وحتى مناكو، هناك نزلت من العربة وارتقيت مرتفعا ثم سلما حتى وصلت إلى قصر حكومة الإمارة (إمارة مناكو المستقلة)، هناك وجدت ساعة تطل على البحر المتوسط من ناحية، ويحيطها المباني الممنوع الدخول إليها من أخرى، ومدافع صغيرة كالتي ترى في ساحة عابدين مصوبة إلى البحر لا أدري لم، ربما كان لإطلاقها عند المواسم والأعياد؛ إذ لا أظن أن قد جال برأس أهل مناكو أن يدفعوا مهاجما لمملكتهم لأنه لا يجول في رأس أحد أن يهاجمها.
وتركت مناكو وذهبت بترام آخر إلى منتكارل، ولقد كان أشد دافع لي على زيارة هذا البلد حبي الفرجة على كازينو القمار فيها، ولكني للأسف لم أقدر، فلقد طلبوا مني جواز سفري، ولما رأوني على ما سطر فيه لم أبلغ الثالثة والعشرين أبدوا أسفهم أن قوانين الكازينو لا تسمح بدخوله إلا لمن كان فوق هذا السن، وبذلك خرجت مضطرا أن أقنع بمنظر البناء الفخيم من الخارج ثم أن أجلس على قهوة قامت أمامه، وأمامها قامت حديقة مستديرة تقف حولها العربات القليلة والأوتومبيلات الكثيرة وكلها تشعر بالثروة الوافرة، هناك نسيتك يا أخي - ولا مؤاخذة - ونسيت ما تسأل عنه، ثم التفت إلى أمامي فإذا ألماني لا يحسن إلا كلمات من الفرنساوية، استطعنا على كل حال أن نتفاهم بها ونمضي سويعة معا، وهو لا يدخل الكازينو لأنه يخاف أن ينقاد إلى اللعب فيضيع ما بقي معه بعد أن أضاع الشطر الأوفر، وأنا لا أدخله حتى لأتفرج عليه لأن سني لا تبلغ الثالثة ولعشرين فلا أستطيع.
هذه الجهات، نيس ومنتكارل والريفييرا كلها ملأى بالألمان وبالإنجلو ساكسون من الإنكليز والأمريكيين؛ لذلك كنت لا أكاد أسمع كلمة فرنساوية فيما حولي وأنا على القهوة، بل كله دردشة ألمانية لا أفهمها، وإنكليزية لا تكاد تخرج من أفواه أصحابها المقفلة فلا أتميزها.
وأخذت الترام الراجع توا إلى نيس، هنا كان موضع إعجابي إلى حد الذهول، في هذه المدة التي استغرقت نحو ساعة أنسيت خلالها كل شيء سوى ما كنت فيه، وهذا المنظر البديع الذي جادت علينا به الشمس في غروبها جعلني أتوه على الفكر في أي شيء غيره، ودفعني حين أردت أن اكتب لك إلى ترك السياسة وما سوى السياسة لأتلذذ بتسطير هذه المناظر المتعاقبة التي رأيت والتي احتلت من نفسي أكبر مكان.
ولكن هل أستطيع أن أعبر لك عما رأيت، هل يستطيع قلمي أن ينقل إلى هاته الصحيفة أمامي الجمال البارع المهيب، كلا يا صديقي إنه لعاجز.
في هذه الساعة التي أكتب لك تمر أمام مخيلتي الجبال والبحر والزهور وقرص الشمس كما رأيت من ساعات، وأريد أن أطبع لك صورة لنفسي فهل أنا على ذلك قدير؟ ... لأجاهد على كل حال.
أخذت الترام من منتكارل وأنا كما قدمت بين جماعة من الألمان والإنكليز، وسار بنا يحاذي الشاطئ فإلى شمالنا يذهب البحر المتوسط بزرقته البديعة تتكسر على سطحه موجات خفيفة، وينحدر الشاطئ من حين لحين مغروسا بالزهور تبعث للهواء بريحها العطر فتملأه رقة وشبابا، وعن اليمين الجيل قائم محدد الوجه أحيانا حتى ليكون قاسيا ومغطى بالزهر أخرى فيصبح ساحرا.
والترام يشق بنا هذه الجنات ونحن بها مسرورون، فلما اجتزنا فل فرانش إذا ضجة في العربة تلاها سكون عميق، وامتدت الأبصار إلى الغرب ذاهلة وفتحت الأفواه وعلا الموجودين الذهول، وتهت أنا عنهم وعن نفسي وجعلت أحدق بعيون ثابتة لهذه الشمس البديعة، هذه الشمس التي أرى الآن أمامي وهي مرتكزة بأسفل قرصها على الجبل كأنها منهوكة من أثر النهار، وقد ارتفع الدم واللهب إلى هذا الوجه الذي ظل سائرا حتى هده اللغوب، والجبل لفه شيء من ضباب تلك الساعة مهوب هائل يحمل القرص البديع وكأنه أشد ما يكون بذلك سرورا ونشوة.
والقرص الملتهب قد بعث إلى ما حوله بلون وردي بديع، وطوق السحب المشتقة في السماء بأطواق من لونه فصارت كأنها في حلقة من نار أو سوار من ذهب، وكلما ابتعدت تغير لون سوارها مائلا إلى البياض.
والشمس في تلك اللحظة أبدع من كل ما نتصور، ألا ليت تلك الساعة دامت إلى الأبد، لا نهار ولكن شمس متوردة ترنو للناس بعينها الفائرة ذاهبة إلى خدرها، وهواء يموج بالعطر ويبعث للنفس تخدرا وسكرة، وجبل نما فوقه الزهر وهو قريب تكاد اليد تلامسه، وبحر هائل تضيع العين دون آفاقه.
Неизвестная страница