الأحداث العامة الأذهان إلى درجة قصوى حتى باتت الشئون الشخصية الخاصة لكل فرد وكأنها حلم يقظان. وفي المساء الذي تلا إلقاء القنبلة الذرية الأولى كنت عند آل هوايتهد، وكان هناك أيضا الأستاذ هنري موريس شفر من قسم الفلسفة بهارفارد، وكنت أتوقع أن يتحدث هوايتهد في النتائج الاجتماعية للتفجير الذري، غير أنه استمع إلى الموضوع في أدب جم ثم رفض أن يتحدث فيه. ولم يناقشه إلا بعد عام أو عامين، ولكنه حينئذ كان من القلائل الذين يعرفون ما يكفي لكي يدركوا ماذا يمكن أن يخبئه المجهول.
وكان شارلز هبكنسن يرسم له صورة زيتية، وقد انتهى من تخطيطين تجريبيين، وكان على هوايتهد الآن أن يجلس سبع مرات؛ كل جلسة منها ساعتان، من الساعة الحادية عشرة صباحا حتى الساعة الأولى من بعد الظهر، وهي أطول مدة يمكن أن يحتمل هوايتهد فيها الجلوس. وكانت الجلسات تخفف بقدر المستطاع بالحديث بين أربعتنا. وأكثر هذا الحديث لم يسجل بسبب ضغط الحوادث العامة، ولكني احتفظت بأجزاء منه. ولما سئل هوايتهد: «أيهما أهم: الوقائع أو الأفكار؟»
تدبر الأمر قليلا ثم قال: «الأفكار التي تتعلق بالوقائع.»
وفي خلال الحديث عن كتاب «تنوع الخبرات الدينية» لوليام جيمز، قال: «قل
بطبيعة الحال، ولكن ما أكثر ما يبقى مما لم يمكن صياغته في كلمات؛ ومن ثم فإنه عندما يظهر التوازن النادر للمعرفة والإدراك، كما ظهر عند وليام جيمز - وهو من أولئك الذين يستطيعون أكثر من سواهم أن ينقلوا الكثير من أفكارهم - كان من مميزات نظامه الفلسفي أنه بقي ناقصا، ولو سد هذا النقص لقل شأن هذا النظام. إن في محاورات أفلاطون ثروة من الفكر والإيحاء والتلميحات التي ترمي إلى بعيد، ولكنه حينما أراد فيما بعد أن يكون أشد صراحة فيما يتعلق ببعض هذه التلميحات، تقلصت أفكاره.» - «ويمكن أن يحدث مثل ذلك في البحث العلمي، وللبحث العلمي بطبيعة الحال أهمية عظمى، وهو يتطلب المعرفة الدقيقة والتعليل، ولكن كثيرا من كبار الباحثين يهبطون بالعباقرة إلى المستوى العادي.» - «خذ مثالا لذلك جون ديوي؛ إنه عندما نقل فلسفة وليام جيمز ضيق نطاقها كثيرا فيما أظن. إن الوعي بالمركبات والإمكانيات الماثلة دائما في خبرة الإنسان مضمون في كل ما يكتب جيمز، ولكن ديوي من ذلك. وإدراك وليام جيمز بالمدى الفسيح وبتشابك العلاقات في كل موضوع جعله من أصحاب العقول الفلسفية الكبرى التي عرفها التاريخ. وهذا الإدراك - فوق هذا - فيه من الإحساس وهزة الشعور ما يضمن لوليام جيمز البقاء كرجل من رجال الأدب، إن لم يكتب له الخلود كفيلسوف؛ ولكن لتفكيره الفلسفي صفة البقاء. عندما كنت أؤدي الامتحانات للحصول على درجتي الجامعية في الرياضة، كنا نحسب أن الأوجه الطبيعية والميكانيكية للعالم معروفة كلها مستقرة، مع استثناء بعض المشكلات التي لا تعترض طريقنا والتي كان يشتغل بها أشخاص كفاة، والتي لا بد أن تحل في وقت قريب؛ ثم تقوض كل شيء. ولكن عقل وليام جيمز كان من النوع الذي يستطيع أن يواجه صدمة الانفجار، التي أودت بالكثيرين غيره.»
كانت الأحاديث التي تدور أثناء جلساته للتصوير مرحة أحيانا، جادة أحيانا أخرى؛ لأننا بتنا على علم بأن مذبحة الحرب قد قاربت نهايتها، مؤقتا على الأقل. وكان هوايتهد وزوجته يرفهان عنا بقصص عن حياتهما الزوجية أيام الشباب في رامزجيت وفي كمبردج. ومن تلك القصص ما روي لنا عن ليدي جب وزوجها سر رتشارد الغضوب.
روت لنا مسز هوايتهد: «أنها كانت تلعب الشطرنج في المكتبة مع الشاب آرثر جيمس بلفور، وظل سر رتشارد يدخل ويخرج من الغرفة فيقطع عليهما اللعب، وأخيرا نهضت ليدي جب وأغلقت الباب بعد خروجه؛ فعاد، وحاول الدخول، وخشخش القفل، ثم بدأ يركل الباب؛ فصاحت ليدي جب عندئذ وقالت له: «اركل ما شئت يا عزيزي، فالباب بابك وطلاؤه طلاؤك.»»
وروى لنا هوايتهد كذلك قصصا أخرى.
قال: «كانت كنيسة أبي في رامزجيت بناء نورمانديا قديما مسقفا بقبة كالبرميل، وكانت من حيث فن البناء قوية الأثر، في حين أن الاستماع فيها لم يكن سهلا؛ فإن جلست في نهاية الكنيسة شق عليك أن تسمع كلمة واحدة من كل عشر كلمات، ولكن حينما كان أبي يعظ، لم تكن هناك مشكلة، فقد كان صوته قويا رنانا، يسري في كل الأرجاء ويتردد صداه على طول القبة، محملا بالجد والحكمة الخلقية، وكان ممن يؤمنون بالعهد القديم. أما العهد الجديد فلم يعن عنده كثيرا، وكانت عنده حماسة الأنبياء القدامى، وإن استمعت إليه لمست في نغماته عمق الشعور، ولم يكن السامع بحاجة إلى أن يتبين الكلمات؛ ففي نغماته ما يكفي، وأشد ما كان يهز المشاعر صدق صوته الوقور. أليس كذلك يا أفلن؟»
فوافقت على ذلك وقالت: «كل ما ذكرت صحيح! ونقيضه أيضا صحيح. لقد كنت تصر في وقت خطبتنا أن تصحبني إلى صلاة المساء في كنيسة سنت ماري في كمبردج، وكنت أرتدي خير ما عندي من ثياب؛ لأني كنت أدرك تماما أني سوف أكون محطا للأنظار، كما كنا ندعى - وكنت أخشى ذلك - قبل الأوان لاعتلاء المذبح، ونجلس في المقدمة حيث لم تكن هناك صعوبة في الاستماع.»
ثم وجهت سؤالها إلي قائلة: «ثم ماذا تظن قد حدث؟» - «شيء مقبض أو شيء ممتع، ولا أعتقد أن الأمر كان وسطا.»
فقالت في حزم: «بل كان هذا وذاك؛ قام بالوعظ قسيس شاب، وفي نهاية موعظته قال - وكان ذلك في مرة من المرات التي لم تسعف فيها كلماته صوته - قال: «وأخيرا، أيها الأخوة، أقول لكم إن الحياة لا تخلق المشكلات لمن يحسن السلوك.»» - «لم يقل ذلك!» - «بل قال. وكانت لي ولألفرد قدرة مثالية على التحكم في عضلات الوجه، ولكن لما انصرفنا وأصبحنا بعيدين عن الأسماع قلت له: «قد تكون للكاثوليكية عيوبها، ولكنك في الكنيسة الكاثوليكية على الأقل لا تجد مثل هذا قط.»»
وأجاب ألفرد بقوله: «حتى في الكنيسة البروتستانتية يا عزيزتي لا يسمع المرء كثيرا في مثل هذه الجودة.»
اعتاد هوايتهد إبان إقامته في لندن، حينما كان يضطر إلى ركوب الأتوبيس أن يصطحب - كما قال - شخصية من الشخصيات التاريخية، ويضعها إلى جواره، وهو في أكثر الأحيان في الطابق الثاني من الأتوبيس، وكان يتبادل الأحاديث الحية مع صاحبه، ويشرح له معنى ما يشهدانه من أعلى الأتوبيس، ثم يصغي إلى تعليق صاحبه. من كان هؤلاء الصحاب؟ كثيرا ما كان يصحب إسحاق نيوتن، أو أرسطو، أو أرشميدس، ولكنه لم يصحب أفلاطون قط. لماذا لم يصحبه؟ إنه لم يرض مطلقا أن يذكر السبب، وربما كان هو نفسه لا يعرف السبب، ولكن أفلاطون لم يكن قط من رفاق الطريق.
وأدى بنا ذلك إلى شيء من المزاح عن الأوروبيين الذين يأتون إلى هذه البلاد في رحلة عابرة ثم يعودون إلى بلادهم ويؤلفون الكتب عن كل شئوننا.
فقال هوايتهد: «هذه هي الطريقة الوحيدة للقيام بهذا العمل. إنني بعدما أقمت هنا أكثر من عشرين عاما لا أحلم بأن أكتب مثل هذا الآن، ولكني لو دونت انطباعاتي عن أمريكا بعد إقامتي فيها ثلاثة أشهر، لكان هذا الكتاب هو كتاب الكتب!»
وذات صباح كنا نتحدث عن الثورات، وبخاصة في فرنسا وروسيا.
فقال هوايتهد: «إن التحطيم الحقيقي في الثورات ليس في إطاحتها بطبقة حاكمة أو بإعدامها ملكا؛ فقد كانت إنجلترا تسير سيرا حسنا بدون شارل الأول، واستطاعت فرنسا أن تستغني عن لويس السادس عشر، ولم يكن آل هوهنزلرن خسارة كبرى لألمانيا، ولم يكن آل هابسبرج خسارة للنمسا، دع عنك آل رومانوف بالنسبة لروسيا؛ وحتى حينما تطيح الثورات بالطبقات الحاكمة، فإن التخلخل الاجتماعي قد لا يكون خطيرا. كانت الحياة في باريس إبان الثورة الفرنسية - حتى في عهد الإرهاب - على مدى شوارع قليلة من ميدان الكنكورد والمقصلة تسير سيرها الطبيعي، إنما يكون تحطيم الثورات الحقيقي في إزالة أفراد الشعب الذين يقومون بالخدمات الاجتماعية الصغرى، أولئك الذين يقومون بالعمل اليومي الذي يسير قدما بعمليات الحياة المتمدنة العادية، ولا أعني ما يسمونه المهن العلمية كالقانون والطب وأعمال القسس، بل أعني المعلمين وصغار الموظفين والعمال المهرة، أولئك الذين يعرفون كيف يقومون بالأعمال الضرورية التي ليس لها مظهر، هؤلاء هم النسيج الذي يفصل قشرة الشجرة عن لحائها، الذي لو تخلخلت لذوت الشجرة.» •••
كان لا بد لإحضار شارلز هبكنسن - وهو آنئذ في السبعين من عمره - إلى تلك الجلسات التصويرية من بعض الحيل؛ فهو في الصيف يقطن في شاركسموث، وهي مقره في مانشستر على الساحل الشمالي، وركوب القطار إلى بوسطن والرحلة التي تتلو ذلك في الممرات التحتية إلى كمبردج لكي يبلغ مكان التصوير ترهقه أشد الإرهاق في جو أغسطس المضني. ومن حسن الحظ أن لجنة التموين في ماريلهد قد استنارت وتكرمت بمنح الغاز الإضافي الذي يلزم لنقله من محطة سالم للسكة الحديدية إلى كمبردج ذهابا وإيابا. واستمرت الحال كذلك حتى منتصف أغسطس، وبعدئذ أدى استسلام اليابان إلى إطلاق إمداد الغاز إلى ما كان عليه من فيض.
وقد كان من المعروف - إلى جانب ذلك - من أمد بعيد أن تموين الغاز لم يكن يقصد منه الاقتصاد في الغاز، إنما يقصد منه اقتصاد المطاط للعجلات.
وتمت الصورة في أول سبتمبر تقريبا، وركبت السيارة مع المصور في يوم عاصف إلى متحف بوسطن للفنون الجميلة؛ لكي نطلع عليها مستر كونستابل، أمين متحف الصور. ودخل كونستابل وهوبكنسن في جدل عويص حول مزايا الصورة. وعرضت فيما بعد في حجرات جمعية الزملاء في بيت إليوت.
وكلما تقدم الشهر كان هوايتهد يطلب إلينا الوعد الصادق للاحتفاظ بكل موعد قادم لجلسة من الجلسات: «هل ننتظركم يوم الخميس المقبل بعد الظهر في الساعة الحادية عشرة تماما حينما يدق جرس مموريال هول الساعة؟» - «ولم لا؟» - «إن الحرب قد تنتهي في أي يوم من الأيام، ولو حدث ذلك رقصتم في الشوارع، أو وقفتم على رءوسكم.»
وفي يوم 14 من أغسطس سلمت اليابان، وكان الابتهاج جنونيا، ولو أن بعض أولئك الذين شهدوا هدنة عام 1918م لم يكونوا بالغي الحماسة. ووضعت الحرب أوزارها فعلا في الثاني من شهر سبتمبر باستسلام رسمي. ومنذ ذلك الحين عرفنا السلام بأنه فترة سكون بين حربين لكي نتعرف العدو.
وكان شهر أغسطس هذا - برغم ذلك، وتلك الأصائل الهادئة التي كان يتم فيها التصوير ويدور الحديث في حجرة جلوس آل هوايتهد، والشمس ترسل ضوءها فوق قمم الأشجار تحت نوافذهم، والجو الرطب الساكن يفوح بعبق الزهر المتنوع اللون المحفوظ في الأواني المصنوعة من الميناء السوداء اللامعة، وجرس مموريال هول ذو الصوت العميق يعترض حديث هوايتهد أولا عندما يدق الثانية عشرة، ثم عندما يدق الواحدة، وكل ذلك مسبوق بالركوب من سالم إلى كمبردج خلال أرض زراعية تبتسم من بهجة الصيف، حيث الأزهار الأرجوانية اللون تترعرع في المراعي المبتلة على طول الطريق - أقول كان شهر أغسطس هذا ما برح كأنشودة السلام في عالم الحرب.
المحاورة الثانية والأربعون
11 من سبتمبر 1945م
وهكذا انتهت الحرب، ولكن الناس ما يزالون مذهولين، لا يستطيعون إدراك الموقف تماما. وكان الصيف يسير نحو أوائل الخريف في أيام متتالية تتألق بأشعة الشمس الذهبية وزرقة البحر. ومنذ أن توقفت مذبحة الحرب أمكن مرة أخرى أن يحس المرء أن الدنيا جميلة. ولا يكون الجو مشرقا أبدا على شواطئ خليج ناهانت مثل إشراقه في نهاية الصيف.
وفي غضون ذلك وصل سر رتشارد لفنجستون من إنجلترا بالطائرة (وهي أسبقية متقدمة جدا بالنسبة لرجل من المدنيين) وتوجه لقضاء يومين في معهد الدراسات العليا في برنستن، وكان يقصد تورنتو لكي يلقي أربع محاضرات في الجامعة، ثم جاء إلى سوامبسكت ليقضي يومين آخرين في راحة وهدوء. وركبنا بعد ذلك ذات خميس في الصباح إلى كمبردج لتناول الغداء مع آل هوايتهد. ولما كان يتوقع أسبوعين من عمل شاق في تورنتو قبل عودته إلى إنجلترا بالطائرة، فلم يرتبط بموعد آخر.
وقد قتل ابنه الأصغر كابتن روبرت لفنجستون في هذه الحرب الثانية، كما قتل ابن هوايتهد في الحرب الأولى؛ فكان هذا بينهما رباطا بغير كلام.
وجلس أربعتنا في مكتب هوايتهد ذي الجدران المليئة بالكتب، وقد غمره فيض من ضوء الشمس الذهبي من خلال نافذة جنوبية فتحت على مصراعيها لكي تستقبل الهواء الدافئ الساكن، وكانت طيور الزيزان تشدو في الخارج فوق الأشجار. رجل اسكتلندي وآخر إنجليزي، يتباينان في الشكل؛ هوايتهد بريطاني من كنت وأنجليا الشرقية متورد أشقر اللون؛ ولفنجستون ، مديد القامة، نحيل الجسم، رملي الشعر، رملي البشرة، وإن كان في هذه اللحظة محمرها على غير عادته من أثر التعرض لضوء الشمس المتوهج ولزرقة البحر الشديدة في إنجلترا الجديدة في شهر سبتمبر على الساحل الشمالي.
وسرعان ما انتهيا من تجديد التعارف بينهما. وتلت ذلك فترة قصيرة من السكون.
ثم سأل لفنجستون: «ماذا تظن كان أثر العلم على عالمنا؟» - «ما رأيك أنت قبل أن أجيب؟» - «ألم يلغ العلم الرق؟» - «لو قلت ذلك حوالي عام 1900م لكنت من الصادقين، ولكن سرعة التغير في الماضي - لمدة خمسين عاما - قد غيرت الموقف كله. ولا أتحدث عن القنبلة الذرية في الوقت الحاضر؛ لأنها ليست إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة، وأحدث من أن نزنها وزنها الصحيح على أية حال.»
وقال لفنجستون: «يبدو لي أن العلماء عند إعلان القنبلة الذرية كانوا يستخفون بها، ولكن الناس كانوا منزعجين.»
ومضى هوايتهد يقول: «أقصد أن ظروف حياتنا قد تغيرت أساسا في الخمسين سنة الأخيرة أشد مما تغيرت في الألفي سنة السابقة، بل في الثلاثة الآلاف من الأعوام السابقة. وجوابي على سؤالك الأول هو أني أعتقد أنا في مستهل عصر من عصور التحرير، وحياة أفضل للجماهير، وتفجر جديد لطاقة متحررة خلاقة، وشكل للمجتمع جديد؛ إما هذا وإما أن تبيد البشرية نفسها ويقفر هذا الكوكب.»
وقال لفنجستون: «هب أن بعض عظماء اليونان قد عادوا ورأونا على ما نحن عليه الآن ... أمثال ثيوسيديد وأفلاطون وبركليز وأرسطو؟» - «إن أرسطو يصعق إلى درجة لا يمكن التعبير عنها من الطريقة التي نبذت بها أحكامه العامة، ولا أقصد أن أفكاره - الأنواع والأجناس وما إلى ذلك - لم يثبت نفعها على نطاق واسع، فإن أرسطو قد استكشف كل أنصاف الحقائق التي كانت ضرورية لابتداع العلوم.»
وعاد لفنجستون إلى الحديث فقال: «يبدو لي من ناحية أخرى أن كتاب «الأخلاق» لأرسطو له فضل أكبر.»
وبدت على هوايتهد المخالفة وقال: «أسلم لك بأن آراءه هنا محددة إلى درجة تدعو إلى الإعجاب، وأن أفكار أفلاطون في هذا الموضوع تميل نسبيا إلى الغموض، ولكني أوثر الغموض.»
وعلق على ذلك لفنجستون بقوله: «إن الإغريق لم يميلوا إلى الغموض، ويمكن بهذا المعنى أن يقال عن أفلاطون إنه لا يكاد يمثل اليونان. إنهم كانوا يحبون تمييز الخطوط ويحبون تنظيم مادة الموضوع تنظيما واضحا داخل صورة محددة.»
ومضى هوايتهد يقول: «إنني أفضل أفلاطون، ويبدو لي أنه الرجل الوحيد في العالم القديم الذي لا يدهش لما حدث لو رآه؛ لأنه كان حين يفكر يأخذ في اعتباره دائما كل ما لا يمكن التنبؤ به، وما تتضمنه الأشياء من إمكانيات لا حصر لها. إنك حينما لا تكون على ثقة تامة مما تصيب من هدف توسع لنفسك دائما مجال الفرصة لكي تبلغ هدفا له قيمته.»
والتفت ثانية إلى لفنجستون وواصل حديثه قائلا: «أريد أن أوجه إليك سؤالا. هل أنا على حق حينما أعتقد أن البحث الألماني يخطئ جد الخطأ عندما يحاول أن ينسب إلى أفلاطون بعض النتائج الصريحة في محاوراته، وعندما ينسب إليه حديث متكلم واحد ورأيا نهائيا؟ يبدو لي أن ذلك بعينه هو ما كان يحاول تحاشيه. خذ خطاباته مثالا؛ لو فرضنا أنه كتبها - وحتى إن كان لم يكتبها - فإنها تنم عن صورة ذهنية سادت في العصور القديمة عن مؤلفاته؛ وأقصد أنه لم يكن هناك نظام أفلاطوني فلسفي. إن ما فعل كان الكشف عن أوجه متعددة للمشكلة ثم يتركنا وإياها ... يبدو لي أنه كان لديه - أكثر من أي فرد آخر - إحساس رفيع بإمكانيات الكون التي لا حد لها.»
وأجابه لفنجستون بقوله: «لست الآن على استعداد لأن أقرر شيئا بشأن البحث الألماني، ولكن في كل ما يقرأ المرء لأرسطو يلمس مقاومته لتأثير أفلاطون، وفي كل ما كتب أرسطو لا يستطيع المرء الفرار من تأثير تفكير أفلاطون.»
قال هوايتهد: «دعني أتحدث عن نفسي لحظة؛ لقد تلقيت تعليما كلاسيكيا جيدا، وحينما التحقت بكمبردج في السنوات الأولى بعد عام 1880م واصلت تدريبي الرياضي على أيدي معلمين ممتازين، وكان المفروض آنئذ أن كل شيء تقريبا مما يمكن معرفته عن الطبيعة كان معروفا ، اللهم إلا موضوعات قليلة ، مثل ظاهرة المغناطيس الإلكتروني، التي بقي علينا أن نصلها بمبادئ نيوتن (أو هكذا كان يظن). أما فيما عدا ذلك فكان المفروض أن الطبيعة موضوع قد انتهى البحث فيه تقريبا. واستمر البحث خلال الاثنتي عشرة سنة التالية لإيجاد هذه الصلة. وقبل أن يتصرم القرن التاسع عشر بسنوات قلائل بدرت شكوك خفيفة ومخاوف يسيرة من أن كل شيء لم يعد يدعو إلى الاطمئنان، ولكن أحدا لم يحس ما هو آت. ولما حل عام 1900م انهارت طبيعيات نيوتن، وانتهى أمرها! وما زلت أتحدث عن شخصي حينما أقول إن ذلك كان له أثر عميق في نفسي؛ لقد خدعت مرة، ولعنة الله علي لو خدعت مرة أخرى! المفروض أن أينشتين قد كشف كشفا عالميا، ولكن ليس هناك ما يدعو إلى الظن بأن نسبية أينشتين أكثر نهائية من «مبادئ» نيوتن، والخطر في الفكر اليقيني؛ إنه يسيء إلى الدين، وليس العلم معصوما منه. وأنا - كما ترى - تطوري إلى أبعد الحدود؛ لقد بدأت أرضنا منذ ملايين السنين تأخذ في البرودة، وبدأت أشكال الحياة في أبسط صورها. (من أين جاءت هذه الأشكال؟) لا بد أنها كانت كامنة في مجموع النظام العام، لا بد أنها كانت موجودة بالقوة في أدق الجزئيات؛ أولا في هذا الكوكب الناري، ثم في هذا الكوكب المائي والأرضي. ألم تفكر مرة في أنه من السخف أن نبدأ في تقدير المقاييس الطبيعية بأجسامنا التي تبلغ في طولها خمس أقدام ونصف القدم أو ست أقدام؟»
قال لفنجستون: «إذا بالغنا في الفكرة قلنا إن «الإنسان هو قياس كل شيء».» وروى هذه العبارة باليونانية.
ووافقه على ذلك هوايتهد، وقال: «إن أفكارنا عن الأبعاد الطبيعية تحكمية إلى درجة السخف. إنني لا أعتقد أنه من المستحيل أن أدق حصاة قد تحتوي في داخلها على عالم يبلغ من التعقيد هذا العالم الذي نعرفه، وأن العالم أو العوالم التي بدأنا نفهمها منذ وقت قريب قد تبلغ بالقياس إلى ما لم نكشف بعد من الصغر مبلغ ما في الحصاة من عالم بالنسبة إلى العالم الذي نعرفه، أو أن الاتساع قد يكون أفسح في الاتجاه الآخر؛ أقصد اتجاه ما نعده صغيرا صغرا متناهيا ... إن التطور يثب وثبا فيما أحسب. منذ خمسين ألف عام تقريبا كانت هناك وثبة سعيدة، تجسدت في رجل واحد، أو في أسرة واحدة، أو في قليل من الأسرات، وبعد فترة حدث تقدم عظيم آخر ترتب على ذلك.»
وقيل إننا ربما كنا نعيش في غضون «وثبة» من هذه الوثبات، اللهم إلا إذا قضت علينا.
وفكر في ذلك هوايتهد ثم قال: «لماذا نتحدث عن «قوانين الطبيعة» في حين أن ما نقصد هو السلوك المميز للظواهر في حدود معينة في مرحلة معينة من مراحل التطور في فترة معينة، بمقدار ما يمكن أن نتحقق من كل هذا؟»
ولما فتر الضحك، وجه حديثه إلى لفنجستون قائلا: «ولكن دعنا نتخل عن كل ذلك. إنني أريد أن أتحدث عن كتبك في التربية التي تدعو إلى الإعجاب، وبخاصة تربية الراشدين. ما أسخف أن نعفي الأطفال من المدرسة في سن السادسة عشرة، أو حتى الثامنة عشرة، ونعدهم قادرين على مجابهة أمور الحياة المعقدة ...»
قال لفنجستون: «من رأيي كما تعلم أن التربية لا بد أن تستمر طوال الحياة كلها لكل إنسان، على مستويات القدرة والاستعداد المختلفة، وإن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعل الديمقراطية الحديثة فعالة، أو التي تمكنها من استمرار البقاء.»
قال هوايتهد: «إن ما نريد هو أن نستخرج بقدر ما نستطيع كل القدرات الكامنة في الموهبة البشرية، ولكنا لم نعرف حتى الآن طريقة للقيام بذلك على الوجه الأكمل؛ قد نستخرج طائفة معينة من المواهب في ظل أشكال معينة من التنظيم الاجتماعي الذي يلائم تطورها، ولكن ذلك لا يحدث إلا في نطاق محدود جدا وفي ظروف مكانية وزمانية غاية في الضيق؛ لا يبدو قط أننا وجدنا وسيلة نستخرج بها الانتشار الكامل لقدرات الإنسان الكامنة.»
وعادت مسز هوايتهد إلى حجرة الدرس، ولم يكن الغداء قد أعد تماما، فجلست على موطئ قدمي كرسي زوجها ذي الحشية الوثيرة، وواجهت الرجلين الإنجليزيين، وانطلقت في جدل عن بلدينا.
ووجهت الحديث إلى لفنجستون قائلة: «الأمر الذي لا ينبغي للمرء أن يفعله - وهو هين إلى أقصى الحدود - هو أن يقوم بالمقارنة. إن البلدين لا يقارن أحدهما بالآخر؛ كل منهما فريد في نوعه. لقد عشنا هنا واحدا وعشرين عاما، وكل يوم نلمس فرقا جديدا، وحينما جئنا إلى هنا أول الأمر بعد الحرب الأولى، كان الأمل الذي رأيته مرتسما على الوجوه يذهلني. كل هؤلاء الصغار كانوا يتطلعون إلى الحياة في شغف وحماسة ...»
وقال لفنجستون باسما: «لقد وصلت لتوي بالطائرة إلى بلتيمور يوم الأحد الماضي بعد الظهر، فأنا إذن في موقف صحيح يمكنني من تأليف كتاب عن أمريكا.»
قلت: «كلما طالت إقامة المرء هنا أحس بالعجز عن تأليف مثل هذا الكتاب، ولكن لا تخدعك الظواهر، إن كثيرا منها يضللنا ...»
قال هوايتهد: «هل أحدثكم عن إحدى هذه الظواهر - لو سمح لي لوشيان - الصحف.» - «إني أستطيع أن أوجه إليها لومي بطريقة أكثر منك تحديدا، ولكن هلم.»
ومضى يقول: «إذا نظرت إلى صفحاتها الأولى قد تظن أن هناك قضية أساسية تتقاتل هذه الصحف بشأنها.»
وحذرته قائلة: «تذكر يا أولتي أننا لما كنا نغادر إنجلترا إلى القارة الأوروبية كنا نجد الجريمة في القارة هائلة، وقد كانت كذلك فعلا.» - «أذكر ذلك جيدا. إن الانطباع الذي تتركه الصفحات الأولى في الصحف خادع تماما. ليس من أنباء الصحف أنك لو سألت غريبا - أي فرد في مجال الحياة الأمريكية كلها - عن اتجاه مكان معين، يحيد عن طريقه شارعين لكي يدلك على الطريق الصحيح، ومع ذلك فهذا هو ما يمثل تماما أفراد هذا الشعب، الذين يظهر لي أن لديهم شفقة طبيعية أكثر من أي شعب عاش على وجه هذه الأرض.»
وسألت لفنجستون: «هل طلب إليك أن توقع في أوراق للدخول في هذه البلاد؟» - «لا أذكر شيئا غير عادي أو مزعجا.» - «ولكن هذا هو الواقع وإن كنت لا تذكر. حينما جئنا للإقامة هنا - وهذا هو ما أعني بألا تخدعك الظواهر - طلب إلي وإلى ألفرد أن نوقع على إقرارات بالقسم بأننا لم نقض في السجن أكثر من عشرة أشهر!»
قال لفنجستون: «كلا. لا أذكر أنني وقعت على شيء من هذا.»
وتطوعت بالتصحيح فقلت: «ولكن جلبرت مري يذكر ذلك. حينما جاء إلى هذا البلد في عام 1926م، لكي يلقي مثلك سلسلة من المحاضرات فحسب، قال إن الأجانب لا بد أن يوقعوا على ورقة مجيبين فيها عن هذين السؤالين: هل أنت فوضوي؟ وهل أنت متعدد الزوجات؟»
قالت مسز هوايتهد: «يا إلهي!»
وبعدما استردت رباطة جأشها استطرت قائلة: «بعدما جئنا للإقامة هنا اعتدنا أن نستقبل الطلاب ليلة كل أسبوع، لمدة تسع سنوات، وكان عدد الفتيان والفتيات الذين يجوسون خلال حجراتنا يبلغ المئات، أولا وآخرا، وكانوا يفدون من مختلف البيوت، بما فيها المزارع، وما يقرب أن يكون أحياء شعبية، ولكني أقول لك إن رقة طباعهم، وحسن ذوقهم، وتربيتهم الطيبة فعلا، كانت ملموسة حقا في كل حالة من الحالات، وكان ذلك في تلك الأيام الباسلة، أيام قانون فولستد، حينما كان الناس - والمسنون منهم خاصة - يمتلئون بالشراب قبل أن يبدءوا في تناول العشاء. وبالرغم من هذا ففي خلال هذه الفترة كلها لم يأت إلينا ثملا سوى فرد واحد، وهو - إن شئت الحق - من أبناء أرستقراط بوسطن! وعلى نقيض ذلك تماما فتى جاء من نيويورك، من الجانب الشرقي، وفي منتصف السهرة تقريبا تمطى وتنهد وقال: «أليست هذه الدنيا عجيبة؟» فسألته: «وماذا تعني؟» فأجاب: «منذ أسابيع قليلة، كنت أدحرج البراميل في شوارع نيويورك، وها أنا ذا الآن وسط الترف وكل هذه الكتب.» (ومسكننا الكائن على ضفة النهر لم يكن بطبيعة الحال مما يبهر.) إن ما يعني هو أن هذه هي المرة الأولى بالنسبة إليه في مثل هذا الوسط، ولكنها لم تكن المرة الأخيرة! فقد صار واحدا من تلاميذ ألفرد اللامعين، وأجاد إجادة ملحوظة.»
وعلق على ذلك لفنجستون بقوله: «إن الوسط الاجتماعي للجامعات الإنجليزية قد تغير تغيرا كبيرا.» وذكر لذلك أمثلة فقال: «إن الإيراد الصافي لآباء الدارسين عندنا في العام الماضي في الجامعة كان 400 جنيه، 688 جنيها، 361 جنيها، 318 جنيها، 1065 جنيها (وقد تحددت هذه الأرقام بطبيعة الحال منذ ذلك الحديث)، واثنان منهما لم يطلبا الراتب الإضافي؛ ولذلك فقد كانا على يسار، ولكن كان هناك اثنان ممن يكسبون الأجور أسبوعيا، بمعدل ثلاثة جنيهات وعشرة شلنات في الأسبوع، وثمانية جنيهات في الأسبوع.»
فقال هوايتهد: «يبدو لي أن الجامعات الإنجليزية، وربما بالأخص منها أكسفورد وكمبردج، قد أخذت تعود إلى مثل وظيفتها في العصور الوسطى، وهي تعليم الفتيان الموهوبين من الطبقات الفقيرة. كانت جامعاتنا في القرن الثامن عشر تعلم في الأغلب الشبان الأرستقراط، أو على الأقل أبناء عمد الأرياف، مع قلة من الدارسين من الطبقات الفقيرة، واستمدت طلابها في القرن التاسع عشر من القطاعات المنتعشة في الطبقة الوسطى وطبقة أصحاب المهن الرفيعة - من أمثالنا مثلا - ممن يبدو أن الدنيا لهم آمنة ممتعة، ولكن الجامعات الآن قد بدأت تقبل الأطفال من الطبقة العاملة.»
قال لفنجستون: «مما قلت لي ومما لاحظت هنا في زياراتي السابقة، وقليلا في هذه الزيارة أيضا، يبدو لي أن الديمقراطية في إنجلترا رأسية؛ أقصد إحساسا بالمساواة يسري من أعلى المجتمع إلى أسفله، يخترق الطبقات. أما في أمريكا، حيث تكون الطبقات أقل تحديدا، فالديمقراطية أشد أفقية.» ومثل البعدين بإشارات من يديه.
وقال هوايتهد: «سأعطيك مثالا عن مدى أفقية الديمقراطية هنا؛ إن سائقي عربات الأجرة هنا في كمبردج وبوسطن ممن يجيدون الحديث، ولديهم فعلا حديث شائق يوجهونه إليك، ومنذ عهد قريب التقينا بأحدهم ليسوقنا من بوسطن إلى بيتنا، وقد أبطأ المسير، وتخلل الطرقات الجانبية [وشرح لنا كيف أنه لا يطيل المسافة، وإنما يطيل الوقت] وبادلنا الحديث الحي، يكلمنا ونكلمه. ولما أنزلنا عند بابنا قال: «هذا أمتع حديث تبادلته منذ أمد طويل.»»
وأعلن ميعاد الغداء، وتوجهنا إلى المائدة، واتجه الحديث نحو الروائيين الإنجليز.
وقال هوايتهد: «يبدو لي أن النساء يكتبن روايات أفضل مما يكتب الرجال؛ فالرجال أميل إلى الانحراف نحو البحث عن الأفكار المجردة، محاولين أن يضعوا الحياة في إطارها. أما النساء فأميل إلى أن يقدموا لنا العلاقات الخاصة التي تجعل الحياة والأشخاص أشد حيوية في أعيننا .» ثم وجه إلى لفنجستون السؤال قائلا: «وما رأيك في هذا؟» - «كنت أفكر في مسز جاسكل وأنت تتكلم، وأنا أوافقك على ما تقول.»
واستطرد هوايتهد يقول: «وأرى استثناء واحدا لذلك، وهو ليس نابغا من الطراز الأول، ولكنه صاحب موهبة تدعو إلى الإعجاب تمثلت تماما فيما فعل؛ فقد صور لنا الحياة والفكر الشائع في عهده من خلال طبقة تمثل ذلك العهد إلى حد كبير، وهي طبقة القسس؛ وأقصد أنتوني ترولوب.»
وصاحت زوجته قائلة: «حق لك أن تعرف. ألم تغرق فيها إلى الأذقان، كما غرقت منذ سنواتي الأولى بعد العشرين؟ ... ولا تنس أنها أفسدت كل فرد من أفراد أسرتك في جيلك، ما عداك. وأنا أسلم لك بأن ترولوب قد أحسن التصوير ولكنه بالغ قليلا.»
وقال هوايتهد: «إنه على الأقل كان صادقا يا عزيزتي.» وأبرق بعينيه نحوها عبر المائدة، ثم قال: «إننا على اتفاق في ذلك. إنني حين أقرؤه أستطيع أن أستمع إلى أبي وأصدقائه من القساوسة وهم يتحدثون، بل إن النكات نفسها تبدو طبيعية جدا. وقد كنا نقطن بالقرب من كانتربري، ورأينا الكثير من قساوسة الكاتدرائية.»
وأذعنت لذلك مسز هوايتهد، وقالت: «بيد أن النساء الروائيات لا يحسن تصوير الرجال، ويقعن عادة في الخطأ حينما يحاولن تصوير من يؤثرن من أشخاص الرجال.»
ثم ثار الجدل فيما إذا كان الروائيون الرجال أفضل منهن في تصوير النساء، مع إجراء المقارنة بين جورج مرديث وجورج إليوت.
فقال هوايتهد: «إن لثاكري فنا عظيما، ولكنه يحصر نفسه في طبقة واحدة حصرا شديدا. إنه يطوف بك خلال إنجلترا والقارة الأوروبية كلها، ولكن أشخاصه في نهاية الأمر نوع واحد من البشر تقريبا.»
وأضافت إلى ذلك قولها: «ثم إنه كان يكتب عن طبقة لا ينتمي إليها، ويلاحظ من الخارج مأخوذا من ناحية ومستاء من ناحية أخرى، ولم يستطع قط أن يقر لنفسه أمرا.»
وقال لفنجستون: «إن من الروايات الإنجليزية في القرن التاسع عشر التي أعتقد أنها سوف تدوم «بكويك» (فهو بعبقريته الإغريقية يوازن بين بهجة عيد الميلاد في دنجلي دل وصورة الحياة الريفية في أنكا في قصة «السلم» لأرستوفان كما وردت في الأبيات الشعرية من 1127 إلى 1171).» ثم استطرد يقول: «ليست قصة «بكويك» أدبا فحسب، إنها تاريخ أيضا، وهي تصور الإنجليز على حقيقتهم فعلا.»
ثم قال هوايتهد: «كنت منذ لحظة أقول إني أعتقد أن النساء قد كتبن أحسن الروايات.»
وسكت قليلا، ورمقنا بنظرة خبيثة، ثم قال: «ويجدر بي أن أقول إن دكنز كان من بين أفضل النساء الروائيات!» - «وما رأيك في جولزورذي؟»
وكان من رأي لفنجستون أن أشخاصه لم يطابقوا الواقع تمام المطابقة.
وقالت مسز هوايتهد: «كان جولزورذي - مثل ثاكري - خارجا عن الأشخاص الذين يكتب عنهم.»
ودفع هوايتهد الموضوع دفعة جديدة فقال: «الأمر في الرسائل كما هو في الروايات؛ فالنساء يكتبن رسائل أفضل مما يكتب الرجال، إنهن يدون ما نريد أن نعرف، وكيف يشعر الناس إزاء الأشياء، وكيف يعيشون، ماذا يأكلون ويلبسون، وما يزعج خواطرهم، يكتبن عن كل تلك الأمور المباشرة التي تجعل حياة عصر من العصور تعيش مرة أخرى. إن التاريخ ينبغي أن يستند إلى الرسائل أكثر مما يفعل. من ذا الذي تهمه معركة كريسي، والتواريخ، والأماكن، وكل ما نحشو به أذهاننا باسم التاريخ؟ وما شأننا بها؟ إنما التاريخ هو الحياة اليومية المتتالية. إنه ليس ما يقع من حوادث، إنما هو الاجتماع. إنه تقدم الفكر.»
وقال لفنجستون: «إن عيب التاريخ الرسمي أنه يعطينا النتائج، وخواتيم الأمور، دون أن يرينا كيف بلغ الإنسان هذه النتائج.»
ووافقه على ذلك قائلا: «هذا جد صحيح. وليس التصادم إلا الخطوة الأخيرة في أية عملية من العمليات. إن ما نريد أن نعرفه هو تقدم الآراء، والتخمر الذي أدى إلى الصدام.»
وقالت مسز هوايتهد: «والمذكرات مصدر تاريخي آخر ينبغي أن نزيد من استخدامه، وإن كان الفرنسيون قد استغلوها أكثر مما فعل الإنجليز، واستغلوها استغلالا مثمرا. إن الأدب الإنجليزي ليس غنيا جدا في المذكرات، وما لدينا منها يميل إلى الوحشة والكآبة. أما المذكرات الفرنسية فهي على نقيض ذلك حية ومليئة بالحقائق. ومن الحق أنها كثيرا ما تسجل ألوانا من الهروب الشائن، ولكنها تسجلها بروح إن كانت لا تدعو إلى التسامح فإنها لا تبعث على الضيق. أما ما شابهها من المذكرات الإنجليزية فيدعو إلى النفور، وأشخاصها غير محببين.»
ثم بدءوا يتحدثون عن أولئك الذين يمكن أن يقال عنهم إنهم أجادوا كتابة التاريخ في القرن التاسع عشر في إنجلترا.
فقالت مسز هوايتهد: «ليس منهم ماكولي بأسلوبه المتكلف ... وعباراته الفصيحة الموسيقية كأنه خطاب في مجلس العموم مما كان له أثره في ذلك العهد، وكل سطحي إلى أبعد غاية.»
وقال لفنجستون: «لا تنس أن ماكولي قد استطاع أن يجعل قراءة التاريخ شائعة، وهو عمل ليس باليسير.»
قالت: «وكذلك فعل ستراتشي، غير أن ذلك لم يجعل ما كتبه من التاريخ الجيد.»
وقال لفنجستون: «إنني لا أحب ما كتب أكثر مما تحبين، ولكنها كثيرا ما تكون كتابة جيدة.» - «أسلم لك بهذا. وكثيرا ما يكون قوله طريفا جدا، بيد أنه لا يبلغ هذه الدرجة من الطرافة على لسان غيره.»
ونهضنا وقدمت لنا القهوة في حجرة الجلوس، وآخذ آل هوايتهد ولفنجستون وهم يمثلون كمبردج وأكسفورد يجرون مباراة بين جامعتيهما، موازنين بين أطوارهما الغريبة، وأوجه التناقض بينهما، ومزاياهما وعيوبهما.
قالت مسز هوايتهد: «لقد وصلت إلى هناك في عام العرائس الثلاثين، وأؤكد لك أنه لم يكن مكانا سهلا للعرائس.»
ووضح ذلك هوايتهد بقوله: «حدث تغير في لوائح الجامعة قبل ذلك بوقت وجيز، فسمح للرؤساء بالزواج، وكان لا بد قبل ذلك للواحد منهم لكي يتزوج أن يستأذن الكنيسة، ولما كان أكثرهم لا يعتقد في الطقوس التي كان عليه أن يؤديها، فقد كانوا يتحايلون على إرضاء ضمائرهم بكل أنواع التفسيرات التعسفية لتلك الآراء الدينية التي لم تعد - في ظني - بالخير على كنيسة الجامعة، وكانت النتيجة - كما تقول أفلن - أن ثلاثين أو أربعين عروسا وصلت إلى كمبردج دفعة واحدة، وبعضهن مثلها صغيرات جدا، وبعضهن لم يكن البتة صغيرات.»
قالت مسز هوايتهد: «ولكني تعلمت بسرعة. ولما كنت قد ولدت ونشأت في فرنسا، فقد قرأت بالفرنسية كثيرا، ولكن انتقالي إلى إنجلترا لم يمكني من قراءة ما ينتظر أن يقرأه المرء بالإنجليزية. وقد جلس إلى جواري أحد الرؤساء في حفل عشاء وشرع يسألني عما قرأت بالإنجليزية، ولم أحسن الإجابة بطبيعة الحال، فقال: «أرى أنك لم تقرئي شيئا.» وكف عن الاهتمام بي بقية المساء ... واستمر على ذلك لا يهتم بأمري لبضع سنوات. كلا، لم يكن هذا المكان سهلا للعرائس.»
وأضاف إلى ذلك هوايتهد قوله: «ولم يكن سهلا كذلك دائما للعرسان.» ثم سألها: «ألا تذكرين آل فرل وجيم ستيفن؟»
واختنقت فجأة من شدة الضحك.
وحذرته قائلة: «ولكن لا بد أن تشرح لسر رتشارد أن ذلك كان قبل أن يغيب ستيفن عن صوابه.»
واستطرد هوايتهد قائلا: «كان في زيارتنا بكمبردج حينما كنا نسكن إلى جوار آل فرل. كانت حديقتانا متلاصقتين.»
وذكرت مسز هوايتهد: «أنه لم يفصلنا سوى جدار سمكه طوبة واحدة.» - «وكان فرل يتكلم بصوت مرتفع ذي صرير [وأخذ يقلده] وكان جيم ستيفن مقلدا مضحكا، فبدأ يقلد فرل في منظر خيالي تصوره فيه وهو يطلب يد زوجته. وصعقت أفلن المسكينة وأشارت إليه بحركات عصبية لكي يكف عن التقليد، وقالت هامسة: «إنهما يستطيعان الاستماع، فبيننا وبينهما جدار رقيق.»
وقال ستيفن: «وهل في ذلك خطر؟ إنه يصلح الأمر بينهما.»»
وفي معرض المقارنة بين الجامعتين تساءل لفنجستون إن كان هناك مجال للاختيار في قسوة الإنسان على الإنسان.
فقال هوايتهد: «إن ما كان لدينا من مدنية في كمبردج إنما جاءنا من الخارج. أما في أكسفورد فأنتم تمدنون شعبكم داخل الجامعة.»
وأقر لفنجستون ب «أن أكسفورد أرقى من الوجهة الاجتماعية. أما في كمبردج فأنتم تدربون الرياضيين والعلماء.»
وقال هوايتهد: «إنما أنقذني من هذا وسار بي نحو المدنية عاملان؛ أحدهما «الرسل»، وهو ناد ثقافي من اثني عشر عضوا من الطلاب.»
وسأله لفنجستون: «وما هو العامل الثاني؟» - «خروجي من كمبردج وانغماسي في جامعة لندن خمسة عشر عاما.»
وسأل لفنجستون في نغمة رقيقة مازحة: «وماذا تظن أن ذلك قد فعل بك؟» - «زج بي بين مختلف الناس، وأضف إلى ذلك خبرتي في مجلس الجامعة.»
وعلق على ذلك لفنجستون بقوله: «إن الميل الاجتماعي في أكسفورد إنما يعزى عادة إلى «العظماء» القدامى. وأقول العظماء القدامى؛ لأن أولئك الذين يدرسون العظماء المحدثين ويتقنون دراستهم يقرون بأنهم أضعف أثرا وأضعف نفوذا.»
وسأله هوايتهد: «وما هو - فيما تتصور - أثر العظماء القدامى في الإنسان؟»
فأجاب لفنجستون بقوله: «إن في كتاب «طبيعة التعليم الجامعي» لنيومان تعريفا للرجل المهذب، يشغل نحو ثلاث صفحات،
1
وهو يقرب من تعريف ما تسأل عنه أكثر من أي شيء آخر عرفت. ومما يزيد التعريف قوة أن نيومان لا يؤيد هذا الطراز من البشر الذي يصفه، ولا يترك عند القارئ شكا في ذلك؛ لأنه يذكر كمثال له الإمبراطور جوليان، ذلك المارق على الحق المسيحي، عدو التربية المسيحية، ثم روى ما يلي: «إن دين الرجل المهذب [الجنتلمان] يميل إلى الحرية والتساهل. إنه يقوم على أساس الشرف. الرذيلة شر؛ لأنها عديمة القيمة، ممقوتة، مزدراة.»»
وصاحت مسز هوايتهد قائلة: «مسكين نيومان، ذلك المخلوق الحساس، الأعزل، رقيق المشاعر! ومن ذا الذي يلومه؟»
قال هوايتهد: «لقد قابلته مرة.»
وسأله لفنجستون: «لكي تتحدث معه؟» - «نعم.» - «وهل تذكر ما قال؟»
وبدت أمارات التفكير لحظة على هوايتهد، ثم صاح فجأة قائلا: «كان ذلك من زمان بعيد جدا. عندي سؤال أريد أن أوجهه إلى قسيس من الجزويت.»
واقترحت مسز هوايتهد وهي تنهض من مكانها «أن يوجه السؤال من مكتبه». وتأجل الحديث لوقت ما.
وحفزه لفنجستون على الكلام حينما عدنا إلى المكتب. قال: «كان لديك سؤال تريد أن توجهه إلى قسيس من الجزويت.» - «أجل، هو هذا: «هل في السماء ضحك؟» إن انعدام الفكاهة في الإنجيل أمر يدعو إلى العجب.»
وأجاب لفنجستون قائلا: «لقد حاولت أن أعيد قراءة العهد القديم منذ برهة. إن كثيرا مما به رائع من جميع الوجوه، غير أن أجزاء منه ... هل تذكر هذه العبارة لأوسكار وايلد: «حينما أذكر كل ما جلبه لي هذا الكتاب من أضرار، يتملكني اليأس - مع هذا - من أن أكتب شيئا يقاس إليه.»»
وسأل هوايتهد: «ألم تكن عند اليهود روح فكاهية؟» - «حينما يكون الأمر جديا للغاية ، ألا نفقد شيئا منه إذا ضحكنا منه؟ ألا يقلل الضحك من قيمته؟»
وقال هوايتهد: «لننظر في الفنون. هل فيها فكاهة؟»
وكان من رأي لفنجستون أنه من العسير أن تلمس فكاهة في أعظم الفنون، كالتصوير الديني في إيطاليا لعهد النهضة. وقال: «إني أشك في أن الفكاهة تسير مع أعظم الفنون والأفكار.»
قلت: «إن في كوميديات أرستوفان ضحكا كثيرا، وفي كتبه فن ودين معا.»
وقال لفنجستون: «هذا صحيح، ولكني أعتقد دائما أن أرستوفان أحسن ما يكون في الأجزاء التي يمزح فيها.» - «والموضوع الأساسي الذي أختلف معك فيه هو أن الضحك صفة مقدسة، وأن انعدام الضحك في الديانات العبرية أمر خطير بالنسبة إلينا نحن الأجناس الأوروبية الشمالية؛ لأن الضحك يلعب دورا كبيرا في حياتنا، ونحن مرغمون على أن نلتمس الضحك خارج ديانتنا كلية تقريبا.»
وسأل لفنجستون: «وكيف يمكن أن نلتمس الضحك داخل الدين؟» - «لقد حدث ذلك. هناك كلية للفنون الحرة في إنجلترا الجديدة يجدر بي ألا أسميها؛ لأن الأمور كانت تسير فيها سيرا سيئا منذ عام 1920م حتى عام 1940م.»
وقال هوايتهد: «لقد أصبت القول في هذا. ولقد دعيت لإلقاء محاضرات هناك في عام 1930م، ولمست ذلك بنفسي.» ودهشت لما ذكر.
وقلت: «إذن فأنت تنفذ إلى الضمائر؛ لأنا نعني كلية واحدة. كان الطلبة خارجين على النظام، وكان يطلب إليهم حضور الصلاة في الكنيسة أيام الأحد؛ فإذا ما وجدوا الواعظ الزائر على غير هواهم (وكثيرا ما كان كذلك) سعلوا له لكي ينزل من المنصة، ولا يمكن صدهم عما يفعلون بأية وسيلة من الوسائل؛ ولكن كان هناك واعظ واحد يتردد كثيرا، ويستمعون إليه في سرور بالغ، وكان رجلا ذكيا، جادا جدا في مراميه الخلقية، وكان كذلك ذا روح فكاهية مرحة، وفيما بين عبارة جدية وأخرى كان يستطيع أن يثير في الطلبة الضحك الشديد؛ كانوا يعبدونه ... أما عن الضحك في الديانة الإغريقية، فلا ينبغي لنا أن نقف عند أرستوفان، إنه يرجع إلى عهد هومر، والجزء الأول من الإلياذة ينتهي بالآلهة وهي تضحك فوق الأولمب.»
وخضع لقولي لفنجستون، وقال : «هناك أثر من مسرحية هزلية مفقودة، نجد فيها أن برومثيوس يسرق النار من السماء، فتظن الأمساخ
2
أن تقبيلها شيء جميل، فيفعلون وتحترق لحاهم.»
واستأنف هوايتهد حديثه قائلا: «كان للعبريين رأي خلقي شديد الصرامة، وإن يكن في حدود ضيقة جدا، وذلك في «جمال القداسة»، ولا يلحق بهم أحد في هذا، غير أن الحدود غاية في الضيق.» (وخرجنا بعد فترة من الزمن بأمثلة متنوعة من الكتاب المقدس مما يمكن - لو وسعنا حدود التعريف - أن نفسره بأنه من باب الفكاهة. من تلك الأمثلة إليا وهو يعير أنبياء البعل بعجز آلهتهم، وقد أمر بذبحهم على أيدي مريديهم السابقين (سفر الملوك الأول، إصحاح 18، آية 40). ومثال آخر النبي يوشع وهو يدعو دبتين لتفترسا اثنين وأربعين طفلا عيروه بقراع رأسه (سفر الملوك الثاني، إصحاح 2، آية 24). ومثال ثالث هامان الذي صلب على خشبة ارتفاعها خمسون ذراعا كان قد أعدها لقتل مردخاي (أستير، إصحاح 7، آية 10). ومثال رابع حادث القديس بولس مع صائغي هياكل الفضة في أفسيس، وهو سخرية من الطراز الأول (أعمال الرسل، إصحاح 19، آية 24). ولكن يجب أن نقر أن هذه الأمثلة جميعا لا تبلع من الفكاهة ما يجعل المستمعين يغرقون في الضحك في أجنحة الكنيسة.)
وقال لفنجستون إجابة عن هذه الملاحظة الأخيرة لهوايتهد: «إن الإغريق كان عندهم كل ما كان ينقص اليهود.»
ومضى هوايتهد يقول: «إذا مسسنا هذا الموضوع من ناحيته الحديثة وجدنا أن «الموحدين» - فيما أظن - هم أقرب من وجد سبيلا لتطبيق الآراء المسيحية على العالم الذي نعيش فيه الآن، وأضم إلى الموحدين أولئك القوم المتدينين الذين يشبهونهم أشد الشبه، وأقصد «الطائفيين». وأقول عرضا إني قد تسلمت خطابا منذ بضعة أيام من راع أسقفي يقرظ فلسفتي ولم يسعني إلا أن أعتقد أنه أشد شبها بالراعي الإنجليزي في القرن الثامن عشر من حيث عمق تفكيره الديني منه براعي القرن العشرين ... استمع إلي.» قال ذلك وقد اتجه بغتة نحو لفنجستون: «سأسألك سؤالا شخصيا، حتى إن خرجت فيه على حدود اللياقة، وليست بك حاجة إلى الإجابة عنه إن لم تشأ : كيف أعطيت صوتك في الانتخابات الأخيرة؟» - «صوت مع العمال.» - «حسنا فعلت، وهكذا كنت أصوت لو كنت هناك.» - «حدث أن مرشحنا المحلي كان رجلا طيبا جدا.» - «كنت أصوت لمرشح العمال، حتى لو كان رجلا ضعيفا، اللهم إلا إذا كان جحشا كبيرا.»
وسألت مسز هوايتهد: «وهل توقعت النتيجة التي انتهت إليها الانتخابات؟»
قال لفنجستون: «كلا. إن أكثر ما كان يتوقعه أي امرئ - فيما يظهر - انخفاض شديد في عدد مقاعد المحافظين.»
وسألت: «وماذا دها حملة تشرشل؟» - «يظن أنه وقع بين يدي ليفربروك.»
وعادت إلى الكلام تقول: «لقد عرفنا تشرشل وتابعنا سيرته منذ حرب البوير، ويبدو أنه بطل من ناحية، وشديد الضجيج الفارغ من ناحية أخرى. هو رائع في القتال، ولكن إذا ما وضعت الحرب أوزارها، ظهر منه الضجيج الفارغ.»
وقال لفنجستون: «مما يدعو إلى الثناء حقا في الانتخابات البريطانية أن المرشحين لم يبعثوا الموتى من قبورهم ولم ينبشوا بحثا عن القضايا الميتة. وقد خرج بولدوين وتشمبرلين من مجال الجدل، والمرة الوحيدة التي أعرف أنه أشير إليهما فيها كانت إبان مناقشة في مجلس العموم بشأن إرسال القضبان الحديدية لميدان القتال من عندنا؛ فقال أحد الأعضاء: «اتركوا لبولدوين قضبانه، فهو في حاجة إليها لكي تحميه من الشعب!» وأغرقت هذه الملاحظة في صيحات الاستهجان، وكان مصدرها عضوا من المحافظين.»
ومضت مسز هوايتهد تقول: «إن شعبية تشرشل لم تضعف، فهو عند الشعب لا يزال «وني الطيب العجوز!» ويلقى من الهتاف عند ظهوره أمام الجمهور أكثر مما يلقى رئيس الوزراء العمالي. إن الشعب يعجب به ويكرمه، ولكنه لا يصوت له. وهذا عندي مظهر لا مثيل له من مظاهر الحكمة السياسية من جانب الناخبين البريطانيين.»
وقال لفنجستون، وهو - باعتباره أفلاطونيا - يعرف حق المعرفة النقد الصحيح ل «الرجل الديمقراطي».
قال: «أجل. وذلك مما يجعل المرء يعتقد في الديمقراطية.»
ووجه هوايتهد إلي الخطاب قائلا: «إلى أي حد يحتمل - في ظنك - أن يكون عليكم رئيس من الرجال العسكريين بعد هذه الحرب؟»
قلت: «لقد مرت بنا تجربتان كئيبتان في ذلك، لا تزالان ماثلتين حيتين في الأذهان.»
قالت مسز هوايتهد: «إن الجنرال ماك آرثر يجعل منهما مسرحية.» - «ربما كان ذلك، وهو كرجل عسكري يدعو إلى الإعجاب، ولكنه يتصف أيضا بالحس المسرحي، وهذا في الحياة العامة الأمريكية لا يلقى قبولا حسنا.»
وقال هوايتهد: «إن أيزنهاور شخصية عظيمة حقا. ما رأيك فيه؟»
لم يهتم أحد بالتنبؤ له.
ووجهت مسز هوايتهد خطابها إلى لفنجستون قائلة: «من التغيرات العظمى في العقلية الأمريكية التي ينبغي لك أن تضعها موضع الاعتبار، أن الأمريكان يعرفون الآن أن الدنيا ليست في أمان، حتى بالنسبة إليهم. أما نحن - من ناحيتنا - فلم نكن قط آمنين، وقد عرفنا ذلك في أكثر الأحيان، ما خلا فترة وجيزة في أخريات القرن التاسع عشر. ما أشد ما كان في العالم آنئذ من أسباب الراحة، وقد اختفى هذا العالم! أقصد عالم الملكة فكتوريا. لقد باتت ذكراها اليوم أسطورة من الأساطير.»
وسأل هوايتهد وقد عاد بغتة إلى حديثنا عن الفكاهة: «هل عرف عن الملكة فكتوريا أنها ألقت مرة نكتة فكاهية؟»
وروى لفنجستون ما يلي: «إنها لا تسلي، ولكن لديها على الأقل روحا فكاهية سلبية؛ فقد كانت تعرف ما لم يكن - في ظنها - فكاهيا.» - «ولكنها قالت مرة: إن مستر جلادستون يخاطبني كأني مجتمع عام.»
قالت مسز هوايتهد: «نعم، ولكن هل كانت تعرف أن هذه الملحوظة فكاهية؟»
وقال هوايتهد: «ألم تكن الطريقة التي يتصل بها «دزي» بالملكة شائنة. إن شهرة دزرائيلي مثال من الانفصال السياسي يسترعى الانتباه، لم يكن محبوبا من الشعب، ولكنهم عرفوا أنه قدير وقبلوا أن يكون لهم ممثلا سياسيا.»
ورنت ساعة برج مموريال هول الثالثة، وكان هناك قطار بعد الظهر إلى تورنتو لا بد أن يستقله سر رتشارد. ووقفنا، لكي نستأذن في الانصراف.
وسأل هوايتهد متلطفا: «هل تشعر بالإهمال إذا لم يتقدمك بعد اليوم امرؤ يحمل محرك النار؟» وكانت الإشارة إلى حفل توزيع الدرجات في أكسفورد حينما يدخل موكب العلم مسرح شلدونيان، وتتقدم نائب المدير فيه الصولجانات المرفوعة رمزا للسلطة.
وأجاب لفنجستون بقوله: «إن أطفالي يسلون أنفسهم بسؤالهم لماذا لا أدور وأسير في الاتجاه المضاد. ويقول مسجلنا في الوقت عينه - وهو رجل ذو خبرة طويلة في هذا - إن عادة الوقوف عندما يدخل نائب المدير على اجتماع هبدومادال لها أثر حسن فعلا في مباشرة العمل جديا. إن للطقوس مكانة في الحياة. والاحترام قد لا يكون لشخصية ما، أو حتى لنظام من النظم، ولكنه قد يكون للآراء التي ينطوي عليها الاحتفال.»
المحاورة الثالثة والأربعون
11 من نوفمبر 1947م
عيد الهدنة. قضيت المساء مع آل هوايتهد، وكانت عاصفة من عواصف الخريف تهب في الخارج، مصحوبة بريح شديدة في قوة الزوابع، وأمطار غزيرة.
وظهرا لي في أول الأمر على شيء من الارتخاء، ولم يكن ذلك محل عجبي لما عرفت أن زوجة ابنهما، مسز نورث هوايتهد، قد لاقت حتفها بعد مرض عضال طال معها، وتحتم على مسز هوايتهد نفسها أن تذهب إلى بيت فلبس، في زيارة لمستشفى ماساشوست العام، لتحضر عملية تهدد بالخطر العاجل. وقد أشارت إليها ببرود ب «عمل المشرط». وقبل أن يخرج هوايتهد من مكتبه حيث كان في غفوة يسيرة من النعاس، قالت لي على حدة إن الخبر كان أشد وقعا على نفسه منه عليها. - «إنه يستطيع أن يجابه هذه الأمور عندما تقع، ولكنه لم يعد لديه احتماله السابق، وأمثال هذه الأمور تفقده الاحتمال بعد مرورها. وها أنا ذا كعادتي - أو كعادتي تقريبا - ولكني في صحبته.» ثم كفت عن الكلام قليلا ورمقتني بنظرة فيها شيء من السخرية وقالت: «ربما ظننت أنهم أحرقوا جثتي وبددوا رمادها!»
وكانت حجرة الجلوس مليئة بالأزهار؛ أقحوان أصفر وبرونزي، وزهر الخزامي، منسقة بطريقة فنية مع أعواد السعف الخضراء. وتحدثت عن هذه الزهور فقالت: «نعم، إنني مدللة، وإنني لأحبها! وقد تحسبني ممثلة سينمائية لو عرفت الطريقة التي تأتيني بها الأزهار.»
ثم نهضت، واتجهت نحو مكتبتها المصنوعة من خشب الماهوجاني، وأخرجت حزمة من الرسائل، وقالت: «أود أن أخطرك بأمر من الأمور، وإن كنت لا أريد أن يذكر عنه في الوقت الحاضر شيء ما.» وأخذت تفض الرسائل وتتصفحها، وهي تتحدث إبان ذلك : «تعلم أن إيرادنا
ولكني استطعت أن أدبر الأمر، وما أريدك أن تعرفه هو أن مدير البنك الذي نحتفظ فيه بحسابنا قد تسلم ثلاث مرات خلال الحرب صكوكا مالية معتمدة من مجهول لكي تودع لحسابنا، والمبلغ المحول هو بعينه في المرات الثلاث، ثلاثمائة دولار. وسألته هل يعرف المرسل. قال: لا، ولكنه يستطيع أن يتصل بالبنك الآخر. ولم نستطع أن نقبل عطايا من مجهول بطبيعة الحال، ولكني سألت إن كان من الجائز أن تكون سدا لدين نسيناه أو فضل أديناه، وأجاب قائلا: «ربما كان الأمر كذلك.» كلا. إن شيخوختنا لا تسمح لنا بذلك، وبلغنا اعترافنا القلبي بالجميل، ولكنا لم نستطع أن نقبل ... إني لا أستطيع أن أجد الرسالة التي أبحث عنها. هل يحدث لك أن تحفظ الأشياء ثم تفقدها؟» - «ليس هذا محل سؤال! في الربيع الماضي عدت إلى وطني بهدايا من أكسفورد حفظتها بعناية، وها نحن أولاء في شهر نوفمبر ولا أستطيع حتى الآن أن أعثر عليها.» - «إنك بذلك تشجعني ... كم كنت أود أن تقرأ الرسالة، ولكني أستطيع أن أنبئك بما فيها. أرسل مجهول إلى الكلية منحة مالية للتفوق في الدراسة، وأراد أن تعرف باسم منحة ألفرد نورث هوايتهد، ويبلغ ربع المبلغ المقدم ألفا ومائتي دولار في العام يدفع لألفرد ما بقي حيا، ويدفع لي بعد مماته، ثم يدفع بعد ذلك للطالب صاحب المنحة. وأشد ما يؤثر في كلينا السخاء في الهبة، وكذلك اللباقة والرقة في الطريقة. وقد دفع المبلغ للكلية، فتحتم بذلك قبولها، ولم يعد لنا في الأمر رأي، وأشد ما سر له ألفرد هو أن الهبة تترك علاقة دائمة بين اسمه والكلية في صورة حية.»
ثم أضافت قولها: «المنحة ثلاثون ألف دولار، وربحها أربعة في المائة.»
ولم نستطع أن نتكهن باسم الواهب، غير أنا فكرنا في احتمالين أو ثلاثة.
ثم قالت: «هذه هي الرسالة.» ونهضت وأعادت الأوراق إلى المكتبة وعادت إلى مقعدها وأشعلت سيجارة. ودق التليفون. فقالت: «من يكون الملعون !» وردت عليه، غير أن المفاجأة كانت سارة لها؛ لأن المتكلم كان شخصا عزيزا عليها. ولما انتهى الحديث قرعت باب المكتب ودخلت في رفق، وتحدثت بصوت منخفض، قالت: «إن لوشيان هنا، لا تقفز، وتريث بضع لحظات قبل أن تنهض.»
وسرعان ما خرج من مكتبه، ولم يتيقظ بعد تمام اليقظة، ولكنه بعدما غسل وجهه بالماء البارد عاد إلينا معافى.
وأحسنا استقبالي. والظاهر أنهما كانا يتوقعان زيارة رسول من لدن ناشره، ومعنى ذلك أن ممثلا من الشركة الإنجليزية قد أتى في صحبة رجل من الفرع الأمريكي.
قال: «الأمر العاجل هو أنهم يفكرون في إصدار طبعة من مؤلفاتي تصلح لقراء الأتوبيس.» - «وهل يدخل في ذلك كتابك «التطور والواقع»؟» - «جزء منه ...»
قالت: «إنا نؤثر أن يطبعوا المؤلف كله أو لا يطبعون البتة شيئا منه، بدلا من أن يطبعوا مقتطفات من المؤلفات كلها انتقاها الناشرون. ولشد ما كان إحساسنا بخيبة الأمل حينما وجدنا أن الناشرين قد أخذوا على عواتقهم أن ينتقوا المقتطفات، فكانوا أحيانا يحذفون فصولا بأسرها.» - «ولماذا يطبع كل ... الضخم، لست أدري ماذا أسميه؟» - «وما تظن كان جواب ألفرد؟» - «ماذا قال في أمر كهذا؟» - «قال لا شك أنهم أصلحوه ...!» - «كنت دائما أقول إنه أطيب روحا مما يتطلب هذا العالم. ومن الأنباء العجيبة أن يعاد طبع كتاب «التطور والواقع» في أية صورة من الصور. إنني لا أستطيع أن أحصل على طبعة في مجلد واحد. وقد أعلنت مكتبة «الركن القديم» عن نسخة لي في الشهرين السابقين، وأذكر أنك قلت لي إنه الكتاب الذي أردت أن تكتبه أكثر من أي كتاب آخر.»
قال: «كتبت في مقدمته شيئا ينبغي أن يتكرر في الفقرة الأولى من الفصل الأول، كما يتكرر في مواضع متلاحقة في غضون الكتاب كله؛ وذلك أني شديد التأثر بعجز أية محاولة بشرية تماما عن التعبير عن مثل هذه الآراء الفلسفية، وما أبعد هذه العمليات العالمية عن أفق تفكيرنا. إن كل ما يستطيعه المرء - حينما يجسر على الخوض في هذه الموضوعات - أن «يتقدم بمقترحات».» - «هل صحيح أن طبعة في مجلد واحد من كتابك «أهداف التربية» قد أعيد إصدارها في إنجلترا؟»
قالت: «نعم. وقد أرسلوا إلينا نسخة منها.» - «هذا نبأ آخر سار؛ لأن بضعة من أصدقائي على الأقل، من النظار ومن إليهم، كانوا يسعون في الحصول عليه.»
قال: «سأعطيك هذه النسخة.»
وتوجه إلى مكتبه، وعاد بها، وألقاها في حجري، وكانت الصور هي الأصلية قطعا (والشركة إنجليزية) غير أن التجليد باللون الأزرق الداكن كان يختلف عن الغلاف القرمزي الذي صدر فيه الكتاب في طبعة عام 1928م، وكان يفضله. ولما تقدم المساء كتب إلي الإهداء.
وقالت مسز هوايتهد: «لقد قضينا وقتا سعيدا مع مندوبي الناشرين، ما خلا برهة واحدة كانت رهيبة. ماذا تظن أن الناشرين أرادوا أن يفعلوا؟ أن يطبعوا صورة فوتوغرافية لألفرد على غلاف مجلة «لايف»!» - «يا إلهي!»
قالت مقطبة جبينها: «تصور وجه ألفرد يباع في الطرقات.» - «وكيف خرجتم من هذا المأزق؟» - «قلت لهم برفق شديد إنه آلى على نفسه طوال حياته ألا يسمح بالمقابلات الصحفية، وألا يصور للصحافة، اللهم إلا في العيد المئوي الثالث لهارفارد بطبيعة الحال، حينما صور جميع الطلاب القدامى.» - «لا أستطيع أن أتصور ألفرد ملتحقا بزمرة هواة الإعلان!»
وعادت إلى حديثها قائلة: «لقد حسنت نيات مندوبي الناشرين في هذا، فوافقوا على التخلي عن الموضوع.» - «ومتى تظهر طبعة «الأتوبيس»؟» - «لا ندري. إنهم لم يعطونا فكرة عن ذلك.»
وقال هوايتهد وقد رمقني بنظرة خبيثة: «في ظني - وإن كنت لا أدري، وربما لا يليق بي أن أقول ذلك - إنهم يرمون إلى تأجيل النشر إلى ما بعد مغادرتي هذه الكرة الأرضية بقليل.»
وقالت زوجته: «إن كان الأمر كذلك، فأنا أشك في حكمهم. إن كانوا يريدون رواجا باسم هوايتهد فإنما يكون ذلك اليوم. هل رأيت المجلد الجديد للمقتطفات؟» - «نعم. وقد وصلتني حتى الآن ثلاث نسخ.» - «وما رأيك فيها؟» - «أعتقد أنهم قد أجادوا الاختيار.»
قالت (فطنة هوايتهد وحكمته): «يا له من عنوان! إني أسلم بالفطنة، وبشيء من الحكمة، ولكن ...» - «ليس العنوان جديدا كل الجدة؛ فقد استعمل لمقتطفات من جورج إليوت أثناء حياتها، كما استعمل مرة أخرى لمقتطفات من جورج مرديث خلال حياته. وليس من شك في أن الجناس في ألفاظ العنوان (وهو واضح بالإنجليزية) كان إغراء لهم لم تمكن مقاومته، ولكني عندما تصفحت المجموعة آمنت بأن المختارات قد اقتبست بعناية ومهارة، وقد تذكرت الكثير منها، بيد أني لم أذكر بعضا منها، والنتيجة أني سأقوم بما أظن أن المقتطفات ستدفع الكثيرين إلى القيام به، وهو أن أرجع إلى الكتب نفسها.»
وكان العشاء فاخرا جدا، وذكرهم هبوب الرياح وسقوط المطر فوق النوافذ، بالبيت المكشوف، في برود ستيرز، حيث التقيا أول الأمر؛ لأن عمة ألفرد، سوزان، كانت تقطن هذا البيت، وكان ذلك بعد إقامة دكنز فيه بزمن طويل. ولقد كان البيت مكشوفا حقا؛ لأن البناء كان مرتفعا، ضيقا، ومكشوفا للعراء. وبالرغم من أنه كان مشيدا من حجر الصوان، إلا أنه في أمثال هذه الليالي كان يهتز من العواصف التي كانت تهب من بحر الشمال. وقيل إن سفنا كثيرة كانت ترتطم وتتحطم عند هذا الرأس.
وانتقلا بخيالهما من «البيت المكشوف» إلى أبرشية رامزجيت.
وقالت مسز هوايتهد: «كان هذا البيت مشيدا من الطوب، وكانت به أشجار جميلة، تحوطه أراض فسيحة، وبه حديقة غناء، في أسفلها - كما كان معروفا - كهف عميق.» - «هل كانت جدرانه من الصخر؟» - «كلا، بل كان في حجر الطباشير.» - «وهل كان مدخل الكهف يفتح فاه في حديقتكم؟»
قال هوايتهد: «كلا. إنما كان الدخول إليه عن طريق مكان العربات العامة.» - «ما أشبه ذلك بمسرحية الفروسية التي تتخللها الأشجان. هل كان داخل الأبرشية شائقا؟»
قالت مسز هوايتهد: «أجل، لم يكن قوي التأثير، وإنما كان شائقا؛ كان به بهو (صالة فسيحة)، بالرغم من أن السلم لم يكن بحالة جيدة، وكانت هذه الصالة مبنى جديدا أضافه سلف من أسلاف الأب، ولكن السلم القديم كان جميلا، وقد نقل ثانية إلى جناح الخدم. كان الداخل بطبيعة الحال ينم عن الروح الديني. كانت غرفة الطعام شديدة الظلام، وكان المطلوب في غرف الطعام أن تكون موحشة، بيد أن ظلام الغرفة أظهر أدوات الأسرة الفضية ، وكان هناك منها الكثير.» - «ما هي تلك القصة الشائعة التي كنت تقصينها للفنجستون هنا ساعة الغداء عن تيت رئيس الأساقفة وابنه؟ ما أكثر ما حدث في الساعات الأربع الماضية حتى إني لا أستطيع البتة أن أتذكرها.»
قالت ضاحكة: «إنها قصة ألفرد. وقد كان هناك، ولم أكن، وإن كنت أجيد معرفتها كأني كنت ...»
قال هوايتهد: «كان تيت رجلا عظيما جدا، وكان ينبغي أن يكون رئيس وزراء بريطانيا العظمى، ولكن القدر أخطأ التوجيه، فالتحق بالكنيسة بدلا من ذلك، وأصبح رئيس أساقفة كانتربري. ولما كان شديد الجوار بنا في مسكنه فقد أمسى من أصدقاء أبي الأعزاء، وكثيرا ما كان يزور بيتنا، وكان أحيانا ينطلق راكبا بعد صلاة الصباح من كانتربري لكي يتناول العشاء يوم الأحد في الأبرشية، وفي هذا اليوم بالذات اصطحب الأسقف جور من أكسفورد، وهو رجل قد وجد دينه، وكنت في ذلك الحين في الثامنة عشرة من عمري، فكنت أدرك تمام الإدراك أن تيت رئيس الأساقفة كان يشغل المراكز ذات المرتبات الطيبة بأقاربه. ولما سمعت الأسقف جور يسأل مسز تيت - لكي يخلق حديثا للمائدة - قائلا: «أية مهنة يميل ابنك إلى الالتحاق بها؟» أدركت أنهما كانا في مركز ضعيف، ثم كانت فترة سكون. وانحنى جور فوق المائدة متوسلا إجابة عن سؤاله، وأصغيت في شغف إلى الجواب. قالت ليدي تيت: «لقد فكرنا في احتمالات كثيرة، ولكنها كلها تدور حول محور واحد فيما يبدو؛ فنحن نعتقد أن ابننا العزيز جوردون ينبغي أن يلتحق بسلك رجال الدين.» ثم كانت فترة سكون أخرى. ثم قال جور، وكأنه يحدث نفسه: «حسنا!»»
ولما نهضنا تساءلوا عما إذا كان وباء التهديد باشتعال الحرب الذي تثيره الصحف قد فترت حدته، وكل ما استطعت أن أقوله هو أننا لم نشتبك في قتال مع روسيا منذ ست وثلاثين ساعة.
وقال هوايتهد: «إذا كانت هذه البلاد أو تلك تشعل حربا بهذه الأسلحة الجديدة، فقل على المدنية السلام. إنها لن تهلك الجنس البشري، ولكنها سترد المدنية إلى الوراء آلاف السنين.» - «هل ترى شخصية ضخمة خلف مثل هذه الكارثة؟» - «تلوح لي أشباح ستة من الرجال البارزين فقط.» - «هل تستطيع أن تلمح من بعيد ستة من أمثال هؤلاء في الأفق؟» - «إنهم لا يلوحون في الأفق، إنما يبدون بين ظهرانينا، ولا يمكن تمييزهم على الفور.» - «هل أعترف لكم؟ إنني أمارس أعمالي التي اعتدتها، بين أصدقائي، ووسط ما ألفت من مناظر، وكلي إحساس بالريبة، إحساس بأن كل ذلك قد يتفتت ذرات خلال السنوات القليلة القادمة.»
وقالت مسز هوايتهد: «وأنا كذلك عندي نفس هذا الإحساس.»
فقال هوايتهد: «اسمعوا مني ما أقول لكم. إذا فكرتم في تاريخ روسيا الماضي، ومن هم الروس، وما احتملوا تحت القياصرة، واتساع رقعة بلادهم، وكثرة عددهم؛ يبدو لي أنه لا بد من الاعتراف أن حكومتهم الحالية هي أحسن ما يمكنهم الوصول إليه، وهي تفضل بكثير أية حكومة من حكوماتهم السابقة. إن هذه الفكرة: «أن كل ما نحتاج إلى عمله هو أن نعطي لكل امرئ حق التصويت، في أي جزء من أجزاء الأرض، مهما يكن تاريخه الماضي وحشيا، ومهما كان شعبه متخلفا»؛ فكرة سخيفة.»
ثم أضاف إلى ذلك: إنه بالرغم من أن الأسلحة الحديثة - وبخاصة القنبلة الذرية - قد جعلت كل أساليب الحرب السابقة بالية كالقتال بالأيدي أو العصي، إلا أن هذه الفكرة «لم يدركها الرجال العسكريون، بالرغم من كل ما يتشدقون به عنها، كما لا يكاد يدركها أي فرد آخر. خذ هذه الغرفة مثلا؛ إنها تبدو صلبة مستقرة، وكنا نحسبها كذلك؛ والواقع أنها معمعان ثائر من الحركة، وليس فيها شيء قط ثابت، إنها في تغير دائم بنسب مختلفة في السرعة، وفي انحلال وتفكك، قد يمتد من بضعة أسابيع إلى آلاف السنين، وهي في طول الزمن لا شيء. لا يكاد يدرك أي فرد أن عالمنا قد تغير منذ عام 1900م تغيرا لا يمكننا معه التنبؤ بالمستقبل بتاتا، وكل محاولة لتطبيق معايير الماضي على الحاضر غاية في الخطورة. لقد انتهى القرن التاسع عشر تماما بحلول عام 1880م وما بعده، وكانت السنوات فيما بين عامي 1870م و1880م هي آخر عقوده الخصبة، ولم يكن عام 1914م إلا الضربة النهائية لما تراكم من آثار، ولكنا اليوم في عصر التغير فيه أخطر بكثير من ذلك الذي قضى على القرن التاسع عشر.»
وبطريق غير مباشر سألته أهو قد أحس في أي وقت مضى بتسلط قوة عليه من خارج نفسه وهو يكتب.
قال: «كنت في كل ما كتبت أحاول أن أعبر عن الإحساس العام.»
وتحدثنا عن «أنصاف الحقائق» فمضى يقول: «إن الناس يخطئون حين يتحدثون
... وأكثر من ذلك، أرانا متمسكين أكثر مما ينبغي بفكرة الحجم؛ نقيس كل شيء بالنسبة إلى أجسادنا. ومما كشفه العلم عن الصغر اللانهائي والاتساع اللانهائي، نجد أن حجم أجسامنا لا يكاد يكون له البتة صلة بالقياس الصحيح. إن في هذا الحامل المصنوع من خشب الماهوجاني [ومسه بيده] قد توجد مدنيات معقدة متنوعة في مداها كمدنيتنا. وتلك السماوات العلا، بكل رحابتها، قد لا تكون شيئا سوى جزء يسير من نسيج عالم ليست أكواننا كلها شيئا يذكر بالقياس إليه. لقد بدأ الإنسان منذ عهد قريب فقط، لا أن يدرك هذا الاتساع، لأننا لا نستطيع الإحاطة به، وإنما يدرك أن هذا الاتساع موجود، وأنه يقضي على كل مقاييسه السابقة. إن الخطر في المعرفة الميتة. والمعرفة الميتة خطر يتميز به خاصة البحث العلمي والجامعات. والعجيب أن لها احترامها الشديد؛ فإن «عرفت» الكثير رأى الناس في ذلك الكفاية، في حين أن المطلوب هو «الحركة مع وجود المعرفة»؛ وجهات نظر مستحدثة، المعرفة مطبقة على الخبرة.»
وسألته أيعتقد أنه تعلم من الكتب أكثر من الناس، أو من الناس أكثر من الكتب؟
فقال: «أعتقد أني تعلمت من الناس أكثر مما تعلمت من الكتب بكثير.»
وصاحت مسز هوايتهد ونحن نتحدث في ذلك قائلة: «إنما تتكلمان أيها الرجلان
وأدركنا أنها غلبتنا في الجدل، فتراجعنا من ميدان العراك مخذولين، وعاد هوايتهد إلى موضوعنا يشرحه بصورة مختلفة.
قال: «يدهشني عجز اللغة عن التعبير عن آرائنا التي نعيها، وعجز تفكيرنا الواعي عن التعبير عما في عقولنا الباطنة. إن أشد عيوب الفلسفة هو أنها تفترض أن اللغة وسيط دقيق. إن الفلاسفة يعبرون باللفظ ثم يفترضون أن الفكرة قد تقررت إلى الأبد. وهي حتى إن كانت قد تقررت بحاجة إلى إعادة التقرير في كل قرن، بل في كل جيل. ولقد كان أفلاطون الفيلسوف الوحيد الذي عرف الحقيقة أكثر من غيره ولم يقع في هذا الفخ، وحينما كانت تخونه الوسائل المعروفة، كان يقدم لنا أسطورة من الأساطير، فلا يتحدى بها دقة المعرفة، ولكن يثير بها الأحلام. الرياضة أقرب ما تكون إلى الدقة، وهي أقرب ما تكون إلى الحق، وقد يشيع استخدامها بعد ألف عام كلغة كما نستخدم الكلام اليوم. إن أكثر ما نفكر فيه وما نقول بعقولنا الواعية وبكلامنا ضحل سطحي، وفي اللحظات النادرة فقط يظهر في الفكر الواعي أو في التعبير ذلك العالم الأعمق الأوسع؛ وتلك هي اللحظات الجديرة بالذكرى في حياتنا! حينما نحس - حينما نعلم - أننا لسنا سوى أدوات لقوة أعظم من أنفسنا، لأغراض أعلى وأبعد مدى من أغراضنا. وتكثر هذه اللحظات عند العباقرة، ولكن كل امرئ تقريبا تمر به لحظات قلائل يشرق فيها هذا الضياء. وللشعراء أهمية هنا؛ لأنهم يعبرون عن هذا الوحي العظيم بالألفاظ أفضل مما يعبر عنه أكثر الفلاسفة في أكثر الأحيان، وفي ألفاظ - مهما كان قصورها - تثير برغم ذلك وبطريقة ما في القارئ وفي المستمع نوعا من الإحساس المقابل للانهائية الفكر أو الشعور أو التجربة التي يتحدث عنها الشاعر. وأنا أقصد بطبيعة الحال أعظم الشعراء وحدهم.» - «هل ينبغي للشعراء أن يعرفوا كثيرا؟» - «كان ينبغي لبعض الشعراء أن يعرفوا أكثر مما عرفوا (وبخاصة شعراء العصر الحاضر)، وبعض الشعراء الآخرين كانوا يصبحون شعراء أفضل لو قل ما يعرفون. كان شكسبير يكتب شعرا أفضل لأنه لم يعرف كثيرا. وأعتقد أن ملتن كان في معرفته أدق مما يسمو بشعره.»
وقالت مسز هوايتهد: «وهل تذكر صديقنا القديم والتر رالي؟» - «نعم أذكره. وكنت دائما تقولين إنه كان ينبغي له أن يكون شاعرا، لا رئيسا لجامعة.» - «وما زلت عند رأيي؛ فلقد كانت لديه أمثال هذه اللمحات اللانهائية، وله رباعية نشرت منذ سنوات - وإني لأذكر أين نشرت (في وستمنستر غازيت) - لصقت بذاكرتي بصورة لا تمحى.»
ثم روت ما يأتي:
قف على هيكل الدنيا،
وارقب تقلب العالم،
حيث تلقى السكاكين والكرات النارية،
ويسمو الله فوق نجم الدب في السماء ...
وتقدم المساء، وضربنا في الليل أكثر مما ظننت، وكانت عاصفة الخريف لا تزال تهطل الأمطار مدرارا خارج البيت، وكلما تقدم المساء تردد علي هذا الخاطر؛ وهو أن زيارتي الأولى لهما في كانتون منذ أكثر من اثني عشر عاما كانت في السادس من أبريل، يوم الذكرى السنوية لدخولنا في الحرب العالمية الأولى، وأن اليوم هو يوم الهدنة، وهو عيد آخر للذكرى. وضايقتني هذه الفكرة قليلا؛ لأني كنت في كل مرة أراه في هذه الأيام الأخيرة أخشى أن تكون المرة الأخيرة. وأبعدت الخاطر عن ذهني؛ لأنه في بداية المساء بدا لي ضعيفا مجهدا، ولكنه عاد الآن يتكلم بحماسة الشاب عن القوة الخالقة في الدنيا: «كان من الخطأ - كما حاول اليهود - أن نظن أن الله قد خلق العالم من الخارج دفعة واحدة؛ خالق بكل شيء عليم، استطاع أن يخلق العالم كما نجده اليوم. ماذا نظن بمثل هذا الكائن؟ إنه بكل شيء عليم. وهو - برغم هذا - يودع في العالم كل ضروب النقص، التي تتطلب للخلاص منها أن يرسل ابنه الأوحد إلى الدنيا يكابد فيها العذاب والموت الشنيع. يا لها من آراء مثيرة! لقد كانت الديانة الهلينية محاولة أفضل من هذه. تصور الإغريق الخلق قائما في كل مكان وفي كل زمان داخل الكون. وأعتقد أيضا أنهم كانوا أسعد بعقائدهم في الكائنات غير الطبيعية التي تتجسد فيها تلك القوى المختلفة ، التي كان بعضها خيرا، وبعضها الآخر شرا؛ لأن هذين النوعين من القوى موجودان، سواء شخصناهما أم لم نشخصهما. وفي الكون ميل عام لإنتاج أشياء لها قيمتها، وهناك من اللحظات ما نستطيع فيها أن نعمل مع هذا الميل، ويستطيع فيها هذا الميل أن يعمل من خلالنا، ولكن هذا الميل في الكون إلى إنتاج أشياء لها قيمتها ليس قادرا على كل شيء بأية حال من الأحوال؛ فهناك من القوى ما يعترض سبيله.
الله كائن في الدنيا - وإلا فهو ليس موجودا - يخلق دائما فينا ومن حولنا. وهذا المبدأ الخلاق كائن في كل مكان، في المادة الحية وما يسمى بالمادة غير الحية، في الأثير، في الماء، في الأرض، في قلوب البشر؛ ولكن هذا الخلق عملية مستمرة، والعملية هي نفسها الواقع؛ لأنك ما تكاد تصل حتى تبدأ رحلة جديدة، وبقدر ما يشارك الإنسان في هذه العملية الخلاقة، يشترك مع السماء، مع الله. وهذه المشاركة هي خلوده، وهي التي تجعل هذا السؤال: «هل تبقى شخصيته حية بعد موت جسده»؛ سؤالا غير ذي موضوع. وفيما قدر له حقا كمشارك للخلق في الكون كرامته وعظمته.»
خاتمة
تتحدث مسز هوايتهد فتقول: «كنت في ليلة عيد الميلاد أنثر أزهار العيد ونبات الدابوق
يساوي شيئا.» فقال: «أعلم ذلك، ولكن ماذا يهمنا من ذلك؟» ولم يكن يهمني في الواقع من الأمر شيء ما؛ فإنه لم يعد يعيش فيه من زمن بعيد، بل ربما لم يعش فيه قط. وفي يوم عيد الميلاد اجتمعت أسرتنا كعادتها، وفي اليوم التالي أحس بالمرض، وفي هذا اليوم أتته العلة، وشهدتها بنفسي؛ فقد رفع يده اليسرى ثم أسقطها ليقول لي إنه كان على علم بها؛ لأنها كانت بالفعل نصف مشلولة. وعرفت أن النهاية لم تكن ببعيدة.»
امتدت حياته أربعة أيام، ولكن دون أن يسترد وعيه، ومات في اليوم الثلاثين من شهر ديسمبر من عام 1947م، وهو في السابعة والثمانين من عمره. «وهكذا كانت نهاية صديقنا يا ككراتس. وأستطيع حقا أن أقول عنه إنه من بين جميع الرجال في عهده ممن عرفت كان أحكمهم وأعدلهم وأفضلهم.»
Неизвестная страница